لم يتوقّف السيّد فضل الله يوماً عن التَّدريس، باعتباره ضروريّاً للتنمية العلميّة بقدر ما هو حاجة للطلاّب. يقول السيّد(ره) في هذا المجال:
"كنتُ في النَّجف مدرّساً للسّطوح العالية، وكان النّاس ينظرون إليّ نظرة الشّخص الّذي يملك الثقافة الفقهيّة والأصوليّة العالية، بالمستوى الّذي كان فيه يدرّس (المكاسب) و(الرّسائل) و(الكفاية) [1] ، حتّى إنَّ السيِّد الشّهيد محمّد باقر الصّدر(ره)، طلب منّي تقريراً بحثيّاً للسيّد الخوئي(ره)، ليُطلعه عليه، ليعرف أنَّ في العرب فضلاء؛ لأنَّ السيّد الخوئي كان لا يعتقد أنَّ في العرب فضلاء ـ كما ذكر لي السيِّد الشّهيد ـ.
وقد تناقل الناس عن السيّد الشهيد كلمةً لم أسمعها منه ـ لأنّها كانت بعد خروجي من النجف[2] : إنَّ من يخرج من النجف يفقد النجف، ولكنَّ السيّد فضل الله بخروجه خسرته النّجف.. وأستطيع أن أقول إنّني عندما كنتُ في النّجف، كنت أخطو نحو الاجتهاد.
ثمّ أسَّستُ حوزةً علميّة [3] من أوّل سنة جئت فيها إلى لبنان [ 1385هـ/1966م]، وكنتُ أدرّس الرّسائل والمكاسب والكفاية، و"أجود التّقريرات" للسيّد الخوئي(ره) مع حاشيته، كما كنت أدرّس "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، الّذي هو كتاب استدلاليّ مختصر لابن رشد القرطبي في مذاهب السنَّة، ثمّ درّست بحث الخارج منذ أكثر من خمس وعشرين سنةً، ولا أزال أقوم بتدريس الخارج فقهاً وأصولاً لمدّة قريبة، ثمّ فقهاً فقط منذ سنتين وأكثر [4] ، وأنا لا أزال أدرّس الفقه في البحث الخارج في لبنان في مدى أربعة أيّام، وفي سوريا في مدى يومين، ويحضره الكثيرون.
إنّني أعتبر أنّ نشاطي العلميّ الفقهيّ الأصوليّ الاجتهاديّ، أكثر ممّا فيه الآخرون، في النّجف أو في قمّ؛ لأنّه ليس عندي وقت فراغ، وليس عندي وقت راحة.. البعض يعيشون الاسترخاء الّذي لا أفهمه، ويعطون أنفسهم الكثير من الرّاحة الّتي لا أفهم.
إنّ حياتي كلّها عمل؛ قراءة دائمة، وتدريس دائم، ومذاكرة دائمة، وحوار دائم، فأنا أعيش حياتي مع الكتاب، ومع الدّرس، ومع المسجد، ليس عندي حياة اجتماعيّة بالطّريقة الّتي تأكل وقت الإنسان.
لذلك، لا أدري ما هو حجم إنتاجي، ولكنّي أعتقد أنّني من النّاس الّذين يعيشون الإحساس بالزَّمن؛ فأنا أحسّ بكلّ دقيقة من الدّقائق التي تمرّ عليّ، أن أملأها فكراً، أو كتابةً، أو مشروعاً، أو حركةً"[5].
[1]هذه الكتب تمثّل نهاية مرحلة "السطوح" في البرنامج التعليميّ الحوزويّ، وبعدها يتخرّج الإنسان إلى "بحث الخارج"، والمعروف أنّ تدريس هذه الكُتب، ولا سيّما في حوزة النجف، يعكس المستوى العلمي للمدرِّس. وقد حضر عند سماحته في النجف العديد من الطلاب اللبنانيّين وغيرهم، مع الإشارة إلى أنّ خروج سماحة السيّد من النجف كان في العام 1966م، أي كان عمر سماحته آنذاك حوالى ثلاثين عاماً، ما يعني أنَّ تدريسه لهذه الكُتب كان في أواخر العشرينات على أبعد تقدير.
[2] في العام 1966، كان الخروج النّهائي لسماحة السيّد من النجف الأشرف.
[3] نُشير هنا إلى أنّ جُلّ علماء لبنان من المسلمين الشيعة تخرّجوا من "المعهد الشرعي الإسلامي"، الذي كان مركزه في منطقة "النبعة" في ضاحية بيروت الشرقية، حيث أقام سماحة السيّد بعد مجيئه من النجف الأشرف.
[4] هذا الكلام في العام 2000م، حين إجراء المقابلة، وقد استمرّ سماحته في التدريس في الفقه، ولم ينقطع عنه إلا بعد تفاقم وضعه الصحّي قبل أشهر من وفاته؛ ومع ذلك، لم ينقطع عن المذاكرة حتّى في أشدّ الحالات صعوبةً من الناحية الصحّية.
[5] من حوارٍ أجري مع سماحته لم يُنشر حتى الآن.