رسالة أقوى من الموت... وعمامة ناطقة

رسالة أقوى من الموت... وعمامة ناطقة
 
رسالة أقوى من الموت... وعمامة ناطقة

لم يكن مقلدو المرجع السيد محمد حسين فضل الله ومحبوه الكثر في لبنان والعالمين العربي والاسلامي في حاجة الى دعوة للمشاركة في يوم وداعه في الضاحية الجنوبية، تلك المحلة التي فجر منها مواقفه وفتاواه في التأليف والكتابة والمقاومة والانفتاح وقبول الآخر والدعوة الى الحوار وعدم الغرق في وحول التطرف.

لكن جمهور السيد في وداع هذه الشجرة التي امتدت أغصان مرجعيتها من تراب جبل عامل الى العراق وسوريا وبلدان الخليج وايران ومناطق أخرى في هذه المعمورة، ولم تَقْوَ أصابع المعرقلين والرافضين على منع تمدد براعمه التي أغنت الفقه الاسلامي والمكتبة  العربية.

بكاه جيل اسلامي ملتزم قواعد الدين واخلاقياته بعيدا من "فيروس" التعصب. وكانت عباراته التي تردد بعضها امس في رحلة وداعه الدواء الشافي في جبه هذا النوع من الامراض.

بكاه أمس آباء الشهداء وأمهاتهم لأنه كان الدافع والموجّه لفلذات أكبادهم في حمل البندقية وقتال اسرائيل عندما كان يلتقي ثلة منهم في المساجد والحلقات والدروس الدينية التي لم يقتصر مضمونها على تطبيق العبادات فحسب  وكفى الله المؤمنين شر القتال.

بكاه جمهور من المقاومين الذين نهلوا من مدرسته التي علمتهم كيف يواجهون اسرائيل التي اقتلعتهم من أرضهم وديارهم فاسترجعوها بشلال من الدماء ودخلوا صفحات تاريخ العزة من أوسع أبوابه.

بكاه جمهور من رجال الدين الذين تتلمذوا على يديه ونهلوا من أفكاره ومعارفه بما يحافظ على وحدة الصف السني – الشيعي ومواجهة بذور الفتنة، فضلا عن دعوته الدائمة الى العيش المشترك والحقيقي مع المسيحيين ومن دون قفازات.

تحولت الضاحية أمس لوحة سوداء، وودعه الايتام والمعوزون والفقراء لأن مبراته ومؤسساته الاجتماعية حضنت هؤلاء ووفرت لهم متطلبات العيش والتربية في الزمن الصعب.

وحضرت وجوه عدة من العراق الجريح حيث شق الراحل طريقه من هناك وعبّدها في النجف، تلك الدوحة العابقة بأنوار الفقه الاسلامي وعلوم الشريعة والدين. ورفع أفراد من الجالية العراقية الهاربون من كابوس الاحتلال علم بلدهم المرصّع بعبارة "الله أكبر" ليشاركوا على طريقتهم في وداع السيد الذي كان لهم السند والمرشد.

اما الضيوف الآتون من الخليج، فكانوا من الشيعة والسنة، وليس من الغرابة ان تجمعهم هذه التظاهرة التي اجتاحت مسجد الامامين الحسنين في حارة حريك وزنرت جموع المشيعين محيطه وشوارع الضاحية الجنوبية.

وتسابق المصلون لتأدية صلاة الظهر في المسجد الذي لم تتسع لهم باحته الرئيسية فافترشوا الارض وتحدّوا شمس تموز ليكونوا على مقربة من جثمان مرجعهم ورائحة سيرته العطرة قبل ان يرقد في تراب صحن هذا الجامع الناطق الذي رُفعت في صدره عبارة "استودعكم الله" خلف صورة الراحل، رافعاً كلتا يديه، فهو لم يمت في عقولهم وقلوبهم لأنه ترك لهم كل هذا التراث والفكر بعدما زرع في نفوسهم ووجدانهم الدعوة الدائمة الى قتال اسرائيل والدفاع عن ارضهم، داعياً إياهم امس في شريط مسجل بصوته الى "اكمال المسيرة".

وقد سجّي جثمان الراحل في  منزله في حارة حريك الذي شيّد بعد عدوان تموز 2006. وتفقّد البعض صالون استقبالاته الذي كان مشرّع الأبواب امام سائر الآراء والأفكار حتى لو اختلف مع بعضها لأن الحوار كان رائده وديدنه.

في الاولى والنصف بعد الظهر حمل شبان النعش من منزله وسط طوفان من الحشود التي زنرته، ووضعت فوقه عمامته الناطقة التي طالما تهافت كثيرون على تقبيلها والتبرك من رأس صاحبها.

وشق النعش طريقه بصعوبة بالغة، ولا سيما عندما شاهدته جموع المشيعين، وتسابقت الايدي الى لمسه. واخذ محبوه من الرجال بالبكاء، اما النسوة فكان لهن حديث آخر في يوم وداع مرجعهن، هن اللواتي وجدن فيه الاب المرشد ورجل الدين الذي قامت رسالته على الانفتاح وعدم الانغلاق لانه كان ينطق بلسان واحد في الغرف الضيقة وعلى المنابر.

بعد الانتهاء من مشوار تشييعه، حُمل الجثمان الى مرقده في مسجد الامامين الحسنين حيث يستريح على مقربة من مريديه والمصلين الذين كانوا ينتظرون خطبته كل جمعة لانها كانت "بنت الساعة السياسية" والبعيدة من الملل والروتين والناطقة بأوجاع الناس وهمومهم والبعيدة من مراضاة السلطان.

وتدفقت الجموع بصعوبة نحو المسجد، واقفلت ابوابه امام الكثيرين من الضيوف والرسميين بسبب الزحمة، ودخله انجاله وافراد اسرته بشق النفس ليلقوا عليه نظرة الوداع.

امس افتقده منبر المسجد لانه لم "يعتد" الا الكلمات والرسائل الطيبة التي كانت تنطلق من فم هذه المدرسة التي خرّجت تلامذة في لبنان والخارج، وهم منذ اليوم دخلوا في امتحان المحافظة على هذا الارث الديني والاجتماعي والخدماتي.

كثيرون من القادة السياسيين والدينيين يصلون الى اعلى المراكز والمناصب وتسلط عليهم الاضواء والانظار والاهتمامات وابواب الرعاية، وعندما يرحلون يقام لهم وداع رسمي وشعبي وعلى الدنيا السلام.

رضوان عقيل

صحيفة النهار

 التاريخ: 25 رجب 1431  ه الموافق: 07/07/2010 م

 
 
 
 
رسالة أقوى من الموت... وعمامة ناطقة

لم يكن مقلدو المرجع السيد محمد حسين فضل الله ومحبوه الكثر في لبنان والعالمين العربي والاسلامي في حاجة الى دعوة للمشاركة في يوم وداعه في الضاحية الجنوبية، تلك المحلة التي فجر منها مواقفه وفتاواه في التأليف والكتابة والمقاومة والانفتاح وقبول الآخر والدعوة الى الحوار وعدم الغرق في وحول التطرف.

لكن جمهور السيد في وداع هذه الشجرة التي امتدت أغصان مرجعيتها من تراب جبل عامل الى العراق وسوريا وبلدان الخليج وايران ومناطق أخرى في هذه المعمورة، ولم تَقْوَ أصابع المعرقلين والرافضين على منع تمدد براعمه التي أغنت الفقه الاسلامي والمكتبة  العربية.

بكاه جيل اسلامي ملتزم قواعد الدين واخلاقياته بعيدا من "فيروس" التعصب. وكانت عباراته التي تردد بعضها امس في رحلة وداعه الدواء الشافي في جبه هذا النوع من الامراض.

بكاه أمس آباء الشهداء وأمهاتهم لأنه كان الدافع والموجّه لفلذات أكبادهم في حمل البندقية وقتال اسرائيل عندما كان يلتقي ثلة منهم في المساجد والحلقات والدروس الدينية التي لم يقتصر مضمونها على تطبيق العبادات فحسب  وكفى الله المؤمنين شر القتال.

بكاه جمهور من المقاومين الذين نهلوا من مدرسته التي علمتهم كيف يواجهون اسرائيل التي اقتلعتهم من أرضهم وديارهم فاسترجعوها بشلال من الدماء ودخلوا صفحات تاريخ العزة من أوسع أبوابه.

بكاه جمهور من رجال الدين الذين تتلمذوا على يديه ونهلوا من أفكاره ومعارفه بما يحافظ على وحدة الصف السني – الشيعي ومواجهة بذور الفتنة، فضلا عن دعوته الدائمة الى العيش المشترك والحقيقي مع المسيحيين ومن دون قفازات.

تحولت الضاحية أمس لوحة سوداء، وودعه الايتام والمعوزون والفقراء لأن مبراته ومؤسساته الاجتماعية حضنت هؤلاء ووفرت لهم متطلبات العيش والتربية في الزمن الصعب.

وحضرت وجوه عدة من العراق الجريح حيث شق الراحل طريقه من هناك وعبّدها في النجف، تلك الدوحة العابقة بأنوار الفقه الاسلامي وعلوم الشريعة والدين. ورفع أفراد من الجالية العراقية الهاربون من كابوس الاحتلال علم بلدهم المرصّع بعبارة "الله أكبر" ليشاركوا على طريقتهم في وداع السيد الذي كان لهم السند والمرشد.

اما الضيوف الآتون من الخليج، فكانوا من الشيعة والسنة، وليس من الغرابة ان تجمعهم هذه التظاهرة التي اجتاحت مسجد الامامين الحسنين في حارة حريك وزنرت جموع المشيعين محيطه وشوارع الضاحية الجنوبية.

وتسابق المصلون لتأدية صلاة الظهر في المسجد الذي لم تتسع لهم باحته الرئيسية فافترشوا الارض وتحدّوا شمس تموز ليكونوا على مقربة من جثمان مرجعهم ورائحة سيرته العطرة قبل ان يرقد في تراب صحن هذا الجامع الناطق الذي رُفعت في صدره عبارة "استودعكم الله" خلف صورة الراحل، رافعاً كلتا يديه، فهو لم يمت في عقولهم وقلوبهم لأنه ترك لهم كل هذا التراث والفكر بعدما زرع في نفوسهم ووجدانهم الدعوة الدائمة الى قتال اسرائيل والدفاع عن ارضهم، داعياً إياهم امس في شريط مسجل بصوته الى "اكمال المسيرة".

وقد سجّي جثمان الراحل في  منزله في حارة حريك الذي شيّد بعد عدوان تموز 2006. وتفقّد البعض صالون استقبالاته الذي كان مشرّع الأبواب امام سائر الآراء والأفكار حتى لو اختلف مع بعضها لأن الحوار كان رائده وديدنه.

في الاولى والنصف بعد الظهر حمل شبان النعش من منزله وسط طوفان من الحشود التي زنرته، ووضعت فوقه عمامته الناطقة التي طالما تهافت كثيرون على تقبيلها والتبرك من رأس صاحبها.

وشق النعش طريقه بصعوبة بالغة، ولا سيما عندما شاهدته جموع المشيعين، وتسابقت الايدي الى لمسه. واخذ محبوه من الرجال بالبكاء، اما النسوة فكان لهن حديث آخر في يوم وداع مرجعهن، هن اللواتي وجدن فيه الاب المرشد ورجل الدين الذي قامت رسالته على الانفتاح وعدم الانغلاق لانه كان ينطق بلسان واحد في الغرف الضيقة وعلى المنابر.

بعد الانتهاء من مشوار تشييعه، حُمل الجثمان الى مرقده في مسجد الامامين الحسنين حيث يستريح على مقربة من مريديه والمصلين الذين كانوا ينتظرون خطبته كل جمعة لانها كانت "بنت الساعة السياسية" والبعيدة من الملل والروتين والناطقة بأوجاع الناس وهمومهم والبعيدة من مراضاة السلطان.

وتدفقت الجموع بصعوبة نحو المسجد، واقفلت ابوابه امام الكثيرين من الضيوف والرسميين بسبب الزحمة، ودخله انجاله وافراد اسرته بشق النفس ليلقوا عليه نظرة الوداع.

امس افتقده منبر المسجد لانه لم "يعتد" الا الكلمات والرسائل الطيبة التي كانت تنطلق من فم هذه المدرسة التي خرّجت تلامذة في لبنان والخارج، وهم منذ اليوم دخلوا في امتحان المحافظة على هذا الارث الديني والاجتماعي والخدماتي.

كثيرون من القادة السياسيين والدينيين يصلون الى اعلى المراكز والمناصب وتسلط عليهم الاضواء والانظار والاهتمامات وابواب الرعاية، وعندما يرحلون يقام لهم وداع رسمي وشعبي وعلى الدنيا السلام.

رضوان عقيل

صحيفة النهار

 التاريخ: 25 رجب 1431  ه الموافق: 07/07/2010 م

 
 
 
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير