لتكن ثقافتكم ثقافة عملية تستهدي خطى الرسول الأكرم(ص)

لتكن ثقافتكم ثقافة عملية تستهدي خطى الرسول الأكرم(ص)

لتكن ثقافتكم ثقافة عملية تستهدي خطى الرسول الأكرم(ص)
مسؤولية الجماعة أمام نموذج القدوة


أ
لقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الالتـزام الإيمانـي

من الآيات القرآنية الكريمة التي يخاطب الله تعالى فيها نبيّه(ص)، ليخاطبنا من خلال نبيّه(ص)، الآيات التي تؤكد للإنسان المسلم العناصر الأساسية التي تمثّل العناوين العامة للالتزام الإيماني للإنسان المؤمن، لأن الإسلام يشتمل على الكثير من المفاهيم والأحكام والمناهج، ولكن الله تعالى يختصر ذلك كله في عناوين يريد للإنسان أن يحملها في عقله وقلبه، وأن يحرّكها في حياته، ليكون الإنسان الذي يجسّد إيمانه بالله تعالى، والتزامه به سبحانه في واقعه العملي.

يقول تعالى: {قل يا عبادي الذين آمنوا ـ قل يا محمد لكلّ هؤلاء الذين يؤمنون بي، كيف يعيشون إيمانهم، لأن الإيمان ليس كلمة يقولونها، أو مجرد حركات يقومون بها، ولكنه ينطلق من التزام فكري في العقل، والتزام شعوري في القلب، والتزام عملي في الواقع، وهذا هو الذي تلخّصه كلمة التقوى، لأن التقوى تمثّل مراقبة الله تعالى للإنسان في كل أقواله وأعماله، وأن يحسب حسابه في كل ما يضمره في نفسه وما يبديه في حياته، وأن يشعر أنه في هذا الوجود تحت رقابة الله في كل أموره السرية والعلانية، وأمام حساب الله في كل أقواله وأعماله ـ اتقوا ربكم ـ الذي خلقكم وربّاكم، لأن كلمة الرب تعطي معنى التربية، فقد ربّى عقولكم وأجسامكم وكل ما تتحركون به في حياتكم، لأنه المهيمن على الأمر كله، اتقوا ربكم، احسبوا حسابه، ولا تحسبوا حساب غيره عندما تكونون معه، فكروا هل يرضى الله عن هذا القول أو العمل أو هذا التأييد والرفض أو لا يرضى ـ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ـ وقد فُسّرت الحسنة بالجنة، بمعنى أن الذي يُحسن الإيمان والقول والعمل فله الجنة ـ وأرض الله واسعة}، إذا ضاقت بكم الأرض فإن هناك أرضاً لله تنطلقون إليها لتأخذوا حريتكم في عبادة الله فيها، لأنكم خلق الله والأرض كلها هي ملك الله، والله أراد لكم أن تتحركوا في الأرض، {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}، الأرض لا تعلّبكم في داخلها، فإذا ضاقت بكم أرض وسعتكم أرض أخرى، وقد قالها الإمام علي(ع): "ليس بلد أولى بك من بلد، خير البلاد ما حملك"، ما منحك الحرية في عملك وقولك وكل مواقفك وعبادة ربك..

التقوى تُنـال بالصبر

ثم يلفت الله تعالى إلى نقطة، وهي أن التقوى قد لا تقبلها النفس، لأن التقوى هي أن تأتي بما أمرك الله به، وقد لا تُقبل النفس على ما أمرك الله به، ما قد يفرض عليك جهداً أو خسارة، وأن تنتهي عما نهاك الله عنه وربما كان أمراً ترغبه نفسك، لذلك تحتاج التقوى إلى صبر، والصبر صعب، ولكن عندما تُقدّم لك جائزة مفتوحة ليس فيها رقم محدد ألا تصبر؟ نحن نعمل غالباً بالمال، فلو قال لك شخص إن هناك قضية تحتاج الى جهد وصبر، وجزاء ذلك "شيك" مفتوح فهل نجد أحداً لا يصبر؟ فكيف والله تعالى يعطي الصابرين شيكاً مفتوحاً على حسابه، والله تعالى عنده كل الرصيد، {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، لذلك احملوا هذه الكلمة في عقولكم وقلوبكم عندما يأتي الشيطان ليقعدكم عن الطاعة، أو ليجركم إلى المعصية.

الرسول(ص) إمام المخلصين

ثم يتابع الله تعالى: {قل ـ وتحدث عن نفسك وأنت نبي الله وحبيبه، وأنت الذي تأمرهم وتنهاهم من خلال رسالة الله، قل لهم كيف يكون موقفك أنت أمام ربك، لأنك النبي الذي يلتزم بما يأمر الناس به قبل أن يأمرهم به ـ إني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ـ عبادة لا شرك فيها ولا شك ولا إهمال ولا سهو عنها ـ وأُمرت لأن أكون أول المسلمين ـ أن أكون أول من أسلم لله في عقله فكان كل عقله لله، وفي قلبه فكان كل قلبه لله، وفي عمله فكان كل عمله لله ـ قل ـ وأنت حبيب الله بل أحبّ الخلق إلى الله، قل للناس إن الله ليس بينه وبين أحد قرابة، وليس بينه وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يدفع عنه شراً إلا العمل ـ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}، ومن الذي يتكلم؟ محمد بن عبد الله(ص)، فمن الذي يستطيع أن يقول إن جدي فلان وأبي فلان.

وفي رواية أن أحد الأشخاص رأى الإمام زين العابدين(ع) وهو يبكي بكاء الثكلى في الكعبة، فقال له: جدك رسول الله وأمير المؤمنين، وأمك الزهراء، وأبوك الحسين، وعمك الحسن، فقال له(ع): "دع عنك ذكر جدي وأبي وعمي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً" ـ قل الله أعبد مخلصاً له ديني* فاعبدوا ما شئتم من دونه، قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ـ عندما ابتعدوا عن الإيمان وطاعة الله والقرب منه ـ وأهليهم يوم القيامة ـ لأنهم قصّروا في تربية أبنائهم وأزواجهم وأهلهم ممن يتصل بهم بالقرابة أو المسؤولية ـ ألا ذلك هو الخسران المبين}، وتلك هي كل الخسارة، أن تصل إلى يوم القيامة ويؤمر بك وبأهلك إلى النار.

اتباع القول الأحسن

ثم يقول الله تعالى: {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل، ذلك يخوّف الله به عباده ـ حتى يحذروا ويتراجعوا ـ يا عبادي فاتقون* والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ـ سواء كانوا من طواغيت الكفر في أفكارهم أو طواغيت المال الذي يستغلونه لإضلال الناس، أو طواغيت السلطة والشهوة ـ وأنابوا إلى الله فبشّر عبادي ـ من هم هؤلاء الذين يدعو الله نبيّه أن يبشّرهم ـ الذين يستمعون القول ـ فلا يمرون عليه مرور الكرام ولا يعرضون عنه ـ فيتّبعون أحسنه ـ يفكرون بالقول ويقتنعون به ويتبعون أحسنه بعد ذلك ـ أولئك هم الذين هداهم الله ـ لأنهم فتحوا عقولهم لآيات الله ومواعظه ونصائح رسوله ـ وأولئك أولو الألباب}، لأن الإنسان العاقل هو الذي يفكر بكل ما يسير به الى النجاة والنجاح.

هذه كلمات الله تعالى التي أراد لرسوله(ص) أن يقولها لنا، وأمره أن يكون القدوة العملية للناس، حتى يعرفوا أن أية قيادة ـ نبوية أو إمامية أو علمائية أو سياسية ـ لا بدّ لها من أن تكون أول الذين يلتزمون بالتعليمات قبل أن يطلبوا من الآخرين أن يلتزموها، وقد قال الله تعالى لنا وهو يشير إلينا إن النبي(ص) يمثّل التجسيد العملي للإسلام: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}.

إننا نفكر دائماً بخسارة المال والفرص المادية والشهوات، تعالوا لنفكر أن لا نخسر أنفسنا عند الله، ولا نخسر أهلنا عند الله، {يوم يقوم الناس لربّ العالمين}، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عباد الله.. اتقوا الله في ما كلّفكم من أمره ونهيه، وفي ما حمّلكم من مسؤولياتكم تجاه أنفسكم وأهلكم ومجتمعكم وأمتكم، سواء كانت المسألة تتصل بالإسلام في ثقافته أو سياسته أو اقتصاده أو في حربه وسلمه، لأننا جميعاً مسؤولون أن نحفظ للإسلام قوته وللمسلمين عزتهم، كلٌ بحسب طاقته وإمكاناته، إن الله لا يريد منا أن نكون الحياديين في معركة الحق والباطل، لأن "الساكت عن الحق شيطان أخرس". لذلك، لا بد أن نقول كلمة الحق، ولا سيما إذا وقف الكفر والاستكبار ملّة واحدة وأمة واحدة، وواجهوا الاسلام بمختلف العناوين والوسائل من أجل أن يسيطروا على أرضه باحتلال مباشر أو غير مباشر، أو يسيطروا على موارده وثرواته وأسواقه ومواقعه الاستراتيجية.

وما زلنا في قلب المعركة، لا سيما معركة فلسطين، التي مرّ عليها منذ المؤتمر اليهودي الأول أكثر من قرن.. ونحن الآن نواجه مرحلة جديدة يقف فيها العالم متفرجاً أمام كل مأساة هذا الشعب الذي يعيش الحصار في أرضه كأقسى ما يكون الحصار، ويعيش الجوع مع أطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه كأقسى ما يكون الجوع، فماذا هناك:

العدو الصهيوني يتابع جرائمه

الانتفاضة مستمرة، والوحشية الإسرائيلية بجرائمها المتنقّلة في الساحة الفلسطينية بالقصف والتدمير والاغتيال توحّد الشعب الفلسطيني من جديد، وتقرّب السلطة الفلسطينية من قاعدتها الشعبية، لأنها بدأت تدرك أن الكيان الصهيوني سوف يتابع جرائمه مع وقف إطلاق النار وبدونه، لأنه لا يريد للفلسطينيين أن يقرروا مصيرهم في الحرية والاستقلال، ولا يوافق على دولة فلسطينية حرّة مستقلة، لأنه قد استفاد من السياسة الأمريكية التي منحته الضوء الأخضر في القيام بتدمير الشعب الفلسطيني في بنيته التحتية والفوقية، ومحاصرة سلطته بالمطالب التعجيزية التي يُراد منها تمزيق الوحدة الوطنية الداخلية..

سعي أمريكي لإسقاط حركات التحرر

إن مشكلة أمريكا أنها تعتبر حرب إسرائيل في فلسطين كحربها في أفغانستان، تحت شعار الحرب على ما تسميه الإرهاب، وقد قادت أمريكا الاتحاد الأوروبي وروسيا وأكثر الدول العربية تحت هذا الشعار، ما جعل كل هؤلاء يتحالفون معها سرّاً وعلانية ضد الانتفاضة، لأن المطلوب ـ أمريكياً وإسرائيلياً ـ إسقاط أية مقاومة فاعلة في فلسطين، وأيّ ضغط عربي أو إسلامي على إسرائيل وأمريكا..

إن السياسة الأمريكية تعمل على إجبار الفلسطينيين للقبول بما تمنحه إسرائيل لهم من دون قيد أو شرط، باسم المحافظة على السلام والبُعد عما تعتبره إرهاباً.. وهكذا لاحظنا أن السلاح يقدّم للعدو من قِبَل أمريكا بلا حساب، بينما يُحاسب الشعب الفلسطيني على أية قطعة سلاح يستوردها للدفاع عن نفسه، لأن ذلك يخلق توازناً للرعب مع الفلسطينيين، وهو ما لا ترضاه أمريكا التي التزمت أمن هذا الكيان بالمطلق..

وهذا ما تمارسه أمريكا ـ ومعها مجلس الأمن ـ  في المسارعة لشجب أي عملية للمقاومة الإسلامية من أجل تحرير أرضها، بينما لا تحرّك ساكناً في اختراقات إسرائيل للبنان جواً وبراً وبحراً، لأن حركة المقاومة قد تُدخل المنطقة في خطر حرب إقليمية، ولكن حركة إسرائيل لا بدّ أن تكون مقبولة من دون ردّ، باعتبار ذلك دفاعاً عن النفس، وهذا ما صرّحت به أمريكا أكثر من مرة؟!

إن القضية كلها عند أمريكا هي أن يدخل العرب والمسلمون في تحالف دولي يضم إسرائيل، ضد كل قوى التحرر في المنطقة والعالم، تحت تأثير التهديد لكل صوت معارض ولكل حركة تحرير بأنه صوت إرهاب وحركة عنف.. ولذلك، فإن المطلوب هو كيف نصرّ على عملية صنع القوة، وعلى حماية كل مواقع القوة عندنا، من انتفاضة ومقاومة وسياسة رافضة فاعلة، لأن المسألة تتصل بالمستقبل كله..

الانتفاضة طريق الخلاص والحرية

ونقول للفلسطينيين: لتكن الانتفاضة القاعدة لوحدتكم الوطنية، فإنها ـ وحدها ـ التي تبقي العدو في المأزق، وتفضح السياسة الأمريكية الاستكبارية في انحيازها المطلق للإرهاب الإسرائيلي.. ونقول للسلطة في فلسطين: عودي إلى القاعدة الشعبية كحركة تحرير، فإن ذلك وحده طريق الخلاص والعودة والحرية والاستقلال..

ونقول للشعوب العربية والإسلامية: إن المرحلة الحاضرة سوف تنفتح على مستقبل لا يخلو من الخطورة، لذلك لا بدّ من تجاوز كل الخلافات الضيّقة للارتفاع إلى مستوى التحديات الكبرى في الصراع على مستوى المنطقة والعالم كله، ولا بدّ من مواجهة كل أساليب التهويل الأمريكي ـ الإسرائيلي بالتأكيد على الوعي والحركة الواعية المدروسة والوحدة..

وفي الشأن اللبناني الداخلي، لا بدّ من تضافر كل الجهود الرسمية والشعبية على التكامل في المواقع والمواقف، من أجل مواجهة الواقع الأمني الجديد الذي قد ينذر بخطة إسرائيلية للاغتيالات أو لإثارة الفتنة في البلد، وقد يحاول إيجاد حالة من القلق والاهتزاز الذي قد يؤدي إلى ارتباك سياسي قد يوحي للبعض بالاصطياد في الماء العكر..

لذلك، فإن الوحدة الوطنية هي الخيار الوحيد للجميع في هذه المرحلة، التي تفرض أن تكون العيون مفتوحة على كل ما يدبّره المغرضون في الخفاء.. وفي الوقت نفسه، لا بدّ من دراسة المشاكل الاقتصادية والإدارية والمعيشية، من أجل الخروج من هذا النفق الغارق في الظلام، لأن الاستغراق في الخلافات السياسية سوف يُسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

لتكن ثقافتكم ثقافة عملية تستهدي خطى الرسول الأكرم(ص)
مسؤولية الجماعة أمام نموذج القدوة


أ
لقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الالتـزام الإيمانـي

من الآيات القرآنية الكريمة التي يخاطب الله تعالى فيها نبيّه(ص)، ليخاطبنا من خلال نبيّه(ص)، الآيات التي تؤكد للإنسان المسلم العناصر الأساسية التي تمثّل العناوين العامة للالتزام الإيماني للإنسان المؤمن، لأن الإسلام يشتمل على الكثير من المفاهيم والأحكام والمناهج، ولكن الله تعالى يختصر ذلك كله في عناوين يريد للإنسان أن يحملها في عقله وقلبه، وأن يحرّكها في حياته، ليكون الإنسان الذي يجسّد إيمانه بالله تعالى، والتزامه به سبحانه في واقعه العملي.

يقول تعالى: {قل يا عبادي الذين آمنوا ـ قل يا محمد لكلّ هؤلاء الذين يؤمنون بي، كيف يعيشون إيمانهم، لأن الإيمان ليس كلمة يقولونها، أو مجرد حركات يقومون بها، ولكنه ينطلق من التزام فكري في العقل، والتزام شعوري في القلب، والتزام عملي في الواقع، وهذا هو الذي تلخّصه كلمة التقوى، لأن التقوى تمثّل مراقبة الله تعالى للإنسان في كل أقواله وأعماله، وأن يحسب حسابه في كل ما يضمره في نفسه وما يبديه في حياته، وأن يشعر أنه في هذا الوجود تحت رقابة الله في كل أموره السرية والعلانية، وأمام حساب الله في كل أقواله وأعماله ـ اتقوا ربكم ـ الذي خلقكم وربّاكم، لأن كلمة الرب تعطي معنى التربية، فقد ربّى عقولكم وأجسامكم وكل ما تتحركون به في حياتكم، لأنه المهيمن على الأمر كله، اتقوا ربكم، احسبوا حسابه، ولا تحسبوا حساب غيره عندما تكونون معه، فكروا هل يرضى الله عن هذا القول أو العمل أو هذا التأييد والرفض أو لا يرضى ـ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ـ وقد فُسّرت الحسنة بالجنة، بمعنى أن الذي يُحسن الإيمان والقول والعمل فله الجنة ـ وأرض الله واسعة}، إذا ضاقت بكم الأرض فإن هناك أرضاً لله تنطلقون إليها لتأخذوا حريتكم في عبادة الله فيها، لأنكم خلق الله والأرض كلها هي ملك الله، والله أراد لكم أن تتحركوا في الأرض، {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}، الأرض لا تعلّبكم في داخلها، فإذا ضاقت بكم أرض وسعتكم أرض أخرى، وقد قالها الإمام علي(ع): "ليس بلد أولى بك من بلد، خير البلاد ما حملك"، ما منحك الحرية في عملك وقولك وكل مواقفك وعبادة ربك..

التقوى تُنـال بالصبر

ثم يلفت الله تعالى إلى نقطة، وهي أن التقوى قد لا تقبلها النفس، لأن التقوى هي أن تأتي بما أمرك الله به، وقد لا تُقبل النفس على ما أمرك الله به، ما قد يفرض عليك جهداً أو خسارة، وأن تنتهي عما نهاك الله عنه وربما كان أمراً ترغبه نفسك، لذلك تحتاج التقوى إلى صبر، والصبر صعب، ولكن عندما تُقدّم لك جائزة مفتوحة ليس فيها رقم محدد ألا تصبر؟ نحن نعمل غالباً بالمال، فلو قال لك شخص إن هناك قضية تحتاج الى جهد وصبر، وجزاء ذلك "شيك" مفتوح فهل نجد أحداً لا يصبر؟ فكيف والله تعالى يعطي الصابرين شيكاً مفتوحاً على حسابه، والله تعالى عنده كل الرصيد، {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، لذلك احملوا هذه الكلمة في عقولكم وقلوبكم عندما يأتي الشيطان ليقعدكم عن الطاعة، أو ليجركم إلى المعصية.

الرسول(ص) إمام المخلصين

ثم يتابع الله تعالى: {قل ـ وتحدث عن نفسك وأنت نبي الله وحبيبه، وأنت الذي تأمرهم وتنهاهم من خلال رسالة الله، قل لهم كيف يكون موقفك أنت أمام ربك، لأنك النبي الذي يلتزم بما يأمر الناس به قبل أن يأمرهم به ـ إني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ـ عبادة لا شرك فيها ولا شك ولا إهمال ولا سهو عنها ـ وأُمرت لأن أكون أول المسلمين ـ أن أكون أول من أسلم لله في عقله فكان كل عقله لله، وفي قلبه فكان كل قلبه لله، وفي عمله فكان كل عمله لله ـ قل ـ وأنت حبيب الله بل أحبّ الخلق إلى الله، قل للناس إن الله ليس بينه وبين أحد قرابة، وليس بينه وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يدفع عنه شراً إلا العمل ـ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}، ومن الذي يتكلم؟ محمد بن عبد الله(ص)، فمن الذي يستطيع أن يقول إن جدي فلان وأبي فلان.

وفي رواية أن أحد الأشخاص رأى الإمام زين العابدين(ع) وهو يبكي بكاء الثكلى في الكعبة، فقال له: جدك رسول الله وأمير المؤمنين، وأمك الزهراء، وأبوك الحسين، وعمك الحسن، فقال له(ع): "دع عنك ذكر جدي وأبي وعمي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً" ـ قل الله أعبد مخلصاً له ديني* فاعبدوا ما شئتم من دونه، قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ـ عندما ابتعدوا عن الإيمان وطاعة الله والقرب منه ـ وأهليهم يوم القيامة ـ لأنهم قصّروا في تربية أبنائهم وأزواجهم وأهلهم ممن يتصل بهم بالقرابة أو المسؤولية ـ ألا ذلك هو الخسران المبين}، وتلك هي كل الخسارة، أن تصل إلى يوم القيامة ويؤمر بك وبأهلك إلى النار.

اتباع القول الأحسن

ثم يقول الله تعالى: {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل، ذلك يخوّف الله به عباده ـ حتى يحذروا ويتراجعوا ـ يا عبادي فاتقون* والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ـ سواء كانوا من طواغيت الكفر في أفكارهم أو طواغيت المال الذي يستغلونه لإضلال الناس، أو طواغيت السلطة والشهوة ـ وأنابوا إلى الله فبشّر عبادي ـ من هم هؤلاء الذين يدعو الله نبيّه أن يبشّرهم ـ الذين يستمعون القول ـ فلا يمرون عليه مرور الكرام ولا يعرضون عنه ـ فيتّبعون أحسنه ـ يفكرون بالقول ويقتنعون به ويتبعون أحسنه بعد ذلك ـ أولئك هم الذين هداهم الله ـ لأنهم فتحوا عقولهم لآيات الله ومواعظه ونصائح رسوله ـ وأولئك أولو الألباب}، لأن الإنسان العاقل هو الذي يفكر بكل ما يسير به الى النجاة والنجاح.

هذه كلمات الله تعالى التي أراد لرسوله(ص) أن يقولها لنا، وأمره أن يكون القدوة العملية للناس، حتى يعرفوا أن أية قيادة ـ نبوية أو إمامية أو علمائية أو سياسية ـ لا بدّ لها من أن تكون أول الذين يلتزمون بالتعليمات قبل أن يطلبوا من الآخرين أن يلتزموها، وقد قال الله تعالى لنا وهو يشير إلينا إن النبي(ص) يمثّل التجسيد العملي للإسلام: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}.

إننا نفكر دائماً بخسارة المال والفرص المادية والشهوات، تعالوا لنفكر أن لا نخسر أنفسنا عند الله، ولا نخسر أهلنا عند الله، {يوم يقوم الناس لربّ العالمين}، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عباد الله.. اتقوا الله في ما كلّفكم من أمره ونهيه، وفي ما حمّلكم من مسؤولياتكم تجاه أنفسكم وأهلكم ومجتمعكم وأمتكم، سواء كانت المسألة تتصل بالإسلام في ثقافته أو سياسته أو اقتصاده أو في حربه وسلمه، لأننا جميعاً مسؤولون أن نحفظ للإسلام قوته وللمسلمين عزتهم، كلٌ بحسب طاقته وإمكاناته، إن الله لا يريد منا أن نكون الحياديين في معركة الحق والباطل، لأن "الساكت عن الحق شيطان أخرس". لذلك، لا بد أن نقول كلمة الحق، ولا سيما إذا وقف الكفر والاستكبار ملّة واحدة وأمة واحدة، وواجهوا الاسلام بمختلف العناوين والوسائل من أجل أن يسيطروا على أرضه باحتلال مباشر أو غير مباشر، أو يسيطروا على موارده وثرواته وأسواقه ومواقعه الاستراتيجية.

وما زلنا في قلب المعركة، لا سيما معركة فلسطين، التي مرّ عليها منذ المؤتمر اليهودي الأول أكثر من قرن.. ونحن الآن نواجه مرحلة جديدة يقف فيها العالم متفرجاً أمام كل مأساة هذا الشعب الذي يعيش الحصار في أرضه كأقسى ما يكون الحصار، ويعيش الجوع مع أطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه كأقسى ما يكون الجوع، فماذا هناك:

العدو الصهيوني يتابع جرائمه

الانتفاضة مستمرة، والوحشية الإسرائيلية بجرائمها المتنقّلة في الساحة الفلسطينية بالقصف والتدمير والاغتيال توحّد الشعب الفلسطيني من جديد، وتقرّب السلطة الفلسطينية من قاعدتها الشعبية، لأنها بدأت تدرك أن الكيان الصهيوني سوف يتابع جرائمه مع وقف إطلاق النار وبدونه، لأنه لا يريد للفلسطينيين أن يقرروا مصيرهم في الحرية والاستقلال، ولا يوافق على دولة فلسطينية حرّة مستقلة، لأنه قد استفاد من السياسة الأمريكية التي منحته الضوء الأخضر في القيام بتدمير الشعب الفلسطيني في بنيته التحتية والفوقية، ومحاصرة سلطته بالمطالب التعجيزية التي يُراد منها تمزيق الوحدة الوطنية الداخلية..

سعي أمريكي لإسقاط حركات التحرر

إن مشكلة أمريكا أنها تعتبر حرب إسرائيل في فلسطين كحربها في أفغانستان، تحت شعار الحرب على ما تسميه الإرهاب، وقد قادت أمريكا الاتحاد الأوروبي وروسيا وأكثر الدول العربية تحت هذا الشعار، ما جعل كل هؤلاء يتحالفون معها سرّاً وعلانية ضد الانتفاضة، لأن المطلوب ـ أمريكياً وإسرائيلياً ـ إسقاط أية مقاومة فاعلة في فلسطين، وأيّ ضغط عربي أو إسلامي على إسرائيل وأمريكا..

إن السياسة الأمريكية تعمل على إجبار الفلسطينيين للقبول بما تمنحه إسرائيل لهم من دون قيد أو شرط، باسم المحافظة على السلام والبُعد عما تعتبره إرهاباً.. وهكذا لاحظنا أن السلاح يقدّم للعدو من قِبَل أمريكا بلا حساب، بينما يُحاسب الشعب الفلسطيني على أية قطعة سلاح يستوردها للدفاع عن نفسه، لأن ذلك يخلق توازناً للرعب مع الفلسطينيين، وهو ما لا ترضاه أمريكا التي التزمت أمن هذا الكيان بالمطلق..

وهذا ما تمارسه أمريكا ـ ومعها مجلس الأمن ـ  في المسارعة لشجب أي عملية للمقاومة الإسلامية من أجل تحرير أرضها، بينما لا تحرّك ساكناً في اختراقات إسرائيل للبنان جواً وبراً وبحراً، لأن حركة المقاومة قد تُدخل المنطقة في خطر حرب إقليمية، ولكن حركة إسرائيل لا بدّ أن تكون مقبولة من دون ردّ، باعتبار ذلك دفاعاً عن النفس، وهذا ما صرّحت به أمريكا أكثر من مرة؟!

إن القضية كلها عند أمريكا هي أن يدخل العرب والمسلمون في تحالف دولي يضم إسرائيل، ضد كل قوى التحرر في المنطقة والعالم، تحت تأثير التهديد لكل صوت معارض ولكل حركة تحرير بأنه صوت إرهاب وحركة عنف.. ولذلك، فإن المطلوب هو كيف نصرّ على عملية صنع القوة، وعلى حماية كل مواقع القوة عندنا، من انتفاضة ومقاومة وسياسة رافضة فاعلة، لأن المسألة تتصل بالمستقبل كله..

الانتفاضة طريق الخلاص والحرية

ونقول للفلسطينيين: لتكن الانتفاضة القاعدة لوحدتكم الوطنية، فإنها ـ وحدها ـ التي تبقي العدو في المأزق، وتفضح السياسة الأمريكية الاستكبارية في انحيازها المطلق للإرهاب الإسرائيلي.. ونقول للسلطة في فلسطين: عودي إلى القاعدة الشعبية كحركة تحرير، فإن ذلك وحده طريق الخلاص والعودة والحرية والاستقلال..

ونقول للشعوب العربية والإسلامية: إن المرحلة الحاضرة سوف تنفتح على مستقبل لا يخلو من الخطورة، لذلك لا بدّ من تجاوز كل الخلافات الضيّقة للارتفاع إلى مستوى التحديات الكبرى في الصراع على مستوى المنطقة والعالم كله، ولا بدّ من مواجهة كل أساليب التهويل الأمريكي ـ الإسرائيلي بالتأكيد على الوعي والحركة الواعية المدروسة والوحدة..

وفي الشأن اللبناني الداخلي، لا بدّ من تضافر كل الجهود الرسمية والشعبية على التكامل في المواقع والمواقف، من أجل مواجهة الواقع الأمني الجديد الذي قد ينذر بخطة إسرائيلية للاغتيالات أو لإثارة الفتنة في البلد، وقد يحاول إيجاد حالة من القلق والاهتزاز الذي قد يؤدي إلى ارتباك سياسي قد يوحي للبعض بالاصطياد في الماء العكر..

لذلك، فإن الوحدة الوطنية هي الخيار الوحيد للجميع في هذه المرحلة، التي تفرض أن تكون العيون مفتوحة على كل ما يدبّره المغرضون في الخفاء.. وفي الوقت نفسه، لا بدّ من دراسة المشاكل الاقتصادية والإدارية والمعيشية، من أجل الخروج من هذا النفق الغارق في الظلام، لأن الاستغراق في الخلافات السياسية سوف يُسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير