إنَّ أوَّل زيارة لي إلى لبنان، كانت سنة 1952، حيث وصلت إلى بيروت آنذاك في أجواء وفاة الشخصيَّة الدينيَّة الشيعيَّة الكبيرة، سماحة العلامة السيّد محسن الأمين. وقد شاركت في إحياء ذكرى أربعينه الَّتي أقيمت في بيروت، وتحديداً في منطقة قصقص، وألقيتُ قصيدة رثاء له في هذا الحفل الذي ضمّ كبار العلماء والكتّاب والشعراء، فقالت عنها الصحف اللبنانية آنذاك، إنها أثارت مشاعر الجماهير، لأنها لم تكن قصيدة رثاء تقليديَّة، بل كانت تعالج كثيراً من القضايا المطروحة في الساحة يومذاك، فكانت تشير إلى الاستعمار الفرنسي، كما كانت تشير إلى الوحدة الإسلاميَّة، وإلى المشاكل التي كان يعاني منها الشباب، وبخاصَّة البطالة والهجرة والأزمات النفسيَّة.
وخلال هذه الزيارة التي كانت في صيف 1952، حاولت أن ألتقي مختلف الشخصيات الأدبية والشعرية والسياسية، وكنت أخوض حوارات متحركة مع مختلف التيارات السياسية التي كانت تفرض نفسها على الواقع آنذاك، كالتيار الشيوعي، وتيار القوميين العرب، وتيار "البعث العربي الاشتراكي" الذي كان في بداياته، إضافةً إلى كثير من اللقاءات التي كانت تدور حول كثير من القضايا الأدبية والشعرية.
وعشت في تلك الفترة تجربة حيَّة من خلال معايشتي للواقع اللبناني، الذي عرفته بشكل حي لأول مرة، وعشت أيضاً في تلك الفترة التعقيدات اللبنانية والطائفية، والمشاكل المذهبية في داخل الطائفة الواحدة.
كما عشت الأوضاع السياسيَّة التي كانت تتحرك في نقطة تجاذب بين السياسة الفرنسية والإنكليزية من جهة، والسياسية الأميركية التي كانت تعمل على الدخول إلى لبنان من جهة أخرى.
وهذا ما لاحظته في الحركة التي بدت كما لو كانت شعبية في التحرك السياسي الذي كان يقوده آنذاك كميل شمعون وكمال جنبلاط وحميد فرنجية ضد بشارة الخوري من أجل الإطاحة به، وهكذا سقط بشارة الخوري في تلك الفترة، ليفسح المجال لتبدّل سياسي جذري في السياسة الخارجية اللبنانية، في الوقت الذي كان الناس يفكرون في أن المسألة تتجه إلى السياسة الداخلية، من خلال الإصلاحات التي كان السياسيون الثائرون يطالبون بها.
وهكذا أيضاً تتابعت زياراتي إلى لبنان، من وقت إلى آخر، حتى جاء والدي إلى لبنان قادماً من النجف الأشرف في سنة 1955، حيث قدمت معه، ومكثت في تلك الفترة مدة سنة ونصف السنة، كانت مليئة بالنشاط المتحرك في أكثر من موقع وأكثر من أفق.
العودة النهائية إلى لبنان
في سنة 1966، تلقَّيت دعوة من مجموعة من المؤمنين، في "جمعية أسرة التآخي"، المقيمين في منطقة النبعة في ضاحية بيروت الشرقية، للإقامة عندهم، وكنت قد تعرفت إليهم سابقاً، وكانت هناك ظروف معقّدة، فرضت عليّ الهجرة من النجف.
في منطقة النبعة
هذه الظروف كما ذكرت، جعلتني ألبي الدعوة، وجئت إلى منطقة النبعة، حيث كان مركز "جمعيَّة أسرة التآخي"، وبدأت العمل في منطقة برج حمود، من خلال إدارة الندوات الثقافية وإلقاء المحاضرات الدينية التي كانت تنفتح على المسألة الاجتماعية والمسألة السياسية بشكل أو بآخر، كما كان الوضع يسمح به في تلك المرحلة، ولكن ذلك لم يجعلني أتحرك سياسياً بشكل واسع، وبقيت حركتي في دائرة التوعية الإسلامية السياسية.
وإلى جانب عملي في منطقة النبعة، كنت أتحرك باتجاه جنوب لبنان بشكل أسبوعي، حيث كنت أقوم بجولات على قرى الجنوب، وأشارك في الحفلات الاجتماعية التي كان يغلب عليها الجانب التأبيني، والتي اعتاد الناس أن تتحول إلى حفلات خطابية يتحدث فيها علماء الدين وغيرهم حول مختلف القضايا التي تتحرك في واقع الناس، إضافةً إلى مشاركتي في الجانب الوعظي الذي يثير الجوانب الروحية والقيم الدينية العامة.
وكنت في تلك المرحلة أعمل على أساس إدارة كثير من الجلسات في مختلف قرى الجنوب اللبناني، لخلق حوار بيني وبين التيارات المختلفة فيها، ولا سيما اليسارية، ما جعل الكثيرين ممن كانوا يتحركون في هذه التيارات اليسارية، يتعقّدون من هذه الجلسات، لأنها اجتذبت كثيراً من الجماهير، وفتحت عيونهم على مسألة الإسلام السياسي المنفتح على الحياة.
تأسيس المعهد الشرعي الإسلامي
منذ بداية إقامتي في منطقة النبعة، حاولت أن أستمر في الدراسات الفقهية العلميّة، ولذلك أسست الحوزة الدينية لتخريج علماء الدين، تحت اسم "المعهد الشرعي الإسلامي"، الذي ضمّ مجموعة من الطلاب الذين تحولوا بعد ذلك إلى شخصيات فاعلة في أكثر من حقل، وكان من بين طلابها الأوائل، الشهيد السعيد الشيخ راغب حرب، كما كان من طلابها العديد من علماء الدين الذين انطلقوا في الحقل الديني من واقع لبنان. وقد استطاع "المعهد الشرعي الإسلامي" أن يثير الحركة العلمية الفقهية، بشكل جيد في تلك المرحلة، وهذا ما ساعدني على مسألة النمو الفقهي، لأنَّني لم أترك الدراسات الفقهيَّة الاجتهاديَّة منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
في منطقة النبعة
إضافةً إلى ذلك، حاولت أن أركِّز الجانب الثقافي في تلك المنطقة، فأسسنا مكتبة عامة، كما عملنا على إطلالة النشاط النسائي، فأسسنا نادياً نسائياً في بناية "أسرة التآخي"، كما أسسنا مستوصفاً صحياً، وعملنا على إثارة الواقع الثقافي الديني، من خلال الحفلات الموسمية التي كانت تتعدد في كل سنة، إضافةً إلى الحفلات التقليدية في عاشوراء، وكنا ندعو إليها الخطباء من سائر الطوائف والمذاهب، للتدليل على رحابة الأفق الإسلامي، في الالتقاء حتى في القضايا الإسلامية مع المسيحيين، وحتى في القضايا الشيعية مع السنة.. لأننا كنا نؤمن بالحوار منذ البداية، وكنا نؤمن بضرورة الانفتاح على مختلف المواقع الفكرية، سواء كانت مواقع دينية أو علمانية.
وكنت إلى جانب ذلك، أقوم بنشاطات في مختلف مناطق المنطقة الشرقية في بيروت، التي يتواجد فيها المسلمون، وكنت أمارس نشاطاً في تل الزعتر قبل قدوم العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى هناك، إضافةً إلى نشاطات في سد البوشرية، والفنار، ورويسات الجديدة، وسن الفيل، وغيرها من المناطق، وقمنا بتأسيس المساجد والحسينيات في العديد من هذه المناطق.
مع المستضعفين في منطقة النبعة
لقد كانت تلك المرحلة غنية بالحركة والنشاط والحيوية والانفتاح على كل الناس، حيث التقيت بالمستضعفين وعشت همومهم وآلامهم ومشاكلهم، لأنني من الناس الذين نشأوا على حب الناس المستضعفين، ولا سيما أنني عندما كنت في النجف أثناء بداية دراستي هناك، كنت أجول على مناطق البؤس فيها، وهي المناطق التي كانت تعيش على هامش المدينة، حيث ألتقي هؤلاء البسطاء الذين يعيشون فلاحين ورعاة أغنام وما إلى ذلك، فأجلس معهم، وأذهب إلى بيوتهم، وأتحدث إليهم، وأعظهم، وأرشدهم، وأعلّمهم، وأسعى في سبيل مساعدتهم مادياً.
وهكذا عندما جئت إلى النبعة، كنت منسجماً مع هذا الجوّ ومع نفسي، حتى إنَّ بعض أصدقائي، ومنهم السيّد موسى الصّدر، عندما أُخبر بأنّني سأحضر إلى منطقة النبعة، استغرب ذلك، لأنّه كان يرى أنّ موقعي الذي يعرفه جيداً، لا يتناسب مع منطقة كهذه، ولكنني كنت أحس برغبة قوية في العيش مع البؤساء والفقراء، ومع المستضعفين والمحرومين، لأنّ ذلك يمثّل رغبة نفسيّة عندي.
بين عيترون وجبشيت
وكان نطاق عملي في ذلك الوقت يتركّز على التحرك في المسألة الإسلامية على المستوى السياسي العام، وتركيز الكثير من المواقع الإسلامية، ومنها بلدة جبشيت في جنوب لبنان، التي يتحدّث الناس عنها على أنها قاعدة للحركة الإسلامية الثورية، فمن خلال وجودنا في النبعة، التي كانت تضمّ الكثيرين من أبناء هذه البلدة، استطعنا أن نركّز هذه المفاهيم والرّوح الإسلاميّة في نفوسهم، إضافةً إلى الانفتاح على القضايا الكبرى من خلال النشاط والتحرك الذي كنا نقوم به آنذاك.
وأذكر أننا في بدايات وجودنا في منطقة النبعة، قررنا أن نقيم حفلة لمناسبة عيد المولد النبوي الشريف في بلدة عيترون، الكائنة في المنطقة الحدودية في قضاء بنت جبيل، حيث كان يسيطر عليها آنذاك الشيوعيون، وكان هناك في ذلك الوقت، تجمع يساري يضم أكثر الأحزاب في منطقة بنت جبيل، المعروفة بنشاطها السياسي في إطار الحركات الحزبية. وعندما قررنا ذلك، ونحن معروفون بالخط الإسلامي المعارض للخطوط الأخرى، لاحظنا أنَّ ثائرة اليساريين ثارت، وفي مقدمتهم الشيوعيون، فبدأوا على طريقتهم التقليدية السابقة، بتوزيع الاتهامات على الناس الذين يريدون إقامة هذه الحفلة، وهم من الناس الطيبين المستضعفين، وكانت تتحرك في تلك المرحلة أجواء الحديث عن الحلف الإسلامي الذي تقوده بريطانيا، والذي كان يضم باكستان وإيران وتركيا، على أنقاض حلف بغداد الذي سقط بخروج العراق منه بعد الانقلاب الذي قاده عبد الكريم قاسم.
وكان الحلف الإسلامي يمثِّل مجرى السياسة الغربية في المنطقة، ومن الطبيعي أن يتحرك الخط القومي العربي والخط اليساري بشكل عام، الذي يدور في فلك الاتحاد السوفياتي آنذاك، ومن الطبيعي أن الحلف الإسلامي يريد أن يقيم حفلة في بلدة عيترون القريبة من الحدود الفلسطينية، ومعنى ذلك أنه من الممكن أن يرتبط بالخطوط الصهيونية وغيرها.
وأذكر أنني التقيت آنذاك مجموعة الأحزاب، من بعثيين وقوميين عرب وشيوعيين وغيرهم، وكلهم من مناطق وقرى بنت جبيل، وقلت لهم: إنني مستعد للحوار معكم في كل ما نختلف عليه، وأنا مستعد لأن أتحدث معكم في كل شيء، حتى في المقدسات، لأنه ليس من مقدسات في الحوار، ويمكن أن نبحث هذه القضية وغيرها، فإذا كنتم مستعدين للحوار والتفاهم فأنا مستعد، وإذا كنتم غير مستعدين للحوار، وتعملون على إثارة الدخان في وجهنا، على أساس اللعبة السياسية التكتيكية، فإنني أحب أن أقول لكم إن جلدنا سميك، وكل ما تقومون به لن يؤثر فينا أبداً.
وأذكر أنهم ذهبوا في ذلك الوقت إلى المغفور له العلامة الشيخ محمد جواد مغنية، الذي كان صديقاً لي وأحترمه كثيراً، وكان يختلف عن العلماء في ابتعاده عن الجو التقليدي، وانفتاحه على قضايا المستضعفين وقضايا الحرية والعدالة في المنطقة بالطريقة التي ابتعد فيها عن الخطوط التقليدية، حتى خُيِّل للكثيرين من الناس أنه ينطلق في خط يساري ماركسي، لعلاقته ببعض أقطاب الماركسية، مثل الأديب حسين مروة، ووصل بعضهم إلى تسميته "بالشيخ الأحمر"، ولكنني أشهد شهادة لله، أنه كان من خيرة العلماء العاملين المخلصين للإسلام بكل عمق، ولكنه كان يفكّر في أن الإسلام لا يمكن أن يعيش في الأجواء التقليدية وفي بلاطات الملوك والأمراء، وإنما يعيش مع المستضعفين ومع حركتهم من أجل الحرية والعدالة.
لذلك، كان صوته قوياً في مواجهة كل التحديات التي كانت تعيشها الأمة، وكان صريحاً في ذلك، لا يلتزم قائداً معيناً، أو شخصية سياسية معينة، وإنما يلتزم مواقف أمته، فإذا انحرفت عن مواقفها، تحوّل هو إلى الموقع الآخر.
وقد جاؤوا إليه آنذاك وقالوا له: إن الحلف الإسلامي يريد أن يقيم حفلة لمناسبة مولد النبي في بلدة عيترون الحساسة بسبب موقعها المتاخم للحدود مع فلسطين، وأبلغوه بأنني ربما أكون مستغلاً من قبل الحلف الإسلامي، وهم لا يتهمونني بالتنسيق معه، فجاء الشيخ محمد جواد مغنية آنذاك وتحدث إلي، فقلت له: إنني أفكِّر في أن تكون أنت أحد الخطباء، وأن يكون المرحوم هاشم معروف أيضاً من الخطباء، وهو كان صديقنا، وأبلغته أيضاً بأنني مستعد للاتفاق معه حول الخطباء، لأننا نريدها حفلة في المولد النبوي الشريف تتجاوز المسائل التقليدية وتثير كل قضايا الأمة، حتى مهاجمة الحلف الإسلامي، فحاول اليساريون بكل وسائلهم أن يمنعوا الحفلة، ولكنها أقيمت بشكل جيد، وأعطت مفعولها في المنطقة وغيرها..
إنني أتحدث عن هذا الموضوع، لأثير بعض الأجواء التي كان الوسط السياسي ينطلق بها في مواجهة أي تحرك إسلامي، وقد واجهنا بعضها في منطقة جبشيت، التي تحرّك الكثيرون في منطقة النبطية ليمنعوا إقامة احتفالٍ مماثلٍ فيها، ولكن في وقت آخر، بيد أنهم لم ينجحوا في ذلك.
وكنت ألاحظ في تلك الفترة أن بعض الأحزاب اليسارية كانت تمنع محازبيها من حضور المجالس التي أديرها، خوفاً من الطروحات التي أطرحها، لأنني كنت منفتحاً بكل آفاق الانفتاح حول كل قضية، وكان شعار كل الندوات التي كنت أقوم بها في بنت جبيل أو في منطقة النبطية أو في مناطق أخرى: "ليس هناك سؤال تافه وسؤال محرج، فالحقيقة بنت الحوار".
أجواء ولادة حركة أمل
إنَّ تلك المرحلة كانت من المراحل الغنية جداً. وفي ذلك الوقت، انفتحت الساحة على ولادة "حركة أمل" في الوسط الشيعي، وقد أثارت الكثير من الجدل آنذاك، ولكنني أعتقد أن السيد موسى الصدر عندما أطلقها، كان يحاول أن يفتح للمسلمين الشيعة الباب الواسع للدخول إلى الواقع السياسي اللبناني، وإلى الواقع السياسي العربي، وكان يحاول أن يمنع ذلك الانفلاش الشيعي الموزّع داخل الأحزاب المختلفة، بحيث كنا نجد أنَّ أغلب قواعد الأحزاب كانت من الشيعة، باعتبار ما كانوا يعيشونه من حرمان ومأساة وشعور بالخط الانعزالي الذي يريد أن يبقي الشيعة في دائرة التخلّف ضمن إطار إبقاء المسلمين في هذه الدائرة. لذلك، كان الشّيعة ينطلقون إلى الأحزاب من خلال المشكلة الاقتصادية، ومن خلال المشكلة الاجتماعيَّة، وهكذا انطلقوا أيضاً من خلال هذه الروح الثائرة باتجاه المنظمات الفلسطينيّة، وكانوا يتوزعون عليها.
لذلك، فإنني أتصور أن السيد موسى الصدر كان يفكِّر في أن يؤسس حركة إسلامية شيعية، لا تبتعد عن الجو اللبناني في طموحاته، وتفتح الآفاق على القضايا الكبرى التي كانت تجتذب المحرومين، لتدخلهم في الأحزاب والمنظمات، وليجمع كل هذه الطاقات ويمنعها من الدخول في لعبة السلاح المنفلش، لكي يكون لها سلاحها وحربها وجهادها.
وأنا أعتقد أن الحركة التي انطلقت، كانت من أوائل الحركات التي واجهت العدو الإسرائيلي، من خلال قيادة السيد موسى الصدر لها، وأعتقد أيضاً أنه انطلق في هذا الخط، لتجميع الطاقات الشيعية. ومن الطبيعي أنه عندما كان يعيش الأفق المنفتح الواسع، فإنه أطلق حركة المحرومين، لتكون حركة تضم كل المحرومين في العنوان الكبير.. ولكنَّنا رأينا أن أية حركة لبنانية، لا بد من أن تتأطر بإطار الشخصية التي تقودها، والمنطقة التي تعيش فيها، والمجتمع الذي تتحرك فيه. ولذلك، فإنَّ هذه الحركة لم تضم إلا الشيعة، وإذا كان هناك بعض الناس من غير الشيعة ينتمون إليها، فإن المسألة كانت تتحرك في نطاق الديكور وليس في العمق...
[المصدر: العلامة فضل الله، التحدي الممنوع].