وفي عودة إلى الذَّاكرة، نثيرها لتمدّنا ببعض الذّكريات المثيرة التي مازالت
عالقةً فيها، تطلّ علينا ذكرى انتقال السيّد فضل الله وعائلته من العراق إلى لبنان،
حاملاً معه أفكاره، وأحلامه، ومشاريعه. وإنَّ لعمليّة الانتقال هذه قصّة لا بدَّ من
ذِكْرها، لأهميّتها في مجريات ما نحن بصدد الخوض فيه من حديث:
لقد كان لوالد السيّد، سماحة العلامة المجتهد السيّد عبد الرؤوف فضل الله (ره)،
علاقة وثيقة برئيس جمعية أسرة التآخي في منطقة النبعة، المرحوم الحاج خليل حويلي
وبعض أعضائها، وكان يتردَّد على المنطقة في زيارات له، حيث يجتمع إلى أفراد من هذه
الجمعية في منزل الحاج خليل الذي كان يدعوه من وقت إلى آخر للاستفادة من علمه الجمّ
الذي كان يحيط بأحكام الشريعة الإسلامية، ولاكتساب البركة والثواب من ورعه الفيّاض
بالبركات.. ولأنَّ النظر في وجه العالِم عبادة، كما جاء في الحديث، فقد كنّا إذا
جلسنا بين يديه، نجيل النظر في وجهه وعينيه، ونطيل التحديق في ذاك الوجه الطافح
بالإيمان والتواضع، كأنّه وجه إمام من أئمّة أهل البيت (ع).. وكان سماحته إذا قام
للصلاة، نتزاحم للصلاة خلفه، والسجود على أطراف عباءته، لثقتنا الكبيرة بإيمانه
المتّصل بالسماء..
ولما كانت الجمعية قد أسّست مشروعاً خيريّاً مؤلّفاً من مسجد، ونادٍ حسينيّ للرجال،
وآخر للنساء، ومستوصف خيري، ومكتبة عامّة، ومنزل خاصّ بعالِم الدين الذي سيتولّى
الإشراف الديني على هذا المشروع، وهو مشروع فاعل ومؤثّر وضخم في منطقة تحيط بها
المؤثّرات والتحدّيات من كلِّ جانب، وقد فاقت أنشطته الدينية والاجتماعية والثقافية
ذاك المشروع الذي كان أسّسه في النبعة، العلامة الراحل الشيخ رضا فرحات (ره)،
واستلمه بعد رحيله ابنه المرحوم الشيخ محمود، قبل أن يتمّ تعيينه بوظيفة مدير عام
للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، كما فاق العديد من المشاريع الخيرية التي تمّ
تأسيسها في مناطق متعددة، في بيروت، والمناطق، فقد أضحى بحاجة إلى قامة علميّة
وفقهية على قياس تلك القامات الشامخة، والنماذج العالية التي شهدتها مناطق من لبنان
في تلك الفترة وما قبلها، وكانت لها أدوار بارزة في تغيير الواقع على الأرض وفي
النفوس..
وأمام هذا الواقع، قرّرت الجمعية اللّجوء إلى سماحة السيّد عبد الرؤوف (ره)
لاستشارته، واستشراف رأيه حول شخصيّة هذا العالِم المنشود، على أن يكون مميَّزاً،
إضافةً إلى علمه وأخلاقه وإخلاصه، بميزة الخطابة؛ وسيلة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والدّعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة التي هي من شأن من يتصدّى
لهذه المهام الدينية.
الإجماع على السيد
وفي اجتماع خاصّ دعت إليه الهيئة الإدارية في الجمعية، تشرّف بحضور السيد عبد
الرؤوف، تمَّ استعراض مجموعة من أسماء العلماء على الساحتين اللبنانية والعراقية،
لاختيار أحدهم، وإجراء التفاوض معه، لعلّهم يُحرزون موافقته بالمجيء إلى «النبعة»،
لأن المنطقة في تناقضاتها ليست سهلة الانقياد أمام الوازع الديني. وبينما هم في
حوار هادئ في حضرة السيد، إذ هتف أحد الجالسين العارفين بخصوصيات بيت السيد: يا
إخوان، لا تذهبوا بعيداً.. فأين أنتم من ذلك العالِم الشابّ المثقّف اللاّمع اسمه
في سماء النجف كنجمٍ في ليل، والذي تسبقه سمعته الطيّبة إلى لبنان، كما هي الحال مع
أولئك العلماء الكبار الذين كانوا أحاديث المجتمعات والسهرات والندوات في أوساطنا
اللبنانية؟
وأصغى الجميع كأنّ على رؤوسهم الطير ليسمعوا الاسم.. ثم تابع المتحدّث: إنه سماحة
العلامة السيد محمد حسين، نجل العلامة السيد عبدالرؤوف، الذي يحمل المواصفات التي
تطلبونها، والذي قد لا يتردّد بالموافقة على هذا الأمر، لا سيما أنّه لبناني
الجنسية، وعامليّ الانتماء، ويحمل من الأصالة والتقاليد والعادات ما يحمله أهل هذه
البلاد.
وهكذا، ما إن سمع المجتمعون هذا الاسم الذي اخترق قلوبهم وعقولهم كالبرق، كأنه اسم
نبي أو وليّ، حتى هلّلوا فرحاً، وارتفعت صيحاتهم بالصلاة على محمد وآل محمد (ص) ،
وزادت فرحتهم بعد علمهم بالقرابة التي تربط بين العلامتين الكبيرين.. ثم رأيتهم
يحدّقون بأنظارهم إلى السيد الجليل الذي كان صامتاً ينتظر ردّ الفعل، وعلامات الرضا
على الوجوه، طالبين منه خرق جدار الصمت بكلمة نافذة تحمل إشارة الرضا بما عرض،
لتطمئنّ القلوب، وتضع حدّاً لعملية استعراض الأسماء بين القريب والبعيد، والتي قد
لا تصل إلى توافق عند تشابك الآراء، عارضين فكرة دعوة نجله إلى لبنان لزيارة
المنطقة، وقضاء عدة أيام في ضيافتها لاستكشاف الأجواء، ثم البناء على الشيء
مقتضاه..
وما هي إلا لحظات انتظار، حتى نطق السيد الجليل بالموافقة، ووعد بالتواصل مع ابنه
لاستشراف رأيه، كما وعد بمحاولة إقناعه بالمجيء إلى هذه المنطقة، والعيش في كنف
هؤلاء الشباب المؤمنين الذين أحبهم، ورأى أنهم بحاجة إلى مظلة علمائية تظلّلهم
وتحفظهم من أيّ انحراف عن خطّهم الذي هم عليه في خدمة الله والناس.
زيارة السّيد إلى لبنان
وهكذا تمت الاتصالات، وتمّت الزيارة إلى المنطقة من قبل العلامة السيّد محمد حسين
فضل الله، التي استمرت حوالى الشهر تقريباً،خرج منها سماحته بانطباع جيّد، بنى على
أساسه قناعته بعدم تفويت هذه الفرصة السانحة بالعودة إلى وطنه الأصلي الذي حُرم من
الولادة فيه، لأنّه وُلد في النجف، حيث كان والده يسعى في طلب العلم.
بعد أن رأى أنّ أعضاء هذه الجمعية الذين خَبِرَهم خلال هذا الشهر، وأحبّهم
وأحبَّوه، وعاهدوه على أن يكونوا في خدمة أهدافه وخططه ونشاطاته، لن يتأخّروا في
تهيئة الظروف المؤاتية لزرع ما يبتغيه من زرع، وجني ما يشتهيه من ثمر، لأنّ معظم
أعضائها الذين هم من الفقراء الكادحين، والعاملين بقُوت يومهم، ومع ذلك، استطاعوا
بجهدهم وصدقهم وإخلاصهم للعقيدة التي يؤمنون بها مع زوجاتهم وأولادهم، أن يُنشئوا
هذا المشروع الضخم الذي سموه مشروع (الفرنك) الخمسة قروش، يجمعون قرشاً إلى قرش،
وليرة إلى ليرة، كما تُجمع قطرات الماء، قطرة إلى قطرة، فتملأ خزّاناً من المياه..
لهذا، ارتضى سماحته أن يعيش بين هؤلاء الفقراء، يقاسمهم لقمة العيش، ويشاركهم
السّراء والضرّاء.. كما أن عدداً كبيراً من فعاليات المناطق المحيطة ووجهائها، ممّن
يحملون التوجهات الإيمانية نفسها، قد رحّبوا بالقرار، وأعلنوا استعدادهم للدعم
المعنوي والمادي في إطار التعاون على البرّ والتقوى، بعد أن علموا الشيء الكثير عن
هذا العالِم القادم إليهم من وراء القفار، من جوار إمام المتّقين علي بن أبي طالب
(ع)، وابنه إمام الأحرار الحسين بن عليّ (ع)، حاملاً معه رسالة الإسلام، ودعوة
الإصلاح إلى هذه البلاد.
عقبة في طريق العودة إلى لبنان
وثمة عقبة بقيت كان لا بدّ من تذليلها بوسائل أخلاقية تتعلّق بالنجف الأشرف، حين
كان سماحته أستاذاً في الحوزة العلميّة لعدد كبير من طلبة العلوم الدينية، الذين
تعلّقوا بأخلاقه السمحة في المعاملة، ودروسه المتميّزة في الأداء، وصَعُبَ عليهم أن
يتركهم أستاذهم، لاقتناعهم بأن ميزة السيد التعليمية المشوّقة التي عشقوها، قد لا
يعوّضها أحد من سائر العلماء والأساتذة الذين تغصّ بهم حاضرة النجف. لذلك، تجمّعوا
في مقام الإمام عليّ (ع)، ليعبّروا عن حزنهم واعتراضهم في حضرة المرجع الأعلى
للطائفة الشيعية في العالم، السيد محسن الحكيم في تلك الفترة، باعتباره أستاذاً
للسيد، طالبين منه التدخّل لإقناعه بعدم المغادرة.
كما أنّ هناك أسباباً أخرى تتعلّق بالعديد من الأنشطة الدينيّة والثقافيّة
والاجتماعيّة التي كان يقوم بإنجازها أو يشارك فيها بالتعاون مع عدد من العلماء
المقرَّبين أو الأصدقاء أو الزملاء، وفي الطليعة منهم، العلامة الكبير، والمفكر
الإسلامي السيّد محمد باقر الصدر، الذي عبَّر عن حزنه من فكّ عُرى هذا التعاون
بينهما بهذا الرحيل عن النجف، هذا التعاون الذي ارتقى إلى تلك المجلة التي كانا
يصدرانها سوياً تحت اسم "الأضواء"، والتي كانت تصدر عن منتدى الفكر الإسلامي الذي
يعود إليهما فضل تأسيسه، وكانت له شهرة واسعة في الأوساط الدينية والوطنية والأدبية
على الساحة العراقية.. وكانت المجلة تستضيء بالمقالة التي تجذب القرّاء، وكان سماحة
السيد يحرّرها تحت عنوان جذّاب "كلمتنا"، إضافةً إلى قصائد شعرية هادفة وممتعة تحمل
اسم "أبو علي"، وقد صدر بعضها في ديواني "قصائد للإسلام والحياة" و"يا ظلال
الإسلام".
ثم إنّ العراق الذي شهد التقلّبات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلى
حاكميّة الحزب الواحد، والفرد الواحد.. كما عاش الانقلابات العسكريّة تحت شعارات
الوحدة العربية، ومكافحة الظلم، ومحاربة الاستعمار، انطلاقاً من العهد الملكيّ الذي
تزعّمه الملك فيصل على إثر الثورة العربية التي قادها الشريف حسين ضدّ السلطة
العثمانية بدعم من بريطانيا، والمجيء بحكومة نوري السعيد الذي تزعّم حلف بغداد
المتحالف مع الغرب الاستعماري، ثم الانقلابات العسكرية التي أعقبت ذلك، ابتداءً
بعبد الكريم قاسم، وانتهاءً بطاغية العراق صدّام حسين.. فقد عاصر سماحة السيد كلّ
هذه العهود التي أكسبته روحاً وطنية عالية، وإخلاصاً لدينه وأمّته اللذين وجدهما في
خطر، وناضل من أجلهما بفكره وقلمه ومواقفه، ولا سيّما أنَّ القضية الفلسطينية كانت
في أوج اشتعالها الوطني على إثر الثورة المصرية التي قادها الزعيم جمال عبد الناصر
على الملكيّة الموالية للاستعمار البريطاني، ثم عزّزها بإنجاز وطني آخر، هو إعلان
تأميم شركة قناة السويس التي كانت بيد الاحتكارات الأجنبية، وقد حمل هذه القضية
كشعار من شعارات ثورته، وحرّك بها مشاعر الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج..
وسماحة السيّد لم يكن بعيداً من كلّ هذه الأجواء في العراق، بل كان في قلب الحدث،
يتأثّر به ويؤثّر فيه وطنياً، وقد ظهرت هذه التأثّرات على السّاحة النجفيّة التي
عاشت الحسّ الوطني، واعتبرته حالة من الدين، واعتبرت سماحة السيّد رائداً من روّاده
المحرّكين لهذا الإحساس عبر الوطن العربي كلّه.
حلّ العقدة
إنّ كل هذه الأسباب مجتمعة، قد أوجدت عقبة في طريق انتقال السيد من العراق إلى
لبنان.. لكن هذه العقبة سرعان ما ذلّلتها رسالةٌ من سماحة السيّد عبد الرؤوف فضل
الله إلى عديله سماحة المرجع الحكيم، تطلب منه التدخّل بحكمته المعهودة لتسهيل
الأمور، وتذليل أيّ عقبة تعترض عملية قدوم السيّد إلى لبنان.. وقد أعار السيد
المرجع اهتماماً خاصّاً لهذه الرسالة، فسارع على إثرها بمخاطبة الطلبة والأصدقاء
والزملاء، بتفهّم أهمية انتقال سماحة السيد إلى لبنان، لما في هذا الأمرمن خدمة
للإسلام، وللمؤمنين في هذه المنطقة التي تعجّ بالتنوّعات في المذاهب والأحزاب،
وتحتاج إلى شخصيّة علميّة قويّة مرنة تحمل بين جنبيها طاقة على الصبر، وفكراً
متجدّداً يواكب حركة العصر، وعقلاً منفتحاً على الآخر، وأن تكون لديها من الأساليب
والخبرات ما يمكّنها من دعم حركة الإيمان التي كانت حينها برعماً في تلك الحقبة من
الزمان، لدى أناس يبحثون عمّن يغذّي فيهم هذه الحركة بأفكار من الإسلام المنفتح على
قضايا العصر، وعلى القضايا العربية والإسلامية.
العودة
ولقد كانت من أجمل الذكريات وأحبّها إلى النفوس، ليلة وصول سماحة السيّد إلى النبعة
العام 1966 م. وكان كلّ أعضاء أسرة التآخي في استقباله وعائلته، مع حشد من أهالي
المنطقة الذين غمرهم فرح لا يوصف بكلمات، كادوا يحسبونه حلماً، وهم يحضنون عالماً
جليلاً في العقد الثالث من العمر، متوسّط القامة، ممتلىء الجسم، بهيّ الطّلعة،
مهيبها، تعلو ثغره ابتسامة تضيء بين لحيته السوداء التي لا تخطّها في حينه شعرة
واحدة بيضاء، وتنمّ الابتسامة عن طيبة وصفاء، وقد التفّت حوله عائلة صغيرة تضاهيه
براءةً وبهاء، برز من بينها صبيٌّ وسيم المحيَّا، محبّب إلى القلوب، هو السّيد علي،
نجله الذي لا يبدو عليه أنّه قد أنهى العقد الأوّل من عمره، وقد أقلّتهم من العراق
سيارة (استيشن)، لا تكاد تتّسع للعائلة، مع بعض الحاجيات الضرورية والكتيبات،
يقودها صاحبها من أصدقاء الجمعيّة، هو المرحوم أبو عصام الحاج، الذي تطوّع عن طيب
خاطر لهذه المهمة.. وكان من مرافقيه في رحلة العودة إلى الوطن، رئيس الجمعية
المرحوم الحاج خليل، الذي حمل الرسالة المذكورة معه إلى السيّد الحكيم، وكان له دور
بارز في عملية الانتقال الذي سجّل بداية مرحلة جديدة في حياة السيّد فضل الله عاصفة
بالأحداث والمفاجآت.
من كتاب "الحنين الى السيّد".