مقابلات
09/09/2014

سركيس نعوم: السيّد كان واقعياً وبراغماتياً وبقي إسلامياً

سركيس نعوم والسيد فضل الله


الصحافي والكاتب والمحلّل السياسي الرَّصين سركيس نعّوم، أصدر حديثاً كتابه الجديد الذي يتضمّن السيرة الذاتية للمرجع الديني الراحل السيِّد محمد حسين فضل الله، والحوارات التي أجراها معه على مدى ثلاثة وعشرين سنة. وهذا الكتاب الموسوم بـ"العلاّمة" (صداقة وسيرة و23 سنة)، (توزيع الدّار العربيّة للعلوم ناشرون)، يقع في ثلاثة أجزاء (مضاف إليها كُتَيِّبٌ يضمّ باقةً من الصّور الشخصيّة للسيِّد فضل الله، فرديّة وسواها، في مراحل عمريّة مختلفة): الجزء الأوّل يضمّ السِّيرة، والجزءان الآخران، عنوانهما مشترك، وهو: "بوحٌ... ولكن!"، الأوّل يغطّي الفترة ما بين (1986 - 1997)، والثّاني، يغطّي الفترة ما بين (1997 - 2009).

هنا، حوارٌ مع نعّوم حول هذا الكتاب:


س: تُوضح في مقدّمة كتابكَ هذا عن العلاَّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، أنَّ الصَّداقة التي نشأت بينكما سرعان ما تحوّلت إلى أخوّة امتدّت إلى أكثر من عشرين سنة، واستمرّت حتى وفاة السيّد (رحمه الله)، فكيف تُلخّص توصيفك التقييميّ لهذه الأخوَّة، وبإيجاز؟ وما هو الشّعور الّذي خالجك لدى وفاة السيّد فضل الله؟

ج: في مجال تقييمي لهذه الأخوّة، أقول: إنَّ صلة ما بيننا صارت مستمرّة، وعلاقة جيّدة وطَّدها الاهتمام والثقة، إذ إنّ حديثي مع السيّد، كان يتناول تبادل هموم حول ما يحصل على الصعد الداخلية والخارجية، ولقد كنّا نلتزم بخصوصيّة الأمور التي كنا نتحدث فيها، ثم صار هناك نوع من العُرف فيما بيننا، إذ إنّنا اتفقنا على أن نُجري في السنة ثلاثة أو أربعة لقاءات، من بينها لقاءات حواريّة نتحدَّث فيها في الأمور السياسيّة، ونستعرض خلالها كل الأوضاع العامّة، وخصوصاً ما كان منها مستجدّاً على الساحة العربيّة والدوليّة والداخليّة. وهذه الحوارات لدى نشرها، كانت تجد صدى مهمّاً جدّاً، لأنّ احترام السيّد كان كبيراً لدى الناس، لأنهم كانوا يعتبرونه من العقلاء.

وأشير هنا إلى أنَّني لم أتلقَّ اعتراضاً من أيّ نوع من أحدٍ ما على مواضيع هذه الحوارات، وفي مناسبة ذكرى تأسيس المبرّات، تم إحياء هذه الذكرى في حفل مطعم السّاحة، وكان ذلك قبل وفاة السيّد، وبناءً على اقتراحه، ألقيت كلمةً في تلك المناسبة، ثم نشرتها في جريدة "النهار"، وكانت كلمة عاطفية ووجدانية، إذ عبَّرت فيها عن تمسّكي بصداقته، وتضمّنت تلك الكلمة عرضاً لمراحل حياته، ولما تعرَّض له، وكان فيها ردّ غير مباشر على الحملات التي كانت تطاوله. وعندما شاهد السيّد وقائع ذلك الحفل على الـDVD، دمعت عيناه، فلقد كان يشعر بأنّ طموحاته كثيرة جدّاً، وكان يعبّر عن ذلك بهذا البيت من الشِّعر:

                    إذا كانت النفوس كباراً        تعبتْ في مرادها الأجسام

وعندما كان السيّد في المستشفى، قمتُ بزيارته. وأنا في الصالون، سألتُ مستفسراً عن صحّته، فقيل لي: "السيّد أعطاك عمره". وفي اللحظة التي علمت فيها بغيابه، أحسستُ بأن الطائفة الشيعيّة فقدت شخصيّة استشراقيّة حوارية قابلة للتطوّر، مؤمنة بالعِلم، غير متخلِّيةٍ عن ثوابتها الدينيّة، منفتحة على العصر، مؤمنة ـ فعلاً ـ بإمكان قيام دولة جدية في لبنان، وبإمكان تعايُش اللّبنانيين على اختلاف طوائفهم إذا تحلّوا بالواقعيّة والوطنيّة والفكر السليم.

وثيقة تاريخيّة

س: تُشدِّد في المقدِّمة أيضاً على أنَّ هذا الكتاب هو إنصاف للسيّد فضل الله أوّلاً. وثانياً، إنّ مضمون هذا الكتاب هو من أجل دفع المسؤولين اللّبنانيّين كافّة، "في الاتجاهات التي تمنع الانزلاق السّريع للبنان نحو الكارثة النهائيّة". انطلاقاً من ذلك، هل يمكن اعتبار هذا الكتاب وثيقة تاريخيّة "تنبيهيّة" للمسؤولين اللّبنانيين؟

ج: لا أدَّعي ذلك، لكنني أعتقد أنّ هذا الكتاب/ السيرة، يشكّل بالفعل بمضمونه وثيقة تاريخيّة، يستطيع أن يكتشف منها اللّبنانيون والسياسيون والمسؤولون، المواقف الفعليَّة للسيد فضل الله من كلّ القضايا الإشكاليَّة والوطنية، التي كان هو جزءاً منها ومدافعاً عنها. كانت مواقف شخصٍ يعتبر نفسه أنه لا يمارس العمل السياسي الاحترافي، وكان عنده هاجس دائم، هو البحث عن نقاط اللّقاء بين المسيحيّين والمسلمين، وبين السُّنّة والشيعة، وبين الشيعة أنفسهم. وكان ـ في الوقت نفسه ـ لديه أمران، هما: حزب الله، أي المقاومة الإسلامية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، كتجربة إسلامية يمكن من خلالها استشراف ما في الفكر الشيعي والاجتهاد الشيعي من تجدّد ومن مواكبة للعصر.

طبعاً، لا ينفي ذلك وجود اختلافات في وجهات النظر في كثير من الأمور بينه وبين إيران وحزب الله. لكن السيد فضل الله، ورغم كل العروض التي قدِّمت إليه، من الشيعة وغير الشيعة، لم يكن مستعدّاً للتضحية بأبنائه المقاومين، كما كان يسمِّيهم، ولأن يكون حصان طروادة بالنسبة إلى إيران.

أوّل سيرة للسيّد بلسانه هو

س: معروف عن السيد فضل الله أنه كان كثير النشر، وقد نُشرت له حوارات وأحاديث كثيرة وأشياء من سيرته الذاتية، فما هي الإضافة التي يقدّمها مضمون هذا الكتاب، وخصوصاً بالنّسبة إلى السيرة الذاتية للسيد فضل الله؟

ج: هذه هي أوّل سيرة تُكتب عن السيّد، وخصوصاً أنها مرويّة بلسانه هو. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يتناول هذا الكتاب كثيراً من القضايا الإشكاليّة التي تحدثنا عنها، سواء ما كان منها متعلّقاً بالإيرانيّين، أو بحزب الله، أو بجهات شيعية أخرى، أو بحركة المحرومين (أمل) وتأسيسها، أو عن النجف ودَوره ونشأة السيّد هناك، وهذه الأمور كلّها لم تكن معروفةً لدى الرّأي العام. وأنا أيضاً فوجئت بالطّريقة التي شرح السيّد فيها الوضع داخل إيران، وخصوصاً تطوُّر المرجعيّة في إيران. ولقد تحدّث السيّد، وبدرجة عالية جدّاً من الموضوعيّة، حول الوضع الإيراني، وخصوصاً علاقته ببعض الشخصيات الإيرانية.

أما الجزءان الآخران من هذا الكتاب، واللّذان يجمعان الحوارات مع السيّد، فمضمونهما هو نوع من المواكبة لكلّ مراحله الفكرية، ويمكن من خلال قراءتها معرفة تطوُّر فكر السيد أو تناقضاته.

آراؤه لا زالت صائبة

س: من خلال هذه المواكبة الطويلة، في رأيك، هل كنت ترى أنّ السيّد فضل الله كان مصيباً في آرائه؟

ج: في الموضوع السوري والموضوع الأميركي والموضوع الفلسطيني والعربي بشكل عام، كان كلام السيّد ناتجاً من أمرين؛ اطّلاع واسع سببه اجتماعاته ولقاءاته مع السياسيّين والديبلوماسيّين، ومن خلال مطالعته، حتى المترجمة منها، فلقد كان السيّد فضل الله واقعياً وبراغماتيّاً، وبقي إسلامياً، واستنتاجاته في مواضيع كثيرة من الّتي ذكرناها كانت في معظم الأحيان صائبة.

وفي الموضوع اللبناني، وحتى الآن، لا أزال أعتبر أنّ السيد كان صائباً، وحتى ـ لا سمح الله ـ إن ذهب لبنان في ظلّ التطوّرات الراهنة، فهذا لا يدلّ على أن السيد لم يستشرف بدقة ما حصل، لأن لبنان والمنطقة يعيشان، ومنذ بداية ما سُمّي "الربيع العربي" مرحلة جديدة، نشهد فيها نهاية نظام إقليميّ، ونرتقب من دون أن نعرف ولادة نظام إقليمي جديد. وكان السيد يقول دائماً "إنّ لبنان يهتزّ ولا يقع"، وحتى الآن ثبت أنّ معه حقّ، ونتمنى أن تظلّ هذه المقولة صحيحة، حتى مع النظام الإقليمي الجديد.

المرجع الدّيني الأبرز

س: لقَّبْتَ العلاّمة فضل الله بـ"المرجع الدّيني الأبرز" في جميع مقالاتك التي تناولت لقاءاتك الحواريّة معه على حدّ قولك في هذا الكتاب، فلماذا أطلقت عليه هذا اللّقب؟

ج: أطلقت عليه في البداية لقب "المرجع الدينيّ الأبرز للتيارات الإسلامية الأصولية اللبنانية"، إذ لم تكن هناك تيارات إسلامية سنية أصولية ذات فعالية كبيرة على الساحة اللبنانية، وفي الوقت نفسه، إنَّ السيد فضل الله هو من أسّس التيار الإسلامي الشيعي الذي سمّاه تياراً حركياً، والذي استندت إليه إيران ـ إذا جاز القول ـ لتنوير الشيعة عبر حزب الله، ولتعبئتهم أوّلاً من أجل مقاومة إسرائيل، وثانياً، من أجل مشروعها الإقليميّ.

هذا في المرحلة الأولى، ولاحقاً، عندما بدأ ظهور إسلاميّة سُنّية، والتّمايز في العلاقة بين الإسلام السُّنّي والإسلام الشّيعي، بدأتُ أستعمل تعبير "المرجع الدّيني الأبرز في التيّارات الإسلاميّة الأصوليّة الشيعيّة اللّبنانيّة". طبعاً، هو لم يكن يوافق على تعبير الأصوليّة، لأنّ هذا التعبير كان يُستعمل في الإعلام، في حين أنّ السيّد في كلامه كان يعبّر عن الإسلاميّة كما يراها هو.

 

لا أحبّ المصادر

س: ما هو تقييمك الشّخصيّ، وبشكل عامّ، وعلى الصّعيد المهنيّ البحت، للعلاقة بين الصحافي وأي شخصية كانت، دينية أو سواها، بصفتها مصدراً من مصادر معلوماته؟

ج: هناك عدة أنواع من هذه العلاقة. وبتكويني أنا، لا أحبّ المصادر. وأنا أسعى دائماً إلى أن أحوِّل من يكون مصدراً للمعلومات صديقاً، ونجحتُ، في معظم المحاولات في هذا النطاق؛ أمّا الذين فشلتُ معهم، فبقيت اتصالاتي بهم محدودة، فعلاقة الصداقة هي أمرُ مهم للصحافي مع شخصية أخرى، سواء كانت سياسية أو مرجعاً دينياً، حتى لا يبقى المصدر مصدراً، وحتى لا يبقى الصحافيّ مرهوناً للجانب الماديّ أو المعنويّ، فعندما يتصرّف الصحافي بشكل دقيق، ولا يتحوّل مخبِراً لصاحب المعلومة، سواء ذلك الذي يعتبره صديقاً أم لا، فعندئذٍ لا مشكلة في الأمر.

س: علاقتك مع السيّد فضل الله أثير حولها الكثير من الإشكاليات، فلماذا اخترت السيّد؟

 ج: الذين أثاروا هذه الإشكاليات، كانوا يريدون النيل من السيد فضل الله. وفي الوقت نفسه، كانوا يريدون أن يضغطوا عليّ لكي أختار في الصراع الذي كان دائراً آنذاك معه: فإما التخلّي عنه، أو الانحياز إليهم، وطبعاً اخترت البقاء معه، وهم يعرفون منذ البدايات من هو سركيس نعوم، وما هي علاقاته، ومدى نظافته من الناحية الماديّة، ومدى استقلاليته.

ولذلك، استمرت الصداقة بيني وبين أصحاب هذه الحملات، وبالرّغم من كلّ شيء اخترت السيّد، مع احترامي لكل الآخرين، لأنه أولاً، فتح لي بيته، ووثق بي، ولم يكن سياسياً محترفاً، وكان في الوقت نفسه مغرياً لصحافيّ، لجهة اتصالاته ومعلوماته وتحليلاته، وخصوصاً عندما يعتبر أنّ الشخص الذي يُصارحه السيّد لا يطعن السيد في الظَّهر.

إن الآخرين لديهم العِلم والمقدرة والتاريخ، لكن كانوا سياسيّين محترفين، وفي الوقت نفسه، كانوا ينزعجون من علاقتي بالسيد، وكانوا على سبيل المُزاح عندما يرونني، يعيِّرونني بها بالقول: أنتَ صاحب فلان (أي السيّد فضل الله)، إذاً، أنت صاحب إيران، إذ لم تكن الخلافات قد ظهرت بين السيد وإيران بعد.

 

س: ماذا عن تقييم هذا الكتاب بعد صدوره؟

 ج: إنّ ردود الفعل إزاء هذا الكتاب كانت إيجابيّة، وستكشف أهميّة هذا الكتاب في المرحلة الحسّاسة.


س: تُوضح في مقدّمة كتابكَ هذا عن العلاَّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، أنَّ الصَّداقة التي نشأت بينكما سرعان ما تحوّلت إلى أخوّة امتدّت إلى أكثر من عشرين سنة، واستمرّت حتى وفاة السيّد (رحمه الله)، فكيف تُلخّص توصيفك التقييميّ لهذه الأخوَّة، وبإيجاز؟ وما هو الشّعور الّذي خالجك لدى وفاة السيّد فضل الله؟

ج: في مجال تقييمي لهذه الأخوّة، أقول: إنَّ صلة ما بيننا صارت مستمرّة، وعلاقة جيّدة وطَّدها الاهتمام والثقة، إذ إنّ حديثي مع السيّد، كان يتناول تبادل هموم حول ما يحصل على الصعد الداخلية والخارجية، ولقد كنّا نلتزم بخصوصيّة الأمور التي كنا نتحدث فيها، ثم صار هناك نوع من العُرف فيما بيننا، إذ إنّنا اتفقنا على أن نُجري في السنة ثلاثة أو أربعة لقاءات، من بينها لقاءات حواريّة نتحدَّث فيها في الأمور السياسيّة، ونستعرض خلالها كل الأوضاع العامّة، وخصوصاً ما كان منها مستجدّاً على الساحة العربيّة والدوليّة والداخليّة. وهذه الحوارات لدى نشرها، كانت تجد صدى مهمّاً جدّاً، لأنّ احترام السيّد كان كبيراً لدى الناس، لأنهم كانوا يعتبرونه من العقلاء.

وأشير هنا إلى أنَّني لم أتلقَّ اعتراضاً من أيّ نوع من أحدٍ ما على مواضيع هذه الحوارات، وفي مناسبة ذكرى تأسيس المبرّات، تم إحياء هذه الذكرى في حفل مطعم السّاحة، وكان ذلك قبل وفاة السيّد، وبناءً على اقتراحه، ألقيت كلمةً في تلك المناسبة، ثم نشرتها في جريدة "النهار"، وكانت كلمة عاطفية ووجدانية، إذ عبَّرت فيها عن تمسّكي بصداقته، وتضمّنت تلك الكلمة عرضاً لمراحل حياته، ولما تعرَّض له، وكان فيها ردّ غير مباشر على الحملات التي كانت تطاوله. وعندما شاهد السيّد وقائع ذلك الحفل على الـDVD، دمعت عيناه، فلقد كان يشعر بأنّ طموحاته كثيرة جدّاً، وكان يعبّر عن ذلك بهذا البيت من الشِّعر:

                    إذا كانت النفوس كباراً        تعبتْ في مرادها الأجسام

وعندما كان السيّد في المستشفى، قمتُ بزيارته. وأنا في الصالون، سألتُ مستفسراً عن صحّته، فقيل لي: "السيّد أعطاك عمره". وفي اللحظة التي علمت فيها بغيابه، أحسستُ بأن الطائفة الشيعيّة فقدت شخصيّة استشراقيّة حوارية قابلة للتطوّر، مؤمنة بالعِلم، غير متخلِّيةٍ عن ثوابتها الدينيّة، منفتحة على العصر، مؤمنة ـ فعلاً ـ بإمكان قيام دولة جدية في لبنان، وبإمكان تعايُش اللّبنانيين على اختلاف طوائفهم إذا تحلّوا بالواقعيّة والوطنيّة والفكر السليم.

وثيقة تاريخيّة

س: تُشدِّد في المقدِّمة أيضاً على أنَّ هذا الكتاب هو إنصاف للسيّد فضل الله أوّلاً. وثانياً، إنّ مضمون هذا الكتاب هو من أجل دفع المسؤولين اللّبنانيّين كافّة، "في الاتجاهات التي تمنع الانزلاق السّريع للبنان نحو الكارثة النهائيّة". انطلاقاً من ذلك، هل يمكن اعتبار هذا الكتاب وثيقة تاريخيّة "تنبيهيّة" للمسؤولين اللّبنانيين؟

ج: لا أدَّعي ذلك، لكنني أعتقد أنّ هذا الكتاب/ السيرة، يشكّل بالفعل بمضمونه وثيقة تاريخيّة، يستطيع أن يكتشف منها اللّبنانيون والسياسيون والمسؤولون، المواقف الفعليَّة للسيد فضل الله من كلّ القضايا الإشكاليَّة والوطنية، التي كان هو جزءاً منها ومدافعاً عنها. كانت مواقف شخصٍ يعتبر نفسه أنه لا يمارس العمل السياسي الاحترافي، وكان عنده هاجس دائم، هو البحث عن نقاط اللّقاء بين المسيحيّين والمسلمين، وبين السُّنّة والشيعة، وبين الشيعة أنفسهم. وكان ـ في الوقت نفسه ـ لديه أمران، هما: حزب الله، أي المقاومة الإسلامية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، كتجربة إسلامية يمكن من خلالها استشراف ما في الفكر الشيعي والاجتهاد الشيعي من تجدّد ومن مواكبة للعصر.

طبعاً، لا ينفي ذلك وجود اختلافات في وجهات النظر في كثير من الأمور بينه وبين إيران وحزب الله. لكن السيد فضل الله، ورغم كل العروض التي قدِّمت إليه، من الشيعة وغير الشيعة، لم يكن مستعدّاً للتضحية بأبنائه المقاومين، كما كان يسمِّيهم، ولأن يكون حصان طروادة بالنسبة إلى إيران.

أوّل سيرة للسيّد بلسانه هو

س: معروف عن السيد فضل الله أنه كان كثير النشر، وقد نُشرت له حوارات وأحاديث كثيرة وأشياء من سيرته الذاتية، فما هي الإضافة التي يقدّمها مضمون هذا الكتاب، وخصوصاً بالنّسبة إلى السيرة الذاتية للسيد فضل الله؟

ج: هذه هي أوّل سيرة تُكتب عن السيّد، وخصوصاً أنها مرويّة بلسانه هو. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يتناول هذا الكتاب كثيراً من القضايا الإشكاليّة التي تحدثنا عنها، سواء ما كان منها متعلّقاً بالإيرانيّين، أو بحزب الله، أو بجهات شيعية أخرى، أو بحركة المحرومين (أمل) وتأسيسها، أو عن النجف ودَوره ونشأة السيّد هناك، وهذه الأمور كلّها لم تكن معروفةً لدى الرّأي العام. وأنا أيضاً فوجئت بالطّريقة التي شرح السيّد فيها الوضع داخل إيران، وخصوصاً تطوُّر المرجعيّة في إيران. ولقد تحدّث السيّد، وبدرجة عالية جدّاً من الموضوعيّة، حول الوضع الإيراني، وخصوصاً علاقته ببعض الشخصيات الإيرانية.

أما الجزءان الآخران من هذا الكتاب، واللّذان يجمعان الحوارات مع السيّد، فمضمونهما هو نوع من المواكبة لكلّ مراحله الفكرية، ويمكن من خلال قراءتها معرفة تطوُّر فكر السيد أو تناقضاته.

آراؤه لا زالت صائبة

س: من خلال هذه المواكبة الطويلة، في رأيك، هل كنت ترى أنّ السيّد فضل الله كان مصيباً في آرائه؟

ج: في الموضوع السوري والموضوع الأميركي والموضوع الفلسطيني والعربي بشكل عام، كان كلام السيّد ناتجاً من أمرين؛ اطّلاع واسع سببه اجتماعاته ولقاءاته مع السياسيّين والديبلوماسيّين، ومن خلال مطالعته، حتى المترجمة منها، فلقد كان السيّد فضل الله واقعياً وبراغماتيّاً، وبقي إسلامياً، واستنتاجاته في مواضيع كثيرة من الّتي ذكرناها كانت في معظم الأحيان صائبة.

وفي الموضوع اللبناني، وحتى الآن، لا أزال أعتبر أنّ السيد كان صائباً، وحتى ـ لا سمح الله ـ إن ذهب لبنان في ظلّ التطوّرات الراهنة، فهذا لا يدلّ على أن السيد لم يستشرف بدقة ما حصل، لأن لبنان والمنطقة يعيشان، ومنذ بداية ما سُمّي "الربيع العربي" مرحلة جديدة، نشهد فيها نهاية نظام إقليميّ، ونرتقب من دون أن نعرف ولادة نظام إقليمي جديد. وكان السيد يقول دائماً "إنّ لبنان يهتزّ ولا يقع"، وحتى الآن ثبت أنّ معه حقّ، ونتمنى أن تظلّ هذه المقولة صحيحة، حتى مع النظام الإقليمي الجديد.

المرجع الدّيني الأبرز

س: لقَّبْتَ العلاّمة فضل الله بـ"المرجع الدّيني الأبرز" في جميع مقالاتك التي تناولت لقاءاتك الحواريّة معه على حدّ قولك في هذا الكتاب، فلماذا أطلقت عليه هذا اللّقب؟

ج: أطلقت عليه في البداية لقب "المرجع الدينيّ الأبرز للتيارات الإسلامية الأصولية اللبنانية"، إذ لم تكن هناك تيارات إسلامية سنية أصولية ذات فعالية كبيرة على الساحة اللبنانية، وفي الوقت نفسه، إنَّ السيد فضل الله هو من أسّس التيار الإسلامي الشيعي الذي سمّاه تياراً حركياً، والذي استندت إليه إيران ـ إذا جاز القول ـ لتنوير الشيعة عبر حزب الله، ولتعبئتهم أوّلاً من أجل مقاومة إسرائيل، وثانياً، من أجل مشروعها الإقليميّ.

هذا في المرحلة الأولى، ولاحقاً، عندما بدأ ظهور إسلاميّة سُنّية، والتّمايز في العلاقة بين الإسلام السُّنّي والإسلام الشّيعي، بدأتُ أستعمل تعبير "المرجع الدّيني الأبرز في التيّارات الإسلاميّة الأصوليّة الشيعيّة اللّبنانيّة". طبعاً، هو لم يكن يوافق على تعبير الأصوليّة، لأنّ هذا التعبير كان يُستعمل في الإعلام، في حين أنّ السيّد في كلامه كان يعبّر عن الإسلاميّة كما يراها هو.

 

لا أحبّ المصادر

س: ما هو تقييمك الشّخصيّ، وبشكل عامّ، وعلى الصّعيد المهنيّ البحت، للعلاقة بين الصحافي وأي شخصية كانت، دينية أو سواها، بصفتها مصدراً من مصادر معلوماته؟

ج: هناك عدة أنواع من هذه العلاقة. وبتكويني أنا، لا أحبّ المصادر. وأنا أسعى دائماً إلى أن أحوِّل من يكون مصدراً للمعلومات صديقاً، ونجحتُ، في معظم المحاولات في هذا النطاق؛ أمّا الذين فشلتُ معهم، فبقيت اتصالاتي بهم محدودة، فعلاقة الصداقة هي أمرُ مهم للصحافي مع شخصية أخرى، سواء كانت سياسية أو مرجعاً دينياً، حتى لا يبقى المصدر مصدراً، وحتى لا يبقى الصحافيّ مرهوناً للجانب الماديّ أو المعنويّ، فعندما يتصرّف الصحافي بشكل دقيق، ولا يتحوّل مخبِراً لصاحب المعلومة، سواء ذلك الذي يعتبره صديقاً أم لا، فعندئذٍ لا مشكلة في الأمر.

س: علاقتك مع السيّد فضل الله أثير حولها الكثير من الإشكاليات، فلماذا اخترت السيّد؟

 ج: الذين أثاروا هذه الإشكاليات، كانوا يريدون النيل من السيد فضل الله. وفي الوقت نفسه، كانوا يريدون أن يضغطوا عليّ لكي أختار في الصراع الذي كان دائراً آنذاك معه: فإما التخلّي عنه، أو الانحياز إليهم، وطبعاً اخترت البقاء معه، وهم يعرفون منذ البدايات من هو سركيس نعوم، وما هي علاقاته، ومدى نظافته من الناحية الماديّة، ومدى استقلاليته.

ولذلك، استمرت الصداقة بيني وبين أصحاب هذه الحملات، وبالرّغم من كلّ شيء اخترت السيّد، مع احترامي لكل الآخرين، لأنه أولاً، فتح لي بيته، ووثق بي، ولم يكن سياسياً محترفاً، وكان في الوقت نفسه مغرياً لصحافيّ، لجهة اتصالاته ومعلوماته وتحليلاته، وخصوصاً عندما يعتبر أنّ الشخص الذي يُصارحه السيّد لا يطعن السيد في الظَّهر.

إن الآخرين لديهم العِلم والمقدرة والتاريخ، لكن كانوا سياسيّين محترفين، وفي الوقت نفسه، كانوا ينزعجون من علاقتي بالسيد، وكانوا على سبيل المُزاح عندما يرونني، يعيِّرونني بها بالقول: أنتَ صاحب فلان (أي السيّد فضل الله)، إذاً، أنت صاحب إيران، إذ لم تكن الخلافات قد ظهرت بين السيد وإيران بعد.

 

س: ماذا عن تقييم هذا الكتاب بعد صدوره؟

 ج: إنّ ردود الفعل إزاء هذا الكتاب كانت إيجابيّة، وستكشف أهميّة هذا الكتاب في المرحلة الحسّاسة.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير