في ذِكْرَى مِيلادِهِ: عليٌّ (ع) القمَّةُ الّتي نتطلَّعُ إليها

في ذِكْرَى مِيلادِهِ: عليٌّ (ع) القمَّةُ الّتي نتطلَّعُ إليها

الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسَلين.

في ذكرى مولده (ع)، قد نحتاج إلى أن نولد من جديد، لأنَّ للإنسان في حياته ولادتين؛ يولد يوم يفتح عينيه على الحياة في أوَّل صرخة له في هذا الوجود، ويولَد من جديد يوم يبدأ يفكِّر ويتعلَّم وينمو ويعمل، ويتحوَّل إلى عنصر يستطيع أن يعطي الحياة، في كلّ موقع من مواقعه، شيئاً جديداً؛ يعطي الحياة من فكره، ليولد للحياة فكرٌ جديدٌ، ويعطي الحياة من طاقته، لتولَد للحياة طاقةٌ جديدة، لأنَّ الله أراد للكون أن يبقى في حالة تجدّدٍ دائم، حتى يستمرّ العطاء.

وهكذا، رأينا أنَّ الله عندما أفاض علىينا من نعمه بالشَّمس الَّتي تمنحنا الدّفء والحرارة والنّور، جعل الشَّمس تتجدَّد في كلّ يوم، وعندما تغيب عن أفقٍ، فإنّها لا تنام ولا تنطفئ، ولكنَّها تغرب في أفقٍ لتشرق في أفقٍ آخر.

وهكذا، أعطانا الله سبحانه وتعالى تدفّق الينابيع، فالينبوع يتفجَّر في كلّ سنة، من أجل أن يعطي الرّخاء للإنسان في كلِّ أرض، وفي كلِّ موقع.

ونحن، أيُّها الأحبَّة، نحتاج أن نتجدَّد دائماً؛ أن نجدِّد طاقتنا، فلا نقبل بما عندنا من الطاقة، بل لا بدَّ من أن نضيف إلى هذه الطّاقة طاقةً جديدة، لأنَّنا إذا بقينا على طاقتنا الأولى، فسوف نتجمَّد، وسوف نموت قبل أن نموت، لكن عندما نأخذ في كلِّ يوم طاقة جديدة، نصنعها من نشاطنا وفكرنا وحركتنا، ومن كلِّ مواقعنا في الحياة، عندها نحيا في طاقات جديدة.

حبٌّ ملأَ قلبَ عليٍّ (ع)

وهذا ما نستوحيه من عليٍّ (ع) يوم وُلِدَ، فقد انفتح على النّور لأوَّل مرّة في بيت الله، وعندما أحسَّ بنور الله ينطلق إلى قلبه الطّفوليّ، تحرَّك (ع)، وعاش في عمق إحساسه التطلّع إلى أن يكون إنسان الله في الحياة، الإنسان الَّذي يعيش مع الله في كلِّ حياته، فعندما يفكِّر، فإنَّ الله يملأ فكره، وعندما يتكلَّم، فالله يملأ كلماته، وعندما ينطلق في الحياة، فالله يتحرَّك في كلِّ طاقاته.

لم يغب الله عن عليٍّ لحظةً، قالها (ع) في ما تحدَّث به عن انفتاحه الكلِّيّ على الله تعالى: "ما رأيْتُ شيئاً إلَّا ورأيْتُ اللهَ قبلَهُ وبعدَهُ ومَعَه"1. نحن عندما نتطلَّع إلى ما حولنا، فإنَّنا نُشْغَل بما نتطلَّع إليه عن الله، ولكنَّ عليّاً كان عندما يتطلَّع إلى كلِّ الأشياء، مهما صغرت، ومهما كبرت، يرى الله في كلّ شيء، باعتبار ما نستوحيه من أنَّ كلَّ شيء مظهرٌ من مظاهر عظمة الله، وهذا ما عبَّر عنه بعض الشُّعراء:

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنَّهُ واحدُ

وهكذا لاحظنا عليّاً (ع) عندما يجلس بين يدي الله، ماذا يطلب من الله؟ وماذا يريد منه؟ إنّكم تقرأون دعاء كميل ليلة الجمعة، هل تنبَّهتم إلى الفقر الأخيرة من دعاء كميل؟: "يا ربّ يا ربّ يا ربّ، أسألُكَ بحقِّكَ وقدسِكَ وأعظمِ صفاتِكَ وأسمائِكَ، أن تجعلَ أوقاتي في اللَّيلِ والنَّهارِ بذكرِكَ معمورةً، وبخدمتِكَ موصولةً، وأعمالي عندَكَ مقبولةً، حتَّى تكونَ أعمالي وأورادي كلُّها ورداً واحداً، وحالي في خدمتِكَ سرمداً. يا سيِّدي، يا مَن عليه معوَّلي، يا مَن إليه شَكَوْتُ أحوالي، يا ربِّ يا ربِّ يا ربّ، قوِّ على خدمتِكَ جوارحي، واشدُدْ على العزيمةِ جوانحي، وهبْ ليَ الجدَّ في خشيتِكَ، والدَّوامَ في الاتِّصالِ بخدمتِكَ، حتَّى أسرحَ إليْكَ في ميادينِ السَّابقين، وأُسرعَ إليكَ في المبادرين، وأَشتاقَ إلى قربِكَ في المشتاقين، وأَدنوَ منك دنوَّ المخلصين، وأَخافَكَ مخافةَ الموقنين، وأَجتمعَ في جوارِكَ مع المؤمنين".

هذا هو الحبّ الأصيل لله، الحبّ الشَّامل، إنَّه يريد من الله أن يمنحه لطفه، بأن يجعل شغله في كلّ أوقاته معه، وفي خدمته وبين يديه. لم يطلب عليّ (ع) من الله أن يعطيه شيئاً من شؤون الحياة، لأنَّ الله تكفَّل بحاجات الإنسان في الحياة، ولكنَّه طلب من الله أن يعطيه ما يروي به ظمأ حبِّه له، ويعطيه ما يجسِّد إخلاصه له في الحياة.

أيُّها الأحبَّه، هذا هو درس عليّ، وهذا هو الَّذي يمثِّل اختصار كلّ حياة عليّ؛ أنه باع نفسه لله، وأحبّ الله سبحانه وتعالى فأحبّه الله لذلك، وهذا ما عبَّر عنه رسول الله (ص) عندما قال: "لأعطينَّ الرّاية غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَهُ ويحبُّه اللهُ ورسوله"2. هذا ما ينبغي لنا أن نتعلَّمه من عليٍّ (ع)، أن نحبَّ الله ورسوله حبّاً هو العشق، وحبّاً هو الذَّوبان، وحبّاً هو الانفتاح على الله، وحبّاً هو السَّعي في كلّ ما يرضاه الله ورسوله، ليحبّنا الله، والله يحبّنا إذا أطعناه، والله يحبّنا إذا انطلقنا في الحياة من أجل تحقيق رضاه {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[آل عمران: 31].

طفولةٌ منفتحةٌ على الله

ولد (ع)، وفي روحه الانفتاح على الله بكلّه، وكان في طفولته الأولى يتطلَّع في ما يشبه الإحساس الخفيَّ لطفولةٍ تعيش مع الله، من أجل أن تركِّز قاعدةً لشباب يجاهد في سبيل الله، ومن أجل أن تفتح أفقاً لكهولة تحلِّق في آفاق الله، وتسعى في خدمة الله.

وكان عليّ (ع) على موعدٍ مع رسول الله قبل أن يختاره الله لرسالته، وهكذا احتضنه رسول الله في ظروفٍ هيَّأها الله له. لم يكن عليٌّ (ع) يتيماً، فقد كان أبوه وأمّه موجودين، ولكنَّ المشاكل الماديَّة أثقلت أباه، فأراد رسول الله أن يساعده، فأخذ عليّاً ليحتضنه.

وهكذا كان لطف الله بعليّ، لأنَّ مسألة الطفولة هي القاعدة لولادة شخصيّة الإنسان. كثير من الأطفال لم يتح لهم أن يعيشوا التربية الصَّالحة، فصاروا معقَّدين، ينطلقون من الحياة من موقع عقدة، ليتعقَّدوا وليعقِّدوا الآخرين من حولهم. كثير من الأطفال الَّذين لم يرزقوا التربية الصَّحيحة، تحوَّلوا إلى مجرمين يفسدون الحياة ويجرمون في حقّها. ولذلك، كانت مسألة الطّفولة قضيّة أساسيّة في مسألة الرّعاية ومسألة التربية ومسألة العناية ومسألة الاهتمام، وهذا ما عبَّر عنه رسول الله (ص): "كلُّ مولودٍ يولَد على الفطرة"، لو انطلق في الاتجاه الطَّبيعيّ العفويّ، فالإنسان المولود يتحرَّك تماماً كما الينبوع الّذي ينساب في الأرض بشكل عفويّ طبيعيّ، "حتّى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه"3. الحواجز التي تقف بين الإنسان وبين الامتداد، تماماً كما هي الحواجز الَّتي تقف بين الينبوع وبين الانطلاق إلى مجاريه الَّتي يعطي فيها الخصب.

من لطفِ اللهِ بعليٍّ (ع)

لذلك، كان من لطف الله بعليّ أن احتضنه رسول الله (ص)، وكبر عليّ في طفولته، بحيث أصبح كبيراً وهو صبيّ، لأنه عاش آفاق رسول الله (ص)، وشاركه تأمّلاته وابتهالاته وأفكاره، كان (ص) يسير ومعه عليّ، ويرجع ومعه عليّ، ويجلس في حِرَاء ليتأمَّل ومعه عليّ (ع). وهكذا كبر عليّ مع رسول الله في فكره وفي روحه، قبل أن يكبر في سنِّه وفي عمره. ولهذا، عندما خاطبه رسول الله (ص) بالإسلام، أَسْلَم مبادراً للإسلام، ولم يستشر أباه، وقيل له إنَّ الأطفال في مثل سنِّك يستشيرون آباءهم عندما يريدون أن يقدموا على أيّ عمل، فقال لهم إنَّ الله لم يستشر أبي عندما خلقني، فإذا كانت المسألة أن أسلم لله، فليس عليَّ أن أستشير أبي عندما تكون المسألة مسألة الله.

ومن هذا، نستوحي أنَّ إسلام عليّ (ع) لم يكن ردَّ فعلٍ لعلاقته برسول الله، بل كان فعلاً من موقع قناعته بالإسلام، باعتبار أنَّه استطاع في تلك الفترة أن يحصل على الرّوحيَّة الَّتي تجعله يعي ما معنى الإسلام، ويعي ما معنى الانطلاق مع الله سبحانه وتعالى في كلِّ حياته.

وهكذا انطلق شباب عليّ (ع) في الخطّ الّذي انطلقت طفولته فيه، ليكون الإنسان المجاهد في شبابه، وانطلقت كهولة عليّ بعد ذلك في الخطّ الّذي تحركت فيه طفولته وتحرَّك فيه شبابه، ليكون الكهل والشَّيخ الَّذي ينطلق في الحياة، ليعطي الحياة فكراً وحركةً وتقدّماً وارتفاعاً وروحانيّةً تنطلق بكلِّ طاقاتها في سبيل الحقّ، حتَّى قال: ما ترك لي الحقّ من صديق.

هلْ نكتفي بالمديحِ؟!

ونحن في هذا المجال، هل نقف في مولد عليٍّ (ع) من أجلِ أن نستغرق في مديحه والثَّناء عليه؟ إنَّ عليّاً لا يحتاج إلى ثناء وإلى مديح، تماماً كما قال المتنبّي في ما نسب إليه، عندما قيل له: لِمَ لَمْ تمدح عليَّ بن أبي طالب (ع) وأنت تؤمن به؟ فقال:

وتَركتُ مدحي للوَصيِّ تعمُّداً إذ كانَ نوراً مستطيلاً شامِل

وإذا استطال الشَّيءُ قام بذاتهِ وصفات ضوء الشَّمس تذْهُبُ باطلا

مهما أعطينا مدائح للشَّمس ولنور الشَّمس، فإن نور الشَّمس أكبر من المدائح، ومهما مدحنا عليّاً (ع)، فإنَّ عليّاً أكبر من كلِّ المديح. وهذا ما قاله الشَّاعر المسيحيّ بولس سلامة:

يا سماء اشهدي ويا أرض قَرّي واخشعي إنَّني ذكرت عليّ

لذلك، إنَّنا لا نحتاج إلى أن نعيش كلَّ وقتِنا في مدائحه، ولكنّنا نريد أن نعيش كلَّ وقتنا في دروسه، وفي وصاياه، وفي عظاته، وفي منهجه في الحياة، وفي حركته في كلِّ عمره، أن يكون عليّ مدرستنا الّتي نتعلَّم فيها كيف نكون مع الحقّ، مهما كانت ضريبة الموقف بالنِّسبة إلينا مكلفة.

عليّ (ع) دفع كلّ صداقاته ثمنًا لموقف الحقّ، نحن الَّذين نعمل على أن نربح الصَّداقات من أجل أن نتنازل عن الحقّ، ونحن الَّذين نتحرَّك على أساس أن يكون الباطل كلَّ شيءٍ في حياتنا، من أجل أن نربح النَّاس في صفوفنا، مؤيِّدين ومادحين وتابعين وما إلى ذلك، عندما نقف مع عليّ، نسمعه يقول: ما ترك لي الحقّ من صديق، لأنَّ النَّاس كانوا يريدون منه أن يأخذ بالباطل، وكان عليٌّ الَّذي عاش مع الله، يرتفع بروحه إلى الله، ليسمع كلام الله {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[الحجّ: 62]، وليسمع قول الله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]، فيتحرّك مع الحقّ، حتى لو كلَّفه الحقّ كلّ شيء.

حسابُ اللهِ أوّلاً

هذا درسٌ نتعلَّمه من عليّ (ع)، لننطلق في حقيقة، وهي أنَّنا لا بدَّ دائماً أن نقارن، وأن ندخل في مقارنة بين الله وبين النَّاس، ومشكلة الكثيرين منَّا أنَّهم لا يدخلون في مقارنة بين الله وبين النَّاس، ولكنَّهم يعيشون مع النَّاس وينسون الله تعالى، ولهذا يخطئون، ولهذا يسقطون، ولهذا ينحرفون، ولهذا يتراجعون... الله سبحانه يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ}[البقرة: 165]، فعندما يطرح عليك النّاس أيّ شيء؛ يريدون منك أن تؤيّد، ويريد الله منك أن ترفض، يريدون منك أن تتقدَّم، ويريد الله منك أن تقف، يريدون منك أن تعصي، والله يريد منك أن تطيع، وما إلى ذلك من أمور وقضايا تتَّصل بكلِّ حياتك. هنا، في هذا المجال، هل تقفُ بينَ الله وبينَ النَّاس، لتحسب حساب النَّاس قبل حساب الله، أو تقف لتحسب حساب الله بعيداً من حسابات الناس؟ هذه هي مسألة أن نكون مؤمنين أو لا نكون مؤمنين، أن لا نفكِّر في الناس إذا أردنا أن نتَّخذ الموقف، بل أن نفكّر في الله، حتَّى لو رجمنا النَّاس بالحجارة، أن نفكِّر في الحقِّ حتَّى لو ملأ النَّاس آذاننا سباباً وشتيمةً واتّهاماً، لأنَّنا لن نكون مسؤولين أمام النَّاس، ولكنَّنا مسؤولون أمام الله، لن نقدِّم للنَّاس حساباً في ما نعمله: "الذَّليل عندي عزيزٌ حتَّى آخذ الحقَّ له، والقويّ عندي ضعيفٌ حتَّى آخذ الحقَّ منه"4.

مواجهةُ السّبِّ والبراءةِ

وهكذا رأينا أنَّ عليّاً (ع) عاش مشكلةً في بعض مراحل حياته، أو فيما بعد حياته الَّتي كان يتطلَّع إليها، كان يعرف بثاقب نظره، ومن خلال وعيه لخصومه، أنّهم سيلجأون إلى ما يلجأ إليه الجبناء، يلجأون إلى سبّه وشتمه، فقال لأصحابه: "ألا وإنَّه سيأمركم بسبِّي والبراءة منَّي. فأمَّا السبّ فسبّوني، فإنَّه لي زكاة ولكم نجاة"، سوف تقفون موقفاً، إذا لم تسبّوني ستضربون وتحبسون وتقتلون، "وأمَّا البراءة، فلا تتبرّأوا منّي" في قلوبكم، وفي عقولكم، حتَّى لو أُلزِمتم بالبراءة في كلماتكم، لأنَّ البراءة مني براءة من الإسلام، "فإنّي ولدت على الفطرة"5، وسبقت إلى الإيمان والهجرة، ولذلك من يتبرّأ من الَّذي ولد على الفطرة، فإنه يتبرأ من الإسلام الَذي هو دين الفطرة، ومن يتبرّأ ممن سبق إلى الإيمان والهجرة، فإنَّه يتبرَّأ من الإيمان ومن حركة الهجرة في خطِّ الجهاد.

وهذا هو درس عليٍّ (ع)، عندما نواجه في حياتنا أمثال هذه التّجربة، عندما يراد لنا أن ننطلق في بعض الحالات، لنقوم ببعض التصرّفات أو الممارسات الكلاميّة ضدّ بعض الرموز الكبيرة في حياتنا، من رموز الإيمان، ومن رموز الإسلام، ومن رموز الجهاد، فإنَّ علينا أن نتعلَّم درس عليٍّ (ع)، ليتعلَّمه أولئك الَّذين قدَّر الله لهم أن يكونوا رموزاً، أو الَّذين اعتبروهم كذلك، ألَّا يسقطوا أمام السبّ والشَّتم، ولكن أن يرتفعوا بعملهم وبروحهم وبروحانيَّتهم كلَّما سُبُّوا أكثر، أن يقدِّروا ظروف النّاس أكثر.

الاعتدالُ في العلاقاتِ

من دروس عليٍّ (ع) في حياتنا الاجتماعيّة، أنّه أراد لنا أن نكون حذرين واقعيّين في العلاقات، ربما تكون بعض هذه الكلمات الصَّغيرة تمثِّل دروساً كبيرة في الواقع، ونحن الآن، وكما كنَّا، في مدرسة عليٍّ (ع)، وقد اخترت هذه الكلمات، حتَّى نستطيع أن نتعرَّف إلى فكر عليٍّ في حركة العلاقات الاجتماعيَّة، وفي حركة الحبِّ والبغض في الواقع، لنعرف من خلال عليٍّ كيف نمارس حياتنا من دون أيِّ سقوطٍ، ومن دون أيّ خطأ.

نحن، مثلاً، لنا عداوات، ولنا صداقات، لنا من نحبُّه ولنا من نبغضه، ربما تكون طريقتنا أنَّنا نحبّ حبّاً أعمى ونبغض بغضاً أعمى، نحبّ مئة في المئة ونبغض مئة في المئة، بحيث إذا أحببنا شخصاً، فإنَّنا نربط كلّ الجسور الَّتي تصلنا به، وإذا أبغضنا شخصاً، فإنَّنا ننسف كلَّ الجسور بيننا وبينه، نحن متعصّبون في حبّنا، ومتعصّبون في بغضنا، لا تحفّظ عندنا في مسألة الحبّ، ولا تحفّظ عندنا في مسألة البغض، نموت على الحبّ، ونموت على البغض. هنا، الإمام عليّ (ع) يريد أن يجعلنا معتدلين في حبّنا وبغضنا، الاعتدال الذي يفرضه الواقع، ماذا قال؟: "أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"6. العواطف تتغيَّر، والأوضاع تتبدَّل، ربما يكون حبيبُ اليوم عدوَّ الغد، وربما يكون عدوُّ اليوم حبيبَ الغد، سواء كان الحبُّ حبّاً فرديّاً ينطلق من حالة ذاتيّة عاطفيّة، أو كان حبّاً ينطلق من قضايا فكريَّة أو سياسيَّة أو اجتماعيَّة، اجعل هناك جسراً يربطك بمن تبغضه، واجعل هناك بعض الجسور الَّتي تحميك ممن تحبّه.

إذا ربطت كلَّ الجسور بمن تحبّه، فإذا تحوَّل إلى مبغض، فإنَّك لا تستطيع أن تحمي نفسك منه، وهذا يعطي فكرة، فالمقصود من الجسور في هذا المجال، أن تعطي كلَّ أسرارك لمن تحبّه، وأن تجعله شريكاً في كلّ أموالك، وفي كلّ أعمالك، تجعله مستودع كلّ أسرارك، تجعله متدخّلاً بكلّ شؤونك، حتى الشؤون العائليَّة، كما يقول بعض النَّاس: ليس بيني وبين فلان إلَّا الَّذي حرَّمه الله.

الإمام (ع) يقول هذا خطأ، هو لا يريد أن يبغِّض بعضنا بعض، ولكنّه يريد أن يقول إنَّ الإنسان هو الشَّخص الوحيد في العالم الَّذي يمكن أن يتلوَّن بألف لونٍ في اليوم الواحد، فاللَّمسة تغيّره، والبسمة تغيِّره، والعبوس يغيِّره... كلّ شيءٍ من حوله؛ الطّعام يغيِّره، الرَّائحة تغيِّره... لذلك، عليك أن تفهم في حياتك أنَّه ليس هناك دوام في العلاقات الإنسانيَّة، لأنها قد تهتزّ. لذلك، احم نفسك من صديقك، اجعل لنفسك شيئاً تهرب منه، وهذا استعاره بعض الشّعراء، يقول:

احذر عدوَّك مرَّة واحذر صديقك ألف مرَّة

فلربَّما انقلب الصَّديق فكان أعرف بالمضرَّة

أَعطِ صديقك المحبَّة، ولكن اجعل لنفسك شيئاً تحترس فيه من المفاجآت.

وهكذا، إذا أبغضت إنساناً، فعليك أن تبقي جسراً يربطك به عندما يفكّر أن يعود إليك، أو تفكِّر أن تعود إليه.

هذا درس اجتماعيّ في الحياة، حتى يكون الإنسان واقعيّاً في حبّه، وواقعيّاً في بغضه، بحيث يعرف كيف يحرّك حبَّه، وكيف يحرّك بغضه.

الثّقةُ المدروسةُ

وهناك كلمة في هذا الاتّجاه، ولكن في مجالٍ آخر، يقول الإمام (سلام الله عليه): "لا تثقنّ بأخيك كلَّ الثّقة، فإنَّ صرعة الاسترسال لن تستقال"7. يعني إذا أردت أن تثق بالنَّاس، والنَّاس أقسام؛ هناك علماء، هناك صلحاء، هناك سياسيّون، هناك اقتصاديّون، هناك شخصيَّات اجتماعيَّة، هناك أقرباء... هناك نوعان من أنواع الثِّقة: هناك إنسانٌ يتحدَّث عن ثقته ببعض الأشخاص، فيقول: أنا أثق بفلانٍ ثقةً عمياء، بحيث أمشي وراءه وأنا مغمض العينين، وأمشي معه على "الدَّعسة"، حسب التَّعبير الشَّعبي، فحيثما يمشِ أمشِ، وهناك من يتحفَّظ، بحيث يمشي معه سبعين في المئة ويترك ثلاثين في المئة.

الإمام (ع) يقول: مهما كانت ثقتك بالشّخص، فإنَّ عليك أن تفكّر أنّه ليس معصوماً، وعليك أن تفكِّر أنّه ليس مكشوفاً لك بكلِّه. ربما يكون هذا الإنسان الَّذي تثق به ليس موضع ثقة، لأنه يخفي عنك شيئاً لا تعرفه، ولبساطتك وطهارتك، فإنّك تثق به، وربما كان إنساناً بمستوى الثِّقة، ولكنه قد ينحرف، وقد يخطئ، وقد يتغيّر، وقد يتبدّل، وهذا واقع الحياة.

الإمام (ع) يقول: أنا لا أقول لكم لا تثقوا بالنّاس، ولكن كونوا واقعيّين في الثقة، لا تثقوا مئة في المئة، ولكن اتركوا عشرين في المئة أو ثلاثين في المئة كاحتياط، كفاصلٍ بينك وبينه، حتى إذا أراد هذا الإنسان أن يوقعك في حفرة، فإنَّك تستطيع أن تكتشفه قبل أن تبلغها. وأحسن مثلٍ في هذه المسألة، سيَّارة تسير خلف سيّارة وتسيران بالسّرعة ذاتها، فأيّ حادث ولو كان صغيراً سيكون مميتاً، ولكن لو كان بينك وبين السّيّارة الأخرى عشرين متراً أو ثلاثين متراً، فستستطيع أن تحمي نفسك، وحتَّى لو اصطدمت، فيكون الاصطدام خفيفاً. وهذا أمر نحتاجه، حتى نحمي أنفسنا من مفاجآت الَّذين نثق بهم، مفاجآت تَبَدُّلهم وتَغَيّرهم، أو مفاجآت الخفايا الَّتي يمكن أن يستروها عنَّا في حياتهم الخاصَّة والعامَّة.

هذه نقطة، والنّقطة الثَّانية، عندما نعطي النَّاس ثقةً عمياء، نجعلهم يتصوَّرون أنَّنا سذَّج، وأنَّنا بسطاء، وذلك يغريهم بأن يأخذوا حرّيتهم في اللَّعب علينا، وفي الضَّحك علينا، استغلالاً لهذه الثّقة العمياء. الآن، الشَّيء الَّذي عشناه، ولا زلنا نعيشه في واقعنا السياسيّ، وفي واقعنا الاجتماعيّ أيضاً، كم من النَّاس الَّذين كانوا سابقاً يتبعون الزّعماء، فيثقون بالزَّعيم ثقةً عمياء، ثمَّ تنكشف المسألة أنَّ هذا الزَّعيم يطرحهم في سوق المزاد؛ عنده عشرة آلاف رأس، أو عشرة آلاف صوت، أو عشرين ألفاً، وتأتي السَّفارات، وتأتي الحكومات؛ بكم تبيعنا هذه الأصوات؟ وكيف يمكن أن تعمل لنا مهرجاناً أو مظاهرة، أو أيّ شيء.. وتتمّ عمليات القبض والدَّفع على هذا الأساس.

هذا واقع موجود.. الثّقة العمياء تجعلنا لا نفكِّر في ما يعمَل هذا الزَّعيم، الثّقة العمياء تجعلنا نقول إنَّه حتَّى لو أخطأ فهذا صواب، وحتى لو أجرم نقول إنَّ الجريمة عدالة، كما قال الشَّاعر:

وعين الرِّضا عن كلِّ عيب كليلة كما أنّ عين السّخط تبدي المساوي

هذه هي المسألة: من الَّذي جرّأ هؤلاء الَّذين يتحركون بفعل أجنبيّ، وبفعل القوى المنحرفة في مجتمعنا، مَنِ الَّذين جرَّأهم أن يلعبوا، وأَن يدسّوا، وأن يخونوا؟! نحن الَّذين جرَّأناهم، عندما أعطيناهم الثِّقة المطلقة، ولم نتحفَّظ في ثقتنا لنحمي أنفسنا من انحراف هذا الإنسان الَّذي نعطيه الثّقة.

وهكذا، تبدَّلت الموضة، ولكنَّ الفكرة بقيت هي ذاتها؛ كانت مسألة زعماء، صارت مسألة أحزاب، صارت مسألة حركات، صارت مسألة منظَّمات، صارت أشياء من هذا القبيل، والعقليَّة ذاتها الَّتي كانت بالنِّسبة إلى الزَّعيم، صارت أيضاً للحزب، للحركة، للمنظَّمة، للجماعة، والنَّهج ذاته هو الإيمان الأعمى بها.

في تجربتنا اللّبنانيَّة، نحن نعرف أحزاباً وجهات كانت في أقصى اليمين، فصارت في أقصى اليسار، الجماعة الَّتي كانت مع هذا الزَّعيم، رأساً تحوَّلت قاعدة هذا الحزب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. هناك جماعة رأسماليّون إقطاعيّون صاروا اشتراكيّين. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنَّنا أغلقنا عقولنا، وأغلقنا كلَّ حياتنا، وقلنا لأنفسنا: المسألة مسألة فلان، وعلينا أن ننطلق على أساس ما يفعل بنا فلان، كما قال الشَّاعر:

وما أنا إلَّا من غُزَيّةَ إن غوَتْ غويْتُ وإنْ ترشدْ غُزَيّةُ أرشدِ

هنا، الإمام عليّ (ع) يقول: عندما تعطي الثّقة، فعليك أن تعطيها من خلال دراسة، وعندما تفكّر أنَّ هذا الإنسان ليس مكشوفاً لك بكلّ خصائصه، وأنَّ هذا الإنسان ليس معصوماً، فمن الطبيعيّ عند ذلك أن تتحفَّظ في ثقتك، حتى إذا صرعتك التّجربة، فإنَّك تستطيع أن تقوم من صرعتك.

هذا درسٌ اجتماعيٌّ نأخذه من عليّ (ع). وبهذا، نكفّ عن أن نثق بأيّ شخص ثقة مطلقة وثقة عمياء. والحذر لا يعني أنَّك تخون من تثق به، ولكن أن تعينه على نفسه في هذا المجال.

المعروفُ كخطٍّ في الحياةِ

هناك درس اجتماعيّ آخر من دروس الإمام عليّ (ع) التي نستطيع من خلالها أن ننفتح على الواقع بشكل أساسيّ.. هناك فكرة موجودة عند النَّاس، ولعلَّها في ما بيننا، وهذه الفكرة هي أنَّنا عندما نحسن إلى بعض النّاس، بحيث نخدمهم، ونقدِّم إليهم ما نقدِّمه من معونات ومساعدات وخدمات وما إلى ذلك، ربما نفاجأ بأنَّ الَّذين نخدمهم يقفون ضدَّنا، فلا يشكرون خدماتنا ولا يقدِّرونها، بل ربما يحوِّلونها إلى شرّ، على طريقة الكلمة: "اتَّقِ شرَّ من أحسنت إليه". وعلى هذا الأساس، عندما تخدم، وتفاجأ بالنَّتائج السَّلبيَّة للخدمة، فترى أنَّ الشَّخص الَّذي خدمته لم يشكرك، ولم يعترف بالجميل، تقول: التوبة، لن أخدم أحداً بعد اليوم. ويوجد بعض التجَّار يكتبون على محلَّاتهم: "الدَّين ممنوع بأمرِ من قطعَ سبيلَ المعروف"، لأنّ بعض النّاس استدان منهم ولم يردّوا الدَّين.

يأتي الإمام (ع) ليعالج هذه المسألة، حتى يغيِّر لنا مفاهيمنا السلبيَّة، ونصبح إيجابيّين. يقول الإمام (ع): "لا يزهدنَّك في المعروف من لا يشكره لك". يعني لو أنَّك قدَّمت معروفاً إلى شخص، ولم يشكرك على معروفك، فعليك ألَّا تزهد في المعروف على هذا الأساس، "فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشيءٍ منه"، بحيث إنَّ بعض النَّاس الَّذين ينظرون إليك وأنت تعمل المعروف وتخدم النَّاس والنَّاس لا يشكرونك، هؤلاء لا ينتفعون منك، ولكنهم يقدِّرون ما تقوم به من معروف، ويشكرونك على هذا الأساس. "وقد يدرك من شكر الشَّاكر أكثر مما أضاع الكافر"8، ربما تحصل نتائج من هؤلاء النَّاس الَّذين لم ينتفعوا منك، لكنهم يحبّون الشَّخص الذي يعمل المعروف، وربّما تحصل نتائج ماديّة ومعنويّة منهم أكثر من الشَّخص الذي أنكر معروفك ولم يشكره.

وهذا واقع موجود، النَّاس الطيّبون في الحياة، النّاس العاملون في الحياة، الناس الذين يعيشون حسّ المسؤولية في الحياة، لا يبلغون ما يبلغونه من خلال النَّاس الّذين يخدمونهم، ربما يبلغون ما يبلغونه من خلال النَّاس الَّذين لا ينتفعون منهم بشيء.

لهذا، علينا ألَّا نفكِّر في أنَّنا إذا قمنا بمعروف ولم يشكره النّاس لنا، أن نترك المعروف.. علينا أن نكون حذرين، ولكن علينا أن نؤمن بالمعروف كخطّ في الحياة. يوجد كلمة للامام السجّاد (ع) في وصيته لولده محمد الباقر (ع): "افعل الخير إلى كلِّ من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله"9.

هذا ما يجب أن نفهمه في حياتنا العامَّة.

في خطِّ الجهادِ

وهناك نقطة يجب أن نفهمها في ختام الكلام عن عليّ (ع)، هي أنَّنا لو درسنا حياة عليّ (ع)، لرأينا حياته جهاداً من أجل الإسلام، بحيث إنَّ بطولته كانت في مواقع الحرب، عندما أراد الإسلام منه أن يحارب، وكانت بطولته في صبره في مواقع السِّلم عندما أراد الإسلام منه أن يسالم، وكانت بطولته في مواقع العلم عندما أراد الإسلام منه أن يعلِّم النَّاس، وأن يتحرَّك من أجل أن يرفع من مستوى النَّاس.

عليّ (ع) بالنِّسبة إلينا هو القمَّة الَّتي نتطلَّع إليها.. لا بدَّ لنا من أن نعمل على أساس أن يكون كلُّ واحد منّا عليّاً ولو بنسبة العشرة في المئة، لأنَّنا إذا أحببناه، فإنَّ معنى حبِّنا له أنَّنا نحبّ فكره، ونحبّ جهاده، ونحبّ زهده، ونحبّ إخلاصه لله، ونحبّ تفانيه في سبيل الإسلام. فإذا كنا نحبّ عليّاً لهذه الصّفات، فمعنى ذلك أنَّنا نحبُّ هذه الصِّفات، وإذا كنا نحبُّها، فلا بدَّ أن نجسِّدها في الواقع.

عليٌّ (ع) جاهد المشركين وهو في أوَّل شبابه، وانطلق في حياته كلِّها من بدرٍ إلى أُحد إلى الأحزاب إلى خيبر إلى حنين، إلى كلِّ المواقع الَّتي حارب فيها رسولُ الله (ص) المشركين، وقف عليٌّ مجاهدًا من أجل إعلاء كلمة الله، ومن أجل أن يكون الدِّين كلّه لله، ومن أجل أن ترتفع كلمة التَّوحيد، ومن أجل أن يسقط استكبارَ المستكبرين، عندما كانت قوى الشِّرك تمثِّل الاستكبارَ الَّذي يضطهد المستضعفين. لذلك، كان عليُّ (ع) نصيرَ المستضعفين ضدّ المستكبرين، ووقفَ (ع) ضدَّ اليهودِ في خيبر، وفي غزوةِ بني قريظة وبني النّضير، وما إلى ذلك، لأنَّه كان يعرفُ خطورةَ اليهودِ على الواقعِ الإسلاميِّ كلِّه.

لذلك، نحن الآن أمام التحدّي الّذي نواجهه.. بكلّ بساطة، هناك شرك سياسيّ يتحرَّك في العالم يتمثَّل بالمستكبرين، ولا سيَّما الاستكبار الأمريكيّ الّذي يريد أن يفرض نفسه على كلّ مواقع المستضعفين، ليصادر ثرواتهم، وليمنع نموَّهم الاقتصاديّ، وليجعلهم هامشاً من هوامش سياسته واقتصاده وكلّ واقعه وحضارته.. إنَّنا نواجه هذه المسألة تماماً كما كان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم، فإنَّ أمريكا تريد أن تفتن المسلمين عن كلّ قضاياهم، بما في ذلك إسلامهم، فكيف نواجه الموقف؛ هل نخضع، هل ننحني، أو أنَّنا نقف لنقول كما قال عليّ (ع): "لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت إليها"10. وهذا يعني أن نقف لنتحمَّل مسؤوليّتنا في هذا المجال.

قال له عمر بن عبد ودّ، وقد سأله: من أنت؟ قال: أنا عليّ بن أبي طالب. قال: إنَّ أباك كان صديقاً لي، وأنا لا أحبُّ أن أقتلَك، لأنَّك ابن صديقي. قال: ولكنّي أحبُّ أن أقتلك لأنَّك عدوُّ الله.

وهكذا، عندما جبن الجميع عن مرحب، انطلق عليٌّ (ع)، وعندما تحدَّاه مرحب، وقال له: أنا الَّذي سمّتني أمّي مرحباً، وأنشد يقول:

قد علمت خيبر أني مرحــب شاكي السِّلاح بطلٌ مجرَّب

قال (ع) له:

أنا الّذي سمَّتني أمِّي حيدره ضِرغامُ آجامٍ وَلَيثُ قَسوَرَه

وانطلق وقدَّه نصفين، وانطلق إلى القلعة، فأخذ الباب، واستطاع أن يجعله معبراً وممراً للمسلمين.

مسؤوليَّةُ صناعةِ القوّةِ

هل نكتفي أن نزهو ببطولات عليّ، ونقول مع ابن أبي الحديد:

يا قالع الباب الَّذي عن هزّه عجزت أكفٌّ أربعون وأربعُ

أو أنَّنا نعمل على أن نقوِّي سواعدنا لتكون في قوّة ساعد عليّ، وأن نقوّي قلوبنا لتكون في ثبات قلب عليّ، وأن نقوّي مواقعنا لتكون في قوَّة مواقع عليّ، حتَّى نستطيع أن نعذر إلى الله أنَّنا انطلقنا من أجل عزَّتنا وعزَّة الأمَّة كلِّها؟!

التحدّي كبير، أيُّها الإخوة والأخوات، أن ننطلق لنواجه هذا التحدّي. كانت عظمة عليّ (ع) أنَّه عاش كلَّ قضايا عصره، وأنَّه واجه كلَّ تحدِّيات عصره، وأنَّه أطلق التحدِّيات في مواجهة الآخرين. لقد كان عليّ (ع) إنساناً تحمَّل المسؤوليَّة في كلّ شيء، وقد قضى ما عليه، والله يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}. عليّ (ع) كان البطل، محمَّد (ص) كان العظيم، الحسين (ع) كان الشَّهيد... كلّ ذلك التَّاريخ المملوء بالعظمة انتهى وليس مسؤوليَّتكم، إنَّه مسؤوليَّتهم هم العظماء، هم الأبطال، هم الكبار {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].

لا بدَّ أن نعيش قضايا عصرنا، لا بدَّ أن نعيش مشاكل أمَّتنا، لا بدَّ أن نواجه التحديات الكبيرة، حتى لا نكون مجرَّد هامشٍ من هوامش الصهيونيَّة، أو نكون مجرّد تابع من توابع الاستكبار الأمريكيّ.

أنا لا أقول إنَّ علينا في ما نريد أن نواجهه من الواقع، أن نتحرَّك على طريقة الفوضى، أو نتحرَّك بشكلٍ غير مخطَّط، إنَّني أقول إنَّ علينا أن نخطِّط لخمسين سنة، لمئة سنة، لكن المهمّ أن نبدأ الخطوة الأولى الَّتي تنطلق في اتجاه النَّصر واتجاه القوَّة، لا أن نكون في الواقع الَّذي يستضعف بعضنا بعضاً، ويجبّن بعضنا بعضاً.

معنى الانتماءِ إلى عليٍّ (ع)

إنّني أقول لكم، أيّها الأحبّة، إنَّ انتماءنا إلى عليّ (ع) في الخطِّ يحمِّلنا مسؤوليَّة كبيرة، وتلك المسؤوليَّة هي أن نتحرّك في الخطوط الَّتي تحرَّك بها، وأن ننطلق في الآفاق التي انطلق بها.

أتسمعون إمامكم عليّاً ماذا كان يقول؟ كان يقولها لمن في زمنه، وهو يقولها الآن: "ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينونني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد"11.

أن ننطلق في الورع وفي العفَّة وفي الاجتهاد في تحمّل المسؤوليّة، وفي السّداد في الرّأي، ذلك ما يريده عليّ (ع)، وذلك هو معنى التشيّع لعليّ. ليس التشيّع لعليّ تشيّعاً لشخصه، ولكن التشيّع لعليٍّ تشيّعٌ لخطِّهِ، وتشيّعٌ لنهجِهِ، وتشيّعٌ لأهدافِهِ، وهذا ما قاله الإمام محمد الباقر (ع): "حسب الرَّجل أن يقول: أحبُّ عليّاً وأتولَّاه ثمَّ لا يكون مع ذلك فعَّالاً؟

فلو قال: إنِّي أحبُّ رسول الله، فرسول الله (ص) خير من عليّ، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنَّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً". ثم قال: "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلَّا بالعمل والورع"12.

لذلك، خطّ التشيّع هو خطّ الإسلام الحركيّ الرّافض للباطل كلّه، الرّافض للظّلم كلّه، الرّافض لكلّ انحراف عن خطّ الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* محاضرة ألقاها سماحته في ذكرى ولادة أمير المؤمنين (ع)، بتاريخ: 20 – 1 – 1992م.

[1]مبادئ الحكمة، السيّد محمّد تقي المدرسي، ج1، ص 274.

[2]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج41، ص 85.

[3]بحار الأنوار، ج3، ص 281.

[4]نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ (ع)، ج1، ص 89.

[5]نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ (ع)، ج1، ص 106.

[6]نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ (ع)، ج4، ص 64.

[7]الكافي، الشّيخ الكليني، ج2، ص 672.

[8]شرح نهج البلاغة، ج19، ص 24.

[9]جامع أحاديث الشّيعة، السيّد البروجردي، ج14، ص 487.

[10]بحار الأنوار، ج 41، ص 68.

[11]بحار الأنوار، ج 33، ص 474.

[12]الكافي، ج2، ص 74.

الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسَلين.

في ذكرى مولده (ع)، قد نحتاج إلى أن نولد من جديد، لأنَّ للإنسان في حياته ولادتين؛ يولد يوم يفتح عينيه على الحياة في أوَّل صرخة له في هذا الوجود، ويولَد من جديد يوم يبدأ يفكِّر ويتعلَّم وينمو ويعمل، ويتحوَّل إلى عنصر يستطيع أن يعطي الحياة، في كلّ موقع من مواقعه، شيئاً جديداً؛ يعطي الحياة من فكره، ليولد للحياة فكرٌ جديدٌ، ويعطي الحياة من طاقته، لتولَد للحياة طاقةٌ جديدة، لأنَّ الله أراد للكون أن يبقى في حالة تجدّدٍ دائم، حتى يستمرّ العطاء.

وهكذا، رأينا أنَّ الله عندما أفاض علىينا من نعمه بالشَّمس الَّتي تمنحنا الدّفء والحرارة والنّور، جعل الشَّمس تتجدَّد في كلّ يوم، وعندما تغيب عن أفقٍ، فإنّها لا تنام ولا تنطفئ، ولكنَّها تغرب في أفقٍ لتشرق في أفقٍ آخر.

وهكذا، أعطانا الله سبحانه وتعالى تدفّق الينابيع، فالينبوع يتفجَّر في كلّ سنة، من أجل أن يعطي الرّخاء للإنسان في كلِّ أرض، وفي كلِّ موقع.

ونحن، أيُّها الأحبَّة، نحتاج أن نتجدَّد دائماً؛ أن نجدِّد طاقتنا، فلا نقبل بما عندنا من الطاقة، بل لا بدَّ من أن نضيف إلى هذه الطّاقة طاقةً جديدة، لأنَّنا إذا بقينا على طاقتنا الأولى، فسوف نتجمَّد، وسوف نموت قبل أن نموت، لكن عندما نأخذ في كلِّ يوم طاقة جديدة، نصنعها من نشاطنا وفكرنا وحركتنا، ومن كلِّ مواقعنا في الحياة، عندها نحيا في طاقات جديدة.

حبٌّ ملأَ قلبَ عليٍّ (ع)

وهذا ما نستوحيه من عليٍّ (ع) يوم وُلِدَ، فقد انفتح على النّور لأوَّل مرّة في بيت الله، وعندما أحسَّ بنور الله ينطلق إلى قلبه الطّفوليّ، تحرَّك (ع)، وعاش في عمق إحساسه التطلّع إلى أن يكون إنسان الله في الحياة، الإنسان الَّذي يعيش مع الله في كلِّ حياته، فعندما يفكِّر، فإنَّ الله يملأ فكره، وعندما يتكلَّم، فالله يملأ كلماته، وعندما ينطلق في الحياة، فالله يتحرَّك في كلِّ طاقاته.

لم يغب الله عن عليٍّ لحظةً، قالها (ع) في ما تحدَّث به عن انفتاحه الكلِّيّ على الله تعالى: "ما رأيْتُ شيئاً إلَّا ورأيْتُ اللهَ قبلَهُ وبعدَهُ ومَعَه"1. نحن عندما نتطلَّع إلى ما حولنا، فإنَّنا نُشْغَل بما نتطلَّع إليه عن الله، ولكنَّ عليّاً كان عندما يتطلَّع إلى كلِّ الأشياء، مهما صغرت، ومهما كبرت، يرى الله في كلّ شيء، باعتبار ما نستوحيه من أنَّ كلَّ شيء مظهرٌ من مظاهر عظمة الله، وهذا ما عبَّر عنه بعض الشُّعراء:

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنَّهُ واحدُ

وهكذا لاحظنا عليّاً (ع) عندما يجلس بين يدي الله، ماذا يطلب من الله؟ وماذا يريد منه؟ إنّكم تقرأون دعاء كميل ليلة الجمعة، هل تنبَّهتم إلى الفقر الأخيرة من دعاء كميل؟: "يا ربّ يا ربّ يا ربّ، أسألُكَ بحقِّكَ وقدسِكَ وأعظمِ صفاتِكَ وأسمائِكَ، أن تجعلَ أوقاتي في اللَّيلِ والنَّهارِ بذكرِكَ معمورةً، وبخدمتِكَ موصولةً، وأعمالي عندَكَ مقبولةً، حتَّى تكونَ أعمالي وأورادي كلُّها ورداً واحداً، وحالي في خدمتِكَ سرمداً. يا سيِّدي، يا مَن عليه معوَّلي، يا مَن إليه شَكَوْتُ أحوالي، يا ربِّ يا ربِّ يا ربّ، قوِّ على خدمتِكَ جوارحي، واشدُدْ على العزيمةِ جوانحي، وهبْ ليَ الجدَّ في خشيتِكَ، والدَّوامَ في الاتِّصالِ بخدمتِكَ، حتَّى أسرحَ إليْكَ في ميادينِ السَّابقين، وأُسرعَ إليكَ في المبادرين، وأَشتاقَ إلى قربِكَ في المشتاقين، وأَدنوَ منك دنوَّ المخلصين، وأَخافَكَ مخافةَ الموقنين، وأَجتمعَ في جوارِكَ مع المؤمنين".

هذا هو الحبّ الأصيل لله، الحبّ الشَّامل، إنَّه يريد من الله أن يمنحه لطفه، بأن يجعل شغله في كلّ أوقاته معه، وفي خدمته وبين يديه. لم يطلب عليّ (ع) من الله أن يعطيه شيئاً من شؤون الحياة، لأنَّ الله تكفَّل بحاجات الإنسان في الحياة، ولكنَّه طلب من الله أن يعطيه ما يروي به ظمأ حبِّه له، ويعطيه ما يجسِّد إخلاصه له في الحياة.

أيُّها الأحبَّه، هذا هو درس عليّ، وهذا هو الَّذي يمثِّل اختصار كلّ حياة عليّ؛ أنه باع نفسه لله، وأحبّ الله سبحانه وتعالى فأحبّه الله لذلك، وهذا ما عبَّر عنه رسول الله (ص) عندما قال: "لأعطينَّ الرّاية غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَهُ ويحبُّه اللهُ ورسوله"2. هذا ما ينبغي لنا أن نتعلَّمه من عليٍّ (ع)، أن نحبَّ الله ورسوله حبّاً هو العشق، وحبّاً هو الذَّوبان، وحبّاً هو الانفتاح على الله، وحبّاً هو السَّعي في كلّ ما يرضاه الله ورسوله، ليحبّنا الله، والله يحبّنا إذا أطعناه، والله يحبّنا إذا انطلقنا في الحياة من أجل تحقيق رضاه {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[آل عمران: 31].

طفولةٌ منفتحةٌ على الله

ولد (ع)، وفي روحه الانفتاح على الله بكلّه، وكان في طفولته الأولى يتطلَّع في ما يشبه الإحساس الخفيَّ لطفولةٍ تعيش مع الله، من أجل أن تركِّز قاعدةً لشباب يجاهد في سبيل الله، ومن أجل أن تفتح أفقاً لكهولة تحلِّق في آفاق الله، وتسعى في خدمة الله.

وكان عليّ (ع) على موعدٍ مع رسول الله قبل أن يختاره الله لرسالته، وهكذا احتضنه رسول الله في ظروفٍ هيَّأها الله له. لم يكن عليٌّ (ع) يتيماً، فقد كان أبوه وأمّه موجودين، ولكنَّ المشاكل الماديَّة أثقلت أباه، فأراد رسول الله أن يساعده، فأخذ عليّاً ليحتضنه.

وهكذا كان لطف الله بعليّ، لأنَّ مسألة الطفولة هي القاعدة لولادة شخصيّة الإنسان. كثير من الأطفال لم يتح لهم أن يعيشوا التربية الصَّالحة، فصاروا معقَّدين، ينطلقون من الحياة من موقع عقدة، ليتعقَّدوا وليعقِّدوا الآخرين من حولهم. كثير من الأطفال الَّذين لم يرزقوا التربية الصَّحيحة، تحوَّلوا إلى مجرمين يفسدون الحياة ويجرمون في حقّها. ولذلك، كانت مسألة الطّفولة قضيّة أساسيّة في مسألة الرّعاية ومسألة التربية ومسألة العناية ومسألة الاهتمام، وهذا ما عبَّر عنه رسول الله (ص): "كلُّ مولودٍ يولَد على الفطرة"، لو انطلق في الاتجاه الطَّبيعيّ العفويّ، فالإنسان المولود يتحرَّك تماماً كما الينبوع الّذي ينساب في الأرض بشكل عفويّ طبيعيّ، "حتّى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه"3. الحواجز التي تقف بين الإنسان وبين الامتداد، تماماً كما هي الحواجز الَّتي تقف بين الينبوع وبين الانطلاق إلى مجاريه الَّتي يعطي فيها الخصب.

من لطفِ اللهِ بعليٍّ (ع)

لذلك، كان من لطف الله بعليّ أن احتضنه رسول الله (ص)، وكبر عليّ في طفولته، بحيث أصبح كبيراً وهو صبيّ، لأنه عاش آفاق رسول الله (ص)، وشاركه تأمّلاته وابتهالاته وأفكاره، كان (ص) يسير ومعه عليّ، ويرجع ومعه عليّ، ويجلس في حِرَاء ليتأمَّل ومعه عليّ (ع). وهكذا كبر عليّ مع رسول الله في فكره وفي روحه، قبل أن يكبر في سنِّه وفي عمره. ولهذا، عندما خاطبه رسول الله (ص) بالإسلام، أَسْلَم مبادراً للإسلام، ولم يستشر أباه، وقيل له إنَّ الأطفال في مثل سنِّك يستشيرون آباءهم عندما يريدون أن يقدموا على أيّ عمل، فقال لهم إنَّ الله لم يستشر أبي عندما خلقني، فإذا كانت المسألة أن أسلم لله، فليس عليَّ أن أستشير أبي عندما تكون المسألة مسألة الله.

ومن هذا، نستوحي أنَّ إسلام عليّ (ع) لم يكن ردَّ فعلٍ لعلاقته برسول الله، بل كان فعلاً من موقع قناعته بالإسلام، باعتبار أنَّه استطاع في تلك الفترة أن يحصل على الرّوحيَّة الَّتي تجعله يعي ما معنى الإسلام، ويعي ما معنى الانطلاق مع الله سبحانه وتعالى في كلِّ حياته.

وهكذا انطلق شباب عليّ (ع) في الخطّ الّذي انطلقت طفولته فيه، ليكون الإنسان المجاهد في شبابه، وانطلقت كهولة عليّ بعد ذلك في الخطّ الّذي تحركت فيه طفولته وتحرَّك فيه شبابه، ليكون الكهل والشَّيخ الَّذي ينطلق في الحياة، ليعطي الحياة فكراً وحركةً وتقدّماً وارتفاعاً وروحانيّةً تنطلق بكلِّ طاقاتها في سبيل الحقّ، حتَّى قال: ما ترك لي الحقّ من صديق.

هلْ نكتفي بالمديحِ؟!

ونحن في هذا المجال، هل نقف في مولد عليٍّ (ع) من أجلِ أن نستغرق في مديحه والثَّناء عليه؟ إنَّ عليّاً لا يحتاج إلى ثناء وإلى مديح، تماماً كما قال المتنبّي في ما نسب إليه، عندما قيل له: لِمَ لَمْ تمدح عليَّ بن أبي طالب (ع) وأنت تؤمن به؟ فقال:

وتَركتُ مدحي للوَصيِّ تعمُّداً إذ كانَ نوراً مستطيلاً شامِل

وإذا استطال الشَّيءُ قام بذاتهِ وصفات ضوء الشَّمس تذْهُبُ باطلا

مهما أعطينا مدائح للشَّمس ولنور الشَّمس، فإن نور الشَّمس أكبر من المدائح، ومهما مدحنا عليّاً (ع)، فإنَّ عليّاً أكبر من كلِّ المديح. وهذا ما قاله الشَّاعر المسيحيّ بولس سلامة:

يا سماء اشهدي ويا أرض قَرّي واخشعي إنَّني ذكرت عليّ

لذلك، إنَّنا لا نحتاج إلى أن نعيش كلَّ وقتِنا في مدائحه، ولكنّنا نريد أن نعيش كلَّ وقتنا في دروسه، وفي وصاياه، وفي عظاته، وفي منهجه في الحياة، وفي حركته في كلِّ عمره، أن يكون عليّ مدرستنا الّتي نتعلَّم فيها كيف نكون مع الحقّ، مهما كانت ضريبة الموقف بالنِّسبة إلينا مكلفة.

عليّ (ع) دفع كلّ صداقاته ثمنًا لموقف الحقّ، نحن الَّذين نعمل على أن نربح الصَّداقات من أجل أن نتنازل عن الحقّ، ونحن الَّذين نتحرَّك على أساس أن يكون الباطل كلَّ شيءٍ في حياتنا، من أجل أن نربح النَّاس في صفوفنا، مؤيِّدين ومادحين وتابعين وما إلى ذلك، عندما نقف مع عليّ، نسمعه يقول: ما ترك لي الحقّ من صديق، لأنَّ النَّاس كانوا يريدون منه أن يأخذ بالباطل، وكان عليٌّ الَّذي عاش مع الله، يرتفع بروحه إلى الله، ليسمع كلام الله {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[الحجّ: 62]، وليسمع قول الله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]، فيتحرّك مع الحقّ، حتى لو كلَّفه الحقّ كلّ شيء.

حسابُ اللهِ أوّلاً

هذا درسٌ نتعلَّمه من عليّ (ع)، لننطلق في حقيقة، وهي أنَّنا لا بدَّ دائماً أن نقارن، وأن ندخل في مقارنة بين الله وبين النَّاس، ومشكلة الكثيرين منَّا أنَّهم لا يدخلون في مقارنة بين الله وبين النَّاس، ولكنَّهم يعيشون مع النَّاس وينسون الله تعالى، ولهذا يخطئون، ولهذا يسقطون، ولهذا ينحرفون، ولهذا يتراجعون... الله سبحانه يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ}[البقرة: 165]، فعندما يطرح عليك النّاس أيّ شيء؛ يريدون منك أن تؤيّد، ويريد الله منك أن ترفض، يريدون منك أن تتقدَّم، ويريد الله منك أن تقف، يريدون منك أن تعصي، والله يريد منك أن تطيع، وما إلى ذلك من أمور وقضايا تتَّصل بكلِّ حياتك. هنا، في هذا المجال، هل تقفُ بينَ الله وبينَ النَّاس، لتحسب حساب النَّاس قبل حساب الله، أو تقف لتحسب حساب الله بعيداً من حسابات الناس؟ هذه هي مسألة أن نكون مؤمنين أو لا نكون مؤمنين، أن لا نفكِّر في الناس إذا أردنا أن نتَّخذ الموقف، بل أن نفكّر في الله، حتَّى لو رجمنا النَّاس بالحجارة، أن نفكِّر في الحقِّ حتَّى لو ملأ النَّاس آذاننا سباباً وشتيمةً واتّهاماً، لأنَّنا لن نكون مسؤولين أمام النَّاس، ولكنَّنا مسؤولون أمام الله، لن نقدِّم للنَّاس حساباً في ما نعمله: "الذَّليل عندي عزيزٌ حتَّى آخذ الحقَّ له، والقويّ عندي ضعيفٌ حتَّى آخذ الحقَّ منه"4.

مواجهةُ السّبِّ والبراءةِ

وهكذا رأينا أنَّ عليّاً (ع) عاش مشكلةً في بعض مراحل حياته، أو فيما بعد حياته الَّتي كان يتطلَّع إليها، كان يعرف بثاقب نظره، ومن خلال وعيه لخصومه، أنّهم سيلجأون إلى ما يلجأ إليه الجبناء، يلجأون إلى سبّه وشتمه، فقال لأصحابه: "ألا وإنَّه سيأمركم بسبِّي والبراءة منَّي. فأمَّا السبّ فسبّوني، فإنَّه لي زكاة ولكم نجاة"، سوف تقفون موقفاً، إذا لم تسبّوني ستضربون وتحبسون وتقتلون، "وأمَّا البراءة، فلا تتبرّأوا منّي" في قلوبكم، وفي عقولكم، حتَّى لو أُلزِمتم بالبراءة في كلماتكم، لأنَّ البراءة مني براءة من الإسلام، "فإنّي ولدت على الفطرة"5، وسبقت إلى الإيمان والهجرة، ولذلك من يتبرّأ من الَّذي ولد على الفطرة، فإنه يتبرأ من الإسلام الَذي هو دين الفطرة، ومن يتبرّأ ممن سبق إلى الإيمان والهجرة، فإنَّه يتبرَّأ من الإيمان ومن حركة الهجرة في خطِّ الجهاد.

وهذا هو درس عليٍّ (ع)، عندما نواجه في حياتنا أمثال هذه التّجربة، عندما يراد لنا أن ننطلق في بعض الحالات، لنقوم ببعض التصرّفات أو الممارسات الكلاميّة ضدّ بعض الرموز الكبيرة في حياتنا، من رموز الإيمان، ومن رموز الإسلام، ومن رموز الجهاد، فإنَّ علينا أن نتعلَّم درس عليٍّ (ع)، ليتعلَّمه أولئك الَّذين قدَّر الله لهم أن يكونوا رموزاً، أو الَّذين اعتبروهم كذلك، ألَّا يسقطوا أمام السبّ والشَّتم، ولكن أن يرتفعوا بعملهم وبروحهم وبروحانيَّتهم كلَّما سُبُّوا أكثر، أن يقدِّروا ظروف النّاس أكثر.

الاعتدالُ في العلاقاتِ

من دروس عليٍّ (ع) في حياتنا الاجتماعيّة، أنّه أراد لنا أن نكون حذرين واقعيّين في العلاقات، ربما تكون بعض هذه الكلمات الصَّغيرة تمثِّل دروساً كبيرة في الواقع، ونحن الآن، وكما كنَّا، في مدرسة عليٍّ (ع)، وقد اخترت هذه الكلمات، حتَّى نستطيع أن نتعرَّف إلى فكر عليٍّ في حركة العلاقات الاجتماعيَّة، وفي حركة الحبِّ والبغض في الواقع، لنعرف من خلال عليٍّ كيف نمارس حياتنا من دون أيِّ سقوطٍ، ومن دون أيّ خطأ.

نحن، مثلاً، لنا عداوات، ولنا صداقات، لنا من نحبُّه ولنا من نبغضه، ربما تكون طريقتنا أنَّنا نحبّ حبّاً أعمى ونبغض بغضاً أعمى، نحبّ مئة في المئة ونبغض مئة في المئة، بحيث إذا أحببنا شخصاً، فإنَّنا نربط كلّ الجسور الَّتي تصلنا به، وإذا أبغضنا شخصاً، فإنَّنا ننسف كلَّ الجسور بيننا وبينه، نحن متعصّبون في حبّنا، ومتعصّبون في بغضنا، لا تحفّظ عندنا في مسألة الحبّ، ولا تحفّظ عندنا في مسألة البغض، نموت على الحبّ، ونموت على البغض. هنا، الإمام عليّ (ع) يريد أن يجعلنا معتدلين في حبّنا وبغضنا، الاعتدال الذي يفرضه الواقع، ماذا قال؟: "أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"6. العواطف تتغيَّر، والأوضاع تتبدَّل، ربما يكون حبيبُ اليوم عدوَّ الغد، وربما يكون عدوُّ اليوم حبيبَ الغد، سواء كان الحبُّ حبّاً فرديّاً ينطلق من حالة ذاتيّة عاطفيّة، أو كان حبّاً ينطلق من قضايا فكريَّة أو سياسيَّة أو اجتماعيَّة، اجعل هناك جسراً يربطك بمن تبغضه، واجعل هناك بعض الجسور الَّتي تحميك ممن تحبّه.

إذا ربطت كلَّ الجسور بمن تحبّه، فإذا تحوَّل إلى مبغض، فإنَّك لا تستطيع أن تحمي نفسك منه، وهذا يعطي فكرة، فالمقصود من الجسور في هذا المجال، أن تعطي كلَّ أسرارك لمن تحبّه، وأن تجعله شريكاً في كلّ أموالك، وفي كلّ أعمالك، تجعله مستودع كلّ أسرارك، تجعله متدخّلاً بكلّ شؤونك، حتى الشؤون العائليَّة، كما يقول بعض النَّاس: ليس بيني وبين فلان إلَّا الَّذي حرَّمه الله.

الإمام (ع) يقول هذا خطأ، هو لا يريد أن يبغِّض بعضنا بعض، ولكنّه يريد أن يقول إنَّ الإنسان هو الشَّخص الوحيد في العالم الَّذي يمكن أن يتلوَّن بألف لونٍ في اليوم الواحد، فاللَّمسة تغيّره، والبسمة تغيِّره، والعبوس يغيِّره... كلّ شيءٍ من حوله؛ الطّعام يغيِّره، الرَّائحة تغيِّره... لذلك، عليك أن تفهم في حياتك أنَّه ليس هناك دوام في العلاقات الإنسانيَّة، لأنها قد تهتزّ. لذلك، احم نفسك من صديقك، اجعل لنفسك شيئاً تهرب منه، وهذا استعاره بعض الشّعراء، يقول:

احذر عدوَّك مرَّة واحذر صديقك ألف مرَّة

فلربَّما انقلب الصَّديق فكان أعرف بالمضرَّة

أَعطِ صديقك المحبَّة، ولكن اجعل لنفسك شيئاً تحترس فيه من المفاجآت.

وهكذا، إذا أبغضت إنساناً، فعليك أن تبقي جسراً يربطك به عندما يفكّر أن يعود إليك، أو تفكِّر أن تعود إليه.

هذا درس اجتماعيّ في الحياة، حتى يكون الإنسان واقعيّاً في حبّه، وواقعيّاً في بغضه، بحيث يعرف كيف يحرّك حبَّه، وكيف يحرّك بغضه.

الثّقةُ المدروسةُ

وهناك كلمة في هذا الاتّجاه، ولكن في مجالٍ آخر، يقول الإمام (سلام الله عليه): "لا تثقنّ بأخيك كلَّ الثّقة، فإنَّ صرعة الاسترسال لن تستقال"7. يعني إذا أردت أن تثق بالنَّاس، والنَّاس أقسام؛ هناك علماء، هناك صلحاء، هناك سياسيّون، هناك اقتصاديّون، هناك شخصيَّات اجتماعيَّة، هناك أقرباء... هناك نوعان من أنواع الثِّقة: هناك إنسانٌ يتحدَّث عن ثقته ببعض الأشخاص، فيقول: أنا أثق بفلانٍ ثقةً عمياء، بحيث أمشي وراءه وأنا مغمض العينين، وأمشي معه على "الدَّعسة"، حسب التَّعبير الشَّعبي، فحيثما يمشِ أمشِ، وهناك من يتحفَّظ، بحيث يمشي معه سبعين في المئة ويترك ثلاثين في المئة.

الإمام (ع) يقول: مهما كانت ثقتك بالشّخص، فإنَّ عليك أن تفكّر أنّه ليس معصوماً، وعليك أن تفكِّر أنّه ليس مكشوفاً لك بكلِّه. ربما يكون هذا الإنسان الَّذي تثق به ليس موضع ثقة، لأنه يخفي عنك شيئاً لا تعرفه، ولبساطتك وطهارتك، فإنّك تثق به، وربما كان إنساناً بمستوى الثِّقة، ولكنه قد ينحرف، وقد يخطئ، وقد يتغيّر، وقد يتبدّل، وهذا واقع الحياة.

الإمام (ع) يقول: أنا لا أقول لكم لا تثقوا بالنّاس، ولكن كونوا واقعيّين في الثقة، لا تثقوا مئة في المئة، ولكن اتركوا عشرين في المئة أو ثلاثين في المئة كاحتياط، كفاصلٍ بينك وبينه، حتى إذا أراد هذا الإنسان أن يوقعك في حفرة، فإنَّك تستطيع أن تكتشفه قبل أن تبلغها. وأحسن مثلٍ في هذه المسألة، سيَّارة تسير خلف سيّارة وتسيران بالسّرعة ذاتها، فأيّ حادث ولو كان صغيراً سيكون مميتاً، ولكن لو كان بينك وبين السّيّارة الأخرى عشرين متراً أو ثلاثين متراً، فستستطيع أن تحمي نفسك، وحتَّى لو اصطدمت، فيكون الاصطدام خفيفاً. وهذا أمر نحتاجه، حتى نحمي أنفسنا من مفاجآت الَّذين نثق بهم، مفاجآت تَبَدُّلهم وتَغَيّرهم، أو مفاجآت الخفايا الَّتي يمكن أن يستروها عنَّا في حياتهم الخاصَّة والعامَّة.

هذه نقطة، والنّقطة الثَّانية، عندما نعطي النَّاس ثقةً عمياء، نجعلهم يتصوَّرون أنَّنا سذَّج، وأنَّنا بسطاء، وذلك يغريهم بأن يأخذوا حرّيتهم في اللَّعب علينا، وفي الضَّحك علينا، استغلالاً لهذه الثّقة العمياء. الآن، الشَّيء الَّذي عشناه، ولا زلنا نعيشه في واقعنا السياسيّ، وفي واقعنا الاجتماعيّ أيضاً، كم من النَّاس الَّذين كانوا سابقاً يتبعون الزّعماء، فيثقون بالزَّعيم ثقةً عمياء، ثمَّ تنكشف المسألة أنَّ هذا الزَّعيم يطرحهم في سوق المزاد؛ عنده عشرة آلاف رأس، أو عشرة آلاف صوت، أو عشرين ألفاً، وتأتي السَّفارات، وتأتي الحكومات؛ بكم تبيعنا هذه الأصوات؟ وكيف يمكن أن تعمل لنا مهرجاناً أو مظاهرة، أو أيّ شيء.. وتتمّ عمليات القبض والدَّفع على هذا الأساس.

هذا واقع موجود.. الثّقة العمياء تجعلنا لا نفكِّر في ما يعمَل هذا الزَّعيم، الثّقة العمياء تجعلنا نقول إنَّه حتَّى لو أخطأ فهذا صواب، وحتى لو أجرم نقول إنَّ الجريمة عدالة، كما قال الشَّاعر:

وعين الرِّضا عن كلِّ عيب كليلة كما أنّ عين السّخط تبدي المساوي

هذه هي المسألة: من الَّذي جرّأ هؤلاء الَّذين يتحركون بفعل أجنبيّ، وبفعل القوى المنحرفة في مجتمعنا، مَنِ الَّذين جرَّأهم أن يلعبوا، وأَن يدسّوا، وأن يخونوا؟! نحن الَّذين جرَّأناهم، عندما أعطيناهم الثِّقة المطلقة، ولم نتحفَّظ في ثقتنا لنحمي أنفسنا من انحراف هذا الإنسان الَّذي نعطيه الثّقة.

وهكذا، تبدَّلت الموضة، ولكنَّ الفكرة بقيت هي ذاتها؛ كانت مسألة زعماء، صارت مسألة أحزاب، صارت مسألة حركات، صارت مسألة منظَّمات، صارت أشياء من هذا القبيل، والعقليَّة ذاتها الَّتي كانت بالنِّسبة إلى الزَّعيم، صارت أيضاً للحزب، للحركة، للمنظَّمة، للجماعة، والنَّهج ذاته هو الإيمان الأعمى بها.

في تجربتنا اللّبنانيَّة، نحن نعرف أحزاباً وجهات كانت في أقصى اليمين، فصارت في أقصى اليسار، الجماعة الَّتي كانت مع هذا الزَّعيم، رأساً تحوَّلت قاعدة هذا الحزب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. هناك جماعة رأسماليّون إقطاعيّون صاروا اشتراكيّين. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنَّنا أغلقنا عقولنا، وأغلقنا كلَّ حياتنا، وقلنا لأنفسنا: المسألة مسألة فلان، وعلينا أن ننطلق على أساس ما يفعل بنا فلان، كما قال الشَّاعر:

وما أنا إلَّا من غُزَيّةَ إن غوَتْ غويْتُ وإنْ ترشدْ غُزَيّةُ أرشدِ

هنا، الإمام عليّ (ع) يقول: عندما تعطي الثّقة، فعليك أن تعطيها من خلال دراسة، وعندما تفكّر أنَّ هذا الإنسان ليس مكشوفاً لك بكلّ خصائصه، وأنَّ هذا الإنسان ليس معصوماً، فمن الطبيعيّ عند ذلك أن تتحفَّظ في ثقتك، حتى إذا صرعتك التّجربة، فإنَّك تستطيع أن تقوم من صرعتك.

هذا درسٌ اجتماعيٌّ نأخذه من عليّ (ع). وبهذا، نكفّ عن أن نثق بأيّ شخص ثقة مطلقة وثقة عمياء. والحذر لا يعني أنَّك تخون من تثق به، ولكن أن تعينه على نفسه في هذا المجال.

المعروفُ كخطٍّ في الحياةِ

هناك درس اجتماعيّ آخر من دروس الإمام عليّ (ع) التي نستطيع من خلالها أن ننفتح على الواقع بشكل أساسيّ.. هناك فكرة موجودة عند النَّاس، ولعلَّها في ما بيننا، وهذه الفكرة هي أنَّنا عندما نحسن إلى بعض النّاس، بحيث نخدمهم، ونقدِّم إليهم ما نقدِّمه من معونات ومساعدات وخدمات وما إلى ذلك، ربما نفاجأ بأنَّ الَّذين نخدمهم يقفون ضدَّنا، فلا يشكرون خدماتنا ولا يقدِّرونها، بل ربما يحوِّلونها إلى شرّ، على طريقة الكلمة: "اتَّقِ شرَّ من أحسنت إليه". وعلى هذا الأساس، عندما تخدم، وتفاجأ بالنَّتائج السَّلبيَّة للخدمة، فترى أنَّ الشَّخص الَّذي خدمته لم يشكرك، ولم يعترف بالجميل، تقول: التوبة، لن أخدم أحداً بعد اليوم. ويوجد بعض التجَّار يكتبون على محلَّاتهم: "الدَّين ممنوع بأمرِ من قطعَ سبيلَ المعروف"، لأنّ بعض النّاس استدان منهم ولم يردّوا الدَّين.

يأتي الإمام (ع) ليعالج هذه المسألة، حتى يغيِّر لنا مفاهيمنا السلبيَّة، ونصبح إيجابيّين. يقول الإمام (ع): "لا يزهدنَّك في المعروف من لا يشكره لك". يعني لو أنَّك قدَّمت معروفاً إلى شخص، ولم يشكرك على معروفك، فعليك ألَّا تزهد في المعروف على هذا الأساس، "فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشيءٍ منه"، بحيث إنَّ بعض النَّاس الَّذين ينظرون إليك وأنت تعمل المعروف وتخدم النَّاس والنَّاس لا يشكرونك، هؤلاء لا ينتفعون منك، ولكنهم يقدِّرون ما تقوم به من معروف، ويشكرونك على هذا الأساس. "وقد يدرك من شكر الشَّاكر أكثر مما أضاع الكافر"8، ربما تحصل نتائج من هؤلاء النَّاس الَّذين لم ينتفعوا منك، لكنهم يحبّون الشَّخص الذي يعمل المعروف، وربّما تحصل نتائج ماديّة ومعنويّة منهم أكثر من الشَّخص الذي أنكر معروفك ولم يشكره.

وهذا واقع موجود، النَّاس الطيّبون في الحياة، النّاس العاملون في الحياة، الناس الذين يعيشون حسّ المسؤولية في الحياة، لا يبلغون ما يبلغونه من خلال النَّاس الّذين يخدمونهم، ربما يبلغون ما يبلغونه من خلال النَّاس الَّذين لا ينتفعون منهم بشيء.

لهذا، علينا ألَّا نفكِّر في أنَّنا إذا قمنا بمعروف ولم يشكره النّاس لنا، أن نترك المعروف.. علينا أن نكون حذرين، ولكن علينا أن نؤمن بالمعروف كخطّ في الحياة. يوجد كلمة للامام السجّاد (ع) في وصيته لولده محمد الباقر (ع): "افعل الخير إلى كلِّ من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله"9.

هذا ما يجب أن نفهمه في حياتنا العامَّة.

في خطِّ الجهادِ

وهناك نقطة يجب أن نفهمها في ختام الكلام عن عليّ (ع)، هي أنَّنا لو درسنا حياة عليّ (ع)، لرأينا حياته جهاداً من أجل الإسلام، بحيث إنَّ بطولته كانت في مواقع الحرب، عندما أراد الإسلام منه أن يحارب، وكانت بطولته في صبره في مواقع السِّلم عندما أراد الإسلام منه أن يسالم، وكانت بطولته في مواقع العلم عندما أراد الإسلام منه أن يعلِّم النَّاس، وأن يتحرَّك من أجل أن يرفع من مستوى النَّاس.

عليّ (ع) بالنِّسبة إلينا هو القمَّة الَّتي نتطلَّع إليها.. لا بدَّ لنا من أن نعمل على أساس أن يكون كلُّ واحد منّا عليّاً ولو بنسبة العشرة في المئة، لأنَّنا إذا أحببناه، فإنَّ معنى حبِّنا له أنَّنا نحبّ فكره، ونحبّ جهاده، ونحبّ زهده، ونحبّ إخلاصه لله، ونحبّ تفانيه في سبيل الإسلام. فإذا كنا نحبّ عليّاً لهذه الصّفات، فمعنى ذلك أنَّنا نحبُّ هذه الصِّفات، وإذا كنا نحبُّها، فلا بدَّ أن نجسِّدها في الواقع.

عليٌّ (ع) جاهد المشركين وهو في أوَّل شبابه، وانطلق في حياته كلِّها من بدرٍ إلى أُحد إلى الأحزاب إلى خيبر إلى حنين، إلى كلِّ المواقع الَّتي حارب فيها رسولُ الله (ص) المشركين، وقف عليٌّ مجاهدًا من أجل إعلاء كلمة الله، ومن أجل أن يكون الدِّين كلّه لله، ومن أجل أن ترتفع كلمة التَّوحيد، ومن أجل أن يسقط استكبارَ المستكبرين، عندما كانت قوى الشِّرك تمثِّل الاستكبارَ الَّذي يضطهد المستضعفين. لذلك، كان عليُّ (ع) نصيرَ المستضعفين ضدّ المستكبرين، ووقفَ (ع) ضدَّ اليهودِ في خيبر، وفي غزوةِ بني قريظة وبني النّضير، وما إلى ذلك، لأنَّه كان يعرفُ خطورةَ اليهودِ على الواقعِ الإسلاميِّ كلِّه.

لذلك، نحن الآن أمام التحدّي الّذي نواجهه.. بكلّ بساطة، هناك شرك سياسيّ يتحرَّك في العالم يتمثَّل بالمستكبرين، ولا سيَّما الاستكبار الأمريكيّ الّذي يريد أن يفرض نفسه على كلّ مواقع المستضعفين، ليصادر ثرواتهم، وليمنع نموَّهم الاقتصاديّ، وليجعلهم هامشاً من هوامش سياسته واقتصاده وكلّ واقعه وحضارته.. إنَّنا نواجه هذه المسألة تماماً كما كان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم، فإنَّ أمريكا تريد أن تفتن المسلمين عن كلّ قضاياهم، بما في ذلك إسلامهم، فكيف نواجه الموقف؛ هل نخضع، هل ننحني، أو أنَّنا نقف لنقول كما قال عليّ (ع): "لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت إليها"10. وهذا يعني أن نقف لنتحمَّل مسؤوليّتنا في هذا المجال.

قال له عمر بن عبد ودّ، وقد سأله: من أنت؟ قال: أنا عليّ بن أبي طالب. قال: إنَّ أباك كان صديقاً لي، وأنا لا أحبُّ أن أقتلَك، لأنَّك ابن صديقي. قال: ولكنّي أحبُّ أن أقتلك لأنَّك عدوُّ الله.

وهكذا، عندما جبن الجميع عن مرحب، انطلق عليٌّ (ع)، وعندما تحدَّاه مرحب، وقال له: أنا الَّذي سمّتني أمّي مرحباً، وأنشد يقول:

قد علمت خيبر أني مرحــب شاكي السِّلاح بطلٌ مجرَّب

قال (ع) له:

أنا الّذي سمَّتني أمِّي حيدره ضِرغامُ آجامٍ وَلَيثُ قَسوَرَه

وانطلق وقدَّه نصفين، وانطلق إلى القلعة، فأخذ الباب، واستطاع أن يجعله معبراً وممراً للمسلمين.

مسؤوليَّةُ صناعةِ القوّةِ

هل نكتفي أن نزهو ببطولات عليّ، ونقول مع ابن أبي الحديد:

يا قالع الباب الَّذي عن هزّه عجزت أكفٌّ أربعون وأربعُ

أو أنَّنا نعمل على أن نقوِّي سواعدنا لتكون في قوّة ساعد عليّ، وأن نقوّي قلوبنا لتكون في ثبات قلب عليّ، وأن نقوّي مواقعنا لتكون في قوَّة مواقع عليّ، حتَّى نستطيع أن نعذر إلى الله أنَّنا انطلقنا من أجل عزَّتنا وعزَّة الأمَّة كلِّها؟!

التحدّي كبير، أيُّها الإخوة والأخوات، أن ننطلق لنواجه هذا التحدّي. كانت عظمة عليّ (ع) أنَّه عاش كلَّ قضايا عصره، وأنَّه واجه كلَّ تحدِّيات عصره، وأنَّه أطلق التحدِّيات في مواجهة الآخرين. لقد كان عليّ (ع) إنساناً تحمَّل المسؤوليَّة في كلّ شيء، وقد قضى ما عليه، والله يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}. عليّ (ع) كان البطل، محمَّد (ص) كان العظيم، الحسين (ع) كان الشَّهيد... كلّ ذلك التَّاريخ المملوء بالعظمة انتهى وليس مسؤوليَّتكم، إنَّه مسؤوليَّتهم هم العظماء، هم الأبطال، هم الكبار {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].

لا بدَّ أن نعيش قضايا عصرنا، لا بدَّ أن نعيش مشاكل أمَّتنا، لا بدَّ أن نواجه التحديات الكبيرة، حتى لا نكون مجرَّد هامشٍ من هوامش الصهيونيَّة، أو نكون مجرّد تابع من توابع الاستكبار الأمريكيّ.

أنا لا أقول إنَّ علينا في ما نريد أن نواجهه من الواقع، أن نتحرَّك على طريقة الفوضى، أو نتحرَّك بشكلٍ غير مخطَّط، إنَّني أقول إنَّ علينا أن نخطِّط لخمسين سنة، لمئة سنة، لكن المهمّ أن نبدأ الخطوة الأولى الَّتي تنطلق في اتجاه النَّصر واتجاه القوَّة، لا أن نكون في الواقع الَّذي يستضعف بعضنا بعضاً، ويجبّن بعضنا بعضاً.

معنى الانتماءِ إلى عليٍّ (ع)

إنّني أقول لكم، أيّها الأحبّة، إنَّ انتماءنا إلى عليّ (ع) في الخطِّ يحمِّلنا مسؤوليَّة كبيرة، وتلك المسؤوليَّة هي أن نتحرّك في الخطوط الَّتي تحرَّك بها، وأن ننطلق في الآفاق التي انطلق بها.

أتسمعون إمامكم عليّاً ماذا كان يقول؟ كان يقولها لمن في زمنه، وهو يقولها الآن: "ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينونني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد"11.

أن ننطلق في الورع وفي العفَّة وفي الاجتهاد في تحمّل المسؤوليّة، وفي السّداد في الرّأي، ذلك ما يريده عليّ (ع)، وذلك هو معنى التشيّع لعليّ. ليس التشيّع لعليّ تشيّعاً لشخصه، ولكن التشيّع لعليٍّ تشيّعٌ لخطِّهِ، وتشيّعٌ لنهجِهِ، وتشيّعٌ لأهدافِهِ، وهذا ما قاله الإمام محمد الباقر (ع): "حسب الرَّجل أن يقول: أحبُّ عليّاً وأتولَّاه ثمَّ لا يكون مع ذلك فعَّالاً؟

فلو قال: إنِّي أحبُّ رسول الله، فرسول الله (ص) خير من عليّ، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنَّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً". ثم قال: "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلَّا بالعمل والورع"12.

لذلك، خطّ التشيّع هو خطّ الإسلام الحركيّ الرّافض للباطل كلّه، الرّافض للظّلم كلّه، الرّافض لكلّ انحراف عن خطّ الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* محاضرة ألقاها سماحته في ذكرى ولادة أمير المؤمنين (ع)، بتاريخ: 20 – 1 – 1992م.

[1]مبادئ الحكمة، السيّد محمّد تقي المدرسي، ج1، ص 274.

[2]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج41، ص 85.

[3]بحار الأنوار، ج3، ص 281.

[4]نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ (ع)، ج1، ص 89.

[5]نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ (ع)، ج1، ص 106.

[6]نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ (ع)، ج4، ص 64.

[7]الكافي، الشّيخ الكليني، ج2، ص 672.

[8]شرح نهج البلاغة، ج19، ص 24.

[9]جامع أحاديث الشّيعة، السيّد البروجردي، ج14، ص 487.

[10]بحار الأنوار، ج 41، ص 68.

[11]بحار الأنوار، ج 33، ص 474.

[12]الكافي، ج2، ص 74.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية