كونوا المستقبليين ولا تكونوا المستغرقين في الحاضر

كونوا المستقبليين ولا تكونوا المستغرقين في الحاضر

في رحاب معركة بدر وذكرى ولادة الإمام الحسن(ع)
كونوا المستقبليين ولا تكونوا المستغرقين في الحاضر


أ
لقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

أمامنا مناسبتان إسلاميّتان عظيمتان، الأولى: هي ذكرى معركة بدر التي كانت أول معركة بين المسلمين والمشركين، بعد أن عانى المسلمون، وفي مقدمتهم رسول الله(ص) كل أنواع الاضطهاد والتعذيب والتشريد، ما اضطرهم إلى أن يهاجروا من مكة إلى المدينة، وكانت هذه المعركة هي المعركة التي انتصر فيها المسلمون بالرغم من قلة عددهم وعدتهم، وانهزم فيها المشركون بالرغم من كثرة عدوهم وعدّتهم.

وأفاض الله على المسلمين فيها الكثير من النصر، بالرعب الذي ألقاه في قلوب المشركين، وبالغيب الذي فتح فيه على المسلمين الجو الملائكي الذي أرسله الله ليعيش في أجواء المعركة.

وفي هذه الواقعة التي تحدث عنها القرآن في أكثر من آية درس يركّز فيه على نقاط الضعف التي كان يعيشها بعض المسلمين، كما يعيشها الكثير من المسلمين على مدى التاريخ في ساحات الصراع، فيريد الله أن يبين لنا أن الضعف الذي يعيشه بعض الناس في ساحة التحدي ليس غريباً، ولكن على الأمة أن تحوّل نقاط ضعفها إلى نقاط قوة في اتجاه المواجهة.

والمناسبة الثانية، هي ولادة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، أول وليد لعلي وفاطمة(ع.، وسنحاول أن نلخص بعض الحديث في واقعة بدر، وفي هذه الولادة بما يتحمله الموقف من اختصار.

إظهار قوة المسلمين

أما واقعة بدر، فقد جمع لها المشركون بعد أن تعرض المسلمون لقافلة تجارية لقريش كانت تمرّ بالقرب من المدينة في الطريق بين الشام ومكة، وذلك للتأكيد على أن الإسلام بدأ في موقع القوة، وأنه أصبح يسيطر على الطريق الاستراتيجي الذي تتحرك فيه تجارة قريش، ولذلك لا بد لها أن تحسب حسابه.

وقد استطاعت القافلة أن تفر إلى طريق آخر، وعندما سمع المشركون بذلك استعدوا للهجوم على المسلمين قاصدين المدينة، حتى وصل بهم الأمر إلى بدر، واستنهض رسول الله(ص) المسلمين للخروج إلى قتال قريش، وكانت لقريش رهبة في نفوس المسلمين، ولذلك تقاعس البعض منهم وتحمس آخرون، وكان من عادة رسول الله(ص) أن يستشير أصحابه في كل حرب يخوضها، وعندما استشارهم ضعف البعض عندما قالوا: "يا رسول اللله إن هذه قريش ما ذلّت منذ عزّت"، وكأنه يقول إنه ليس لدينا القدرة على مواجهة قريش، ولكن بعض أصحابه من الأنصار قالوا له: "يا رسول الله، لا نقول لك "كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك". وانطلق رسول الله(ص) في جماعة قليلة من أصحابه وفي عدة قليلة لا تذكر، سواء في الرواحل التي يركبونها أو في السلاح الذي يحملونه، ولكن الله نصرهم.

أجواء المسلمين في بدر

ولعل أصدق صورة تصوّر معركة بدر هي الصورة القرآنية التي نتلو عليكم بعض آياتها، لنتعرف طبيعة الجو الذي كان يعيشه المسلمون في تلك المعركة: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} بالحق الذي أراد الله له أن يقوى وأن يتحدى وأن يواجه وأن يعيش ساحة الصراع، {وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} كارهون لخروجك ولخروجهم معك، لما يعيشونه في هذه القضية من نقاط ضعف خوفاً من قريش التي كانت تمثل القوة الكبيرة في المجتمع العربي آنذاك، باعتبارها القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى، بالإضافة إلى ما تمتلكه من قوة روحية، باعتبار أنها تشرف على الكعبة وما إلى ذلك.

{يجادلونك في الحق بعدما تبيّن} يدخلون معك في جدال أن تخرج أو لا تخرج، أن يخرجوا معك أو لا يخرجوا، {كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون} إنهم ـ أي المؤمنين ـ يعيشون حالة نفسية يتمثلون فيها موقفهم هذا وأنت تدعوهم للخروج معك، لكي يقاتلوا المشركين، حالهم كحال من يُساق إلى خشبة الإعدام وهو ينظر إلى الخشبة التي سيصلب عليها، أو كمن يساق إلى الموت وهو ينظر إليه يتمثل أمامه.

{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين} كان يقول لهم إما الحرب مع قريش وإما الغنيمة، أي القافلة التي تتضمن كل أموال قريش، {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} ذات الشوكة أي الحرب، تودون أن تحصلوا على الغنيمة بدون الحرب {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته}، وفي ذلك افتراق بينكم وبين القضية الرسالية، إنكم تفكرون بأنفسكم ومطامعكم وبسلامتكم، في حين أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، لأن الله يريد للمسلمين أن يكونوا هم القوة البديلة عن قوة المشركين، لأن الناس يتخلصون من حالة الوهن والضعف فيندفعون إلى الإسلام ويدخلون في دين الله أفواجاً، {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} حتى يكون الحق هو القاعدة التي ترتكز عليها حياة الناس، ويبطل الباطل ولو كره المجرمون الذين واجهوا الحياة بالجريمة العسكرية للشرك، وبالجريمة العملية باضطهاد الرسالات والرسل والسير في الخطّ المنحرف.

{إذ تستغيثون ربكم} أي عندما واجهتم أعداءكم، لجأتم إلى الله وطلبتم منه القوة بأن يفرج عنكم هذه الشدة الكبيرة {فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} أرسل لكم ألفاً من الملائكة يعيشون معكم جو المعركة {وما جعله الله إلا بشرى} لا يلقاتلوا معكم كما تقاتلون، بل أرسلهم ليكونوا بشرى حتى تستقر نفوسكم، ويرفع من مستوى معنوياتكم {ولتطمئن قلوبكم} ليحصل الاستقرار النفسي.

الله يؤيد المسلمين بنصره

{وما النصر إلا من عند الله} لأن الله هو الذي يهيىء أسبابه بالطرق العادية أو بالطرق الغيبية {إن الله عزيز حكيم} يهيىء لهم الأمور التي تجعلهم يرتاحون فيها {إذ يغشاكم النعاس أمنة منه} وهو ما يخفف من تأثير القلق في نفوسهم فيحصلون على الأمن النفسي من خلال النوم، {وينـزل عليكم من الماء ماءً ليطهركم به} لكي يغتسل به الذين كانوا قد أجنبوا نتيجة النوم كما تقول السيرة {ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذ     ين آمنوا} أي ثبتوا قلوبهم ومواقفهم ومواقعهم {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} جعل المشركين يعيشون الرعب من المسلمين بالرغم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد قريش.

{فاضربوا فوق الأعناق} وهذا خطاب للمؤمنين، أي اقطعوا أعناقهم {واضربوا منهم كل بنان} اقطعوا أيديهم، ذلك لأنهم دخلوا في شقاق ونزاع مع الله تعالى {ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب}، ذلكم العقاب فذوقوه {وأن للكافرين عذاب النار} بالإضافة إلى عذاب الدنيا.

{إذ أنتم في العدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} أنتم في المكان القريب وهم في المكان البعيد {والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} ولكن الله سبحانه وتعالى رتب القضية بشكل متوازن أخذ فيه كل واحد منكم موقعه بما يخدم المعركة.

{ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً* ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بينة وإن الله سميع عليم}، لأن الله يريد أن يلقي الحجة على الناس، حتى ينطلق الهالك بعد إقامة الحجة عليه وينطلق الفائز من خلال انفتاحه على الحجة.

{وإذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لشبتم} كأن الله جعل المسلمين يرون المشركين قليلي العدد حتى ينزع الخوف منهم {ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلّم إنه عليم بذات الصدور} وإذ يريك الله إياهم ويريهم إياكم جماعة قليلة، حتى يندفعوا إليكم لتتمكنوا من مواجهتهم {ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور}، ثم يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}. وهذا هو الدرس الذي لا بد منه للمجاهدين أن يأخذوا به، وهو أن يتقوا الله ويثقوا بأنفسهم، وأن يثقوا في مواقع التحدي وفي مواقع الصراع بأن الله سبحانه وتعالى ينصر عباده {لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}.

وهذا هو الذي لاحظناه وشاهدناه في تاريخ بدر، وفي انتصار المؤمنين المجاهدين في لبنان، الذين هم قلة في العدد والعدة، على اليهود المحتلين الظالمين وهم كثرة في العدد والعدة، واستطعنا أن نصنع في هذا البلد بدراً جديداً.

هذا هو درس بدر، وهو أن على الإنسان المسلم أن يثق بالله وأن يثق بقوة الإيمان والإسلام، وأن يتحرك في خط إقامة الحق وإزهاق الباطل من دون النظر إلى المكاسب الشخصية الذاتية، ولقد لاحظنا أن المسلمين استطاعوا أن ينزلوا بالمشركين هزيمة كبيرة، بحيث رجع المشركون مهزومين أذلاء خاضعين، لأنهم فقدوا كل مواقع القوة عندهم. هذا درس بدر للحاضر والمستقبل، ونحن نواجه أكثر من قوة للشرك وللاستكبار، {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.

نشأة الإمام الحسن(ع)

أما المناسبة الثانية فهي مناسبة ولادة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) في الخامس عشر من شهر رمضان، وهو الشخصية العظيمة الذي انطلق وأخاه الحسين(ع) في خط الإمامة، وهما اللذان قال عنهما رسول الله(ص): "اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحبّ من يحبهما"، وقال للحسن قبل أن يولد الحسين وكان يحمله على عاتقه: "اللهم إني أحبّه فأحبه وأحبّ من يحبه". وقال فيهما: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وكان رسول الله(ص) يلاعبهما ويأنس بهما ويقول لنا من خلال تعامله معهما، كيف يتعامل الإنسان مع طفله، فيعطيه كل المحبة وكل الحنان، ولينطلق معه كما لو كان طفلاً، وقد ورد الحديث عن رسول الله(ص): "من كان له صبي فليتصاب له".

حاول أن تحدّث طفلك بلغة طفولية، وأن لا تفرض عليه سنك أو فكرك، بل حاول أن تتنازل إلى مستوى فكره وإلى مستوى مشاعره وأحاسيسه، لترفعه إليك برفق وحكمة، فالحسن(ع) تربّى في أحضان رسول الله(ص)، ثم في أحضان علي وفاطمة(ع)، وفقد جده وأمه في سن مبكرة جداً، وعاش مع أبيه وعرف كل تجربته في تلك المرحلة الصعبة بعد وفاة رسول الله(ص)، سواء قبل أن يتسلم الخلافة أو بعد أن تسلمها، حيث وضعت الألغام في طريقه، لأنهم أرادوا له أن لا ينجح في تجربة حكمه، الذي هو الحكم الحق، وعاش مع أبيه وكان علي(ع) يريد للحسن(ع) أن يخوض التجربة، معه فأرسله إلى أكثر من موقع لمعالجة المشاكل الصعبة التي كانت تواجه أباه في خلافته، وكان علي(ع) كما ورد في الروايات، يبعث الذين يسألونه عن بعض المسائل الشرعية، في ما هو المفهوم الإسلامي وفي ما هي الأحكام الإسلامية، ليجيب الحسن(ع) عن ذلك، وهذا دليل على المكانة العلمية للحسن(ع) وعلى ما يملك من حكمة، ليستطيع من خلالها أن يكون في موقع القيادة الإسلامية من بعده.

الحرص على المسلمين

وهكذا تسلم الإمام الحسن(ع) الخلافة بعد أبيه وازدادت الألغام المزروعة في طريقه، وتفرق الناس عنه بسبب التعقيدات الموجودة في المجتمع، والتي استغلها معاوية فاستخدم كل الأساليب والوسائل، ومنها المال لتحقيق مآربه.

وأوقف الإمام الحسن(ع) الحرب، لا على أساس الاعتراف بشرعية خلافة معاوية الذي لا يملك أي أساس من الشرعية الإسلامية، ولكن من أجل أن يحقن دماء المسلمين، ولاعتقاده بأن المعركة كانت لا تؤدي إلى نتائج كبرى حتى على مستوى المستقبل، باعتبار أنها سوف تسقط كل الطليعة الإسلامية المعارضة التي كانت تمثل القوة الروحية في مجتمع المسلمين، وهكذا دخل الإمام الصلح الذي هو عبارة عن هدنة وليس اعترافاً بشرعية حكم معاوية كما أسلفنا.

ورجع الإمام الحسن(ع) من الكوفة إلى المدينة، وعاش في المدينة شخصية عظيمة محترمة من جميع الناس. وعندما دسّ إليه السم وكان يرى أن القوم ربما يمنعون من دفنه عند رسول الله(ص)، أوصى أخاه الحسين(ع) أن لا يهرق في أمره ملء محجمة دماً، لأنه لا يريد للناس أن تسفك دماؤهم بعد موته، كما لم يرد لهم أن تسفك دماؤهم في حياته، وهكذا منع من دفن الحسن(ع) عند رسول الله(ص) ودفن في البقيع.

ونحن ـ أيها الأحبة ـ في ذكرى الإمام الحسن(ع)، نحاول أن نلتقط بعض كلماته لنتعلم من بعد مماته ما علّم به الناس في حياته.

الحضّ على المشاورة

في بعض كلماته كان يوصي بأن يتشاور الناس في أمورهم، سواء كان هذا الأمر يتعلق بحياتهم الخاصة بما تختلف فيه الآراء، أو بحياتهم العامة، حيث على الإنسان أن لا يستبد برأيه الذاتي ويتحرك على هذا الأساس، بل عليه أن يرجع إلى أهل الخبرة وإلى أهل الفكر ليستشيرهم في هذا الأمر ويستنصحهم، ليصل من خلال ذلك إلى الثقافة الواسعة العميقة التي تهديه إلى الصواب.

وقد ورد في القرآن الكريم في صفة المجتمع المسلم: {وأمرهم شورى بينهم}، وقد خاطب الله رسوله بقوله: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}، وفي بعض الأحاديث عن الأئمة(ع): "من شاور الرجال شاركها في عقولها". وقال(ع) لبعض ولده "يا بني، لا تؤاخي أحداً حتى تعرف مصادره وموارده"، أي إذا أردت أن تتخذ صديقاً أو صاحباً فلا تنظر إلى الظاهر من شخصيته ليجذبك كلامه أو لتسحرك صورته، بل عليك أن تدرس هذا الإنسان في موارده ومصادره، وفي كل ما يتصل بشخصيته، ثم بعد ذلك تقرر هل تجعله أخاً أو لا، لأن الشخص الذي تتخذه صديقاً سوف يتدخل في أمورك، وسوف يطبع حياتك بطابعها، وسوف يعرف أسرارك.

الصبر على الشدائد

ويقول الإمام علي(ع): "الخير الذي لا شر فيه الشكر مع النعمة"، إذا أنعم عليك أحد فاشكره، لأن كل نعمة هي من الله، "والصبر على النازلة"، أن تعتبر إذا نزلت بك النوازل، وأن تصبر إذا أحاطت بك المصائب، فإن الصبر يمثل قوة الشخصية وصلابة الموقف الذي يستعين به الإنسان على التخطيط للحاضر وللمستقبل، ويقول(ع): "العار أهون من النار"، كالذي يقوم بقتل زوجته أو ابنته ظناً منه أنه يقيم بذلك الحد دون الرجوع إلى ولي الأمر. وكما نقل عن الإمام الحسين(ع): "الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول النار"، {يوم يقوم الناس لرب العالمين} عندما ينساق إلى النار أمام العالمين من الأولين والآخرين. فأي عار هو هذا العار، وأية فضيحة هي هذه الفضيحة!!

العفاف عن المحارم

وفي ختام كلام الإمام الحسن(ع) يقول: "يابن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عابداً"، إن عبادة الله هي الخضوع لله، وأعظم درجات الخضوع له أن تترك كل ما حرّم عليك في كل شؤونك، فإنك إذا غضضت عن محارم الله تكن عابداً، لأنها قمة العبادة، لأنك تحارب كل غرائزك السيئة وكل شهواتك قربة إلى الله تعالى، "وارض بما قسم الله تكن غنياً"، اقنع بما قسمه الله لك مما انطلقت فيه في عملك وفي ظروفك، لأن "القناعة كنز لا يفنى"، والطمع هو الفقر الحاضر، كما ورد في الحديث "لأن غنى النفس هو الغنى"، وقد ورد في الدعاء: "واجعل غناي في نفسي"، "وأحسن من جاورك تكن مسلماً".

إن الإسلام يفرض عليك أن تعيش مسؤوليتك مع الناس، ولا سيما الأقربين منهم، حتى أن رسول الله(ص) قد أوصى بالجار حتى ظن المسلمون أنه سيورثه، كما جاء في حديث الإمام علي(ع)، فإن العلاقة مبنية في الإسلام على أن تكون الجار الطيب، لا أن تكون الجار الخبيث الذي يؤذي جيرانه.

العدل مع الآخر:

"صاحب الناس بما تحب أن يصاحبوك به تكن عدلاً"، وأن تكون العدل هو أن تعطي الناس ما أخذته منهم: "يا بني، اجعل نفسك بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها"، ثم يقول الإمام(ع): "إنه كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيراً من المال ويبنون مشيداً ويأملون بعيداً، آمالهم واسعة، أصبح جمعهم بوراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً، يابن آدم، لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصبيك من الدنيا، فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع، {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فالمؤمن عندما يعي أن الدنيا لا تدوم له، فإنه يتزود منها لما بعدها، كما يتزود المسافر في سفره، بخلاف الكافر الذي يرى أنه يستقر في الدنيا ويتمتع بها فلا يفكر بالمستقبل.

كونوا المستقبليين

لذلك فإن الإمام يقول لنا جميعاً كونوا المستقبليين لأمر الآخرة، ولا تكونوا الذين يستغرقون في الحاضر. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله فإن الله خبير بما تعملون} {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً}، وهذا هو درس أئمة أهل البيت(ع)، وهذا هو درس ذكرى الإمام الحسن(ع): "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى".

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله وواجهوا الموقف بكل إيمان وبكل تصميم وبكل قوة، فإن المستكبرين قد حشدوا كل قواهم من أجل أن ينزلوا الهزيمة بالمسلمين وبالمستضعفين، وعلينا أن نواجه الموقف بكل مسؤولية، وأن نعي كل مواقفنا؛ فماذا هناك:

تلميع صورة الكيان الصهيوني

أمريكا تتحرك في فلسطين من خلال مبعوثيها لإدارة الأزمة وتجميد الانتفاضة في عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبلها، من أجل التخطيط للحل الإسرائيلي للمشكلة الفلسطينية مع بعض مساحيق التجميل التي قد تجذب العرب وتخدّر الفلسطينيين ـ حسب الرؤية الأمريكية ـ التي تلتزم الأمن الإسرائيلي في الأمن والاقتصاد والسياسة التزاماً مطلقاً، ليكون الأمن الفلسطيني والعربي على هامش إسرائيل التي تمثل القاعدة الاستراتيجية للمصالح الأمريكية في المنطقة من دون أيّ اعتبار للأنظمة العربية المرتبطة بالسياسة الأمريكية المصابة بمرض العجز عن التحرك في أيّ اتجاه لرفض الضغوط الاستكبارية بكل امتداداتها على المصالح الحيوية للعرب.

إن أمريكا تستقبل بعد أيام حليفها الاستراتيجي شارون في عملية تشاور سياسي للضغط على الفلسطينيين، حيث يقدّم هذا الجزّار المجرم بعض الكلمات الضبابية الغامضة التي يراد لها تلميع صورة الكيان الصهيوني باستعداده للسلام بالشروط الإسرائيلية، لتنطلق المفاوضات السياسية بالإشراف الأمريكي تحت شعار ضرورة قيام الفلسطينيين بتقديم التنازلات الصعبة المؤلمة للحل الواقعي، لتكون النتيجة مع شارون كما كانت مع مبارك، أن تعلن أمريكا أن الفلسطينيين يتحملون مسؤولية تعطيل الحل، لأنهم لا يتنازلون عن القدس وعن عودة اللاجئين وعن إلغاء المستوطنات وعن الدولة الحقيقية المتساوية مع دول المنطقة، باعتبار أن هذه المطالب لا تتناسب مع السياسة الواقعية، لأن تطورات الأوضاع قد تجاوزتها، لا سيما أن إسرائيل هي التي تملك الأرض والسلاح والتأييد الأمريكي السياسي المطلق، ما يجعل المسألة أن على الفلسطينيين أن يكونوا واقعيين في القبول بما تقبل به إسرائيل من الحلّ في التنازلات المؤلمة التي تمثل الصدقة الخيرية على الشعب الفلسطيني، كما لو كانت تمنحه الأرض والسلطة من رصيدها لا من رصيده.

الارتفاع إلى مستوى التحدي

إننا لا نثق بأمريكا ولا بإدارتها التي يرأسها بوش الذي لم يقبل باستقبال رئيس السلطة الفلسطينية عرفات، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن الوسيط النـزيه ـ كما تصف أمريكا نفسها ـ هو أن يتحدّث مع الطرفين لا مع طرف واحد يمنحه كل الثقة وكل التأييد والترحيب الحار.. ولذلك فإننا نأمل من الشعب الفلسطيني المجاهد بكل فئاته وتنظيماته أن يؤكد وحدته السياسية والجهادية التي تمثلت في العملية الاستشهادية في العفولة.. وأن يواجه الموقف بيقظة عميقة في وعيها وانفتاحها على المستقبل، ولا يسمح في هذه المرحلة الدقيقة لأي شرخ للوحدة، كما نريد للسلطة الفلسطينية أن تواجه الموقف بمسؤولية كبيرة، حتى لا تخسر شعبها إذا أريد لها أن تقدم التنازلات التي لا توصف بالمؤلمة بل بالمميتة.. وعلى العرب والمسلمين أن يتحملوا مسؤولياتهم القومية والإسلامية في الارتفاع إلى مستوى التحدي في هذه المرحلة التي قد تترك تأثيرها على المستقبل كله والأمة كلها.

القضية الأفغانية: في واقع التجاذبات الدولية

أما في أفغانستان، فإنها تواجه اللعبة السياسية الدولية في البحث عن حلّ سياسي لتأليف حكومة مؤقتة في واقع التجاذبات الدولية للمصالح الدولية والإقليمية المتناقضة، من دون استفتاء شعبي للشعب الأفغاني المسلم، الذي فرضت عليه في الماضي بعض الحكومات غير الشعبية بفعل القوة المسلّحة والتدخلات الخارجية التي لم تبتعد عنها السياسة الأمريكية وبعض حلفائها في المنطقة.. والمطلوب الآن أن تطل أمريكا من جديد على هذا البلد المنكوب المدمر الذي زادت في دماره وقتل المدنيين الفقراء من أبنائه وتشريدهم باسم الحرب على الإرهاب الذي ساهمت في خلق الظروف الواقعية لامتداده في سياستها الظالمة للشعوب، وفي تحريك مصالحها في ساحات الصراع مع خصومها الدوليين، ليكون المستضعفون الحطب الذي يحترق في محرقة المصالح الدولية.

إن عنوان المرحلة هو الأمم المتحدة التي تحولت إلى موقع من مواقع النفوذ الأمريكي أولاً، وإلى موقع من مواقع تبادل المصالح بين الدول الكبرى التي تملك القرار في مجلس الأمن من خلال أكثر من اتفاق على أساس توزيع الأدوار ضد شعوب العالم الثالث، وفي طليعتها الشعوب العربية والإسلامية.

العقدة الأمريكية.. ارتكاب المجازر

لقد عاش الشعب الأفغاني المسلم مأساة هذه الحرب، بين قصف الطيران الأمريكي والبريطاني الذي دمّر قرى بكاملها، وقصف أكثر من أسرة فقيرة برجالها ونسائها وأطفالها، وشرّد مئات الألوف من سكانها.. وبين المجازر الجديدة التي كانت شركة بين المقاتلين الأفغان من التحالف والطائرات الأمريكية في قتل المئات من الأسرى المقيدين بالأغلال بحجة أنهم تمردوا في سجنهم على الفاتحين، لأن الخطة هي إبادة كل هؤلاء الأجانب من السائرين في ركب القاعدة من العرب والباكستانيين والشيشان وغيرهم، كما نقلت الأخبار قتل ما يقارب المائتين بحجة أنهم رفضوا الاستسلام، فأعدموا بالدم البارد من دون أن يبدر منهم أية مقاومة، مما يكذب الحديث عن تمردهم.. إننا نعرف أن كل النظام الحضاري يفرض احترام الأسرى وتقديمهم للمحاكمة إذا كان لهم ذنب في أية قضية تستحق المحاكمة.. ولكن القضية هي أن هذه الحرب الأمريكية لا تعترف بأي قانونٍ للعدالة إذا كانت المسألة تتصل بالعقدة الأمريكية التي تريد تنفيس الاحتقان الشعبي والحكومي وإعادة العنفوان للقوة الوحيدة في العالم كما تقول، فالمطلوب هو الاستئصال لكل المعارضين.. باسم استئصال الإرهاب بالمفهوم الأمريكي.

إننا نخاف على الشعب الأفغاني الذي لا يزال يواجه المصير المجهول، لأن الحرب لم تنته حتى الآن، ولأن أمريكا سوف تمكث في بلاده سنين طويلة باسم القوة الدولية.. إننا نخشى عليه أن يبقى في متاهات اللعبة الأمريكية كقاعدة عسكرية سياسية اقتصادية لتطويق أكثر من دولة في المنطقة، لا سيما من خلال التهديدات التي أطلقها الرئيس الأمريكي لأكثر من بلد عربي، وخاصة العراق، مما يمثل سياسة العصا الغليظة.. وعلى الشعوب المستضعفة كلها أن تأخذ الدرس من أفغانستان، لتستعد لمواجهة الأخطار الجديدة التي سوف تمتد إلى كل مرافقها الحيوية.

لبنان: انشغال بالجزئيات الصغيرة

أما في لبنان الذي يراقب مشهد الظلام في المنطقة فأريد له ـ داخلياً ـ أن يغرق في الظلام من خلال سياسة التقنين الكهربائي الذي لا يزال اللبنانيون خاضعين لتأثيراته السلبية في مناطق الست والجارية.. إننا نرجو أن لا تكون مشكلة الكهرباء ـ التي تمثل تفصيلاً صغيراً من تفاصيل الأزمة السياسية والاقتصادية ـ هي المقدمة لمشاكل أكبر وأوسع، وأن لا تبعدها هذه التفاصيل عن القضايا الكبرى التي تضج بها المنطقة من حولنا، لأننا عندما ننشغل عن القضايا الكبيرة بالجزئيات الصغيرة نكون قد خسرنا الشرط الأول في معركة الحرية والعدالة على صعيد الداخل والخارج معاً.

في رحاب معركة بدر وذكرى ولادة الإمام الحسن(ع)
كونوا المستقبليين ولا تكونوا المستغرقين في الحاضر


أ
لقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

أمامنا مناسبتان إسلاميّتان عظيمتان، الأولى: هي ذكرى معركة بدر التي كانت أول معركة بين المسلمين والمشركين، بعد أن عانى المسلمون، وفي مقدمتهم رسول الله(ص) كل أنواع الاضطهاد والتعذيب والتشريد، ما اضطرهم إلى أن يهاجروا من مكة إلى المدينة، وكانت هذه المعركة هي المعركة التي انتصر فيها المسلمون بالرغم من قلة عددهم وعدتهم، وانهزم فيها المشركون بالرغم من كثرة عدوهم وعدّتهم.

وأفاض الله على المسلمين فيها الكثير من النصر، بالرعب الذي ألقاه في قلوب المشركين، وبالغيب الذي فتح فيه على المسلمين الجو الملائكي الذي أرسله الله ليعيش في أجواء المعركة.

وفي هذه الواقعة التي تحدث عنها القرآن في أكثر من آية درس يركّز فيه على نقاط الضعف التي كان يعيشها بعض المسلمين، كما يعيشها الكثير من المسلمين على مدى التاريخ في ساحات الصراع، فيريد الله أن يبين لنا أن الضعف الذي يعيشه بعض الناس في ساحة التحدي ليس غريباً، ولكن على الأمة أن تحوّل نقاط ضعفها إلى نقاط قوة في اتجاه المواجهة.

والمناسبة الثانية، هي ولادة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، أول وليد لعلي وفاطمة(ع.، وسنحاول أن نلخص بعض الحديث في واقعة بدر، وفي هذه الولادة بما يتحمله الموقف من اختصار.

إظهار قوة المسلمين

أما واقعة بدر، فقد جمع لها المشركون بعد أن تعرض المسلمون لقافلة تجارية لقريش كانت تمرّ بالقرب من المدينة في الطريق بين الشام ومكة، وذلك للتأكيد على أن الإسلام بدأ في موقع القوة، وأنه أصبح يسيطر على الطريق الاستراتيجي الذي تتحرك فيه تجارة قريش، ولذلك لا بد لها أن تحسب حسابه.

وقد استطاعت القافلة أن تفر إلى طريق آخر، وعندما سمع المشركون بذلك استعدوا للهجوم على المسلمين قاصدين المدينة، حتى وصل بهم الأمر إلى بدر، واستنهض رسول الله(ص) المسلمين للخروج إلى قتال قريش، وكانت لقريش رهبة في نفوس المسلمين، ولذلك تقاعس البعض منهم وتحمس آخرون، وكان من عادة رسول الله(ص) أن يستشير أصحابه في كل حرب يخوضها، وعندما استشارهم ضعف البعض عندما قالوا: "يا رسول اللله إن هذه قريش ما ذلّت منذ عزّت"، وكأنه يقول إنه ليس لدينا القدرة على مواجهة قريش، ولكن بعض أصحابه من الأنصار قالوا له: "يا رسول الله، لا نقول لك "كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك". وانطلق رسول الله(ص) في جماعة قليلة من أصحابه وفي عدة قليلة لا تذكر، سواء في الرواحل التي يركبونها أو في السلاح الذي يحملونه، ولكن الله نصرهم.

أجواء المسلمين في بدر

ولعل أصدق صورة تصوّر معركة بدر هي الصورة القرآنية التي نتلو عليكم بعض آياتها، لنتعرف طبيعة الجو الذي كان يعيشه المسلمون في تلك المعركة: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} بالحق الذي أراد الله له أن يقوى وأن يتحدى وأن يواجه وأن يعيش ساحة الصراع، {وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} كارهون لخروجك ولخروجهم معك، لما يعيشونه في هذه القضية من نقاط ضعف خوفاً من قريش التي كانت تمثل القوة الكبيرة في المجتمع العربي آنذاك، باعتبارها القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى، بالإضافة إلى ما تمتلكه من قوة روحية، باعتبار أنها تشرف على الكعبة وما إلى ذلك.

{يجادلونك في الحق بعدما تبيّن} يدخلون معك في جدال أن تخرج أو لا تخرج، أن يخرجوا معك أو لا يخرجوا، {كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون} إنهم ـ أي المؤمنين ـ يعيشون حالة نفسية يتمثلون فيها موقفهم هذا وأنت تدعوهم للخروج معك، لكي يقاتلوا المشركين، حالهم كحال من يُساق إلى خشبة الإعدام وهو ينظر إلى الخشبة التي سيصلب عليها، أو كمن يساق إلى الموت وهو ينظر إليه يتمثل أمامه.

{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين} كان يقول لهم إما الحرب مع قريش وإما الغنيمة، أي القافلة التي تتضمن كل أموال قريش، {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} ذات الشوكة أي الحرب، تودون أن تحصلوا على الغنيمة بدون الحرب {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته}، وفي ذلك افتراق بينكم وبين القضية الرسالية، إنكم تفكرون بأنفسكم ومطامعكم وبسلامتكم، في حين أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، لأن الله يريد للمسلمين أن يكونوا هم القوة البديلة عن قوة المشركين، لأن الناس يتخلصون من حالة الوهن والضعف فيندفعون إلى الإسلام ويدخلون في دين الله أفواجاً، {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} حتى يكون الحق هو القاعدة التي ترتكز عليها حياة الناس، ويبطل الباطل ولو كره المجرمون الذين واجهوا الحياة بالجريمة العسكرية للشرك، وبالجريمة العملية باضطهاد الرسالات والرسل والسير في الخطّ المنحرف.

{إذ تستغيثون ربكم} أي عندما واجهتم أعداءكم، لجأتم إلى الله وطلبتم منه القوة بأن يفرج عنكم هذه الشدة الكبيرة {فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} أرسل لكم ألفاً من الملائكة يعيشون معكم جو المعركة {وما جعله الله إلا بشرى} لا يلقاتلوا معكم كما تقاتلون، بل أرسلهم ليكونوا بشرى حتى تستقر نفوسكم، ويرفع من مستوى معنوياتكم {ولتطمئن قلوبكم} ليحصل الاستقرار النفسي.

الله يؤيد المسلمين بنصره

{وما النصر إلا من عند الله} لأن الله هو الذي يهيىء أسبابه بالطرق العادية أو بالطرق الغيبية {إن الله عزيز حكيم} يهيىء لهم الأمور التي تجعلهم يرتاحون فيها {إذ يغشاكم النعاس أمنة منه} وهو ما يخفف من تأثير القلق في نفوسهم فيحصلون على الأمن النفسي من خلال النوم، {وينـزل عليكم من الماء ماءً ليطهركم به} لكي يغتسل به الذين كانوا قد أجنبوا نتيجة النوم كما تقول السيرة {ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذ     ين آمنوا} أي ثبتوا قلوبهم ومواقفهم ومواقعهم {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} جعل المشركين يعيشون الرعب من المسلمين بالرغم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد قريش.

{فاضربوا فوق الأعناق} وهذا خطاب للمؤمنين، أي اقطعوا أعناقهم {واضربوا منهم كل بنان} اقطعوا أيديهم، ذلك لأنهم دخلوا في شقاق ونزاع مع الله تعالى {ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب}، ذلكم العقاب فذوقوه {وأن للكافرين عذاب النار} بالإضافة إلى عذاب الدنيا.

{إذ أنتم في العدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} أنتم في المكان القريب وهم في المكان البعيد {والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} ولكن الله سبحانه وتعالى رتب القضية بشكل متوازن أخذ فيه كل واحد منكم موقعه بما يخدم المعركة.

{ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً* ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بينة وإن الله سميع عليم}، لأن الله يريد أن يلقي الحجة على الناس، حتى ينطلق الهالك بعد إقامة الحجة عليه وينطلق الفائز من خلال انفتاحه على الحجة.

{وإذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لشبتم} كأن الله جعل المسلمين يرون المشركين قليلي العدد حتى ينزع الخوف منهم {ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلّم إنه عليم بذات الصدور} وإذ يريك الله إياهم ويريهم إياكم جماعة قليلة، حتى يندفعوا إليكم لتتمكنوا من مواجهتهم {ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور}، ثم يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}. وهذا هو الدرس الذي لا بد منه للمجاهدين أن يأخذوا به، وهو أن يتقوا الله ويثقوا بأنفسهم، وأن يثقوا في مواقع التحدي وفي مواقع الصراع بأن الله سبحانه وتعالى ينصر عباده {لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}.

وهذا هو الذي لاحظناه وشاهدناه في تاريخ بدر، وفي انتصار المؤمنين المجاهدين في لبنان، الذين هم قلة في العدد والعدة، على اليهود المحتلين الظالمين وهم كثرة في العدد والعدة، واستطعنا أن نصنع في هذا البلد بدراً جديداً.

هذا هو درس بدر، وهو أن على الإنسان المسلم أن يثق بالله وأن يثق بقوة الإيمان والإسلام، وأن يتحرك في خط إقامة الحق وإزهاق الباطل من دون النظر إلى المكاسب الشخصية الذاتية، ولقد لاحظنا أن المسلمين استطاعوا أن ينزلوا بالمشركين هزيمة كبيرة، بحيث رجع المشركون مهزومين أذلاء خاضعين، لأنهم فقدوا كل مواقع القوة عندهم. هذا درس بدر للحاضر والمستقبل، ونحن نواجه أكثر من قوة للشرك وللاستكبار، {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.

نشأة الإمام الحسن(ع)

أما المناسبة الثانية فهي مناسبة ولادة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) في الخامس عشر من شهر رمضان، وهو الشخصية العظيمة الذي انطلق وأخاه الحسين(ع) في خط الإمامة، وهما اللذان قال عنهما رسول الله(ص): "اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحبّ من يحبهما"، وقال للحسن قبل أن يولد الحسين وكان يحمله على عاتقه: "اللهم إني أحبّه فأحبه وأحبّ من يحبه". وقال فيهما: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وكان رسول الله(ص) يلاعبهما ويأنس بهما ويقول لنا من خلال تعامله معهما، كيف يتعامل الإنسان مع طفله، فيعطيه كل المحبة وكل الحنان، ولينطلق معه كما لو كان طفلاً، وقد ورد الحديث عن رسول الله(ص): "من كان له صبي فليتصاب له".

حاول أن تحدّث طفلك بلغة طفولية، وأن لا تفرض عليه سنك أو فكرك، بل حاول أن تتنازل إلى مستوى فكره وإلى مستوى مشاعره وأحاسيسه، لترفعه إليك برفق وحكمة، فالحسن(ع) تربّى في أحضان رسول الله(ص)، ثم في أحضان علي وفاطمة(ع)، وفقد جده وأمه في سن مبكرة جداً، وعاش مع أبيه وعرف كل تجربته في تلك المرحلة الصعبة بعد وفاة رسول الله(ص)، سواء قبل أن يتسلم الخلافة أو بعد أن تسلمها، حيث وضعت الألغام في طريقه، لأنهم أرادوا له أن لا ينجح في تجربة حكمه، الذي هو الحكم الحق، وعاش مع أبيه وكان علي(ع) يريد للحسن(ع) أن يخوض التجربة، معه فأرسله إلى أكثر من موقع لمعالجة المشاكل الصعبة التي كانت تواجه أباه في خلافته، وكان علي(ع) كما ورد في الروايات، يبعث الذين يسألونه عن بعض المسائل الشرعية، في ما هو المفهوم الإسلامي وفي ما هي الأحكام الإسلامية، ليجيب الحسن(ع) عن ذلك، وهذا دليل على المكانة العلمية للحسن(ع) وعلى ما يملك من حكمة، ليستطيع من خلالها أن يكون في موقع القيادة الإسلامية من بعده.

الحرص على المسلمين

وهكذا تسلم الإمام الحسن(ع) الخلافة بعد أبيه وازدادت الألغام المزروعة في طريقه، وتفرق الناس عنه بسبب التعقيدات الموجودة في المجتمع، والتي استغلها معاوية فاستخدم كل الأساليب والوسائل، ومنها المال لتحقيق مآربه.

وأوقف الإمام الحسن(ع) الحرب، لا على أساس الاعتراف بشرعية خلافة معاوية الذي لا يملك أي أساس من الشرعية الإسلامية، ولكن من أجل أن يحقن دماء المسلمين، ولاعتقاده بأن المعركة كانت لا تؤدي إلى نتائج كبرى حتى على مستوى المستقبل، باعتبار أنها سوف تسقط كل الطليعة الإسلامية المعارضة التي كانت تمثل القوة الروحية في مجتمع المسلمين، وهكذا دخل الإمام الصلح الذي هو عبارة عن هدنة وليس اعترافاً بشرعية حكم معاوية كما أسلفنا.

ورجع الإمام الحسن(ع) من الكوفة إلى المدينة، وعاش في المدينة شخصية عظيمة محترمة من جميع الناس. وعندما دسّ إليه السم وكان يرى أن القوم ربما يمنعون من دفنه عند رسول الله(ص)، أوصى أخاه الحسين(ع) أن لا يهرق في أمره ملء محجمة دماً، لأنه لا يريد للناس أن تسفك دماؤهم بعد موته، كما لم يرد لهم أن تسفك دماؤهم في حياته، وهكذا منع من دفن الحسن(ع) عند رسول الله(ص) ودفن في البقيع.

ونحن ـ أيها الأحبة ـ في ذكرى الإمام الحسن(ع)، نحاول أن نلتقط بعض كلماته لنتعلم من بعد مماته ما علّم به الناس في حياته.

الحضّ على المشاورة

في بعض كلماته كان يوصي بأن يتشاور الناس في أمورهم، سواء كان هذا الأمر يتعلق بحياتهم الخاصة بما تختلف فيه الآراء، أو بحياتهم العامة، حيث على الإنسان أن لا يستبد برأيه الذاتي ويتحرك على هذا الأساس، بل عليه أن يرجع إلى أهل الخبرة وإلى أهل الفكر ليستشيرهم في هذا الأمر ويستنصحهم، ليصل من خلال ذلك إلى الثقافة الواسعة العميقة التي تهديه إلى الصواب.

وقد ورد في القرآن الكريم في صفة المجتمع المسلم: {وأمرهم شورى بينهم}، وقد خاطب الله رسوله بقوله: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}، وفي بعض الأحاديث عن الأئمة(ع): "من شاور الرجال شاركها في عقولها". وقال(ع) لبعض ولده "يا بني، لا تؤاخي أحداً حتى تعرف مصادره وموارده"، أي إذا أردت أن تتخذ صديقاً أو صاحباً فلا تنظر إلى الظاهر من شخصيته ليجذبك كلامه أو لتسحرك صورته، بل عليك أن تدرس هذا الإنسان في موارده ومصادره، وفي كل ما يتصل بشخصيته، ثم بعد ذلك تقرر هل تجعله أخاً أو لا، لأن الشخص الذي تتخذه صديقاً سوف يتدخل في أمورك، وسوف يطبع حياتك بطابعها، وسوف يعرف أسرارك.

الصبر على الشدائد

ويقول الإمام علي(ع): "الخير الذي لا شر فيه الشكر مع النعمة"، إذا أنعم عليك أحد فاشكره، لأن كل نعمة هي من الله، "والصبر على النازلة"، أن تعتبر إذا نزلت بك النوازل، وأن تصبر إذا أحاطت بك المصائب، فإن الصبر يمثل قوة الشخصية وصلابة الموقف الذي يستعين به الإنسان على التخطيط للحاضر وللمستقبل، ويقول(ع): "العار أهون من النار"، كالذي يقوم بقتل زوجته أو ابنته ظناً منه أنه يقيم بذلك الحد دون الرجوع إلى ولي الأمر. وكما نقل عن الإمام الحسين(ع): "الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول النار"، {يوم يقوم الناس لرب العالمين} عندما ينساق إلى النار أمام العالمين من الأولين والآخرين. فأي عار هو هذا العار، وأية فضيحة هي هذه الفضيحة!!

العفاف عن المحارم

وفي ختام كلام الإمام الحسن(ع) يقول: "يابن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عابداً"، إن عبادة الله هي الخضوع لله، وأعظم درجات الخضوع له أن تترك كل ما حرّم عليك في كل شؤونك، فإنك إذا غضضت عن محارم الله تكن عابداً، لأنها قمة العبادة، لأنك تحارب كل غرائزك السيئة وكل شهواتك قربة إلى الله تعالى، "وارض بما قسم الله تكن غنياً"، اقنع بما قسمه الله لك مما انطلقت فيه في عملك وفي ظروفك، لأن "القناعة كنز لا يفنى"، والطمع هو الفقر الحاضر، كما ورد في الحديث "لأن غنى النفس هو الغنى"، وقد ورد في الدعاء: "واجعل غناي في نفسي"، "وأحسن من جاورك تكن مسلماً".

إن الإسلام يفرض عليك أن تعيش مسؤوليتك مع الناس، ولا سيما الأقربين منهم، حتى أن رسول الله(ص) قد أوصى بالجار حتى ظن المسلمون أنه سيورثه، كما جاء في حديث الإمام علي(ع)، فإن العلاقة مبنية في الإسلام على أن تكون الجار الطيب، لا أن تكون الجار الخبيث الذي يؤذي جيرانه.

العدل مع الآخر:

"صاحب الناس بما تحب أن يصاحبوك به تكن عدلاً"، وأن تكون العدل هو أن تعطي الناس ما أخذته منهم: "يا بني، اجعل نفسك بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها"، ثم يقول الإمام(ع): "إنه كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيراً من المال ويبنون مشيداً ويأملون بعيداً، آمالهم واسعة، أصبح جمعهم بوراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً، يابن آدم، لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصبيك من الدنيا، فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع، {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فالمؤمن عندما يعي أن الدنيا لا تدوم له، فإنه يتزود منها لما بعدها، كما يتزود المسافر في سفره، بخلاف الكافر الذي يرى أنه يستقر في الدنيا ويتمتع بها فلا يفكر بالمستقبل.

كونوا المستقبليين

لذلك فإن الإمام يقول لنا جميعاً كونوا المستقبليين لأمر الآخرة، ولا تكونوا الذين يستغرقون في الحاضر. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله فإن الله خبير بما تعملون} {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً}، وهذا هو درس أئمة أهل البيت(ع)، وهذا هو درس ذكرى الإمام الحسن(ع): "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى".

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله وواجهوا الموقف بكل إيمان وبكل تصميم وبكل قوة، فإن المستكبرين قد حشدوا كل قواهم من أجل أن ينزلوا الهزيمة بالمسلمين وبالمستضعفين، وعلينا أن نواجه الموقف بكل مسؤولية، وأن نعي كل مواقفنا؛ فماذا هناك:

تلميع صورة الكيان الصهيوني

أمريكا تتحرك في فلسطين من خلال مبعوثيها لإدارة الأزمة وتجميد الانتفاضة في عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبلها، من أجل التخطيط للحل الإسرائيلي للمشكلة الفلسطينية مع بعض مساحيق التجميل التي قد تجذب العرب وتخدّر الفلسطينيين ـ حسب الرؤية الأمريكية ـ التي تلتزم الأمن الإسرائيلي في الأمن والاقتصاد والسياسة التزاماً مطلقاً، ليكون الأمن الفلسطيني والعربي على هامش إسرائيل التي تمثل القاعدة الاستراتيجية للمصالح الأمريكية في المنطقة من دون أيّ اعتبار للأنظمة العربية المرتبطة بالسياسة الأمريكية المصابة بمرض العجز عن التحرك في أيّ اتجاه لرفض الضغوط الاستكبارية بكل امتداداتها على المصالح الحيوية للعرب.

إن أمريكا تستقبل بعد أيام حليفها الاستراتيجي شارون في عملية تشاور سياسي للضغط على الفلسطينيين، حيث يقدّم هذا الجزّار المجرم بعض الكلمات الضبابية الغامضة التي يراد لها تلميع صورة الكيان الصهيوني باستعداده للسلام بالشروط الإسرائيلية، لتنطلق المفاوضات السياسية بالإشراف الأمريكي تحت شعار ضرورة قيام الفلسطينيين بتقديم التنازلات الصعبة المؤلمة للحل الواقعي، لتكون النتيجة مع شارون كما كانت مع مبارك، أن تعلن أمريكا أن الفلسطينيين يتحملون مسؤولية تعطيل الحل، لأنهم لا يتنازلون عن القدس وعن عودة اللاجئين وعن إلغاء المستوطنات وعن الدولة الحقيقية المتساوية مع دول المنطقة، باعتبار أن هذه المطالب لا تتناسب مع السياسة الواقعية، لأن تطورات الأوضاع قد تجاوزتها، لا سيما أن إسرائيل هي التي تملك الأرض والسلاح والتأييد الأمريكي السياسي المطلق، ما يجعل المسألة أن على الفلسطينيين أن يكونوا واقعيين في القبول بما تقبل به إسرائيل من الحلّ في التنازلات المؤلمة التي تمثل الصدقة الخيرية على الشعب الفلسطيني، كما لو كانت تمنحه الأرض والسلطة من رصيدها لا من رصيده.

الارتفاع إلى مستوى التحدي

إننا لا نثق بأمريكا ولا بإدارتها التي يرأسها بوش الذي لم يقبل باستقبال رئيس السلطة الفلسطينية عرفات، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن الوسيط النـزيه ـ كما تصف أمريكا نفسها ـ هو أن يتحدّث مع الطرفين لا مع طرف واحد يمنحه كل الثقة وكل التأييد والترحيب الحار.. ولذلك فإننا نأمل من الشعب الفلسطيني المجاهد بكل فئاته وتنظيماته أن يؤكد وحدته السياسية والجهادية التي تمثلت في العملية الاستشهادية في العفولة.. وأن يواجه الموقف بيقظة عميقة في وعيها وانفتاحها على المستقبل، ولا يسمح في هذه المرحلة الدقيقة لأي شرخ للوحدة، كما نريد للسلطة الفلسطينية أن تواجه الموقف بمسؤولية كبيرة، حتى لا تخسر شعبها إذا أريد لها أن تقدم التنازلات التي لا توصف بالمؤلمة بل بالمميتة.. وعلى العرب والمسلمين أن يتحملوا مسؤولياتهم القومية والإسلامية في الارتفاع إلى مستوى التحدي في هذه المرحلة التي قد تترك تأثيرها على المستقبل كله والأمة كلها.

القضية الأفغانية: في واقع التجاذبات الدولية

أما في أفغانستان، فإنها تواجه اللعبة السياسية الدولية في البحث عن حلّ سياسي لتأليف حكومة مؤقتة في واقع التجاذبات الدولية للمصالح الدولية والإقليمية المتناقضة، من دون استفتاء شعبي للشعب الأفغاني المسلم، الذي فرضت عليه في الماضي بعض الحكومات غير الشعبية بفعل القوة المسلّحة والتدخلات الخارجية التي لم تبتعد عنها السياسة الأمريكية وبعض حلفائها في المنطقة.. والمطلوب الآن أن تطل أمريكا من جديد على هذا البلد المنكوب المدمر الذي زادت في دماره وقتل المدنيين الفقراء من أبنائه وتشريدهم باسم الحرب على الإرهاب الذي ساهمت في خلق الظروف الواقعية لامتداده في سياستها الظالمة للشعوب، وفي تحريك مصالحها في ساحات الصراع مع خصومها الدوليين، ليكون المستضعفون الحطب الذي يحترق في محرقة المصالح الدولية.

إن عنوان المرحلة هو الأمم المتحدة التي تحولت إلى موقع من مواقع النفوذ الأمريكي أولاً، وإلى موقع من مواقع تبادل المصالح بين الدول الكبرى التي تملك القرار في مجلس الأمن من خلال أكثر من اتفاق على أساس توزيع الأدوار ضد شعوب العالم الثالث، وفي طليعتها الشعوب العربية والإسلامية.

العقدة الأمريكية.. ارتكاب المجازر

لقد عاش الشعب الأفغاني المسلم مأساة هذه الحرب، بين قصف الطيران الأمريكي والبريطاني الذي دمّر قرى بكاملها، وقصف أكثر من أسرة فقيرة برجالها ونسائها وأطفالها، وشرّد مئات الألوف من سكانها.. وبين المجازر الجديدة التي كانت شركة بين المقاتلين الأفغان من التحالف والطائرات الأمريكية في قتل المئات من الأسرى المقيدين بالأغلال بحجة أنهم تمردوا في سجنهم على الفاتحين، لأن الخطة هي إبادة كل هؤلاء الأجانب من السائرين في ركب القاعدة من العرب والباكستانيين والشيشان وغيرهم، كما نقلت الأخبار قتل ما يقارب المائتين بحجة أنهم رفضوا الاستسلام، فأعدموا بالدم البارد من دون أن يبدر منهم أية مقاومة، مما يكذب الحديث عن تمردهم.. إننا نعرف أن كل النظام الحضاري يفرض احترام الأسرى وتقديمهم للمحاكمة إذا كان لهم ذنب في أية قضية تستحق المحاكمة.. ولكن القضية هي أن هذه الحرب الأمريكية لا تعترف بأي قانونٍ للعدالة إذا كانت المسألة تتصل بالعقدة الأمريكية التي تريد تنفيس الاحتقان الشعبي والحكومي وإعادة العنفوان للقوة الوحيدة في العالم كما تقول، فالمطلوب هو الاستئصال لكل المعارضين.. باسم استئصال الإرهاب بالمفهوم الأمريكي.

إننا نخاف على الشعب الأفغاني الذي لا يزال يواجه المصير المجهول، لأن الحرب لم تنته حتى الآن، ولأن أمريكا سوف تمكث في بلاده سنين طويلة باسم القوة الدولية.. إننا نخشى عليه أن يبقى في متاهات اللعبة الأمريكية كقاعدة عسكرية سياسية اقتصادية لتطويق أكثر من دولة في المنطقة، لا سيما من خلال التهديدات التي أطلقها الرئيس الأمريكي لأكثر من بلد عربي، وخاصة العراق، مما يمثل سياسة العصا الغليظة.. وعلى الشعوب المستضعفة كلها أن تأخذ الدرس من أفغانستان، لتستعد لمواجهة الأخطار الجديدة التي سوف تمتد إلى كل مرافقها الحيوية.

لبنان: انشغال بالجزئيات الصغيرة

أما في لبنان الذي يراقب مشهد الظلام في المنطقة فأريد له ـ داخلياً ـ أن يغرق في الظلام من خلال سياسة التقنين الكهربائي الذي لا يزال اللبنانيون خاضعين لتأثيراته السلبية في مناطق الست والجارية.. إننا نرجو أن لا تكون مشكلة الكهرباء ـ التي تمثل تفصيلاً صغيراً من تفاصيل الأزمة السياسية والاقتصادية ـ هي المقدمة لمشاكل أكبر وأوسع، وأن لا تبعدها هذه التفاصيل عن القضايا الكبرى التي تضج بها المنطقة من حولنا، لأننا عندما ننشغل عن القضايا الكبيرة بالجزئيات الصغيرة نكون قد خسرنا الشرط الأول في معركة الحرية والعدالة على صعيد الداخل والخارج معاً.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية