إضاءات من سيرة حياة الإمام الكاظم(ع)

إضاءات من سيرة حياة الإمام الكاظم(ع)

نلتقي بعد أيّام بذكرى وفاة الإمام السَّابع من أئمّة أهل البيت(ع)، الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، الّذي يمثِّل في نشاطه الإسلاميّ الحركيّ أكثر من بُعد، فنُلاحظ في نشاطه الثقافيّ التربويّ، أنَّه كان يعيش قضايا المسلمين الثقافيَّة، حيثُ كان يدور جدل فكريّ يتَّصل بالعقيدة، كما في مسألة التَّوحيد، أو في مسألة الإمامة، أو في ما يتَّصل بأصول الفقه في قضيَّة القياس، أو في القضايا الّتي تتَّصل بالقرآن والموقف منه. ونُلاحظ في جانب آخر، أنَّه كان يمثِّل الموقف المتحدِّي للحاكمين آنذاك، فكان يُطلق الكلمة (القويّة)، ويتحدَّث عن اللاشرعيَّة في حكمهم.

حدود فدك

وقد نقل أنَّه(ع) دخل على المهديّ العباسيّ، وكان المهدي قد أعلن ردَّ المظالـم إلى أهلها، فرآه الإمام(ع) مشغولاً بذلك، فبادره الإمام(ع) قائلاً: ما بال مظلمتنا لا تردّ؟ فتساءل المهدي قائلاً: وما ذاك يا أبا الحسن؟ فقال(ع): فدك، فقال له: حدَّها لي؟

وكان المهدي ينتظر من الإمام(ع) أن يتحدَّث له عن حدودها الجغرافيَّة، من خلال أنَّها مزرعة من المزارع أو ما أشبه ذلك، وكان من السَّهل على المهدي أن يردَّها إلى الإمام(ع)، ولكنَّ الإمام أرادها بحدودها، فقال له: "حدّ منها جبل أحد، وحدّ منها عريش مصر، وحدّ منها سيف البحر، وحدّ منها دومة الجندل"[1]. وعندما تحدَّث الإمام(ع) عن حدود فدك بهذه الطَّريقة، فإنَّما عنى بذلك حدود الدّولة الإسلاميّة، وأنَّ فدك لا تمثِّل مزرعة، وإنَّما تمثِّل الشَّرعيَّة الإسلاميَّة في الحكم. وقد نقل التاريخ أنَّه(ع) تحدَّث في أكثر من حديث مع الرّشيد يتحدّى به سلطانه. وأمَّا ما ينقله بعض المؤرّخين من أنَّه كان(ع) يتواضع أو يتنازل للرّشيد، فهو كلامٌ غير صحيح. وقد تحدَّثنا عن ذلك في كتابنا "تأمّلات في آفاق الإمام الكاظم (ع)".

دعم الثّورات ضدّ الظالم

وكان الإمام(ع) يؤيّد الحركات الّتي كانت تثور في وجه العباسيّين، كما في موقفه من ثورة الحسين بن عليّ بن الحسن المثنّى صاحب (فخ)، غير أنَّ تأييده لهذه الثّورات والقائمين عليها، كان يتمّ بطريقة مرنة وفاعلة في آنٍ واحد، وذلك بسبب الظّروف التي كانت قائمةً آنذاك، والتي لـم تكن تُساعد على نجاح هذه الثّورات عسكريّاً.

ولذلك، كان الإمام(ع) يدعم الرّوح الجهاديّة الّتي تُطلـق هذه الثّورات وتغذّيها بما يضمن لها البقاء والاستمرار، وإن لـم تكن حاسمةً على المستوى السياسيّ والعسكريّ. ولذا يُقال إنَّه(ع) ودَّع الحسين صاحب فخّ وهو يبكي وقال له: "يابن عمّ، إنَّك مقتولٌ أجدَّ الضّراب، فإنَّ القوم فسَّاقٌ، يظهرون إيماناً، ويسرّون شركاً". وهكذا نُلاحظ أنَّ الإمام(ع) كان يثقِّف شيعته على مقاطعة الظّالـم، ولكنَّه كان يشجّع أحياناً بعض أصحابه على الدّخول في الحكم من أجل أن يقضوا حوائج النَّاس ويدفعوا عنهم الظّلم. وقد ورد عنه أنَّه قال: "كفّارة عمل السّلطان، قضاء حوائج الإخوان"[2].

وكان الإمام(ع) يمثِّل أنقى وأطهر سيرة في حُسن الخلق، وكَظمِ الغيظ، والعفو عن النَّاس، وفي الإحسان إليهم، وفي جوده وكرمه، حتّى عرفت صرار الكاظم، وكان يُقال إنَّ من جاءته صرار الكاظم موسى بن جعفر فلا يفتقر. وإذا كان هو(ع) كذلك على المستوى الاجتماعي، فإنَّه على مستوى علاقته بالله أرفع وأعظم، فلم تشغله حياته مع النَّاس في كلِّ ما ذكرناه عن أن يشغل حياته كلّها بالعبادة لله تعالى، في حلِّه وترحاله، في بيته وسجنه، وفي ليله ونهاره...

وعندما نطلّ على تراث الإمام الكاظم(ع)، فإنَّنـا نرى تراثـه غنيّاً، ما يوحي بأنَّ الإمام(ع) قد ملأ المرحلة الَّتي عاشها بالإسلام في كلِّ حقائقه، في أصوله وفروعه، وعاش قضايا المسلمين ومشاكلهم. وبلغ التحدّي الَّذي أطلقه الإمام(ع) في وجه الخلفاء العباسيّين ذروته، إلى درجة أصبحوا يخافون من هذا الامتداد الرّوحيّ الّذي كان يمثِّل موقع الإمام في نفوس المسلمين، وهو ما دعا الرّشيد إلى التوجّس من الإمام(ع)، فيما انتهى به إلى السِّجن والحبس، بل وانتهى به خوفه وتوجّسه منه، إلى أن ينقله من حبسٍ إلى حبس، ومن سجنٍ إلى آخر، في عمليَّة ضغطٍ متواصلة مستمرّة، فيما كان يأمر به الرشيد السجّانين من ممارسة القسوة مع الإمام(ع) وتعذيبه. والّذي بلغ أشدّه ـ كما ينقل التّاريخ ـ في سجن السندي بن شاهـك، والّذي انتهت في طواميـره المظلمة حياة الإمام(ع) شهيداً.

وقد تحدَّثنا في هذه (النَّدوة) عن الكثير من حياة الإمام الكاظم وكلماته المأثورة عنه، في  أحاديثنا السّابقة، فيما نشر في كتاب (النّدوة).

نبوغه في بواكير حياته

وفي هذا اللّقاء، نحاول أن نتحدَّث عمّا ذكره المؤرخون عن الإمام(ع) في طفولته، وكيف كانت طفولةً مليئةً بالعلم، وتحديداً في القضايا المعقَّدة، مما نقله الرّواة. ونُحاول أن نلقي الضّوء على بعض هذه الرِّوايات الّتي رويت عن الَّذين عاشوا معه تلك المرحلة.

قال أبو حنيفة، وكان يتردَّد على الإمام الصّادق(ع) لتتلمذه عليه، وهو القائل: "لولا السَّنتان لهلك النّعمان"، يعني نفسه: "رأيت موسى بن جعفر وهو صغير السنّ في دهليز أبيه، فقلت: أين يحدث الغريب منكم إذا أراد ذلك؟"، ولـم يكن هناك يومذاك مواضع كما هو الحال اليوم لقضاء الحاجة، من المرافق الصحيّة وبيوت الخلاء العامَّة، ولذلك أراد أبو حنيفة أن يمتحن الإمام(ع) لمعرفة ما إذا كان على جانبٍ كبيرٍ من المعرفة الشرعيَّة، وكأنَّه يريد أن يقول له: ما هي الشّروط الشرعيّة، سواء الإلزاميّة أو الرّاجح، عندما يريد الإنسان أن يقضي حاجته في بلدكم. وقد يكون هذا السؤال ساذجاً ولا أهميّة له، غير أنَّ هناك مقصداً وغايةً لأبي حنيفة أراد من خلالها أن يتعرَّف إلى ولد أستاذه الأعظم، وهو الإمام الصّادق(ع).

يقول أبو حنيفة: "فنظر إليَّ ثُمَّ قال: يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار"، ويعني الجيران المحيطين بالمكان، "ويتجنَّب شطوط الأنهار"، لأنَّها محالّ جلوس النَّاس وتردّدهم ومما يستقون منه، "ومساقط الثّمار"، يعني تحت الأشجار، باعتبار أنَّها محلّ سقوط الأثمار، فيُوجب ذلك تلوّثها بالنَّجاسات. "وأفنية الدّور"، والفناء ساحة الدّار أمامه أو ما امتدّ من جوانبه، "والطّرق النّافذة" التي يسير فيها النَّاس، فيُوجب ذلك تلويثهم وإلحاق الأذى بهم، "والمساجد، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ويرفع ثوبه ويضع بعد ذلك حيث شاء". "قال أبو حنيفة: فلمَّا سمعت هذا القول منه، نبل في عيني، وعظم في قلبي". فقد اختصر الأحكام الشرعيّة التي تتعلّق بالتخلّي ببضع كلمات، "فقلت له: جعلت فداك"، وهذا خطاب من موقع التّعظيم، وقد جاء بعد معرفة منـزلته ومكانته وهو في هذه السنّ. "ممّن المعصية؟"، وكأنَّ أبا حنيفة أراد أن يسترسل في التعرّف إلى الإمام، فكان سؤاله فيما تقدَّم سؤالاً عن أمور الفقه، وهو هنا ينتقل إلى عالـم العقيدة، فأراد أن يتعرَّف إلى مدى اطّلاعه في هذا العالـم، وقد طمع فيه وفي مدى رجاحة عقله.

"فنظر إليَّ ثُمَّ قال: اجلس حتَّى أخبرك"، وهنا اتخذ الإمام لنفسه موقع الأستاذ أمام التّلميذ، "فجلست، فقال: إنَّ المعصية لا بُدَّ أن تكون من العبد أو من ربِّه أو منهما جميعاً"، فلا تخرج المسألة إمَّا أن تكون مفروضةً عليه من ربِّه، وإمّا أن تكون مشتركةً بينه وبين ربِّه، "فإن كانت من الله، فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لـم يفعله"، فلا يمكن أن تكون من الله وهو القويّ، ثُمَّ يؤاخذ الإنسان بشيءٍ فعله هو، وليس للإنسان اختيار فيه، لأنَّ الإنسان ضعيف لا يقدر على مقاومة ذلك. فكيف يقهره الله على فعلٍ ثُمَّ يُؤاخذه عليه ويُعاقبه على فعله، والله العادل! أليس هذا من الظّلم، وهو المنـزَّه عنه سبحانه وتعالى؟! "وإن كانت منهما، فهو شريكه، والقويّ أولى بإنصاف عبده الضّعيف"، فإذا كانت المعصية من الله ومن العبد، فإنَّ الله شريك العبد في إنتاج هذه المعصية، وعندما يكون أحد الشَّريكين قويّاً والآخر ضعيفاً، فليس من الإنصاف أن يؤاخذ القويّ الضّعيف، وليس للضّعيف إلاّ النّصيب الأضعف، "وإن كانت من العبد وحده، فعليه وقع الأمر، وإليه توجَّه النّهي، وله حقّ الثّواب والعقاب، ووجبت الجنَّة والنَّار"، لأنَّه يتحمَّل كلَّ المسؤوليَّة، عندما تكون المعصية من العبد وحده، وليس للّه سبحانه وتعالى دخلٌ فيها، لا على نحو الاستقلال ولا على نحو المشاركة. "فقلت ـ والكلام لأبي حنيفة ـ ذريّة بعضها من بعض"[3].

علامات الإمامة والعلم

وعن عيسى بن شلقان، قال: "دخلت على أبي عبد الله وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطّاب"، وكان أبو الخطّاب من أصحاب الإمام الصّادق(ع)، ثُمَّ تمرّد عليه وانحرف عنه، وأصبح يكذب على الإمام ويروي الرِّوايات غير الصَّحيحة عنه، وهذه طريقة دأب عليها الكذبة على الأئمَّة(ع)، من أمثال أبي الخطَّاب المذكور وسعيد بن المغيرة، الَّذي كان يدسُّ في كتب أصحاب الأئمَّة(ع)، حتّى وصل ما دسّه من روايات باطلة إلى أربعة آلاف رواية، ولذلك نرى روايات الغلوّ وما شابه ذلك تنشر في بعض الكتب، بحيث أخذ بعض النَّاس يرويها دونما تمحيص، في وقتٍ كان أصحاب الأئمَّة(ع) يتوقَّون ذلك، ولا يعتمدون الكتب إلاَّ مع السّماع، لئلاّ تكون هذه الرِّوايات مدخولة، أو أنَّها أضيفت إلى كتب الرّواة من أصحاب الأئمَّة(ع).

وسؤال الرّاوي عيسى بن شلقان عن أبي الخطَّاب، لأنَّه كان من أصحاب الإمام الصَّادق(ع)، وكان مستقيماً، ثُمَّ أخذ الإمام(ع) يحذِّر النَّاس منه، فصار ذلك موجباً لأسئلة البعض من النَّاس عن سرِّ هذا التّحذير، وكان عيسى بن شلقان أحد هؤلاء، فدخل على الإمام الصّادق(ع) يسأله عن أمره، فقال له(ع): "يا عيسى، ما منعك أن تلقى ابني فتسأله عن جميع ما تريد؟"، قال عيسى: "فذهبت إلى العبد الصّالح(ع)"، والعبد الصّالح من كنى الإمام الكاظم(ع)، وهي من أرقى كناه، إذ كان وصف العبد الصّالح من ألقاب النبيّ إبراهيم(ع)، كما في قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}[4]، لأنَّ كلمة العبد تعني كلَّ معاني العبوديَّة في كلّ عمقها وامتدادها في وجدان الإنسان وفي حياته، وكلمة الصَّالح تعني كلَّ خطوط الصَّلاح في الفكر، لأنَّ من الفكر ما هو صالح ومنه هو ما ليس كذلك. ولذلك، فإنَّ هذه الكلمة تجمع كلَّ عناصر الإنسان القريب من الله من موقع العبوديّة والطّاعة والعبوديّة والانصياع والاستسلام له. "فذهبت إلى العبد الصّالح(ع) وهو قاعد في الكتَّاب وعلى شفتيه أثر المداد، فقال لي مبتدئاً:يا عيسى، إنَّ الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق النبيّين على النبوَّة، فلم يتحوّلوا عنها أبداً"، وهذا دليل عصمة الأنبياء، "وأخذ ميثاق الوصيّين على الوصيّة، فلم يتحوّلوا عنها أبداً"، وهذا أيضاً دليل عصمة الأوصياء، "وأعار قوماً الإيمان زماناً ثُمَّ يسلبهم إيّاه"، ولا يقصد بإعارتهم إجبارهم عليه، وإنَّما يعني أنَّه لـم يعصمهم، بل خلق فيهم من المكوِّنات الإنسانيّة ما يدعوهم إلى فعل الخير وما يدعوهم إلى الشّرّ، فهم إلى الإيمان تارةً وإلى الكفر تارةً أخرى. "وإنَّ أبا الخطَّاب ممن أُعير الإيمان زماناً ثُمَّ سلبه الله تعالى"، وهو سرُّ قربه من الإمام الصّادق(ع) أوّلاً، ثُمَّ طرده من قبله لاحقاً، لأنَّه كان من المستقيمين أوّلاً، ثُمَّ انحرف، فاستوجب ذلك طرده والتَّحذير منه.

يقول عيسى بن شلقان: "فضممته إليّ وقبَّلت بين عينيه، ثُمَّ قلت: بأبي أنت وأمّي ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم، ثُمَّ رجعت إلى أبي عبد الله(ع) فقال: "ما صنعت يا عيسى؟"، فقلت له: "بأبي أنت وأمّي، أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما أردت أن أسأله عنه، فعلمت عند ذلك أنَّه صاحب هذا الأمر"، يعني خليفتك ومن بعدك، "فقال: يا عيسى"، وهذه شهادة عظيمة من الإمام الصّادق(ع): "إنَّ ابني هذا الّذي رأيت، لو سألته عمّا بين دفّتي المصحف لأجابك فيه بعلم". ثُمَّ أخرجه ذلك اليوم من الكتَّاب، فعلمت ذلك اليوم أنَّه صاحب الأمر"[5]. وهذه الرِّواية في قرب الإسناد، وفيها أنَّ الأمر ـ أي الإمامة ـ كان واضحاً جليّاً في الإمام موسى الكاظم(ع)، وذلك لجهة ظهور علمه على نحوٍ كان الإمام الصّادق(ع) يحيل السّائلين إليه في الأمور الشّرعيَّة والمسائل العقيديّة، وكان يومذاك صغيراً. وإذا كان ثمة تساؤل في هذه الرِّواية عن سبب وجود الإمام الكاظم(ع) في مكان تعليم الكتابة "الكتَّاب"، فإنَّه قد يكون لجهة الظروف الاجتماعيّة الّتي تفرض على الآباء أن يرسلوا أبناءهم إلى الكتَّاب، وإن لـم يكونوا محتاجين إليه، ولعلَّ هذا هو التّفسير الطبيعيّ لذلك، مع عدم حاجة الإمام الكاظم(ع)، وهو يجيب عن أسئلة السَّائلين وفي أمورٍ ومسائل معقَّدة.

طفولة منفتحة على الله

وعن الإمام الرّضا(ع) أنَّ "موسى بن جعفر(ع) تكلّم يوماً بين يدي أبيه فأحسن"، أي تكلَّم الإمام الكاظم(ع) بمحضر أبيه(ع) ومجلسه، وربَّما كان في سنّ الطّفولة أو بداية الشباب، فأحسن في حديثه وكلامه، بحيث أعجب الإمام بكلامه، "فقال له: يا بنيّ، الحمد للّه الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء"[6]، فهو الخلف المناسب له، وهو أيضاً يملأ حياته سروراً، بما عليه من العلم والمعرفة الّذي تسرُّ الآباء في أبنائهم، وفوق ذلك، فإنَّه عوضٌ عن الأصدقاء، ما يجعله الصّديق لأبيه، لما عليه من رجاحة العقل وكماله، ذلك العقل الكامل والمعصوم.

وفي أخبار الرّضا للصَّدوق، أنَّه روى الوشاء عن عليّ بن الحسين ـ وهو راوٍ، وليس المراد به الإمام زين العابدين(ع) ـ عن صفوان الجمَّال أنَّه قال: "سألت أبا عبد الله عن صاحب هذا الأمر"، أي الخليفة والإمام من بعده، "قال: صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب"، وكان أبو الحسن موسى الكاظم(ع) صغير السنّ، وكأنَّ الإمام الصّادق(ع) يريد أن يقول إنَّ طفولته ليست طفولةً لاهيةً لاعبة، بل إنَّ طفولته طفولة جادّة ومنفتحة على الله حتّى في حالة اللّعب، "وأقبل أبو الحسن وهو صغيرٌ ومعه بهمة عناق مكيّة"، والبهمة في اللّغة الواحد من أولاد الضّأن، والعناق الأنثى من أولاد المعزى ما لـم يتمّ لها سنة من عمرها، "وهو يقول لها اسجدي لربّك"، فهو لا يلعب ولا يلهو، بل إنَّه كان يُخاطبها اسجدي لربّـك، لأنَّه كما قال تعالى: {وَللهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[7]، فكأنَّما يريد الإيحاء لمن يسمعه أنَّ من واجب أو من مسؤوليّة كلّ المخلوقات، أن تسجد للّه سبحانه وتعالى، "فأخذه أبو عبد الله، وضمّه إليه وقال: بأبي أنت وأمّي، من لا يلهو ولا يلعب"[8]، فأيّ لهوٍ ولعبٍ هذا الّذي يُمارسه الإنسان في هذه السّنّ، وهو يُشير إلى أعظم الحقائق الكونيّة، مثل العبوديَّة والخالقيَّة...

وفي روايةٍ، أنَّ الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) قال: "دخلت ذات يوم من المكتب ومعي لوحي ـ يعني اللّوح الّذي يقرأ به ويكتب عليه ـ قال: فأجلسني أبي بين يديه، وقال: يا بنيّ، اكتب: تنحَّ عن القبيح ولا تردّه، ثُمَّ قال: أجزه، فقلت: ومن أوليته حسناً فـزده"، أي لا تتنحّ عن القبيح وحسب، بل زد من أعطيته الخير خيراً على خير، "ثُمَّ قال ـ أي الإمام الصّادق(ع) ـ ستلقى من عدوّك كلّ كيد، فقلت ـ أي الإمام الكاظم(ع) ـ إذا كاد العدوّ فلا تكده، فقال: ذرّيّة بعضها من بعض"[9].

وهكذا نلاحظ أنَّ الإمام الكاظم(ع) كان في طفولته يعيش العلم كأعمق وأوعى وأصبر ما يكون العلم، ما يوحي بأنَّ سرَّ الإمامة في الإمام ينطلق مما يمنحه الله للإمام من ملكاتٍ تتحرَّك طفولته معها، ليشمل حركة الإمامة عندما يحين وقتها، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

من وصايا الإمام(ع)

ونُحاول في هذه المحاضرة أن نلتقط بعض الكلمات المرويّة عن الإمام الكاظم(ع)، لأنَّنا ذكرنا أكثر من مرَّة أنَّه عندما نتحدَّث عن الأئمّة(ع)، فإنَّه يلزم أن نستضيء بكلماتهم، وأن نرتبط بفكرهم وبوصاياهم، لأنَّ هذا هو ما يبقى لنا منهم، وهذا مـا يمثِّل حركيَّة الإمامة على مدى الزّمن، لأنَّ الإمام كالنبـيّ، يبقى مدّةً مع النَّاس ثُمَّ يلحق بربّـه، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[10]، ويبقى من الإمام كما يبقى من النَّبيّ، ما يبقى من علمه، وما يبقى من إيحاءات سيرته وما إلى ذلك.

وعن موسى بن جعفر عن آبائه(ع) قـال الحسين(ع): "جاء رجلٌ إلى أميـر المؤمنين(ع) يسعى بقوم"، يريد الفتنة ويشي بهؤلاء القوم أنَّهم عملوا كذا وكذا، ليعتقلهم الإمام عليّ(ع) ويُعاقبهم، ككلّ الوشاة الّذين ينقلون السوء عن النَّاس لدى الحاكمين حتّى يؤاخذوهم، "فأمرني أن دعوت له قنبراً، فقال له عليّ(ع): اخرج إلى هذا السّاعي، فقل له قد أسمعتنا ما كره الله تعالى، فانصرف في غير حفظ الله تعالى"[11]، أي أنَّ الإمام عليّاً(ع) أمر الحسين(ع) أن يدعو قنبراً خادمه، فقال له الإمام عليّ(ع): يا قنبر، اخرج إلى هذا السّاعي، فقل له قد أسمعتنا ما كره الله تعالى، لأنَّ الله يكره أن ينقل الإنسان السّوء عن المؤمنين لمن يملك أن يعاقبهم، لأنَّه من النَّميمة، وقد ورد في الحديث أنَّه "لا يدخل الجنَّة نمَّام"[12]، ما أوجب ذلك أن يدعو الإمام عليّ(ع) عليه، فيقول: "فانصرف في غير حفظ الله تعالى"، بمعنى أن لا يحفظك الله، ولا يكثر أمثالك.

وفي وصيَّته ـ أي وصيّة الإمام الكاظم(ع) ـ لهشام بن الحكم، قال: "يا هشام، كان أمير المؤمنين يوصي أصحابه يقول: أوصيكم بالخشية من الله في السرِّ والعلانية"، وذلك هو التَّقوى، وقد قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[13]، "والعدل في الرّضا والغضب"، أي أن تكون عادلاً تراعي حقوق النَّاس في إنسانيّتهم، وفي كلّ قضاياهم الّتي تختزن الحقّ لهم، سواء كنت راضياً أو غاضباً، فلا يدفعك الرّضا عن شخصٍ إلى أن تعطيه ما ليس بحقّ، كأن تمدحه بغير حقّ، ولا يدفعك الغضب إلى أن تمنع إنساناً حقّاً، أو أن لا تعطيه ما هو بحقّ، أي ليكن الغضب والرّضا عندك سواء في خطّ المسؤوليَّة، "والاكتساب في الفقر والغنى"، فلا تكن بطّالاً، فاكسب رزقك في حالة الغنى والفقر، لأنَّ الله لا يحبُّ العبد البطّال، "وأن تصلوا من قطعكم، وتعفوا عمَّن ظلمكم، وتعطفوا على من حرمكم"، وهنا يرسم الإمام عليّ(ع) الصّورة الحقيقيّة للمؤمن في أخلاقه، فيما بيَّنه رسول الله(ص) من مكارم الأخلاق، فلا تكون الأخلاق برسم البيع أو الشّراء، لأنَّ الأخلاق ليست تجاريّة، ولا تخضع للتجارة والعرض والطّلب، بمعنى أن أعطيك لأنَّك أعطيتني، وأصلك لأنَّك وصلتني، فهذه ليست أخلاقاً، بل هي بيع وشراء ومبادلة.

وأمَّا الأخلاق في حقيقتها، فهي تلك الّتي تنطلق من داخل شخصيّتك، كما ينطلق الماء من الينبوع بعفويّة، وكما تنطلق الشّمس عندما تعطي الضّوء، فتصل من قطعك، لأنَّك تعيش معنى الصّلة، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك، لأنَّك تعيش هذا الخلق، ولأنَّك لا تملك إلاَّ أن تكون العفوّ والوصول والمعطاء. وقد ورد في الحديث: "ألا أدلّكم على خير خلائق الدنيا والآخرة؟ تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك"[14]. وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين في دعاء مكارم الأخلاق، "اللّهمّ وسددني لأن أعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، وأُثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصّلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذّكر"[15].

ثُمَّ يقول الإمام عليّ(ع) في وصيَّته: "وليكن نظركم عبراً"، يعني حينما تمرّون بهذه الدّيار الَّتي يسكنها النَّاس المساكين، والقلاع الّتي بناها أُناس آخرون، فلتكن لكم العبرة فتأخذوا درساً، وليكن نظركم وسيلةً من وسائل الدّرس الّذي يعطيكم العبرة الّتي تستفيدون منها في حياتكم، "وصمتكم فكراً"، وعندما تصمتون، فإنَّما تصمتون للتّفكير ولتعميق المعرفة، "وقولكم ذكراً"، وعندما تتكلَّمون، ليكن كلامكم في ذكر الله، "وطبيعتكم السّخاء"، يعني العطاء بما تستطيعون، "فإنَّه لا يدخل الجنَّة بخيل، ولا يدخل النّار سخيّ"[16]، حتّى إنَّه يُقال في بعض الأحاديث، إنَّ الله جعل لحاتـم الطّائي المعروف بالكرم، مساحةً بين الجنّة والنّار، تقديراً لكرمه.

الإسلام دين التّوازن

وفي كلمةٍ مضيئةٍ أخرى عن الإمام الكاظم(ع)، أنَّه قال: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات"، أي لينقسم يومكم إلى أربع ساعات، والسّاعة في كلامه(ع) ليس المراد بها السّاعة باصطلاحنا اليوم التي تعدُّ ستّين دقيقة، بل كناية عن الوقت. "ساعة لمناجاة الله"، فتجلس لربّك، لتصلّي وتناجيه في كلِّ آلامك وأحلامك، "وساعة لأمر المعاش"، لتطلب رزقك، "وساعة لمعاشرة الأخوان..." تخلو فيها لأخوانك وتحدِّثهم ويحدّثونك، "وساعة تخلون فيها للذَّاتكم في غير محرَّم"، فإنَّ النفس الإنسانيّة بما تشتمل على غرائز وطبائع، تحتاج إلى ما يلبّي لها احتياجاتها الطبيعيّة، ولكن في غير ما حرَّم الله تعالى، "وبهذه السّاعة" التي تعطي نفسك لذّتها باللّعب وباللّهو، "تقدرون على الثّلاث ساعات"[17]، لأنَّها تنشّط الإنسان، فليس من الطبيعيّ أن يعيش الإنسان في جدٍّ مستمرّ، وقد ورد "أنَّ القلب إذا أكره عمي"[18]، وورد أيضاً: "روِّحوا القلوب ساعةً فساعة"[19]، ولذلك لـم يضيّق الإسلام على الإنسان حياته، بل أعطاه نافذةً على حاجاته النفسيّة والجسديّة، وفي الحديث: "اجعلوا لأنفسكم حظّاً من الدُّنيا، بإعطائها ما تشتهي من الحلال..."، فيعيش الإنسان في الدُّنيا بما لها من حاجاتٍ ولذّاتٍ وطيّباتٍ دونما تجاوزٍ للحدود المعقولة والمشروعة، "واستعينوا بذلك على أمور الدِّين"، فعندما تعطي لنفسك حاجاتها الدّنيويّة، فإنَّها تقبل على أمور الدِّين بنشاط، لأنَّها عندئذٍ لا تعيش الحاجات الجسديّة والأزمات النفسيَّة وما إلى ذلك، "فإنَّه روي ليس منَّا من ترك دنياه لدينه"، بحيث أقبل على الدِّين ومنع نفسه من كلّ لذّاتها في الدُّنيا، "أو ترك دينه لدنياه"[20]، بل عليه أن يعيش التّوازن بين حاجاته ومتطلّبات عبوديّته للّه ومسؤوليّته الدينيَّة.

وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى في إشارة إلى ذلك، إذ يقول: {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[21]، وكذلك حدَّثنا الله عن قوم قارون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[22]، ولذا صحّ أن يُقال إنَّ الإسلام دين التّوازن.

أمُّ الوصايا

وفي كلمةٍ أخرى له، كما جاء في (تحف العقول) أنَّه قال لبعض ولده: "يا بنيّ، إيّاك أن يراك الله في معصيةٍ نهاك عنها"، ولقد نهاك الله عن أشياء، فاحذر أن يراك الله في مواقع المعصية، "وإيّاك أن يفقدك الله عند طاعةٍ أمرك بها"، لأنَّ الله يريد لك أن تتواجد في مواقع الطّاعة، "وعليك بالجدّ"، فلا تأخذ حياتك بالهزل واللامبالاة، فكن جادّاً في الحياة لأنَّها مسؤوليّة، وعلى الإنسان أن يواجه مسؤوليّة الحياة بكلّ تصميمٍ وتخطيط، ليقوم بمسؤوليّته وليحقِّق أهدافه، "ولا تخرج نفسك من حدِّ التّقصير في عبادة الله وطاعته، فإنَّ الله لا يعبد حقَّ عبادته"، فمهما عبدت الله ومهما أطعته، فلا تشعر بالرّضا عن نفسك، وانظر إلى نفسك مقصِّراً، فإنَّ هناك مراتب ومراحل لعبادته لا يبلغها الإنسان إلاَّ بعد جهدٍ وجهد، "وإيّاك والمزاح"، يعني أن تكون مزّاحاً، تتحرّك في حياتك بالمزاح، وليس المقصود أن لا تمزح المرّة والمرّتين، بل إنّ الإمام(ع) في مقام النّهي عن الاستغراق في المزاح، لأنَّ بعض النَّاس يعيش يومه من الصّباح إلى اللّيل بالمزاح.

"فإنّه يذهب بنور إيمانك ويستخفّ بمروءتك. وإيّاك والضّجر والكسل"، فلا تضجر، بل جدِّد نشاطك وإقبالك على العمل، ولا تكسل عن مسؤوليَّاتك، "فإنَّهما يمنعان حظّك من الدُّنيا والآخرة"[23]، لأنَّك إذا ضجرت، فستترك حظّك في الدُّنيا والآخرة، وإذا كسلت، فلا تؤدّي حقّاً في الدُّنيا والآخرة.

كانت هذه بعض إضاءات الإمام الكاظم(ع) في حياته وسيرته وفي كلماته ووصاياه.

أيُّها الأحبَّة، إنَّ أهل البيت(ع) يمثِّلون القمّة في كلّ شيء، فهم حجج الله على عباده، وهم النّور الّذي نستضيء به، وهم الخطّ المستقيم الّذي يهدينا إلى الله، ولذلك، حاولوا أن تتعرّفوا أهل البيت في سيرتهم التي تجسِّد الإسلام، وفي كلماتهم الّتي تضيء لنا مفاهيم الإسلام ومنهجه ووسائله وغاياته، فلا يكن أهل البيت مجرَّد مأساةٍ تستنـزف دموعكم، ولا مجرَّد فرحٍ مادّيّ يجتذب بسماتكم، بل ليكن أهل البيت(ع) عقلاً يرتفع بعقولكم، وقلباً يفتح قلوبكم على الله وعلى المحبّة، وحركةً تفتح حياتكم على الحقّ والعدل وما يؤدِّي إلى القرب من الله، وسلام الله على الإمام الكاظم(ع)، يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يُبعث حيّاً. والحمدُ لله ربِّ العالـمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 544.

[2]  وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 17، ص 193.

[3]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 48، ص 106.

[4]  (البقرة: 130).

[5]  بحار الأنوار، ج 48، ص 24.

[6]  بحار الأنوار، ج 48، ص 24.

[7]  (الرّعد: 15).

[8]  بحار الأنوار، ج 48، ص 20.

[9]  المصدر نفسه، ج 48، ص 109.

[10]  (الزمر: 30).

[11]  بحار الأنوار، ج 41، ص 119.

[12]  ميزان الحكمة، ج 4، ص 3371.

[13]  (النازعات: 40، 41).

[14]  وسائل الشيعة، ج 8، ص 521.

[15]  الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال.

[16]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 390.

[17]  المصدر نفسه، ص 409.

[18]  نهج البلاغة، ج 4، ص 45.

[19]  كنز العمال، ج 3، ص 37.

[20]  بحار الأنوار، ج 75، ص 321.

[21]  (البقرة: 201).

[22]  (القصص: 77).

[23]  تحف العقول، ص 409.


نلتقي بعد أيّام بذكرى وفاة الإمام السَّابع من أئمّة أهل البيت(ع)، الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، الّذي يمثِّل في نشاطه الإسلاميّ الحركيّ أكثر من بُعد، فنُلاحظ في نشاطه الثقافيّ التربويّ، أنَّه كان يعيش قضايا المسلمين الثقافيَّة، حيثُ كان يدور جدل فكريّ يتَّصل بالعقيدة، كما في مسألة التَّوحيد، أو في مسألة الإمامة، أو في ما يتَّصل بأصول الفقه في قضيَّة القياس، أو في القضايا الّتي تتَّصل بالقرآن والموقف منه. ونُلاحظ في جانب آخر، أنَّه كان يمثِّل الموقف المتحدِّي للحاكمين آنذاك، فكان يُطلق الكلمة (القويّة)، ويتحدَّث عن اللاشرعيَّة في حكمهم.

حدود فدك

وقد نقل أنَّه(ع) دخل على المهديّ العباسيّ، وكان المهدي قد أعلن ردَّ المظالـم إلى أهلها، فرآه الإمام(ع) مشغولاً بذلك، فبادره الإمام(ع) قائلاً: ما بال مظلمتنا لا تردّ؟ فتساءل المهدي قائلاً: وما ذاك يا أبا الحسن؟ فقال(ع): فدك، فقال له: حدَّها لي؟

وكان المهدي ينتظر من الإمام(ع) أن يتحدَّث له عن حدودها الجغرافيَّة، من خلال أنَّها مزرعة من المزارع أو ما أشبه ذلك، وكان من السَّهل على المهدي أن يردَّها إلى الإمام(ع)، ولكنَّ الإمام أرادها بحدودها، فقال له: "حدّ منها جبل أحد، وحدّ منها عريش مصر، وحدّ منها سيف البحر، وحدّ منها دومة الجندل"[1]. وعندما تحدَّث الإمام(ع) عن حدود فدك بهذه الطَّريقة، فإنَّما عنى بذلك حدود الدّولة الإسلاميّة، وأنَّ فدك لا تمثِّل مزرعة، وإنَّما تمثِّل الشَّرعيَّة الإسلاميَّة في الحكم. وقد نقل التاريخ أنَّه(ع) تحدَّث في أكثر من حديث مع الرّشيد يتحدّى به سلطانه. وأمَّا ما ينقله بعض المؤرّخين من أنَّه كان(ع) يتواضع أو يتنازل للرّشيد، فهو كلامٌ غير صحيح. وقد تحدَّثنا عن ذلك في كتابنا "تأمّلات في آفاق الإمام الكاظم (ع)".

دعم الثّورات ضدّ الظالم

وكان الإمام(ع) يؤيّد الحركات الّتي كانت تثور في وجه العباسيّين، كما في موقفه من ثورة الحسين بن عليّ بن الحسن المثنّى صاحب (فخ)، غير أنَّ تأييده لهذه الثّورات والقائمين عليها، كان يتمّ بطريقة مرنة وفاعلة في آنٍ واحد، وذلك بسبب الظّروف التي كانت قائمةً آنذاك، والتي لـم تكن تُساعد على نجاح هذه الثّورات عسكريّاً.

ولذلك، كان الإمام(ع) يدعم الرّوح الجهاديّة الّتي تُطلـق هذه الثّورات وتغذّيها بما يضمن لها البقاء والاستمرار، وإن لـم تكن حاسمةً على المستوى السياسيّ والعسكريّ. ولذا يُقال إنَّه(ع) ودَّع الحسين صاحب فخّ وهو يبكي وقال له: "يابن عمّ، إنَّك مقتولٌ أجدَّ الضّراب، فإنَّ القوم فسَّاقٌ، يظهرون إيماناً، ويسرّون شركاً". وهكذا نُلاحظ أنَّ الإمام(ع) كان يثقِّف شيعته على مقاطعة الظّالـم، ولكنَّه كان يشجّع أحياناً بعض أصحابه على الدّخول في الحكم من أجل أن يقضوا حوائج النَّاس ويدفعوا عنهم الظّلم. وقد ورد عنه أنَّه قال: "كفّارة عمل السّلطان، قضاء حوائج الإخوان"[2].

وكان الإمام(ع) يمثِّل أنقى وأطهر سيرة في حُسن الخلق، وكَظمِ الغيظ، والعفو عن النَّاس، وفي الإحسان إليهم، وفي جوده وكرمه، حتّى عرفت صرار الكاظم، وكان يُقال إنَّ من جاءته صرار الكاظم موسى بن جعفر فلا يفتقر. وإذا كان هو(ع) كذلك على المستوى الاجتماعي، فإنَّه على مستوى علاقته بالله أرفع وأعظم، فلم تشغله حياته مع النَّاس في كلِّ ما ذكرناه عن أن يشغل حياته كلّها بالعبادة لله تعالى، في حلِّه وترحاله، في بيته وسجنه، وفي ليله ونهاره...

وعندما نطلّ على تراث الإمام الكاظم(ع)، فإنَّنـا نرى تراثـه غنيّاً، ما يوحي بأنَّ الإمام(ع) قد ملأ المرحلة الَّتي عاشها بالإسلام في كلِّ حقائقه، في أصوله وفروعه، وعاش قضايا المسلمين ومشاكلهم. وبلغ التحدّي الَّذي أطلقه الإمام(ع) في وجه الخلفاء العباسيّين ذروته، إلى درجة أصبحوا يخافون من هذا الامتداد الرّوحيّ الّذي كان يمثِّل موقع الإمام في نفوس المسلمين، وهو ما دعا الرّشيد إلى التوجّس من الإمام(ع)، فيما انتهى به إلى السِّجن والحبس، بل وانتهى به خوفه وتوجّسه منه، إلى أن ينقله من حبسٍ إلى حبس، ومن سجنٍ إلى آخر، في عمليَّة ضغطٍ متواصلة مستمرّة، فيما كان يأمر به الرشيد السجّانين من ممارسة القسوة مع الإمام(ع) وتعذيبه. والّذي بلغ أشدّه ـ كما ينقل التّاريخ ـ في سجن السندي بن شاهـك، والّذي انتهت في طواميـره المظلمة حياة الإمام(ع) شهيداً.

وقد تحدَّثنا في هذه (النَّدوة) عن الكثير من حياة الإمام الكاظم وكلماته المأثورة عنه، في  أحاديثنا السّابقة، فيما نشر في كتاب (النّدوة).

نبوغه في بواكير حياته

وفي هذا اللّقاء، نحاول أن نتحدَّث عمّا ذكره المؤرخون عن الإمام(ع) في طفولته، وكيف كانت طفولةً مليئةً بالعلم، وتحديداً في القضايا المعقَّدة، مما نقله الرّواة. ونُحاول أن نلقي الضّوء على بعض هذه الرِّوايات الّتي رويت عن الَّذين عاشوا معه تلك المرحلة.

قال أبو حنيفة، وكان يتردَّد على الإمام الصّادق(ع) لتتلمذه عليه، وهو القائل: "لولا السَّنتان لهلك النّعمان"، يعني نفسه: "رأيت موسى بن جعفر وهو صغير السنّ في دهليز أبيه، فقلت: أين يحدث الغريب منكم إذا أراد ذلك؟"، ولـم يكن هناك يومذاك مواضع كما هو الحال اليوم لقضاء الحاجة، من المرافق الصحيّة وبيوت الخلاء العامَّة، ولذلك أراد أبو حنيفة أن يمتحن الإمام(ع) لمعرفة ما إذا كان على جانبٍ كبيرٍ من المعرفة الشرعيَّة، وكأنَّه يريد أن يقول له: ما هي الشّروط الشرعيّة، سواء الإلزاميّة أو الرّاجح، عندما يريد الإنسان أن يقضي حاجته في بلدكم. وقد يكون هذا السؤال ساذجاً ولا أهميّة له، غير أنَّ هناك مقصداً وغايةً لأبي حنيفة أراد من خلالها أن يتعرَّف إلى ولد أستاذه الأعظم، وهو الإمام الصّادق(ع).

يقول أبو حنيفة: "فنظر إليَّ ثُمَّ قال: يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار"، ويعني الجيران المحيطين بالمكان، "ويتجنَّب شطوط الأنهار"، لأنَّها محالّ جلوس النَّاس وتردّدهم ومما يستقون منه، "ومساقط الثّمار"، يعني تحت الأشجار، باعتبار أنَّها محلّ سقوط الأثمار، فيُوجب ذلك تلوّثها بالنَّجاسات. "وأفنية الدّور"، والفناء ساحة الدّار أمامه أو ما امتدّ من جوانبه، "والطّرق النّافذة" التي يسير فيها النَّاس، فيُوجب ذلك تلويثهم وإلحاق الأذى بهم، "والمساجد، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ويرفع ثوبه ويضع بعد ذلك حيث شاء". "قال أبو حنيفة: فلمَّا سمعت هذا القول منه، نبل في عيني، وعظم في قلبي". فقد اختصر الأحكام الشرعيّة التي تتعلّق بالتخلّي ببضع كلمات، "فقلت له: جعلت فداك"، وهذا خطاب من موقع التّعظيم، وقد جاء بعد معرفة منـزلته ومكانته وهو في هذه السنّ. "ممّن المعصية؟"، وكأنَّ أبا حنيفة أراد أن يسترسل في التعرّف إلى الإمام، فكان سؤاله فيما تقدَّم سؤالاً عن أمور الفقه، وهو هنا ينتقل إلى عالـم العقيدة، فأراد أن يتعرَّف إلى مدى اطّلاعه في هذا العالـم، وقد طمع فيه وفي مدى رجاحة عقله.

"فنظر إليَّ ثُمَّ قال: اجلس حتَّى أخبرك"، وهنا اتخذ الإمام لنفسه موقع الأستاذ أمام التّلميذ، "فجلست، فقال: إنَّ المعصية لا بُدَّ أن تكون من العبد أو من ربِّه أو منهما جميعاً"، فلا تخرج المسألة إمَّا أن تكون مفروضةً عليه من ربِّه، وإمّا أن تكون مشتركةً بينه وبين ربِّه، "فإن كانت من الله، فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لـم يفعله"، فلا يمكن أن تكون من الله وهو القويّ، ثُمَّ يؤاخذ الإنسان بشيءٍ فعله هو، وليس للإنسان اختيار فيه، لأنَّ الإنسان ضعيف لا يقدر على مقاومة ذلك. فكيف يقهره الله على فعلٍ ثُمَّ يُؤاخذه عليه ويُعاقبه على فعله، والله العادل! أليس هذا من الظّلم، وهو المنـزَّه عنه سبحانه وتعالى؟! "وإن كانت منهما، فهو شريكه، والقويّ أولى بإنصاف عبده الضّعيف"، فإذا كانت المعصية من الله ومن العبد، فإنَّ الله شريك العبد في إنتاج هذه المعصية، وعندما يكون أحد الشَّريكين قويّاً والآخر ضعيفاً، فليس من الإنصاف أن يؤاخذ القويّ الضّعيف، وليس للضّعيف إلاّ النّصيب الأضعف، "وإن كانت من العبد وحده، فعليه وقع الأمر، وإليه توجَّه النّهي، وله حقّ الثّواب والعقاب، ووجبت الجنَّة والنَّار"، لأنَّه يتحمَّل كلَّ المسؤوليَّة، عندما تكون المعصية من العبد وحده، وليس للّه سبحانه وتعالى دخلٌ فيها، لا على نحو الاستقلال ولا على نحو المشاركة. "فقلت ـ والكلام لأبي حنيفة ـ ذريّة بعضها من بعض"[3].

علامات الإمامة والعلم

وعن عيسى بن شلقان، قال: "دخلت على أبي عبد الله وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطّاب"، وكان أبو الخطّاب من أصحاب الإمام الصّادق(ع)، ثُمَّ تمرّد عليه وانحرف عنه، وأصبح يكذب على الإمام ويروي الرِّوايات غير الصَّحيحة عنه، وهذه طريقة دأب عليها الكذبة على الأئمَّة(ع)، من أمثال أبي الخطَّاب المذكور وسعيد بن المغيرة، الَّذي كان يدسُّ في كتب أصحاب الأئمَّة(ع)، حتّى وصل ما دسّه من روايات باطلة إلى أربعة آلاف رواية، ولذلك نرى روايات الغلوّ وما شابه ذلك تنشر في بعض الكتب، بحيث أخذ بعض النَّاس يرويها دونما تمحيص، في وقتٍ كان أصحاب الأئمَّة(ع) يتوقَّون ذلك، ولا يعتمدون الكتب إلاَّ مع السّماع، لئلاّ تكون هذه الرِّوايات مدخولة، أو أنَّها أضيفت إلى كتب الرّواة من أصحاب الأئمَّة(ع).

وسؤال الرّاوي عيسى بن شلقان عن أبي الخطَّاب، لأنَّه كان من أصحاب الإمام الصَّادق(ع)، وكان مستقيماً، ثُمَّ أخذ الإمام(ع) يحذِّر النَّاس منه، فصار ذلك موجباً لأسئلة البعض من النَّاس عن سرِّ هذا التّحذير، وكان عيسى بن شلقان أحد هؤلاء، فدخل على الإمام الصّادق(ع) يسأله عن أمره، فقال له(ع): "يا عيسى، ما منعك أن تلقى ابني فتسأله عن جميع ما تريد؟"، قال عيسى: "فذهبت إلى العبد الصّالح(ع)"، والعبد الصّالح من كنى الإمام الكاظم(ع)، وهي من أرقى كناه، إذ كان وصف العبد الصّالح من ألقاب النبيّ إبراهيم(ع)، كما في قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}[4]، لأنَّ كلمة العبد تعني كلَّ معاني العبوديَّة في كلّ عمقها وامتدادها في وجدان الإنسان وفي حياته، وكلمة الصَّالح تعني كلَّ خطوط الصَّلاح في الفكر، لأنَّ من الفكر ما هو صالح ومنه هو ما ليس كذلك. ولذلك، فإنَّ هذه الكلمة تجمع كلَّ عناصر الإنسان القريب من الله من موقع العبوديّة والطّاعة والعبوديّة والانصياع والاستسلام له. "فذهبت إلى العبد الصّالح(ع) وهو قاعد في الكتَّاب وعلى شفتيه أثر المداد، فقال لي مبتدئاً:يا عيسى، إنَّ الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق النبيّين على النبوَّة، فلم يتحوّلوا عنها أبداً"، وهذا دليل عصمة الأنبياء، "وأخذ ميثاق الوصيّين على الوصيّة، فلم يتحوّلوا عنها أبداً"، وهذا أيضاً دليل عصمة الأوصياء، "وأعار قوماً الإيمان زماناً ثُمَّ يسلبهم إيّاه"، ولا يقصد بإعارتهم إجبارهم عليه، وإنَّما يعني أنَّه لـم يعصمهم، بل خلق فيهم من المكوِّنات الإنسانيّة ما يدعوهم إلى فعل الخير وما يدعوهم إلى الشّرّ، فهم إلى الإيمان تارةً وإلى الكفر تارةً أخرى. "وإنَّ أبا الخطَّاب ممن أُعير الإيمان زماناً ثُمَّ سلبه الله تعالى"، وهو سرُّ قربه من الإمام الصّادق(ع) أوّلاً، ثُمَّ طرده من قبله لاحقاً، لأنَّه كان من المستقيمين أوّلاً، ثُمَّ انحرف، فاستوجب ذلك طرده والتَّحذير منه.

يقول عيسى بن شلقان: "فضممته إليّ وقبَّلت بين عينيه، ثُمَّ قلت: بأبي أنت وأمّي ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم، ثُمَّ رجعت إلى أبي عبد الله(ع) فقال: "ما صنعت يا عيسى؟"، فقلت له: "بأبي أنت وأمّي، أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما أردت أن أسأله عنه، فعلمت عند ذلك أنَّه صاحب هذا الأمر"، يعني خليفتك ومن بعدك، "فقال: يا عيسى"، وهذه شهادة عظيمة من الإمام الصّادق(ع): "إنَّ ابني هذا الّذي رأيت، لو سألته عمّا بين دفّتي المصحف لأجابك فيه بعلم". ثُمَّ أخرجه ذلك اليوم من الكتَّاب، فعلمت ذلك اليوم أنَّه صاحب الأمر"[5]. وهذه الرِّواية في قرب الإسناد، وفيها أنَّ الأمر ـ أي الإمامة ـ كان واضحاً جليّاً في الإمام موسى الكاظم(ع)، وذلك لجهة ظهور علمه على نحوٍ كان الإمام الصّادق(ع) يحيل السّائلين إليه في الأمور الشّرعيَّة والمسائل العقيديّة، وكان يومذاك صغيراً. وإذا كان ثمة تساؤل في هذه الرِّواية عن سبب وجود الإمام الكاظم(ع) في مكان تعليم الكتابة "الكتَّاب"، فإنَّه قد يكون لجهة الظروف الاجتماعيّة الّتي تفرض على الآباء أن يرسلوا أبناءهم إلى الكتَّاب، وإن لـم يكونوا محتاجين إليه، ولعلَّ هذا هو التّفسير الطبيعيّ لذلك، مع عدم حاجة الإمام الكاظم(ع)، وهو يجيب عن أسئلة السَّائلين وفي أمورٍ ومسائل معقَّدة.

طفولة منفتحة على الله

وعن الإمام الرّضا(ع) أنَّ "موسى بن جعفر(ع) تكلّم يوماً بين يدي أبيه فأحسن"، أي تكلَّم الإمام الكاظم(ع) بمحضر أبيه(ع) ومجلسه، وربَّما كان في سنّ الطّفولة أو بداية الشباب، فأحسن في حديثه وكلامه، بحيث أعجب الإمام بكلامه، "فقال له: يا بنيّ، الحمد للّه الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء"[6]، فهو الخلف المناسب له، وهو أيضاً يملأ حياته سروراً، بما عليه من العلم والمعرفة الّذي تسرُّ الآباء في أبنائهم، وفوق ذلك، فإنَّه عوضٌ عن الأصدقاء، ما يجعله الصّديق لأبيه، لما عليه من رجاحة العقل وكماله، ذلك العقل الكامل والمعصوم.

وفي أخبار الرّضا للصَّدوق، أنَّه روى الوشاء عن عليّ بن الحسين ـ وهو راوٍ، وليس المراد به الإمام زين العابدين(ع) ـ عن صفوان الجمَّال أنَّه قال: "سألت أبا عبد الله عن صاحب هذا الأمر"، أي الخليفة والإمام من بعده، "قال: صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب"، وكان أبو الحسن موسى الكاظم(ع) صغير السنّ، وكأنَّ الإمام الصّادق(ع) يريد أن يقول إنَّ طفولته ليست طفولةً لاهيةً لاعبة، بل إنَّ طفولته طفولة جادّة ومنفتحة على الله حتّى في حالة اللّعب، "وأقبل أبو الحسن وهو صغيرٌ ومعه بهمة عناق مكيّة"، والبهمة في اللّغة الواحد من أولاد الضّأن، والعناق الأنثى من أولاد المعزى ما لـم يتمّ لها سنة من عمرها، "وهو يقول لها اسجدي لربّك"، فهو لا يلعب ولا يلهو، بل إنَّه كان يُخاطبها اسجدي لربّـك، لأنَّه كما قال تعالى: {وَللهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[7]، فكأنَّما يريد الإيحاء لمن يسمعه أنَّ من واجب أو من مسؤوليّة كلّ المخلوقات، أن تسجد للّه سبحانه وتعالى، "فأخذه أبو عبد الله، وضمّه إليه وقال: بأبي أنت وأمّي، من لا يلهو ولا يلعب"[8]، فأيّ لهوٍ ولعبٍ هذا الّذي يُمارسه الإنسان في هذه السّنّ، وهو يُشير إلى أعظم الحقائق الكونيّة، مثل العبوديَّة والخالقيَّة...

وفي روايةٍ، أنَّ الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) قال: "دخلت ذات يوم من المكتب ومعي لوحي ـ يعني اللّوح الّذي يقرأ به ويكتب عليه ـ قال: فأجلسني أبي بين يديه، وقال: يا بنيّ، اكتب: تنحَّ عن القبيح ولا تردّه، ثُمَّ قال: أجزه، فقلت: ومن أوليته حسناً فـزده"، أي لا تتنحّ عن القبيح وحسب، بل زد من أعطيته الخير خيراً على خير، "ثُمَّ قال ـ أي الإمام الصّادق(ع) ـ ستلقى من عدوّك كلّ كيد، فقلت ـ أي الإمام الكاظم(ع) ـ إذا كاد العدوّ فلا تكده، فقال: ذرّيّة بعضها من بعض"[9].

وهكذا نلاحظ أنَّ الإمام الكاظم(ع) كان في طفولته يعيش العلم كأعمق وأوعى وأصبر ما يكون العلم، ما يوحي بأنَّ سرَّ الإمامة في الإمام ينطلق مما يمنحه الله للإمام من ملكاتٍ تتحرَّك طفولته معها، ليشمل حركة الإمامة عندما يحين وقتها، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

من وصايا الإمام(ع)

ونُحاول في هذه المحاضرة أن نلتقط بعض الكلمات المرويّة عن الإمام الكاظم(ع)، لأنَّنا ذكرنا أكثر من مرَّة أنَّه عندما نتحدَّث عن الأئمّة(ع)، فإنَّه يلزم أن نستضيء بكلماتهم، وأن نرتبط بفكرهم وبوصاياهم، لأنَّ هذا هو ما يبقى لنا منهم، وهذا مـا يمثِّل حركيَّة الإمامة على مدى الزّمن، لأنَّ الإمام كالنبـيّ، يبقى مدّةً مع النَّاس ثُمَّ يلحق بربّـه، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[10]، ويبقى من الإمام كما يبقى من النَّبيّ، ما يبقى من علمه، وما يبقى من إيحاءات سيرته وما إلى ذلك.

وعن موسى بن جعفر عن آبائه(ع) قـال الحسين(ع): "جاء رجلٌ إلى أميـر المؤمنين(ع) يسعى بقوم"، يريد الفتنة ويشي بهؤلاء القوم أنَّهم عملوا كذا وكذا، ليعتقلهم الإمام عليّ(ع) ويُعاقبهم، ككلّ الوشاة الّذين ينقلون السوء عن النَّاس لدى الحاكمين حتّى يؤاخذوهم، "فأمرني أن دعوت له قنبراً، فقال له عليّ(ع): اخرج إلى هذا السّاعي، فقل له قد أسمعتنا ما كره الله تعالى، فانصرف في غير حفظ الله تعالى"[11]، أي أنَّ الإمام عليّاً(ع) أمر الحسين(ع) أن يدعو قنبراً خادمه، فقال له الإمام عليّ(ع): يا قنبر، اخرج إلى هذا السّاعي، فقل له قد أسمعتنا ما كره الله تعالى، لأنَّ الله يكره أن ينقل الإنسان السّوء عن المؤمنين لمن يملك أن يعاقبهم، لأنَّه من النَّميمة، وقد ورد في الحديث أنَّه "لا يدخل الجنَّة نمَّام"[12]، ما أوجب ذلك أن يدعو الإمام عليّ(ع) عليه، فيقول: "فانصرف في غير حفظ الله تعالى"، بمعنى أن لا يحفظك الله، ولا يكثر أمثالك.

وفي وصيَّته ـ أي وصيّة الإمام الكاظم(ع) ـ لهشام بن الحكم، قال: "يا هشام، كان أمير المؤمنين يوصي أصحابه يقول: أوصيكم بالخشية من الله في السرِّ والعلانية"، وذلك هو التَّقوى، وقد قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[13]، "والعدل في الرّضا والغضب"، أي أن تكون عادلاً تراعي حقوق النَّاس في إنسانيّتهم، وفي كلّ قضاياهم الّتي تختزن الحقّ لهم، سواء كنت راضياً أو غاضباً، فلا يدفعك الرّضا عن شخصٍ إلى أن تعطيه ما ليس بحقّ، كأن تمدحه بغير حقّ، ولا يدفعك الغضب إلى أن تمنع إنساناً حقّاً، أو أن لا تعطيه ما هو بحقّ، أي ليكن الغضب والرّضا عندك سواء في خطّ المسؤوليَّة، "والاكتساب في الفقر والغنى"، فلا تكن بطّالاً، فاكسب رزقك في حالة الغنى والفقر، لأنَّ الله لا يحبُّ العبد البطّال، "وأن تصلوا من قطعكم، وتعفوا عمَّن ظلمكم، وتعطفوا على من حرمكم"، وهنا يرسم الإمام عليّ(ع) الصّورة الحقيقيّة للمؤمن في أخلاقه، فيما بيَّنه رسول الله(ص) من مكارم الأخلاق، فلا تكون الأخلاق برسم البيع أو الشّراء، لأنَّ الأخلاق ليست تجاريّة، ولا تخضع للتجارة والعرض والطّلب، بمعنى أن أعطيك لأنَّك أعطيتني، وأصلك لأنَّك وصلتني، فهذه ليست أخلاقاً، بل هي بيع وشراء ومبادلة.

وأمَّا الأخلاق في حقيقتها، فهي تلك الّتي تنطلق من داخل شخصيّتك، كما ينطلق الماء من الينبوع بعفويّة، وكما تنطلق الشّمس عندما تعطي الضّوء، فتصل من قطعك، لأنَّك تعيش معنى الصّلة، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك، لأنَّك تعيش هذا الخلق، ولأنَّك لا تملك إلاَّ أن تكون العفوّ والوصول والمعطاء. وقد ورد في الحديث: "ألا أدلّكم على خير خلائق الدنيا والآخرة؟ تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك"[14]. وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين في دعاء مكارم الأخلاق، "اللّهمّ وسددني لأن أعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، وأُثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصّلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذّكر"[15].

ثُمَّ يقول الإمام عليّ(ع) في وصيَّته: "وليكن نظركم عبراً"، يعني حينما تمرّون بهذه الدّيار الَّتي يسكنها النَّاس المساكين، والقلاع الّتي بناها أُناس آخرون، فلتكن لكم العبرة فتأخذوا درساً، وليكن نظركم وسيلةً من وسائل الدّرس الّذي يعطيكم العبرة الّتي تستفيدون منها في حياتكم، "وصمتكم فكراً"، وعندما تصمتون، فإنَّما تصمتون للتّفكير ولتعميق المعرفة، "وقولكم ذكراً"، وعندما تتكلَّمون، ليكن كلامكم في ذكر الله، "وطبيعتكم السّخاء"، يعني العطاء بما تستطيعون، "فإنَّه لا يدخل الجنَّة بخيل، ولا يدخل النّار سخيّ"[16]، حتّى إنَّه يُقال في بعض الأحاديث، إنَّ الله جعل لحاتـم الطّائي المعروف بالكرم، مساحةً بين الجنّة والنّار، تقديراً لكرمه.

الإسلام دين التّوازن

وفي كلمةٍ مضيئةٍ أخرى عن الإمام الكاظم(ع)، أنَّه قال: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات"، أي لينقسم يومكم إلى أربع ساعات، والسّاعة في كلامه(ع) ليس المراد بها السّاعة باصطلاحنا اليوم التي تعدُّ ستّين دقيقة، بل كناية عن الوقت. "ساعة لمناجاة الله"، فتجلس لربّك، لتصلّي وتناجيه في كلِّ آلامك وأحلامك، "وساعة لأمر المعاش"، لتطلب رزقك، "وساعة لمعاشرة الأخوان..." تخلو فيها لأخوانك وتحدِّثهم ويحدّثونك، "وساعة تخلون فيها للذَّاتكم في غير محرَّم"، فإنَّ النفس الإنسانيّة بما تشتمل على غرائز وطبائع، تحتاج إلى ما يلبّي لها احتياجاتها الطبيعيّة، ولكن في غير ما حرَّم الله تعالى، "وبهذه السّاعة" التي تعطي نفسك لذّتها باللّعب وباللّهو، "تقدرون على الثّلاث ساعات"[17]، لأنَّها تنشّط الإنسان، فليس من الطبيعيّ أن يعيش الإنسان في جدٍّ مستمرّ، وقد ورد "أنَّ القلب إذا أكره عمي"[18]، وورد أيضاً: "روِّحوا القلوب ساعةً فساعة"[19]، ولذلك لـم يضيّق الإسلام على الإنسان حياته، بل أعطاه نافذةً على حاجاته النفسيّة والجسديّة، وفي الحديث: "اجعلوا لأنفسكم حظّاً من الدُّنيا، بإعطائها ما تشتهي من الحلال..."، فيعيش الإنسان في الدُّنيا بما لها من حاجاتٍ ولذّاتٍ وطيّباتٍ دونما تجاوزٍ للحدود المعقولة والمشروعة، "واستعينوا بذلك على أمور الدِّين"، فعندما تعطي لنفسك حاجاتها الدّنيويّة، فإنَّها تقبل على أمور الدِّين بنشاط، لأنَّها عندئذٍ لا تعيش الحاجات الجسديّة والأزمات النفسيَّة وما إلى ذلك، "فإنَّه روي ليس منَّا من ترك دنياه لدينه"، بحيث أقبل على الدِّين ومنع نفسه من كلّ لذّاتها في الدُّنيا، "أو ترك دينه لدنياه"[20]، بل عليه أن يعيش التّوازن بين حاجاته ومتطلّبات عبوديّته للّه ومسؤوليّته الدينيَّة.

وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى في إشارة إلى ذلك، إذ يقول: {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[21]، وكذلك حدَّثنا الله عن قوم قارون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[22]، ولذا صحّ أن يُقال إنَّ الإسلام دين التّوازن.

أمُّ الوصايا

وفي كلمةٍ أخرى له، كما جاء في (تحف العقول) أنَّه قال لبعض ولده: "يا بنيّ، إيّاك أن يراك الله في معصيةٍ نهاك عنها"، ولقد نهاك الله عن أشياء، فاحذر أن يراك الله في مواقع المعصية، "وإيّاك أن يفقدك الله عند طاعةٍ أمرك بها"، لأنَّ الله يريد لك أن تتواجد في مواقع الطّاعة، "وعليك بالجدّ"، فلا تأخذ حياتك بالهزل واللامبالاة، فكن جادّاً في الحياة لأنَّها مسؤوليّة، وعلى الإنسان أن يواجه مسؤوليّة الحياة بكلّ تصميمٍ وتخطيط، ليقوم بمسؤوليّته وليحقِّق أهدافه، "ولا تخرج نفسك من حدِّ التّقصير في عبادة الله وطاعته، فإنَّ الله لا يعبد حقَّ عبادته"، فمهما عبدت الله ومهما أطعته، فلا تشعر بالرّضا عن نفسك، وانظر إلى نفسك مقصِّراً، فإنَّ هناك مراتب ومراحل لعبادته لا يبلغها الإنسان إلاَّ بعد جهدٍ وجهد، "وإيّاك والمزاح"، يعني أن تكون مزّاحاً، تتحرّك في حياتك بالمزاح، وليس المقصود أن لا تمزح المرّة والمرّتين، بل إنّ الإمام(ع) في مقام النّهي عن الاستغراق في المزاح، لأنَّ بعض النَّاس يعيش يومه من الصّباح إلى اللّيل بالمزاح.

"فإنّه يذهب بنور إيمانك ويستخفّ بمروءتك. وإيّاك والضّجر والكسل"، فلا تضجر، بل جدِّد نشاطك وإقبالك على العمل، ولا تكسل عن مسؤوليَّاتك، "فإنَّهما يمنعان حظّك من الدُّنيا والآخرة"[23]، لأنَّك إذا ضجرت، فستترك حظّك في الدُّنيا والآخرة، وإذا كسلت، فلا تؤدّي حقّاً في الدُّنيا والآخرة.

كانت هذه بعض إضاءات الإمام الكاظم(ع) في حياته وسيرته وفي كلماته ووصاياه.

أيُّها الأحبَّة، إنَّ أهل البيت(ع) يمثِّلون القمّة في كلّ شيء، فهم حجج الله على عباده، وهم النّور الّذي نستضيء به، وهم الخطّ المستقيم الّذي يهدينا إلى الله، ولذلك، حاولوا أن تتعرّفوا أهل البيت في سيرتهم التي تجسِّد الإسلام، وفي كلماتهم الّتي تضيء لنا مفاهيم الإسلام ومنهجه ووسائله وغاياته، فلا يكن أهل البيت مجرَّد مأساةٍ تستنـزف دموعكم، ولا مجرَّد فرحٍ مادّيّ يجتذب بسماتكم، بل ليكن أهل البيت(ع) عقلاً يرتفع بعقولكم، وقلباً يفتح قلوبكم على الله وعلى المحبّة، وحركةً تفتح حياتكم على الحقّ والعدل وما يؤدِّي إلى القرب من الله، وسلام الله على الإمام الكاظم(ع)، يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يُبعث حيّاً. والحمدُ لله ربِّ العالـمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 544.

[2]  وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 17، ص 193.

[3]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 48، ص 106.

[4]  (البقرة: 130).

[5]  بحار الأنوار، ج 48، ص 24.

[6]  بحار الأنوار، ج 48، ص 24.

[7]  (الرّعد: 15).

[8]  بحار الأنوار، ج 48، ص 20.

[9]  المصدر نفسه، ج 48، ص 109.

[10]  (الزمر: 30).

[11]  بحار الأنوار، ج 41، ص 119.

[12]  ميزان الحكمة، ج 4، ص 3371.

[13]  (النازعات: 40، 41).

[14]  وسائل الشيعة، ج 8، ص 521.

[15]  الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال.

[16]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 390.

[17]  المصدر نفسه، ص 409.

[18]  نهج البلاغة، ج 4، ص 45.

[19]  كنز العمال، ج 3، ص 37.

[20]  بحار الأنوار، ج 75، ص 321.

[21]  (البقرة: 201).

[22]  (القصص: 77).

[23]  تحف العقول، ص 409.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير