رموز رساليَّة مشرقة في تاريخ الإسلام

رموز رساليَّة مشرقة في تاريخ الإسلام

تمرّ علينا هذه الأيّام ذكرى رموز مشرقة عظيمة من رموز الإسلام في صفائه ونقائه وإشراقته في الحياة، وهم: الإمام الحسين(ع) في ولادته في الثّالث من شعبان، وسيّدنا أبو الفضل العبّاس(ع) في ولادته في الرّابع من شعبان، والإمام زين العابدين عليّ بن الحسين(ع) في الخامس من شعبان، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

شخصيَّات رساليَّة

وعندما نقف أمام هذه الأسماء الّتي تمثِّل بالنِّسبة إلينا الخطّ الإسلاميَّ الأصيل الّذي ينفتح على خطِّ الولاية الَّذي أراد الله أن يكون خطّاً حركيّاً يفتح للنَّاس الخطوط التّفصيليَّة في كلِّ ما يأخذون به أو يتركونه في الجانب التّطبيقيّ للإسلام، وفي حقل التَّجربة الحيَّة للمفاهيم الإسلاميَّة العامَّة للحياة، فإنَّنا نرى أنَّ هناك خصوصيَّةً ينبغي لنا أن نتعرَّف إليها في خطِّ الولاية لأهل البيت(ع)، وهي أنَّ النبيّ(ص) عندما عاش تلك المرحلة من حين بعثه الله رسولاً، إلى أن قبضه إليه، لم تساعده الظروف على أن يضع الخطوط التفصيليّة للحركة الإسلاميّة، لأنّ المشركين ملأوا عهده كلّه بالحروب، ولأن اليهود أربكوا الكثير من الأوضاع الإسلامية في محيط المدينة وما يتبعها.

كما أنّ حركة المنافقين آنذاك أوجدت نوعاً من الاهتزاز في الواقع الداخلي للمسلمين، ولا سيّما في المدينة، مما شغل النبي(ص) والمسلمين معه بكلّ هذه المشاكل التي أنتجتها هذه التعقيدات الأمنية والاجتماعية والفكرية.

ولذلك، كانت الولاية المتمثّلة بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، الذي وعى الإسلام كما لم يعِه أحد بعد رسول الله(ص)، والّذي عاش الإسلام حركةً وجهاداً كما لم يعشها شخص آخر من المسلمين، كانت الولاية هي أن يؤكّد(ع) الخطوط العامّة، وأن ينطلق بالمفردات التي تواجه المسلمين في الأوضاع المستجدّة الّتي كانت تتحرّك بين مرحلة ومرحلة، لتطرح إشكاليّة جديدة، ولتضع مشاكل جديدة، ولتواجه الكثير من التحديات التي لم يعهدها المسلمون آنذاك.

فإذا ما درسنا تراث علي(ع) ـ ولم ينقل منه إلا القليل ـ ودرسنا ما تحدّث به وما عالجه في كل ما واجهه وواجه المسلمين في عهده بعد رسول الله(ص)، لرأينا أن هناك حلولاً جديدة، وأنّ هناك قضايا جديدة ركّزها وأطلق فيها الفكر وحرّك التجربة وواجه فيها التحديات.

واستمرّت المسألة بعد علي(ع) في ولديه الإمامين الحسنين(ع)، فقد واجهت الإمام الحسن(ع) بعض التحدّيات التي ربما لم يواجهها الوضع قبله بتفاصيلها، وقد أعطى الإمام الحسن(ع) بعض الحلول لبعض المشاكل، مما يمكن للخطّ الإسلاميّ الأصيل أن يستوحيه في الظرف والمرحلة.

نهج الحسين(ع)

وعندما ننطلق مع الإمام الحسين(ع)، فإنّنا نجد وضعاً جديداً عاشه العالم الإسلامي في زمانه، ما جعله يتحرك بين مسالمة من جهة، كما كان الأمر بعد وفاة الإمام الحسن(ع)، ومواجهة من جهةٍ أخرى، كما كان الأمر بعد وفاة معاوية.

كما نجد أنَّ الخطوط الروحيّة التي تمثّلها أدعيته، والخطوط الثقافيّة التي تمثّلها كلماته، انطلقت لتمتدّ إلى الإمام زين العابدين(ع)، الّذي واجه مرحلته بثقافةٍ لا تخلو من الجدّة، باعتبار الأوضاع المستجدّة الّتي تحتاج إلى معالجات جديدة، وامتدّت المسألة في خطّ الولاية في أهل البيت(ع)، بحيث إننا عندما ندرس تأريخهم كلّه، فإننا نجد أنهم كانوا يواجهون كلّ مرحلة من المراحل التي يعيشها الواقع الإسلامي في داخله، أو مع المواقع الأخرى خارج الوضع الإسلامي، نجد أنّهم استطاعوا أن يملأوا المراحل الّتي عاشوها، بحيث أعطوا كلّ مرحلة ما تحتاجه من علم وحركة ومواجهة وما إلى ذلك.

وهذا ما ينبغي لنا أن نتابعه لنؤكِّد نقطةً أساسيّةً تخرجنا من داخل الذّات في علاقتنا بهم إلى واقع الرّسالة، فقد كان همّهم كلّه منصبّاً على تأصيل الإسلام في مفاهيمه وأساليبه وفي أهدافه، ليعزلوا عنه الهوامش والأعراض الّتي أريد لها أن تحجب عنصر الأصالة فيه، وكان همّهم مركَّزاً على مواجهة الفساد في الواقع الإسلامي ليصلحوه، وعلى كيفيّة مواجهة التحدّيات التي توجَّه إلى الإسلام ليقوموا بحماية الإسلام منها، وأن يفكّروا ويخطّطوا ويدعو إلى حياطة الإسلام من كلّ ما يمكن أن يسيء إليه أو يضعفه أو يبعده عن مساره الطّبيعيّ.

العناوين الإسلاميَّة المشتركة

ونحن أمام هذه الرّموز الإسلاميّة المقدَّسة الثّلاثة، نجد لدى كلّ واحد منها، أنّ هناك عنواناً يلتقي بما كان عند الرّمز الثاني والثالث، بحيث تلتقي فكرة الوقوف مع الإسلام بكلّ المراحل التي عاشها هؤلاء. فعندما نقف مع الإمام الحسين(ع)، نجد له نصّين فيما يتَّصل بالواقع الذي عاشه، والتحدّيات التي واجهها الإسلام، فقد طرح في الخطبة المعروفة الّتي خطبها عند خروجه: "إنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقِّ وهو خير الحاكمين"([1]).

ونحن نجد أنَّ الإمام الحسين(ع) أعطى لحركته هذه عنواناً لا تقترب السلبيَّات منه، فهو ليس ظالماً، لأنَّه انطلق من أجل أن يرفع الظّلم، وهذا هو شأنه وهذه هي رسالته، وليس مفسداً، لأنَّه انطلق من أجل أن يسقط الفساد، وليس أشراً ولا بطراً، بل انطلق بعيداً عن ذاتيَّاته كلِّها في خطِّ رسالته كلّه.

عنوان الإصلاح

"إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي". وكلمة الإصلاح ـ أيّها الأحبّة ـ تتّسع لكلّ الآفاق التي دلف إليها الفساد، فعندما نواجه الواقع الإسلامي آنذاك، نجد أنّ هناك نوعاً من الفساد في التصور انحرف به الفكر الإسلامي على مستوى خطوط القيادة في عناصرها الإسلامية، وعلى مستوى علاقة الناس بالقيادة، وطبيعة التحرّك الذي كان الناس يتحركون به، وقد علموا من رسول الله(ص) ومن كتاب الله معه، أنّ عليهم أن لا يسكتوا على ظلم، سواء كان في دائرة القيادة أو في دائرة القاعدة.

وهكذا رأينا أنّ هناك مفاهيم اختلطت على النّاس بفعل كثير من عناصر الدسّ والوضع للأحاديث، لخدمة الذين كانوا يحتاجون إلى حديث عن رسول الله(ص) يبرّر انحرافهم، وإلى نصّ نبويّ يبرّر كثيراً من تعقيدات أوضاعهم.

ولقد انطلق الفساد في الواقعين السياسي والاجتماعي، بحيث تحوَّلت الخلافة إلى ملك عضوض، وأصبحت بيعاً وشراءً، كما ذكر في طريقة معاوية في أخذ البيعة ليزيد، عندما وقف شخص يحمل صرراً من الدّراهم بيد والسيف بيد، ليقول: من بايع فله هذا، ومن لم يبايع فله هذا، فلم تكن البيعة حتى على مستوى الشّورى بين المسلمين التي درجت كعنوان للحكم آنذاك، بعيداً عن التعقيدات التي أثيرت حول ذلك.

ولذلك كانت حركة الإمام الحسين(ع) من أجل تغيير الواقع الفاسد إلى واقع صالح، سواء في الجانب الثقافي في الإسلام في مسألة التصور لمفاهيم الإسلام، أو في الجانب العملي الذي يتحرّك في الخطوط السياسية المنحرفة، أو في الخطوط الاجتماعيّة المنحرفة بعلاقات النّاس مع بعضهم البعض.. ولذا عقَّب الإمام(ع) فقال: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر". والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإن اختصّا بالجانب العملي للنّاس في خطّ الانحراف، ولكن لمّا كان الجانب العمليّ منطلقاً من الخطأ في الجانب الثّقافي، فإنّ الانطلاق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحرّك في تحديد ماهية المعروف وماهية المنكر، لمواجهة هذا المنكر على مستوى الواقع.

ونستطيع أن نتعرّف إلى المسألة في خطيها الفكري والواقعي في الخطبة الثانية التي أطلقها الإمام الحسين(ع)، فيما روي عنه أنّه قال: "أمّا بعد، فقد علمتُ أن رسول الله(ص) قد قال في حياته: مَن رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيّر بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله"([2])، فلقد ركَّز المسألة حول الحاكميَّة في خطِّ الإيجاب، والموقف من الحاكم في خطِّ السّلب. ومن ذلك نفهم أنّه لا بدَّ من أن يكون السّلطان عادلاً يحترم حرمات الله، وأن يفي بعهده للنَّاس، وأن يسير على سنَّة رسول الله، وأن يعمل في عباد الله فيما أحلّه الله وما أراده...

فالإمام يريد أن يؤكّد من خلال كلمة رسول الله(ص) الّذي يمثل الشرعية الإسلامية، أن الثورة على الحاكم الجائر الذي يتصف بهذه الصفات في الواقع الإسلامي، هي أمر واجب على المسلمين، وإذا لم يقوموا بذلك مع تمكّنهم منه، فإن مصيرهم يكون مصير هذا الحاكم..

ثم ينطلق إلى واقع هؤلاء الذين يتسلَّمون القيادة ويتبعهم النّاس في ذلك: "ألا وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشّيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، واستأثروا بالفيء وعطَّلوا الحدود، وأنا أحقّ من غيَّر"[3]، لذلك كان الإمام الحسين(ع) يعمل على تغيير الواقع، ولم يكن يريد في البداية أن يعلن الحرب، بل كان يسعى إلى أن يغيّر نمط التَّفكير عند المسلمين من خلال قيادته، وكان ما يريد أن يصل إليه من تلك القيادة، هو أن يغيّر الواقع الفكري للمسلمين في النظرة إلى شخصية القائد، وهذا ما قاله لـ(الوليد) أمير المدينة: "إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرّسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النّفس المحرّمة معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"، ثم قال له بعد الجدال الّذي حدث في المجلس: "ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالبيعة والخلافة"([4])، إنّه هنا لم يكن يؤكّد ذاته، ولكن أراد أن يؤكّد خطّ الشّرعيّة الإسلاميّة لمسألة القيادة.

لذلك لم ينطلق الإمام الحسين(ع) من خلال هذا النصّ محارباً، بل داعية إلى الله مصلحاً مغيّراً للواقع، فلقد كان حديثه عندما التقى بجيش (الحرّ) حديث الموعظة والتذكير، ولم يكن حديث المواجهة بالحرب، ولذلك أعطاهم محبّته كلّها وحنانه كلّه، وسقاهم الماء، وتكلّم معهم بالكلمات التي تفتح قلوبهم، ولكنّ قلوبهم كانت مغلقةً، إلا من خلال بعض الثغرات الّتي كان ينفذ إليها بعض النّور، كما في موقف الحرّ بن يزيد ـ رضوان الله عليه ـ إلى أن يقول(ع): "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ" أي أنّ من يقبلني لا يقبلني لشخصي، ولكنّه يقبل الحقّ الّذي هو من الله وإلى الله سبحانه وتعالى، "ومن ردَّ عليَّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين".

أمَّا انطلاقته في الحرب، فقد كانت من خلال أنَّ القوم قالوا ما ندري ما تقول يابن فاطمة، ولكن انزل على حكم بني عمّك، وعند ذلك قال كلمته الشّهيرة: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"، لأنّه خرج من أجل تأكيد الشرعيّة الإسلاميّة، ونزوله على حكم (يزيد) و(ابن زياد)، يعني الانحراف عن الشرعيّة الإسلاميّة، وإعطاء الشرعيّة لهذا الحكم الذي رأى فيه(ع) حكماً مخالفاً لسنَّة رسول الله(ص). وقال: "ألا وإنَّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة!"([5]). فالحسين(ع) انطلق من خلال الإسلام في خطّيه الفكري والعملي في واقع المسلمين.

العبّاس(ع) ناصر الرّسالة

وفي أجواء الإمام الحسين(ع)، نلتقي بالرجل الكبير أبي الفضل العبّاس(ع)، هذا الإنسان الذي يقول عنه الإمام الصّادق(ع) في كلمات مختصرة، ولكنّها تعطي عناصر الشخصيّة الّتي تفسّر كلّ ما قام به العباس(ع)، مع أنّ التاريخ لم يحدّثنا عن الكثير من تفاصيل حياته: "كان عمّنا العباس نافذ البصيرة"، فلقد كان يتمتع ببصيرة في عقله يبصر بها الحقّ، وبصيرة في قلبه يبصر بها مواطن الإحساس والشّعور والعاطفة، فيما يحبّه الله ويرضاه من الجانب العاطفي للإنسان، وكان يملك البصيرة في حركته في الحياة عندما يواجه الخطّ المستقيم والخطّ المنحرف.

وكان "نافذ البصيرة صلب الإيمان"[6]، فلم يكن إيمانه الإيمان الّذي يمكن أن يهتزّ أمام التحدّيات، سواء كانت تحديات الترغيب أو الترهيب، ولذلك عندما نادى (الشّمر): أين بنو أختنا؟ أين العبّاس وإخوته؟ لأنه كانت هناك خؤولة تربطه به، نرى أنّ العباس رفض أن يستجيب، ولكنّ الإمام الحسين(ع) قال لهم: استجيبوا له، فإنه بعض أخوالكم، وإن كان فاسقاً.. وعندما طرح عليه الشمر الأمان، ردّ عليه بكلامٍ قاسٍ، ليؤكّد له أنّ القضيّة ليست قضيّة أمان وبحث عن الحياة الوادعة الرخيَّة، ولكنّها قضية رسالة نبحث عن حركتها في الواقع.

وجاهد مع أبي عبدالله الحسين(ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً، ونحن نقرأ في الزيارة: "السّلام على العبد الصّالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين وللحسن والحسين، فنِعْمَ الأخ المواسي"، كما أنّنا نلتقي مع حركة (العباس) في قتاله في هذين البيتين اللّذين قد يكونان رجزاً له، وقد يكونان لسان حاله عندما قطعت يمينه:

والله إن قطعتُم يميني          إنّي أحامي أبداً عن ديني     

فالإمام الحسين(ع) هناك يقول: "خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي"، في خطّ الدعوة، والعبّاس هنا يطلقها دفاعاً عن خطّ الدعوة أيضاً، فعندما وصلت الأمور حدّاً أن الدين يواجه التحدّيات التي تريد إسقاطه، وقف العباس(ع) محامياً وذابّاً ومدافعاً: "إني أحامي أبداً عن ديني"، ليبيّن أن هذه الحركة إنما كانت حركة إصلاح في أمّة رسول الله(ص) وحمايةً للدّين، "وعن إمامٍ صادق اليقين"، ولم يقُل عن أخي، لأنّ القضية في وعي العباس وفي وجدانه، لم تكن قضية أخوّة يدافع عنها، ولكنها كانت قضيّة قيادة يدافع عن حركتها وعن رسالتها في حركة التحدّيات التي واجهها.

وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ        نجلِ النّبيِّ الطّاهرِ الأمينِ     

زين العابدين(ع) وحياطة الإسلام

وإذا انتقلنا إلى الإمام زين العابدين(ع) الَّذي ملأ الواقع الإسلاميّ في مرحلته علماً وروحانيّةً ومنهجاً وحركةً في المجالات الّتي كان الإسلام يواجهها ويتحرَّك فيها في ذلك العهد، فإنّنا نقرأ أيضاً العنوان نفسه والخطّ نفسه، ولكن بطريقة أخرى، وذلك في دعائه في الصّباح والمساء، عندما يقول في آخر الدّعاء: "اللَّهمَّ وفِّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير، وهجران الشرّ، وشكر النّعَم، واتّباع السنن، ومجانبة البِدَع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحياطة الإسلام".

وكلمة (حياطة الاسلام) تعني أن يتطلَّع كلّ مسلم في كل صباح أو مساء يقبل عليه، إلى الواقع الإسلاميّ فيما يواجهه من تحدّيات فكريّة في خطِّ الرِّسالة عقيدةً وشريعةً، أو تحدّيات واقعيَّة في الضّغوط التي توجَّه إلى المسلمين هنا وهناك، ليطلب هذا المسلم أو هذه المسلمة من الله أن يوفّقه لأن يحوط الإسلام من جوانبه كلّها، حتى لا ينفذ إليه الكفر أو الباطل، وحتى لا يتسلَّل إليه الأعداء، أن يحوطه بفكره في المسائل الفكريَّة ليوجِّه فكره إلى الدِّفاع عن الإسلام، وأن يحوطه بروحه وبقلبه وبكلِّ طاقاته عندما تواجه الإسلام التحدّيات في الواقع العملي للنَّاس ـ فحياطة الإسلام هي أن يعيش المسلم همّ الإسلام يوميّاً وأن يحوطه ـ كما الحارس اليقظان، ليجنّبه الضغوط والاعتداءات والتحدّيات، تماماً كما يحوط نفسه وعياله ومصالحه الخاصّة في الحياة، فلتكن حياطة الإسلام عملاً يومياً للمسلم في كلّ صباح ومساء.

وعندما ندرس المفردات ما قبل هذه الكلمة وما بعدها، نرى أنها تلتقي مع كلمات الإمام الحسين(ع): "إنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي"، سواء إصلاح الفرد أو إصلاح الجماعة، ونحن  نعرف أنَّ إصلاح الفرد عندما يتحرّك في خطّ الدّعوة، ينتهي إلى إصلاح الجماعة.

"ووفِّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير". والخير عنوان إسلاميّ كبير، يمتدّ إلى حركة الإنسان كلّها في علاقاته الاجتماعيّة مع النّاس، "وهجران الشّرّ"، في الجانب السلبي لحركة الإنسان في علاقاته. "واتّباع السّنن، ومجانبة البدع"، والسّنن هي الخطوط الإسلاميّة السّائرة في خطّ الضّوء الّذي أطلقه رسول الله(ص)، ليبيّن للنّاس ما يأخذون وما يتركون. وأمَّا البدع، فهي الّتي تمثِّل الانحرافات الّتي تدخل على الإسلام باسم الإسلام، وهي ليست من الإسلام في شيء "والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر" هما العنوانان اللّذان يتحركان في خطّ الواقع المنحرف الّذي يُترَك فيه المعروف، وهو كلّ ما يريد الله للإنسان أن يقوم به، لينطلق المعروف في حياة النّاس، وليبتعد عن المنكر، وهو كلّ ما أراد الله للنّاس أن لا يأخذوا به في حياتهم.

ثم ينطلق في أبعاد الحياطة الأخرى، فيقول: "وانتقاص الباطل وإذلاله"، أي أن نعيش في خطّ الدّعوة والحركة إذا واجهنا الباطل أمامنا، وأن نعمل على أساس أن ننقصه، بأن ندرس نقاط الضّعف كلّها في داخله، سواء في الخطوط العامّة أو الخاصّة، أو في الواقع العمليّ، بأن نذلّه بكلّ ما عندنا من عناصر الإذلال، "ونصرة الحقّ"، بأن ننصره أمام جنود الباطل كلّهم، وأن ننصره ثقافيّاً وواقعيّاً، "وإعزازه" بأن نعزّ الحقّ، وأن ننطلق للفئات المحرومة، "وإرشاد الضالّ، لنهديه إلى الحقّ ومعاونة الضَّعيف"، سواء كان ضعيفاً في قوَّته أو في عيشه أو في الفرص الّتي يحتاجها في حياته، "وإدراك اللَّهيف" الإنسان الَّذي يعيش اللَّهفة من خلال المشاكل والآلام الّتي يواجهها في الحياة.

أيُّها الأحبَّة، تعالوا لنكون مع الإمام الحسين(ع)، في أن نأخذ في ذكرى مولده عنوان (الإصلاح في أمَّة جدّه)، وأن نأخذ في يوم العبّاس في ذكرى مولده عنوان (كيف نحمي الدّين ونحمي القيادة الإسلاميَّة الأصيلة في واقع التحدّيات)، ومن زين العابدين(ع) (كيف نحوط الإسلام بكلّ ما نملك من طاقة، وكيف نستعمل الخير ونهجر الشّرّ ونجتنب البدع ونتّبع السّنن ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأن ننتقص الباطل ونذلّه، وننصر الحقّ ونعزّه ونرشد الضالّ ونعاون الضّعيف وندرك اللّهيف). هذا هو وحي الذّكرى وعياً يدخل في عقولنا وفي قلوبنا وفي طاقاتنا كلّها، وحركةً تتّجه بنا في الطّريق المستقيم إلى الأهداف التي يريدها الله.

أيّها الأحبّة، إنّ أهل البيت(ع) هم فكر وحركة ومنهج وجهاد وروحانيّة وقداسة، أما الدّموع، فهي عاطفتنا أمام المأساة، وأمّا فرحنا بهم، فهو فرحنا بالرّسالة، وبما يمكن لنا أن نعينهم من خلال هذه الرّسالة. "أحيوا أمرنا" بإحياء رسالة الإسلام وتعاليمنا في خطّ الإسلام، "رحم الله من أحيا أمرنا" في ذلك. فإذا كان هؤلاء العظماء قد انطلقوا من أجل الإسلام، فعلينا ـ حتى في طريقة إثارة الذكرى ـ أن تكون هذه الإثارات في خطّ الإسلام، ومن أجل خدمة الإسلام، والحمد لله ربِّ العالمين.

[فكر وثقافة، ج5، المحاضرة 27، بتاريخ: 9 شعبان 1419هـ/ الموافق 28 - 11 - 1998م].


[1] البحار، ج:44، ص:329.

[2] البحار، ج:44، ص:382.

[3] البحار، ج44، ص 382.

[4] البحار، ج:44، ص:325.

[5] البحار، ج:45، ص:9.

[6] أعيان الشّيعة، محسن الأمين، ج7، ص430.

تمرّ علينا هذه الأيّام ذكرى رموز مشرقة عظيمة من رموز الإسلام في صفائه ونقائه وإشراقته في الحياة، وهم: الإمام الحسين(ع) في ولادته في الثّالث من شعبان، وسيّدنا أبو الفضل العبّاس(ع) في ولادته في الرّابع من شعبان، والإمام زين العابدين عليّ بن الحسين(ع) في الخامس من شعبان، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

شخصيَّات رساليَّة

وعندما نقف أمام هذه الأسماء الّتي تمثِّل بالنِّسبة إلينا الخطّ الإسلاميَّ الأصيل الّذي ينفتح على خطِّ الولاية الَّذي أراد الله أن يكون خطّاً حركيّاً يفتح للنَّاس الخطوط التّفصيليَّة في كلِّ ما يأخذون به أو يتركونه في الجانب التّطبيقيّ للإسلام، وفي حقل التَّجربة الحيَّة للمفاهيم الإسلاميَّة العامَّة للحياة، فإنَّنا نرى أنَّ هناك خصوصيَّةً ينبغي لنا أن نتعرَّف إليها في خطِّ الولاية لأهل البيت(ع)، وهي أنَّ النبيّ(ص) عندما عاش تلك المرحلة من حين بعثه الله رسولاً، إلى أن قبضه إليه، لم تساعده الظروف على أن يضع الخطوط التفصيليّة للحركة الإسلاميّة، لأنّ المشركين ملأوا عهده كلّه بالحروب، ولأن اليهود أربكوا الكثير من الأوضاع الإسلامية في محيط المدينة وما يتبعها.

كما أنّ حركة المنافقين آنذاك أوجدت نوعاً من الاهتزاز في الواقع الداخلي للمسلمين، ولا سيّما في المدينة، مما شغل النبي(ص) والمسلمين معه بكلّ هذه المشاكل التي أنتجتها هذه التعقيدات الأمنية والاجتماعية والفكرية.

ولذلك، كانت الولاية المتمثّلة بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، الذي وعى الإسلام كما لم يعِه أحد بعد رسول الله(ص)، والّذي عاش الإسلام حركةً وجهاداً كما لم يعشها شخص آخر من المسلمين، كانت الولاية هي أن يؤكّد(ع) الخطوط العامّة، وأن ينطلق بالمفردات التي تواجه المسلمين في الأوضاع المستجدّة الّتي كانت تتحرّك بين مرحلة ومرحلة، لتطرح إشكاليّة جديدة، ولتضع مشاكل جديدة، ولتواجه الكثير من التحديات التي لم يعهدها المسلمون آنذاك.

فإذا ما درسنا تراث علي(ع) ـ ولم ينقل منه إلا القليل ـ ودرسنا ما تحدّث به وما عالجه في كل ما واجهه وواجه المسلمين في عهده بعد رسول الله(ص)، لرأينا أن هناك حلولاً جديدة، وأنّ هناك قضايا جديدة ركّزها وأطلق فيها الفكر وحرّك التجربة وواجه فيها التحديات.

واستمرّت المسألة بعد علي(ع) في ولديه الإمامين الحسنين(ع)، فقد واجهت الإمام الحسن(ع) بعض التحدّيات التي ربما لم يواجهها الوضع قبله بتفاصيلها، وقد أعطى الإمام الحسن(ع) بعض الحلول لبعض المشاكل، مما يمكن للخطّ الإسلاميّ الأصيل أن يستوحيه في الظرف والمرحلة.

نهج الحسين(ع)

وعندما ننطلق مع الإمام الحسين(ع)، فإنّنا نجد وضعاً جديداً عاشه العالم الإسلامي في زمانه، ما جعله يتحرك بين مسالمة من جهة، كما كان الأمر بعد وفاة الإمام الحسن(ع)، ومواجهة من جهةٍ أخرى، كما كان الأمر بعد وفاة معاوية.

كما نجد أنَّ الخطوط الروحيّة التي تمثّلها أدعيته، والخطوط الثقافيّة التي تمثّلها كلماته، انطلقت لتمتدّ إلى الإمام زين العابدين(ع)، الّذي واجه مرحلته بثقافةٍ لا تخلو من الجدّة، باعتبار الأوضاع المستجدّة الّتي تحتاج إلى معالجات جديدة، وامتدّت المسألة في خطّ الولاية في أهل البيت(ع)، بحيث إننا عندما ندرس تأريخهم كلّه، فإننا نجد أنهم كانوا يواجهون كلّ مرحلة من المراحل التي يعيشها الواقع الإسلامي في داخله، أو مع المواقع الأخرى خارج الوضع الإسلامي، نجد أنّهم استطاعوا أن يملأوا المراحل الّتي عاشوها، بحيث أعطوا كلّ مرحلة ما تحتاجه من علم وحركة ومواجهة وما إلى ذلك.

وهذا ما ينبغي لنا أن نتابعه لنؤكِّد نقطةً أساسيّةً تخرجنا من داخل الذّات في علاقتنا بهم إلى واقع الرّسالة، فقد كان همّهم كلّه منصبّاً على تأصيل الإسلام في مفاهيمه وأساليبه وفي أهدافه، ليعزلوا عنه الهوامش والأعراض الّتي أريد لها أن تحجب عنصر الأصالة فيه، وكان همّهم مركَّزاً على مواجهة الفساد في الواقع الإسلامي ليصلحوه، وعلى كيفيّة مواجهة التحدّيات التي توجَّه إلى الإسلام ليقوموا بحماية الإسلام منها، وأن يفكّروا ويخطّطوا ويدعو إلى حياطة الإسلام من كلّ ما يمكن أن يسيء إليه أو يضعفه أو يبعده عن مساره الطّبيعيّ.

العناوين الإسلاميَّة المشتركة

ونحن أمام هذه الرّموز الإسلاميّة المقدَّسة الثّلاثة، نجد لدى كلّ واحد منها، أنّ هناك عنواناً يلتقي بما كان عند الرّمز الثاني والثالث، بحيث تلتقي فكرة الوقوف مع الإسلام بكلّ المراحل التي عاشها هؤلاء. فعندما نقف مع الإمام الحسين(ع)، نجد له نصّين فيما يتَّصل بالواقع الذي عاشه، والتحدّيات التي واجهها الإسلام، فقد طرح في الخطبة المعروفة الّتي خطبها عند خروجه: "إنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقِّ وهو خير الحاكمين"([1]).

ونحن نجد أنَّ الإمام الحسين(ع) أعطى لحركته هذه عنواناً لا تقترب السلبيَّات منه، فهو ليس ظالماً، لأنَّه انطلق من أجل أن يرفع الظّلم، وهذا هو شأنه وهذه هي رسالته، وليس مفسداً، لأنَّه انطلق من أجل أن يسقط الفساد، وليس أشراً ولا بطراً، بل انطلق بعيداً عن ذاتيَّاته كلِّها في خطِّ رسالته كلّه.

عنوان الإصلاح

"إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي". وكلمة الإصلاح ـ أيّها الأحبّة ـ تتّسع لكلّ الآفاق التي دلف إليها الفساد، فعندما نواجه الواقع الإسلامي آنذاك، نجد أنّ هناك نوعاً من الفساد في التصور انحرف به الفكر الإسلامي على مستوى خطوط القيادة في عناصرها الإسلامية، وعلى مستوى علاقة الناس بالقيادة، وطبيعة التحرّك الذي كان الناس يتحركون به، وقد علموا من رسول الله(ص) ومن كتاب الله معه، أنّ عليهم أن لا يسكتوا على ظلم، سواء كان في دائرة القيادة أو في دائرة القاعدة.

وهكذا رأينا أنّ هناك مفاهيم اختلطت على النّاس بفعل كثير من عناصر الدسّ والوضع للأحاديث، لخدمة الذين كانوا يحتاجون إلى حديث عن رسول الله(ص) يبرّر انحرافهم، وإلى نصّ نبويّ يبرّر كثيراً من تعقيدات أوضاعهم.

ولقد انطلق الفساد في الواقعين السياسي والاجتماعي، بحيث تحوَّلت الخلافة إلى ملك عضوض، وأصبحت بيعاً وشراءً، كما ذكر في طريقة معاوية في أخذ البيعة ليزيد، عندما وقف شخص يحمل صرراً من الدّراهم بيد والسيف بيد، ليقول: من بايع فله هذا، ومن لم يبايع فله هذا، فلم تكن البيعة حتى على مستوى الشّورى بين المسلمين التي درجت كعنوان للحكم آنذاك، بعيداً عن التعقيدات التي أثيرت حول ذلك.

ولذلك كانت حركة الإمام الحسين(ع) من أجل تغيير الواقع الفاسد إلى واقع صالح، سواء في الجانب الثقافي في الإسلام في مسألة التصور لمفاهيم الإسلام، أو في الجانب العملي الذي يتحرّك في الخطوط السياسية المنحرفة، أو في الخطوط الاجتماعيّة المنحرفة بعلاقات النّاس مع بعضهم البعض.. ولذا عقَّب الإمام(ع) فقال: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر". والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإن اختصّا بالجانب العملي للنّاس في خطّ الانحراف، ولكن لمّا كان الجانب العمليّ منطلقاً من الخطأ في الجانب الثّقافي، فإنّ الانطلاق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحرّك في تحديد ماهية المعروف وماهية المنكر، لمواجهة هذا المنكر على مستوى الواقع.

ونستطيع أن نتعرّف إلى المسألة في خطيها الفكري والواقعي في الخطبة الثانية التي أطلقها الإمام الحسين(ع)، فيما روي عنه أنّه قال: "أمّا بعد، فقد علمتُ أن رسول الله(ص) قد قال في حياته: مَن رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيّر بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله"([2])، فلقد ركَّز المسألة حول الحاكميَّة في خطِّ الإيجاب، والموقف من الحاكم في خطِّ السّلب. ومن ذلك نفهم أنّه لا بدَّ من أن يكون السّلطان عادلاً يحترم حرمات الله، وأن يفي بعهده للنَّاس، وأن يسير على سنَّة رسول الله، وأن يعمل في عباد الله فيما أحلّه الله وما أراده...

فالإمام يريد أن يؤكّد من خلال كلمة رسول الله(ص) الّذي يمثل الشرعية الإسلامية، أن الثورة على الحاكم الجائر الذي يتصف بهذه الصفات في الواقع الإسلامي، هي أمر واجب على المسلمين، وإذا لم يقوموا بذلك مع تمكّنهم منه، فإن مصيرهم يكون مصير هذا الحاكم..

ثم ينطلق إلى واقع هؤلاء الذين يتسلَّمون القيادة ويتبعهم النّاس في ذلك: "ألا وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشّيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، واستأثروا بالفيء وعطَّلوا الحدود، وأنا أحقّ من غيَّر"[3]، لذلك كان الإمام الحسين(ع) يعمل على تغيير الواقع، ولم يكن يريد في البداية أن يعلن الحرب، بل كان يسعى إلى أن يغيّر نمط التَّفكير عند المسلمين من خلال قيادته، وكان ما يريد أن يصل إليه من تلك القيادة، هو أن يغيّر الواقع الفكري للمسلمين في النظرة إلى شخصية القائد، وهذا ما قاله لـ(الوليد) أمير المدينة: "إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرّسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النّفس المحرّمة معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"، ثم قال له بعد الجدال الّذي حدث في المجلس: "ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالبيعة والخلافة"([4])، إنّه هنا لم يكن يؤكّد ذاته، ولكن أراد أن يؤكّد خطّ الشّرعيّة الإسلاميّة لمسألة القيادة.

لذلك لم ينطلق الإمام الحسين(ع) من خلال هذا النصّ محارباً، بل داعية إلى الله مصلحاً مغيّراً للواقع، فلقد كان حديثه عندما التقى بجيش (الحرّ) حديث الموعظة والتذكير، ولم يكن حديث المواجهة بالحرب، ولذلك أعطاهم محبّته كلّها وحنانه كلّه، وسقاهم الماء، وتكلّم معهم بالكلمات التي تفتح قلوبهم، ولكنّ قلوبهم كانت مغلقةً، إلا من خلال بعض الثغرات الّتي كان ينفذ إليها بعض النّور، كما في موقف الحرّ بن يزيد ـ رضوان الله عليه ـ إلى أن يقول(ع): "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ" أي أنّ من يقبلني لا يقبلني لشخصي، ولكنّه يقبل الحقّ الّذي هو من الله وإلى الله سبحانه وتعالى، "ومن ردَّ عليَّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين".

أمَّا انطلاقته في الحرب، فقد كانت من خلال أنَّ القوم قالوا ما ندري ما تقول يابن فاطمة، ولكن انزل على حكم بني عمّك، وعند ذلك قال كلمته الشّهيرة: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"، لأنّه خرج من أجل تأكيد الشرعيّة الإسلاميّة، ونزوله على حكم (يزيد) و(ابن زياد)، يعني الانحراف عن الشرعيّة الإسلاميّة، وإعطاء الشرعيّة لهذا الحكم الذي رأى فيه(ع) حكماً مخالفاً لسنَّة رسول الله(ص). وقال: "ألا وإنَّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة!"([5]). فالحسين(ع) انطلق من خلال الإسلام في خطّيه الفكري والعملي في واقع المسلمين.

العبّاس(ع) ناصر الرّسالة

وفي أجواء الإمام الحسين(ع)، نلتقي بالرجل الكبير أبي الفضل العبّاس(ع)، هذا الإنسان الذي يقول عنه الإمام الصّادق(ع) في كلمات مختصرة، ولكنّها تعطي عناصر الشخصيّة الّتي تفسّر كلّ ما قام به العباس(ع)، مع أنّ التاريخ لم يحدّثنا عن الكثير من تفاصيل حياته: "كان عمّنا العباس نافذ البصيرة"، فلقد كان يتمتع ببصيرة في عقله يبصر بها الحقّ، وبصيرة في قلبه يبصر بها مواطن الإحساس والشّعور والعاطفة، فيما يحبّه الله ويرضاه من الجانب العاطفي للإنسان، وكان يملك البصيرة في حركته في الحياة عندما يواجه الخطّ المستقيم والخطّ المنحرف.

وكان "نافذ البصيرة صلب الإيمان"[6]، فلم يكن إيمانه الإيمان الّذي يمكن أن يهتزّ أمام التحدّيات، سواء كانت تحديات الترغيب أو الترهيب، ولذلك عندما نادى (الشّمر): أين بنو أختنا؟ أين العبّاس وإخوته؟ لأنه كانت هناك خؤولة تربطه به، نرى أنّ العباس رفض أن يستجيب، ولكنّ الإمام الحسين(ع) قال لهم: استجيبوا له، فإنه بعض أخوالكم، وإن كان فاسقاً.. وعندما طرح عليه الشمر الأمان، ردّ عليه بكلامٍ قاسٍ، ليؤكّد له أنّ القضيّة ليست قضيّة أمان وبحث عن الحياة الوادعة الرخيَّة، ولكنّها قضية رسالة نبحث عن حركتها في الواقع.

وجاهد مع أبي عبدالله الحسين(ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً، ونحن نقرأ في الزيارة: "السّلام على العبد الصّالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين وللحسن والحسين، فنِعْمَ الأخ المواسي"، كما أنّنا نلتقي مع حركة (العباس) في قتاله في هذين البيتين اللّذين قد يكونان رجزاً له، وقد يكونان لسان حاله عندما قطعت يمينه:

والله إن قطعتُم يميني          إنّي أحامي أبداً عن ديني     

فالإمام الحسين(ع) هناك يقول: "خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي"، في خطّ الدعوة، والعبّاس هنا يطلقها دفاعاً عن خطّ الدعوة أيضاً، فعندما وصلت الأمور حدّاً أن الدين يواجه التحدّيات التي تريد إسقاطه، وقف العباس(ع) محامياً وذابّاً ومدافعاً: "إني أحامي أبداً عن ديني"، ليبيّن أن هذه الحركة إنما كانت حركة إصلاح في أمّة رسول الله(ص) وحمايةً للدّين، "وعن إمامٍ صادق اليقين"، ولم يقُل عن أخي، لأنّ القضية في وعي العباس وفي وجدانه، لم تكن قضية أخوّة يدافع عنها، ولكنها كانت قضيّة قيادة يدافع عن حركتها وعن رسالتها في حركة التحدّيات التي واجهها.

وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ        نجلِ النّبيِّ الطّاهرِ الأمينِ     

زين العابدين(ع) وحياطة الإسلام

وإذا انتقلنا إلى الإمام زين العابدين(ع) الَّذي ملأ الواقع الإسلاميّ في مرحلته علماً وروحانيّةً ومنهجاً وحركةً في المجالات الّتي كان الإسلام يواجهها ويتحرَّك فيها في ذلك العهد، فإنّنا نقرأ أيضاً العنوان نفسه والخطّ نفسه، ولكن بطريقة أخرى، وذلك في دعائه في الصّباح والمساء، عندما يقول في آخر الدّعاء: "اللَّهمَّ وفِّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير، وهجران الشرّ، وشكر النّعَم، واتّباع السنن، ومجانبة البِدَع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحياطة الإسلام".

وكلمة (حياطة الاسلام) تعني أن يتطلَّع كلّ مسلم في كل صباح أو مساء يقبل عليه، إلى الواقع الإسلاميّ فيما يواجهه من تحدّيات فكريّة في خطِّ الرِّسالة عقيدةً وشريعةً، أو تحدّيات واقعيَّة في الضّغوط التي توجَّه إلى المسلمين هنا وهناك، ليطلب هذا المسلم أو هذه المسلمة من الله أن يوفّقه لأن يحوط الإسلام من جوانبه كلّها، حتى لا ينفذ إليه الكفر أو الباطل، وحتى لا يتسلَّل إليه الأعداء، أن يحوطه بفكره في المسائل الفكريَّة ليوجِّه فكره إلى الدِّفاع عن الإسلام، وأن يحوطه بروحه وبقلبه وبكلِّ طاقاته عندما تواجه الإسلام التحدّيات في الواقع العملي للنَّاس ـ فحياطة الإسلام هي أن يعيش المسلم همّ الإسلام يوميّاً وأن يحوطه ـ كما الحارس اليقظان، ليجنّبه الضغوط والاعتداءات والتحدّيات، تماماً كما يحوط نفسه وعياله ومصالحه الخاصّة في الحياة، فلتكن حياطة الإسلام عملاً يومياً للمسلم في كلّ صباح ومساء.

وعندما ندرس المفردات ما قبل هذه الكلمة وما بعدها، نرى أنها تلتقي مع كلمات الإمام الحسين(ع): "إنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي"، سواء إصلاح الفرد أو إصلاح الجماعة، ونحن  نعرف أنَّ إصلاح الفرد عندما يتحرّك في خطّ الدّعوة، ينتهي إلى إصلاح الجماعة.

"ووفِّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير". والخير عنوان إسلاميّ كبير، يمتدّ إلى حركة الإنسان كلّها في علاقاته الاجتماعيّة مع النّاس، "وهجران الشّرّ"، في الجانب السلبي لحركة الإنسان في علاقاته. "واتّباع السّنن، ومجانبة البدع"، والسّنن هي الخطوط الإسلاميّة السّائرة في خطّ الضّوء الّذي أطلقه رسول الله(ص)، ليبيّن للنّاس ما يأخذون وما يتركون. وأمَّا البدع، فهي الّتي تمثِّل الانحرافات الّتي تدخل على الإسلام باسم الإسلام، وهي ليست من الإسلام في شيء "والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر" هما العنوانان اللّذان يتحركان في خطّ الواقع المنحرف الّذي يُترَك فيه المعروف، وهو كلّ ما يريد الله للإنسان أن يقوم به، لينطلق المعروف في حياة النّاس، وليبتعد عن المنكر، وهو كلّ ما أراد الله للنّاس أن لا يأخذوا به في حياتهم.

ثم ينطلق في أبعاد الحياطة الأخرى، فيقول: "وانتقاص الباطل وإذلاله"، أي أن نعيش في خطّ الدّعوة والحركة إذا واجهنا الباطل أمامنا، وأن نعمل على أساس أن ننقصه، بأن ندرس نقاط الضّعف كلّها في داخله، سواء في الخطوط العامّة أو الخاصّة، أو في الواقع العمليّ، بأن نذلّه بكلّ ما عندنا من عناصر الإذلال، "ونصرة الحقّ"، بأن ننصره أمام جنود الباطل كلّهم، وأن ننصره ثقافيّاً وواقعيّاً، "وإعزازه" بأن نعزّ الحقّ، وأن ننطلق للفئات المحرومة، "وإرشاد الضالّ، لنهديه إلى الحقّ ومعاونة الضَّعيف"، سواء كان ضعيفاً في قوَّته أو في عيشه أو في الفرص الّتي يحتاجها في حياته، "وإدراك اللَّهيف" الإنسان الَّذي يعيش اللَّهفة من خلال المشاكل والآلام الّتي يواجهها في الحياة.

أيُّها الأحبَّة، تعالوا لنكون مع الإمام الحسين(ع)، في أن نأخذ في ذكرى مولده عنوان (الإصلاح في أمَّة جدّه)، وأن نأخذ في يوم العبّاس في ذكرى مولده عنوان (كيف نحمي الدّين ونحمي القيادة الإسلاميَّة الأصيلة في واقع التحدّيات)، ومن زين العابدين(ع) (كيف نحوط الإسلام بكلّ ما نملك من طاقة، وكيف نستعمل الخير ونهجر الشّرّ ونجتنب البدع ونتّبع السّنن ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأن ننتقص الباطل ونذلّه، وننصر الحقّ ونعزّه ونرشد الضالّ ونعاون الضّعيف وندرك اللّهيف). هذا هو وحي الذّكرى وعياً يدخل في عقولنا وفي قلوبنا وفي طاقاتنا كلّها، وحركةً تتّجه بنا في الطّريق المستقيم إلى الأهداف التي يريدها الله.

أيّها الأحبّة، إنّ أهل البيت(ع) هم فكر وحركة ومنهج وجهاد وروحانيّة وقداسة، أما الدّموع، فهي عاطفتنا أمام المأساة، وأمّا فرحنا بهم، فهو فرحنا بالرّسالة، وبما يمكن لنا أن نعينهم من خلال هذه الرّسالة. "أحيوا أمرنا" بإحياء رسالة الإسلام وتعاليمنا في خطّ الإسلام، "رحم الله من أحيا أمرنا" في ذلك. فإذا كان هؤلاء العظماء قد انطلقوا من أجل الإسلام، فعلينا ـ حتى في طريقة إثارة الذكرى ـ أن تكون هذه الإثارات في خطّ الإسلام، ومن أجل خدمة الإسلام، والحمد لله ربِّ العالمين.

[فكر وثقافة، ج5، المحاضرة 27، بتاريخ: 9 شعبان 1419هـ/ الموافق 28 - 11 - 1998م].


[1] البحار، ج:44، ص:329.

[2] البحار، ج:44، ص:382.

[3] البحار، ج44، ص 382.

[4] البحار، ج:44، ص:325.

[5] البحار، ج:45، ص:9.

[6] أعيان الشّيعة، محسن الأمين، ج7، ص430.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية