السيد فضل الله: هندسة الجسر بين أصالة النّصّ وحتميَّة الدَّولة الحديثة

السيد فضل الله: هندسة الجسر بين أصالة النّصّ وحتميَّة الدَّولة الحديثة

يمثّل الفكر السياسيّ للمرجع الدّينيّ الرَّاحل السيّد محمَّد حسين فضل الله (1935 – 2010) مدرسة اجتهاديَّة معاصرة استطاعت أن تتجاوز جمود النَّماذج التقليديَّة، وأن تنفتح على تحدّيات الواقع المعقَّدة، مقدّمة رؤية قائمة على المزج بين أصالة النّصّ وواقعيَّة التَّطبيق.
لم يكن سماحته مجرَّد مرجع فقهي، بل كان مرجعاً في السياسة، يرى فيها ميداناً للعمل الأخلاقيّ والاجتماعيّ، لا مجرَّد لعبة سلطة. لقد سعى فضل الله إلى بناء جسر معرفي بين الفقه الحركي ومتطلّبات العصر الحديث، مؤكّداً أنَّ الإسلام ليس نظاماً جامداً، بل هو مشروع حياة متكامل.
مسؤوليّة السياسة
يرفض السيّد فضل الله النظرة السلبيَّة أو الانعزاليَّة للسياسة التي تفصلها عن القيمة الروحية والإنسانية، مؤكّداً أنَّ السياسة مسؤوليَّة دينيَّة وأخلاقيَّة قبل أن تكون سلطةً أو حكماً.
ويؤمن بأنَّ السياسة مندمجة بالأخلاق، ومنطقها هو العدل والحقّ والشفافية، فمتى خرجت السياسة عن الأخلاق، خرجت عن الدين في قيمه ومبادئه. هذا الفهم يرفض الغشّ والخداع والتلاعب والخيانة في الممارسة السياسيَّة، ويدعو إلى أن تكون التقوى محركاً للسياسي لا مجرَّد شعار. يرى أنَّ السياسي المسلم يجب أن يكون قريباً من معاناة النَّاس، وأن تكون أهداف السياسة هي تخفيف هذه المعاناة وإقامة مجتمع القسط.
كما يرى فضل الله أنَّ حركة السياسة يجب أن تكون في خطّ العدل المطلق، متَّخذاً من سيرة الإمام عليّ بن أبي طالب نموذجاً عمليّاً. فإذا لم يبال الإنسان بالعدل، وقَبِلَ بالظّلم والقهر، فإنَّ تديّنه يكون منقوصاً أو مزيَّفاً. السياسة المطلوبة إلهيّاً هي الَّتي تبني للنَّاس حريتهم وكرامتهم وإنسانيَّتهم، وتناهض أيَّ شكل من أشكال الاستعباد الدَّاخليّ أو الخارجيّ. ويشدّد على أنَّ العدل هو القيمة العليا الَّتي تمنح الشرعيَّة لأيّ نظام حكم.
مفهوم العبادة عند فضل الله مفهوم واسع يشمل العمل السياسيَّ المسؤول، فالسياسة هنا ليست ترفاً أو تنافساً على مغانم، بل هي جزء أساسيّ من الجهاد المدني لتحقيق التَّوحيد في الحياة الاجتماعيَّة، وهو ما يجعل العمل السياسي الصَّحيح عبادة.
فقه الواقعيَّة ومرونة نموذج الحكم
تميَّز فكر السيّد فضل الله بمنهج اجتهاديّ يعتمد على حيويَّة النّصّ وقابليَّته للتَّناغم مع متغيرات الزمان والمكان، وهو ما انعكس على رؤيته لشكل الدَّولة والنظام، إذ اعتبر أنَّ النصوص الدينيّة توفّر القيم والمبادئ العامَّة (كالحرية والعدل والشّورى)، بينما تُحدَّد الأشكال والنَّماذج السياسيَّة والإداريَّة وفقاً للحقائق والواقعيات في كلّ عصر ومجتمع. النّصّ ثابت، لكنَّ التطبيق السياسي متغيّر.
كما كان السيّد فضل الله من أبرز منتقدي فكرة تثبيت نمط وشكل محدَّد للحكم يصلح لجميع الأزمنة. ويرى أنَّ التَّاريخ لا يعيد نفسه بالقوالب ذاتها، وأنَّ على التجربة السياسيَّة أن توظّف مختلف الوسائل الحديثة الَّتي أبدعتها التجارب الإنسانيَّة – بما في ذلك آليات الدولة الحديثة – ما دامت تضمن العدل والحريَّة.
هذا التحرر من النمطيَّة سمح له بقبول المؤسَّسات الديمقراطية الحديثة كأفضل وسيلة متاحة لتحقيق العدل والمشاركة.
انطلق السيّد فضل الله من مسلَّمة ضرورة حفظ النظام العام وإقامة الدَّولة التي تملك القدرة على إدارة التعقيدات المجتمعية والاقتصادية والأمنية في العصر الحديث، ورأى أنَّ الدَّولة في هذا العصر ضروريَّة للحيلولة دون وقوع الحياة في الفوضى والصّراعات، وأنَّ وظيفتها الرئيسية هي رعاية مصالح الأمَّة والدفاع عن وجودها.
الديمقراطيَّة والمشاركة السياسيَّة
لم يرفض السيّد فضل الله مبدأ الديمقراطيَّة بالكلية، بل عمل على تكييف مفاهيمها الحديثة مع الإطار القيمي الإسلامي، متجاوزاً بذلك مفهوم الولاية المطلقة غير الخاضعة للمحاسبة. أقرَّ بضرورة وجود التعددية السياسية والأحزاب الفاعلة في الدَّولة التي يسعى إليها، وعدَّ وجودها عاملاً مهماً في منع سيطرة جماعة خاصَّة أو فئة معيَّنة على القرار الوطني.
هذه التعدّدية تسمح بـتوازن القوى وتداول السّلطة وضمان الشورى الحقيقيَّة. ويشدد على ضرورة أن تكون هذه الأحزاب برامجيَّة وليست طائفية. ويرى أنَّ المقبولية الشعبية أو البيعة الحرَّة هي ركن أساسي لشرعيَّة الحاكم، حتَّى لو كان فقيهاً، فوليّ الأمر مسؤول أمام الله، وهو مسؤول محاسَب أمام الأمَّة الَّتي هي مصدر السلطات العمليَّة. ويُعتبر من أبرز الدَّاعين الى ضرورة الاحتجاج والمحاسبة على الحاكم، ورفض القدسيَّة المزيَّفة حول شخصيَّات السلطة.
كما أكَّد بقوَّة مفهوم المواطنة الكاملة وحقوق الأقليات الدينية والإثنيَّة في الدولة، ورفض أيّ تمييز على أساس ديني أو طائفي، معتبراً أنَّ الأساس هو الانتماء إلى الوطن، والمشاركة في بنائه على أساس العدل والإنصاف.
ترك السيّد محمَّد حسين فضل الله إرثاً فكريّاً ثريّاً في حقل السياسة، يقوم على اجتهاد منفتح يقرأ النّصّ في ضوء الواقع، ويهدف إلى تأسيس نموذج سياسي لا يخشى الحداثة، ولكنَّه يلتزم بالعدل والحريَّة والشّورى.
إنَّ فكره يمثّل دعوة قويَّة لـتفعيل دور الأمَّة في تقرير مصيرها، ورفض الاستبداد والتَّبعيَّة، وهو مشروع سياسي يُنقل فيه مفهوم السياسة من صراع على السّلطة، إلى واجب إنساني وديني لخدمة العدل والنَّاس.

* المقال منشور على موقع "كتابات" الإلكتروني، بتاريخ: 13 نوفمبر/ تشرين الثَّاني 2025م.
يمثّل الفكر السياسيّ للمرجع الدّينيّ الرَّاحل السيّد محمَّد حسين فضل الله (1935 – 2010) مدرسة اجتهاديَّة معاصرة استطاعت أن تتجاوز جمود النَّماذج التقليديَّة، وأن تنفتح على تحدّيات الواقع المعقَّدة، مقدّمة رؤية قائمة على المزج بين أصالة النّصّ وواقعيَّة التَّطبيق.
لم يكن سماحته مجرَّد مرجع فقهي، بل كان مرجعاً في السياسة، يرى فيها ميداناً للعمل الأخلاقيّ والاجتماعيّ، لا مجرَّد لعبة سلطة. لقد سعى فضل الله إلى بناء جسر معرفي بين الفقه الحركي ومتطلّبات العصر الحديث، مؤكّداً أنَّ الإسلام ليس نظاماً جامداً، بل هو مشروع حياة متكامل.
مسؤوليّة السياسة
يرفض السيّد فضل الله النظرة السلبيَّة أو الانعزاليَّة للسياسة التي تفصلها عن القيمة الروحية والإنسانية، مؤكّداً أنَّ السياسة مسؤوليَّة دينيَّة وأخلاقيَّة قبل أن تكون سلطةً أو حكماً.
ويؤمن بأنَّ السياسة مندمجة بالأخلاق، ومنطقها هو العدل والحقّ والشفافية، فمتى خرجت السياسة عن الأخلاق، خرجت عن الدين في قيمه ومبادئه. هذا الفهم يرفض الغشّ والخداع والتلاعب والخيانة في الممارسة السياسيَّة، ويدعو إلى أن تكون التقوى محركاً للسياسي لا مجرَّد شعار. يرى أنَّ السياسي المسلم يجب أن يكون قريباً من معاناة النَّاس، وأن تكون أهداف السياسة هي تخفيف هذه المعاناة وإقامة مجتمع القسط.
كما يرى فضل الله أنَّ حركة السياسة يجب أن تكون في خطّ العدل المطلق، متَّخذاً من سيرة الإمام عليّ بن أبي طالب نموذجاً عمليّاً. فإذا لم يبال الإنسان بالعدل، وقَبِلَ بالظّلم والقهر، فإنَّ تديّنه يكون منقوصاً أو مزيَّفاً. السياسة المطلوبة إلهيّاً هي الَّتي تبني للنَّاس حريتهم وكرامتهم وإنسانيَّتهم، وتناهض أيَّ شكل من أشكال الاستعباد الدَّاخليّ أو الخارجيّ. ويشدّد على أنَّ العدل هو القيمة العليا الَّتي تمنح الشرعيَّة لأيّ نظام حكم.
مفهوم العبادة عند فضل الله مفهوم واسع يشمل العمل السياسيَّ المسؤول، فالسياسة هنا ليست ترفاً أو تنافساً على مغانم، بل هي جزء أساسيّ من الجهاد المدني لتحقيق التَّوحيد في الحياة الاجتماعيَّة، وهو ما يجعل العمل السياسي الصَّحيح عبادة.
فقه الواقعيَّة ومرونة نموذج الحكم
تميَّز فكر السيّد فضل الله بمنهج اجتهاديّ يعتمد على حيويَّة النّصّ وقابليَّته للتَّناغم مع متغيرات الزمان والمكان، وهو ما انعكس على رؤيته لشكل الدَّولة والنظام، إذ اعتبر أنَّ النصوص الدينيّة توفّر القيم والمبادئ العامَّة (كالحرية والعدل والشّورى)، بينما تُحدَّد الأشكال والنَّماذج السياسيَّة والإداريَّة وفقاً للحقائق والواقعيات في كلّ عصر ومجتمع. النّصّ ثابت، لكنَّ التطبيق السياسي متغيّر.
كما كان السيّد فضل الله من أبرز منتقدي فكرة تثبيت نمط وشكل محدَّد للحكم يصلح لجميع الأزمنة. ويرى أنَّ التَّاريخ لا يعيد نفسه بالقوالب ذاتها، وأنَّ على التجربة السياسيَّة أن توظّف مختلف الوسائل الحديثة الَّتي أبدعتها التجارب الإنسانيَّة – بما في ذلك آليات الدولة الحديثة – ما دامت تضمن العدل والحريَّة.
هذا التحرر من النمطيَّة سمح له بقبول المؤسَّسات الديمقراطية الحديثة كأفضل وسيلة متاحة لتحقيق العدل والمشاركة.
انطلق السيّد فضل الله من مسلَّمة ضرورة حفظ النظام العام وإقامة الدَّولة التي تملك القدرة على إدارة التعقيدات المجتمعية والاقتصادية والأمنية في العصر الحديث، ورأى أنَّ الدَّولة في هذا العصر ضروريَّة للحيلولة دون وقوع الحياة في الفوضى والصّراعات، وأنَّ وظيفتها الرئيسية هي رعاية مصالح الأمَّة والدفاع عن وجودها.
الديمقراطيَّة والمشاركة السياسيَّة
لم يرفض السيّد فضل الله مبدأ الديمقراطيَّة بالكلية، بل عمل على تكييف مفاهيمها الحديثة مع الإطار القيمي الإسلامي، متجاوزاً بذلك مفهوم الولاية المطلقة غير الخاضعة للمحاسبة. أقرَّ بضرورة وجود التعددية السياسية والأحزاب الفاعلة في الدَّولة التي يسعى إليها، وعدَّ وجودها عاملاً مهماً في منع سيطرة جماعة خاصَّة أو فئة معيَّنة على القرار الوطني.
هذه التعدّدية تسمح بـتوازن القوى وتداول السّلطة وضمان الشورى الحقيقيَّة. ويشدد على ضرورة أن تكون هذه الأحزاب برامجيَّة وليست طائفية. ويرى أنَّ المقبولية الشعبية أو البيعة الحرَّة هي ركن أساسي لشرعيَّة الحاكم، حتَّى لو كان فقيهاً، فوليّ الأمر مسؤول أمام الله، وهو مسؤول محاسَب أمام الأمَّة الَّتي هي مصدر السلطات العمليَّة. ويُعتبر من أبرز الدَّاعين الى ضرورة الاحتجاج والمحاسبة على الحاكم، ورفض القدسيَّة المزيَّفة حول شخصيَّات السلطة.
كما أكَّد بقوَّة مفهوم المواطنة الكاملة وحقوق الأقليات الدينية والإثنيَّة في الدولة، ورفض أيّ تمييز على أساس ديني أو طائفي، معتبراً أنَّ الأساس هو الانتماء إلى الوطن، والمشاركة في بنائه على أساس العدل والإنصاف.
ترك السيّد محمَّد حسين فضل الله إرثاً فكريّاً ثريّاً في حقل السياسة، يقوم على اجتهاد منفتح يقرأ النّصّ في ضوء الواقع، ويهدف إلى تأسيس نموذج سياسي لا يخشى الحداثة، ولكنَّه يلتزم بالعدل والحريَّة والشّورى.
إنَّ فكره يمثّل دعوة قويَّة لـتفعيل دور الأمَّة في تقرير مصيرها، ورفض الاستبداد والتَّبعيَّة، وهو مشروع سياسي يُنقل فيه مفهوم السياسة من صراع على السّلطة، إلى واجب إنساني وديني لخدمة العدل والنَّاس.

* المقال منشور على موقع "كتابات" الإلكتروني، بتاريخ: 13 نوفمبر/ تشرين الثَّاني 2025م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية