كنت في بداية أجواء الحرب اللّبنانيّة وأنا في منطقة النبعة، أتصوّر أنّها مجرّد معارك طارئة تنطلق من حساسيّات معيّنة، نتيجة الجوّ الّذي يعيشه النّاس في المنطقة الشرقيّة، بالنّسبة إلى الوجود الفلسطيني في مخيّم تلّ الزّعتر، الّذي كان يمثّل جزيرة محاطة بعدّة مواقع لا ترتاح إليها، وتعتبر وجودها هناك يهدّد كلّ العناوين الّتي يعيشها هذا المجتمع، سواء كانت عناوين العقد النفسيّة أو الحساسيّات التاريخيّة، أو نتيجة الخطوط السياسيّة والخلفيّات الإقليميّة والدّوليّة لها.
ومن هنا، فإنّني كنت أعيش آنذاك من خلال جوّ بعض مفردات الخطابات السياسيّة، التي كانت تتوزّع على المرحلة يومذاك، من أنّ هناك خطراً على الناس الذين يقيمون في منطقة النبعة وفي مجمل المنطقة الشرقيّة، لأنّ طبيعة التعاطف العفوي مع الفلسطينيّين، جعل كل الناس هناك من غير المسيحيّين فريقاً واحداً مع الفلسطينيّين.
قد لا يكون كل الناس من هذا الفريق مرتاحين للأداء الفلسطيني أو للوجود الفلسطيني بالمعنى السياسي المحلّي، ولكن المسألة في أجواء المناخ الطائفي الّذي بدأ إنتاجه في البلد بوحشية وشراسة، جعل كلّ فريق طائفي يعيش داخل مناخه، ليعتبر أن المناخ الآخر غير ملائم له، أو أنه يسيء إلى خصوصيات حياته.
ولذلك استطاع هذا الجوّ السياسيّ أن يختزن في داخله الخوف الطائفيّ الّذي يعيش كلّ شعارات الحرمان والقهر والدونيّة في المجتمع اللبناني، ولا سيّما في المنطقة التي كانت تمثّل أقصى درجات الدّونيّة، وهي "النبعة"، الّتي كانت تفتقد أبسط شروط الحياة العاديّة للإنسان، من مدرسة أو خدمات بلديّة أو مستوصفات وما إلى ذلك، كما لو كانت الدّولة والبلديّة تشعر بأنّهم ليسوا مستحقّين لأيّة خدمة، لأنّ وجودهم غير مرغوب فيه هناك...
وكان النّاس يعيشون هناك وكأنهم بقرة حلوب للسلطات المحلية والبلدية، من خلال الضرائب التي كانت تفرض عليهم لقاء خدمات لا تُقدّم لهم، وبذلك استطاع هذا المناخ السياسي العام، والأوضاع المتحرّكة في الداخل، أن يثيرا التعاطف مع الجو الفلسطيني، ولم يكن هناك دراسة لطبيعة الحصار الّذي يلتفّ حول هذه الجزر الموجودة في المنطقة الشرقيّة، لأنّ الناس كانوا مستغرقين في الداخل.
ومن هنا، فقد كانت مسألة التحرك السياسي على مستوى الواقع الشعبي الّذي كان لا يمثّل شيئاً كبيراً، تنطلق من عملية استغراق في خصوصيات داخلية بعيداً عن المحيط، وكنا نلاحظ أنّ الأزمة كلما كانت تشتدّ، كان الحبل يضيّق الخناق على المنطقة من خلال المشاكل الّتي كانت تعيش في منطقة المسلخ وتلّ الزعتر وغيرهما من الأماكن، بحيث سقطت المنطقة قبل أن يشعر الآخرون بالسّقوط، نتيجة الاستغراق الذاتي وفقدان الوعي السياسي الشّامل، لأنّ المسألة لم تكن في وعي النّاس قد بلغت النّهايات لعزل لمناطق بعضها عن بعض، وعزل النّاس بعضهم عن بعض.
لقد شعر النّاس بالخطر الكبير عندما سقطت الدّامور، وساورهم الإحساس بأنّ النبعة ستكون في مقابل الدّامور، وبدأوا يعيشون القلق في تلك المرحلة، وكانوا يخرجون من النبعة في الوقت الّذي كانت الحواجز المقامة على خطوط التّماس، ولا سيما منها حاجز السريان على المتحف، تقوم بقتل النّاس الّذين كان منهم مَن لا يعرفون السياسة ولا يفهمونها، بل كانوا من المستضعفين الّذين جاؤوا إلى هذه المنطقة من أجل لقمة العيش، وكانت المسألة أن تسعين في المائة من الذين يقطعون خطوط التماس بين المنطقتين الشرقية والغربية يُقتلون، لأنّ الشّعار الّذي كان سائداً في ذلك الوقت هو المزيد من القتل، حتّى لا يبقى أحد في تلك المنطقة، فهاجر أكثر النّاس وبقي بعضهم من أجل الحفاظ على أملاكهم، وعلى بعض الشروط الضروريّة لحياتهم، لأنهم لم يكن لبعض الناس الّذين استقرّوا في تلك المنطقة، أي مسكن آخر في أيّ منطقة أخرى، ثم جاء الاجتياح الإسرائيليّ للبنان العام 1982م، الّذي أسقط تلك المنطقة كلّها تحت تأثير شعارات وظروف وأوضاع إقليميّة.
ومن الغريب أنّ الكثير من القيادات الّتي كانت تعرف سرّ اللّعبة، كانت غائبة عن عمليّة التوعية الشعبيّة، وكانت تتحدّث عن الصّمود في الداخل، في الوقت الّذي لم تكن هناك أيّة مقوّمات سياسية للسلطة، وكانت هناك أوهام حول بعض القوى الخارجيّة، الّتي يمكن أن تعيد البلد إلى توازنه ليبقى النّاس في أماكنهم، ولكن يبدو أنّ المؤامرة التي كانت تلفّ لبنان كلّه، كانت تعمل على تنقية المناطق التي تختلط فيها الطّوائف وتتعايش، حتى يمكن عزل الطوائف عن بعضها البعض، ليمكن تحريك الشّعارات التي تختزن الخوف والخوف المضادّ، وتحرّك البلد في اتجاه الشعور بأنّ مسألة التعايش ليست مسألة واقعيّة، ليتحرّك بذلك شعار التقسيم والفدراليّة من جهة أخرى.
كنّا نراقب المسألة من بعيد، وقد عشت طيلة تلك المدّة في النبعة، حتى إنّني خرجت منها يوم السبت الأسود لتأدية بعض الواجبات الاجتماعيّة في الجنوب، ولم أعرف ماذا حدث يومذاك قبل ذهابي إلى الجنوب، المهم أنّني لم أستقرّ في الجنوب، لأنّني كنت أشعر بالمسؤوليّة في العودة إلى النبعة، لأنّه حتى ذلك الوقت، لم أكن مقتنعاً لعدّة اعتبارات، بأنّ سقوط النبعة وشيك، وكنت أشعر بكلمات من هنا وهناك، فبدأت أعيش القلق في المسألة، لكنّني لم أكن أملك المعطيات في ذلك الوقت.
ولذلك أحببت أن أصمد مع النّاس، فعدت إلى النبعة، في الوقت الّذي كان يتحدث الجميع برعب عن كيفية عودتي إلى هناك في ذلك الجوّ، ومع ذلك، عدت مع أولادي وعيالي، حتى إنّنا تجاوزنا القنّاصين، وعندما وصلت إلى النبعة آنذاك، فوجئ الناس بذلك، لكن لم تمضِ مدّة قليلة، حتى أصبت بعارض صحيّ، هبط خلاله وزني أكثر من ثلاثين كيلو غراماً، نتيجة الجهد الّذي كنا نقوم به، وهذا الوضع سبّب خطراً على صحتي أجبرني على الخروج من النبعة، فمررنا بطريقنا على الحواجز والدّوائر الجمركيّة، والدّوائر الّتي تشبه دوائر الجوازات، ودوائر الحدود الّتي توحي إليك بأنّك خرجت من دولة لتدخل أخرى، وسقطت النّبعة بعد أيّام من ذلك.
وإنّني أتذكّر في تلك المرحلة نداءات الحقد والعداوة والبغضاء والوحشيّة الطائفيّة الّتي كان يتحرّك فيها النّاس غرائزيّاً من دون عقل وروح، وكانت عمليّة سقوط النّبعة وسقوط تلّ الزّعتر والمسلخ والكرنتينا وبعض المناطق الأخرى، الّتي كانت تمثّل تفاصيل في هذه المناطق الرئيسة، ولاحظنا من الحقد الطائفي ومن الغرائزيّة الحيوانيّة، ومن انتهاك أعراض وانتهاك كلّ المحرّمات، ما جعلنا نتصوّر أنّ هذا اللّبنان الذي يُحكى عن حضارته، هو لبنان التخلّف الغارق في غرائزيّته، لتكون الحضارة مجرّد شيء على السطح، في الشكل، ولكنه لا يقترب من أقرب نقطة في العمق، بدلاً من أن ينزل إلى كلّ الأعماق.
المصدر: كتاب "العلامة فضل الله وتحدّي الممنوع".
* وردت أسماء مناطق وتفاصيلها متعلقة بأحداث الأهلية اللبنانية فينبغي مراجعة تفاصيل مجريات الحرب أهلية اللبنانية لفهمها بشكل واضح.