في مقابلةٍ مع الوزير السّابق محسن دلّول:
مجزرة بئر العبد استهدفت الموقع الوحدويّ الّذي مثّله السيّد فضل الله(رض)
أبعاد استهداف المرجع فضل الله
س: بدايةً، بما أنَّكم من المتابعين لحادثة متفجّرة بئر العبد، كيف ترى أبعاد استهداف سماحة المرجع السيِّد فضل الله(رض)؟ لماذا السيِّد بالذّات، وما دور الأطراف المحليّين في تنفيذ هذه العمليّة المشؤومة؟
ج: سماحة السيِّد(رض) شكّل حالةً واسعةً جدّاً تعدّت الحدود، وتعدّت الجغرافيا، وفي اعتقادي أيضاً، لامست كلّ شغاف التاريخ، فكان الرأي العام الداخليّ والخارجيّ العربيّ والإسلاميّ، وغير العربيّ وغير الإسلاميّ، يستمع إلى مقولات السيّد محمد حسين فضل الله(رض) ومنطقه، وكان يتلقَّف هذه المقولات بكثير من الشّغف..
شكّل سماحة السيِّد(رض) حالةً واسعةً جدّاً تعدّت الحدود والجغرافيا، فكان الرأي العام الداخليّ والخارجيّ يستمع إلى مقولاته ويتلقّفها بكثير من الشّغف..
ولذلك كان سماحته مستهدفاً، لأنَّه هو الّذي أشاع بكثيرٍ من الذّكاء والحنكة والمحبَّة والصِّدق مقولة الاستكبار العالميّ، وهو الّذي تحدَّث بكثيرٍ من الدقّة والحكمة عن وحدة المسلمين، أو الحالة الإسلاميَّة، أو الوعاء الإسلاميّ، وكأنَّه كان يتوقَّع أن يحصل ما يحصل الآن من تباعدٍ بين المذاهب الإسلاميَّة، وكان يمثِّل شيئاً لا يريده الغرب، وهذا الشَّيء هو وحدة المسلمين، ووحدة العرب، ووحدة المستضعفين...
لم يكن السيِّد(رض) مرجعاً لأبناء الشّيعة أو لأبناء السنَّة فقط؛ بل كان مرجعاً للمسيحيّين أيضاً، فأنا الآن أستطيع أن أسمي لك العشرات من إخواننا المسيحيّين الّذين كانوا يتباهون بانتمائهم إليه؛ انتمائهم الفكريّ الرّوحيّ الاجتهاديّ. وانطلاقاً من ذلك، يكون من الطّبيعيّ أنّ يستهدف الغرب سماحته، لأنّ الغرب لا يريد مرجعيّات تستقطب وتقود بعقل وفكر، بل إنّه يريد الفوضى لعالمنا، وإن كانت تحت عنوان "الفوضى المنظّمة".
دور داخليّ في تسهيل المجزرة
س: ما هو دور الأطراف المحليّين في هذه المجزرة؛ هل كانوا فقط مجرّد أدوات لتنفيذ (أجندة الاغتيال) الخارجيّة؟
كان سماحة السيّد فضل الله مستهدفاً، لأنَّه هو الّذي أشاع مقولة الاستكبار العالميّ، وهو الّذي تحدَّث عن وحدة المسلمين...
ج: لقد لعب هؤلاء الأطراف دور المسهِّل للعمليَّة، وقد أبلغت سماحة السيِّد(رض) عندما تسلّمت وزارة الدّفاع، أنّه دخل عليّ أحدهم وقال لي: في هذه الشّرفة وقف الضبّاط الأميركيّون من السي أي أي، وكانوا ينتظرون متفجّرة بئر العبد، وعندما انفجرت، شربوا نخب ذلك.
فلماذا يجلسون هناك إذا لم يكن هناك أطراف لبنانيّون يسهّلون لهم الجلوس هناك؟!
وأنا أبلغت سماحة السيّد فوراً بهذه المسألة، وكان سماحته قد قرأ الخبر في جريدة أو مجلّة سنويّة..
من وصايا السيّد(رض)
س: كثيرة كانت جلساتكم الاستراتيجيَّة مع سماحة السيِّد إن صحَّ التَّعبير، وكانت تتناول قضايا الدَّاخل والمنطقة. بماذا كان سماحته يوصيكم؟
ج: كان يوصينا أوّلاً بأن نقرأ وأن نكتب، وقد أبلغته ذات مرّة عن إحصائيّة غربيّة تقول إنّ الأميركيّ يقرأ بمعدّل 11 كتاباً في السّنة، والأوروبّي بمعدّل 13، والعربيّ بمدّل نصف صفحة.
فكان يوصي بالقراءة والكتابة، وهو الّذي دفعني إلى أن أنشر مذكّراتي، وفي كلّ مرّة كان يصدر كتاب لي، كان يتّصل بي ويقول لي مبروك، أين الثّاني والثّالث والرّابع؟.
وهو الّذي حثّني كثيراً على كتابة المذكّرات، وأصرّ على أن أنشرها في حياتي حتّى أتصدّى لمن ينتقد، ولمن يستفسر أو يستوضح، وكان يطرب فرحاً لكتاب يصدر، وكنّا نتناقش معه، فكان يعتقد اعتقاداً راسخاً أنّ السياسيّ أو رجل الأعمال أو الغنيّ، لا يستطيع أن يكون مثقّفاً، ولكنّ المثقّف يستطيع أن يكون مثل هؤلاء، يستطيع أن يكون سياسيّاً ورجل أعمال وأن يكون كلّ شيء.
من هنا، كان يعتبر الثّقافة أوّلاً، وعندما كنّا نتحدَّث في تفاصيل السياسة، فنذكر مثلاً أهميَّة الحالة الوطنيّة والحالة القوميَّة، فكان يقول إنَّها كلّها تؤدِّي دورها، ولكن كلّ هذه الأمور يجب أن يكون مشمولةً بالثّقافة...
وكان سماحته يقول لي: أتمنّى دوماً أن ألتقي معك ومع الأستاذ جون عبيد والعديد من الشخصيّات بالرّغم من ازدحام المواعيد، فكنت أفرح لكلامه كثيراً.
أثر الغياب
س: كيف ترى أثر الغياب الّذي تركه سماحة السيّد في الحالة الإسلاميّة والعلاقات بين اللّبنانيّين ومنهج الحوار والانفتاح؟
ج: نحن فعلاً نفتقده اليوم، وإن كنت أتابع خطبة الجمعة لسماحة السيّد علي فضل الله، والّتي تفرحني جدّاً، بمنطقها، وثقافتها، بالمواضيع الّتي يتناولها، وأنا سمعته نهار السّبت قبل الأخير مع الإعلاميّة وردة في صالون السّبت على إذاعة الشّرق، واتّصلت بوردة وقلت لها: نعم النّجل لأكبر أب.
وبالفعل، أنا هنا لأقول إنَّ الأثر الّذي تركه سماحته نحاول أن نتلمَّسه في مؤسَّساته، وهذه المؤسَّسة تستطيع أن تعوّضنا ـ نوعاً ما ـ عن فقدانه، ولكنّها بحاجة إلى وقت لكي تصمد أكثر، فهو ترك مؤسّسة، ولم يترك إرثاً لأولاده ولا لأقاربه ولا لعائلته، بل ترك مؤسّسات، وأنا أعرف ذلك من منطقتي.
السيّد الوحدويّ
س: ما الفراغ الّذي خلّفه غياب سماحته على السّاحة الشيعيّة بالتّحديد؟
ج: كان سماحته يدعو دائماً إلى وحدة المسلمين واللّبنانيّين ووحدة العرب، وكان يتصدّى لكلّ من يحاول أن ينتقص من مصالح العرب الحيويّة، وهناك أمور كثيرة أعرفها، ولكنّني لست بوارد ذكرها الآن، إلا أنّني أذكر أنّه كان يكره أن يذكر أمامه الصّراع السني الشيعي، ولا أن يأتي إليه شيعيّ متعصّب أو سنّي متعصّب.
في إحدى المرّات، جاء من يقول له: أنا أريد أن أكون شيعيّاً، فقال له سماحته: لماذا جئت إليّ؟ قال له: لأكون شيعيّاً على يديك، فقال له: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله تكون شيعيّاً. ولكنّ السّنّة أيضاً يقولون ذلك، فقال له: الشيعة والسنّة بالنّسبة إليّ أمر واحد.
وهذا الشّخص نقل كلام السيّد لوسطه الّذي اندهش بكلام سماحته وفكّر في تقليده. فلم يكن عند السيّد سنّي مميّز أو شيعيّ مميّز، فالقرآن واحد والكتاب واحد، ولا يبقى إلا الشكليّات الّتي تجاوزها سماحته بالعلم والاجتهاد.
السيّد هو الوحيد الّذي زاوج بين الاجتهاد والعلم؛ أخذ العلم بكلِّ تطوّراته، وأراد للدِّين أن يواكب العلم، وللعلم أن يواكب الدّين.
السيّد هو الوحيد الّذي زاوج بين الاجتهاد والعلم؛ أخذ العلم بكلِّ تطوّراته، وأراد للدِّين أن يواكب العلم، وللعلم أن يواكب الدّين...
في إحدى النّدوات الّتي كنت مشاركاً بها في الجزائر، حدثت معي مشكلة كبيرة، إذ قلت فيها إنّ الدّين في خدمة الإنسان، فقام السلفيّون وغيرهم وهاجموني، حتَّى صرت أشكّك فيما قلته وما إذا كنت قد أخطأت، وكان هناك دكتور مصريّ وآخر أردنيّ دافعا عنّي ولكن بخوف، فلجأت إلى سماحة السيّد وقلت له: مولانا، أنا وقعت في ورطة، فقال لي ما هي؟ فقلت له: كنت في الجزائر في ندوة، وحدث معي كذا وكذا، فقال لي: بالعكس، معك حقّ، فالدين وُجد بعد الإنسان، اسمعني نهار الجمعة، فسوف أتحدّث عن هذا الموضوع. وفعلاً، طالعنا سماحته نهار الجمعة بخطبة مركّزة، تحدّث فيها كيف أنّ الدّين ورجال الدّين وُجدوا لخدمة الإنسان...
من هنا، كان سماحته حالة بحدِّ ذاتها، وليس هناك شيء يتكرَّر في التَّاريخ. في الغرب يتناقشون مثلاً ما هو التَّاريخ، التّاريخ هو الزّمن، فكلّ واحد له زمنه، ولكن دائماً هناك إضاءات، وهذه الإضاءات علينا أن نستفيد منها، وقد مرَّت مرحلة سماحة السيِّد(رض)، فكانت له الكثير من الإضاءات وليس إضاءةً واحدةً، كانت له إضاءات بالفكر والدّين والاقتصاد والاجتماع، وقد ظهرت في اجتهاداته ومداخلاته وخطاباته...
وسماحته بنى مؤسّسات تربويّة يواكبها العلم الحديث والتطوّر الحديث، كي يكون بعمله يواكب العصر الحديث.
وقد فقدت الساحة الشيعيّة برحيله الكثير والكثير، وهي بحاجة إلى وقت لتعوّض فقده، مع أنّني التقيت بالسيّد علي والسيّد جعفر أكثر من مرّة، ولي ثقة كبيرة فيهما، وكلّ شيء يحتاج إلى وقت.
منذ بعض الوقت، اتَّصل بي شخص جزائريّ مسؤول كان يتردَّد على سماحته، وأعرب لي عن أسفه أنّه لأوَّل مرَّة يأتي إلى بيروت، وليس في برنامجه زيارة للسيّد فضل الله(رض)؛ وقال إنَّه يشعر بفراغ، فقلت له إنَّنا ربما نستطيع أن ندلّك على من يملأ ـ ولو بالتدرّج ـ هذا الفراغ. فقال لي: من؟ فقلت له إنّهم أبناء السيّد، فبإمكانك أن تتوجّه إليهم، وأعتقد أنّك مع الوقت ستتمسّك بالعلاقة معهم وبالصّداقة، كما كنت مع والدهم.