قصة النبي يوسف(ع) في التوراة

قصة النبي يوسف(ع) في التوراة

 في هذا العدد، نكمل ما كنّا بدأناه في المرّة السّابقة من استكمال قصّة يوسف، كما وردت في التّوراة. ساقت التّوراة1 قصّة صاحبي السّجن ورؤياهما ورؤيا فرعون مصر، وملخّصه:

   أنّهما كانا رئيس سقاة فرعون ورئيس الخبّازين، أذنباه [عصياه] فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرط عند يوسف، فرأى رئيس السّقاة في منامه أنّه يعصر خمراً، والآخر أنّ الطّير تأكل من طعام حمله على رأسه، فاستفتيا يوسف، فعبّر [ففسّر] رؤيا الأوّل برجوعه إلى سقي فرعون شغله السّابق، والثّاني بصلبه فتأكل الطّير من لحمه. وسأل السّاقي أن يذكره عند فرعون لعلّه يخرج من السّجن، لكنّ الشّيطان أنساه ذلك.

  ثم بعد سنتين، رأى فرعون سبع بقراتٍ سمان حسنة المنظر خرجت من نهر، وسبع بقراتٍ مهزولة قبيحة المنظر وقفت على الشّاطئ، فأكلت المهازيل السّمان، فاستيقظ فرعون ثم نام، فرأى سبع سنابل خضر حسنة سمينة، وسبع سنابل رقيقة ملفوحة بالرّيح الشرقيّة نابتةً وراءها، فأكلت الرقيقةُ السمينةَ، فهال فرعون ذلك، وجمع سحرة مصر وحكماءها، وقصّ عليهم رؤياه، فعجزوا عن تعبيره [تفسيره].

  وعند ذلك، ادّكر [تذكّر] رئيس السّقاة يوسف، فذكره لفرعون وذكر ما شاهده من عجيب تعبيره للمنام، فأمر فرعون بإحضاره، فلمّا أدخل عليه، كلّمه واستفتاه فيما رآه في منامه مرةً بعد أخرى.


   تأويل يوسف رؤيا الملك

  فقال يوسف لفرعون: حلم فرعون واحد، قد أخبر الله فرعون بما هو صانع؛ البقرات السّبع الحسنة في سبع سنين، وسنابل السّبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد، والبقرات السّبع الرّقيقة القبيحة الَّتي طلعت وراءها سبع سنين، والسّنابل السبع الفارغة الملفوحة بالرّيح الشّرقيّة يكون سبع سنين جوعاً.


  هو الأمر الّذي كلّمت به فرعون، قد أظهر لفرعون ما هو صانع، هوذا سبع سنين قادمة شبعاً عظيماً في كلّ أرض مصر، ثم تقوم بعده سبع سنين جوعاً، فينسى كلّ الشّبع في أرض مصر، ويتلف الجوع الأرض، ولا يعرف الشّبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده، لأنّه يكون شديداً جدّاً، وأمّا عن تكرار الحلم على فرعون مرّتين، فلأنّ الأمر مقرّر من عند الله، والله مسرعٌ لصنعه.


  فالآن، لينظر فرعون رجلاً بصيراً وحكيماً، ويجعله على أرض مصر. يفعل فرعون، فيوكل نظّاراً على الأرض، ويأخذ خمس غلّة أرض مصر في سبع سنين من الشّبع، فيجمعون جميع طعام هذه السّنين الجيّدة القادمة، ويخزّنون قمحاً تحت يد فرعون طعاماً في المدن ويحفظونه، فيكون الطّعام ذخيرةً للأرض لسبع سني الجوع الّتي تكون في أرض مصر، فلا تنقرض الأرض من الجوع...

  إنّ فرعون استحسن كلام يوسف وتعبيره، وأكرمه وأعطاه إمارة المملكة في جميع شؤونها، وخلع عليه بخاتمه، وألبسه ثياب بوص، ووضع طوق ذهب في عنقه، وأركبه في مركبته الخاصّة، ونودي أمامه أن اركعوا، وأخذ يوسف يدبّر الأمور في سني الخصب، ثم في سنّ الجدب، أحسن إدارة.


  سفر أولاد يعقوب إلى مصر

  إنّه لمّا عمّت السّنة أرض كنعان، أمر يعقوب بنيه أن يهبطوا إلى مصر فيأخذوا طعاماً، فساروا ودخلوا على يوسف، فعرفهم وتنكّر لهم وكلّمهم بجفاء، وسألهم: من أين جئتم إلى أرضنا؟ قالوا: من أرض كنعان لنشتري طعاماً، قال يوسف: بل جواسيس جئتم إلى أرضنا لتفسدوها. قالوا نحن جميعاً أبناء رجل واحد من كنعان، كنّا اثني عشر أخاً، فُقِد واحدٌ منّا وبقي أصغرنا، ها هو اليوم عند أبينا والباقون بحضرتك، ونحن جميعاً لا نعرف الفساد والشرّ. قال يوسف: لا وحياة فرعون، نحن نراكم جواسيس، ولا نخلّي سبيلكم حتى تحضرونا أخاكم الصّغير حتّى نصدّقكم فيما تدّعون. فأمر بهم، فحُبسوا ثلاثة أيّام، ثم أحضرهم، وأخذ من بينهم شمعون، وقيّده أمام عيونهم، وأذِن لهم أن يرجعوا إلى كنعان ويجيئوا بأخيهم الصّغير.


  ثم أمر أن يملؤوا أوعيتهم قمحاً، وتُردّ فِضّة كلّ واحدٍ إلى عدله، فرجعوا إلى أبيهم وقصّوا عليه القصص، فأبى يعقوب أن يرسل بنيامين معهم، وقال: أعدمتموني الأولاد، يوسف مفقود، وشمعون مفقود، وبنيامين تريدون أن تأخذوه، لا يكون ذلك أبداً، وقال: قد أسأتم في قولكم للرّجل إنّ لكم أخاً تركتموه عندي. قالوا إنّه سأل عنّا وعن عشيرتنا قائلاً: هل أبوكم حيّ بعد، وهل لكم أخٌ آخر؟ فأخبرناه كما سألنا، وما كنّا نعلم أنّه سيقول أجيئوا لي بأخيكم. فلم يزل يعقوب يمتنع حتى أعطاه يهوذا الموثق أن يردّ إليه بنيامين، فأذن في ذهابه به معهم، وأمرهم أن يأخذوا من أحسن متاع الأرض هديّةً إلى الرّجل، وأن يأخذوا معهم أصرّة الفضّة التي رُدّت إليهم في أوعيتهم، ففعلوا.


  ولمّا وردوا مصر، لقوا وكيل يوسف على أموره، وأخبروه بحاجتهم، وأنّ بضاعتهم رُدّت إليهم في رحالهم، وعرضوا له هديّتهم، فرحّب بهم وأكرمهم وأخبرهم أنّ فضّتهم لهم، وأخرج إليهم الرّهين، ثم أدخلهم على يوسف، فسجدوا له وقدّموا إليه هديّته، فرحّب بهم واستفسرهم عن حالهم وعن سلامة أبيهم، وعرضوا عليه أخاهم الصّغير، فأكرمه ودعا له، ثم أمر بتقديم الطّعام، فقُدّم له وحده ولهم وحدهم ولمن عنده من المصريّين وحدهم.


  ثم أمر وكيله أن يملؤوا أوعيتهم طعاماً، وأن يدسّ فيها هديّتهم، وأن يضع طاسةً في عِدل أخيهم الصّغير، ففعل، فلمّا أضاء الصّبح من غدٍ، شدّوا الرّحال على الحمير وانصرفوا، فلمّا خرجوا من المدينة ولما يبتعدوا، قال لوكيله: أدرك القوم وقل لهم: بئس ما صنعتم! جازيتم الإحسان بالإساءة، سرقتم طاس سيّدي الذي يشرب فيه ويتفاءل به. فبهتوا من استماع هذا القول، وقالوا: حاشانا من ذلك، هو ذا الفضّة التي وجدناها في أفواه عِدالنا، جئنا بها إليكم من كنعان، فكيف نسرق من بيت سيّدك فضّةً أو ذهباً، من وجد الطّاس في رحله يُقتل، ونحن جميعاً عبيد سيّدك! فرضي بما ذكروا له من الجزاء.

  فبادروا إلى عدولهم، وأنزل كلّ واحدٍ منهم عِدله وفتحه، فأخذ يفتّشها، وابتدأ من الكبير حتى انتهى إلى الصّغير، وأخرج الطّاس من عِدله، فلمّا رأى ذلك أخوته، مزّقوا ثيابهم ورجعوا إلى المدينة، ودخلوا على يوسف، وأعادوا عليه قولهم معتذرين معترفين بالذّنب، عليهم سيماء الصّغار والهوان والخجل، فقال: حاشا أن نأخذ إلا من وجد متاعنا عنده، وأمّا أنتم، فارجعوا بسلام إلى أبيكم. فتقدّم إليه يهوذا، وتضرّع إليه واسترحمه، وذكر له قصّتهم مع أبيهم حين أمرهم يوسف بإحضار بنيامين، فسألوا أباهم ذلك، فأبى أشدّ الإباء، حتّى أتاه يهوذا بالميثاق على أن يردّ بنيامين، وأنّ أباهم الشّيخ لو سمع منهم ذلك لمات من وقته، ثم سأله أن يأخذه مكان بنيامين عبداً لنفسه ويُطلق بنيامين لتقرّ بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من أمّه يوسف.


  لقاء يوسف بأخوته

  فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده، فصرخ: أخرِجوا كلّ إنسان عنّي، فلم يقف عنده أحدٌ حين عرّف أخوته بنفسه، فأطلق صوته بالبكاء، فسمع المصريّون وسمع بيت فرعون، وقال يوسف لأخوته، أنا يوسف، أحيّ أبي بعد؟ فلم يستطع أخوته أن يجيبوا لأنّهم ارتاعوا منه، وقال يوسف: تقدّموا إليّ، فتقدموا، فقال: أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر، والآن لا تتأسّفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا، لأنّه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدّامكم، لأنّ للجوع في الأرض الآن سنتين وخمس سنين أيضاً لا يكون فيها فِلاحة ولا حصاد، فقد أرسلني الله قدّامكم ليجعل لكم بقيّةً في الأرض، وليستبقي لكم نجاةً عظيمةً، فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا، بل الله، وهو قد جعلني أباً لفرعون، وسيّداً لكلّ بيته، ومتسلّطاً على كلّ أرض مصر.


  أسرعوا واصعدوا إلى أبي، وقولوا له: هكذا يقول ابنك يوسف، انزل إليّ، لا تقف فتسكن أرض جاسان وتكون قريباً مني أنت وبنوك وبنو بنيك وغنمك وبقرك وكلّ مالك، وهي ذا عيونكم ترى، وعينا أخي بنيامين، أنّ فمي هو الذي يكلّمكم وتخبرون أبي بكلّ مجدي في مصر، وبكلّ ما رأيتم، وتستعجلون بأبي إلى هنا. ثم وقع على عين بنيامين أخيه، وبكى طويلاً، وبكى بنيامين على عنقه، وقبّل جميع أخوته وبكى عليهم.

  ثم إنّه جهّزهم أحسن التّجهيز، وسيّرهم إلى كنعان، فجاؤوا أباهم وبشّروه بحياة يوسف، وقصّوا عليه القصص، فسرّ بذلك، وسار بأهله جميعاً إلى مصر وهم جميعاً سبعون نسمةً، ووردوا أرض جاسان، وركب يوسف إلى هناك يستقبل أباه، ولقيه قادماً، فتعانقا وبكى طويلاً، ثم أنزله وبنيه وأقرّهم هناك، وأكرمهم فرعون إكراماً بالغاً، وأمّنهم، وأعطاهم ضيعةً في أفضل بقاع مصر، وعالهم يوسف ما دامت السّنون المجدبة، وعاش يعقوب في أرض مصر بعد لقاء يوسف سبع عشرة سنةً، إلى هنا انتهت القصة التي أوردها التوراة .


  ملاحظات على القصّة التّوراتية

  إنّنا نلاحظ في القصّة التوراتيّة، أنّها تختلف عن قصّة القرآن في قضيّة الحُلم الّذي رآه يوسف، حيث إنّه لم يقصّه إلا على أبيه الّذي خوّفه من نتائجه وتأويله، خوفاً من حسد أخوته الّذي انتهى به إلى ما انتهى إليه.

  ثم نلاحظ أنّ القصّة القرآنيّة تحتفظ ليعقوب بشخصيّته الرّساليّة، وتصوّر حزنه حزناً إنسانيّاً لا جزع فيه، في رجوع إلى الله فيما يبتلي عباده الصّالحين ورسله المقرّبين. هذا إلى جانب ما أفاض الله عليه من الكرامة التي تشبه المعجزة وتقرّبه إلى الله.


  وفي هذا الجوّ، نجد الكثير من التّفاصيل التي تتحدّث عن الحلم اليوسفيّ في حواره مع أخوته عنه، ممّا لا يجد الإنسان فيه أيّة واقعيّة، لأنَّه ليس أمراً حقيقيّاً... ثم تفيض في الحديث عن يعقوب وموقف بنيه منه، وسوء نظرتهم إليه كرسولٍ، في اعتبارهم أنّه يمكنُ أن يضلَّ ويبتعد عن وعي معنى النّبوّة، سواء بالنّسبة إلى أولاده أو غيرهم.


  وفي ختام هذه القصّة اليوسفيّة الّتي وردت في التّوراة، والّتي قد تلتقي مع بعض ما تحدّث عنه القرآن، ولكن بما لا يخلو من الفوضى، ينبغي للمؤمنين من قارئي القرآن، أن يدخلوا في المقارنة بين القصص القرآنيّ وقصص التّوراة، التي دخل بها التّحريف والتّشويه. ويبقى القرآن هو النّور الّذي يشرق في قلب التّاريخ والحاضر والمستقبل من أجل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. والحمد لله رب العالمين.


   *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
  
  
1  [الإصحاح 41 من سفر التكوين].

 في هذا العدد، نكمل ما كنّا بدأناه في المرّة السّابقة من استكمال قصّة يوسف، كما وردت في التّوراة. ساقت التّوراة1 قصّة صاحبي السّجن ورؤياهما ورؤيا فرعون مصر، وملخّصه:

   أنّهما كانا رئيس سقاة فرعون ورئيس الخبّازين، أذنباه [عصياه] فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرط عند يوسف، فرأى رئيس السّقاة في منامه أنّه يعصر خمراً، والآخر أنّ الطّير تأكل من طعام حمله على رأسه، فاستفتيا يوسف، فعبّر [ففسّر] رؤيا الأوّل برجوعه إلى سقي فرعون شغله السّابق، والثّاني بصلبه فتأكل الطّير من لحمه. وسأل السّاقي أن يذكره عند فرعون لعلّه يخرج من السّجن، لكنّ الشّيطان أنساه ذلك.

  ثم بعد سنتين، رأى فرعون سبع بقراتٍ سمان حسنة المنظر خرجت من نهر، وسبع بقراتٍ مهزولة قبيحة المنظر وقفت على الشّاطئ، فأكلت المهازيل السّمان، فاستيقظ فرعون ثم نام، فرأى سبع سنابل خضر حسنة سمينة، وسبع سنابل رقيقة ملفوحة بالرّيح الشرقيّة نابتةً وراءها، فأكلت الرقيقةُ السمينةَ، فهال فرعون ذلك، وجمع سحرة مصر وحكماءها، وقصّ عليهم رؤياه، فعجزوا عن تعبيره [تفسيره].

  وعند ذلك، ادّكر [تذكّر] رئيس السّقاة يوسف، فذكره لفرعون وذكر ما شاهده من عجيب تعبيره للمنام، فأمر فرعون بإحضاره، فلمّا أدخل عليه، كلّمه واستفتاه فيما رآه في منامه مرةً بعد أخرى.


   تأويل يوسف رؤيا الملك

  فقال يوسف لفرعون: حلم فرعون واحد، قد أخبر الله فرعون بما هو صانع؛ البقرات السّبع الحسنة في سبع سنين، وسنابل السّبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد، والبقرات السّبع الرّقيقة القبيحة الَّتي طلعت وراءها سبع سنين، والسّنابل السبع الفارغة الملفوحة بالرّيح الشّرقيّة يكون سبع سنين جوعاً.


  هو الأمر الّذي كلّمت به فرعون، قد أظهر لفرعون ما هو صانع، هوذا سبع سنين قادمة شبعاً عظيماً في كلّ أرض مصر، ثم تقوم بعده سبع سنين جوعاً، فينسى كلّ الشّبع في أرض مصر، ويتلف الجوع الأرض، ولا يعرف الشّبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده، لأنّه يكون شديداً جدّاً، وأمّا عن تكرار الحلم على فرعون مرّتين، فلأنّ الأمر مقرّر من عند الله، والله مسرعٌ لصنعه.


  فالآن، لينظر فرعون رجلاً بصيراً وحكيماً، ويجعله على أرض مصر. يفعل فرعون، فيوكل نظّاراً على الأرض، ويأخذ خمس غلّة أرض مصر في سبع سنين من الشّبع، فيجمعون جميع طعام هذه السّنين الجيّدة القادمة، ويخزّنون قمحاً تحت يد فرعون طعاماً في المدن ويحفظونه، فيكون الطّعام ذخيرةً للأرض لسبع سني الجوع الّتي تكون في أرض مصر، فلا تنقرض الأرض من الجوع...

  إنّ فرعون استحسن كلام يوسف وتعبيره، وأكرمه وأعطاه إمارة المملكة في جميع شؤونها، وخلع عليه بخاتمه، وألبسه ثياب بوص، ووضع طوق ذهب في عنقه، وأركبه في مركبته الخاصّة، ونودي أمامه أن اركعوا، وأخذ يوسف يدبّر الأمور في سني الخصب، ثم في سنّ الجدب، أحسن إدارة.


  سفر أولاد يعقوب إلى مصر

  إنّه لمّا عمّت السّنة أرض كنعان، أمر يعقوب بنيه أن يهبطوا إلى مصر فيأخذوا طعاماً، فساروا ودخلوا على يوسف، فعرفهم وتنكّر لهم وكلّمهم بجفاء، وسألهم: من أين جئتم إلى أرضنا؟ قالوا: من أرض كنعان لنشتري طعاماً، قال يوسف: بل جواسيس جئتم إلى أرضنا لتفسدوها. قالوا نحن جميعاً أبناء رجل واحد من كنعان، كنّا اثني عشر أخاً، فُقِد واحدٌ منّا وبقي أصغرنا، ها هو اليوم عند أبينا والباقون بحضرتك، ونحن جميعاً لا نعرف الفساد والشرّ. قال يوسف: لا وحياة فرعون، نحن نراكم جواسيس، ولا نخلّي سبيلكم حتى تحضرونا أخاكم الصّغير حتّى نصدّقكم فيما تدّعون. فأمر بهم، فحُبسوا ثلاثة أيّام، ثم أحضرهم، وأخذ من بينهم شمعون، وقيّده أمام عيونهم، وأذِن لهم أن يرجعوا إلى كنعان ويجيئوا بأخيهم الصّغير.


  ثم أمر أن يملؤوا أوعيتهم قمحاً، وتُردّ فِضّة كلّ واحدٍ إلى عدله، فرجعوا إلى أبيهم وقصّوا عليه القصص، فأبى يعقوب أن يرسل بنيامين معهم، وقال: أعدمتموني الأولاد، يوسف مفقود، وشمعون مفقود، وبنيامين تريدون أن تأخذوه، لا يكون ذلك أبداً، وقال: قد أسأتم في قولكم للرّجل إنّ لكم أخاً تركتموه عندي. قالوا إنّه سأل عنّا وعن عشيرتنا قائلاً: هل أبوكم حيّ بعد، وهل لكم أخٌ آخر؟ فأخبرناه كما سألنا، وما كنّا نعلم أنّه سيقول أجيئوا لي بأخيكم. فلم يزل يعقوب يمتنع حتى أعطاه يهوذا الموثق أن يردّ إليه بنيامين، فأذن في ذهابه به معهم، وأمرهم أن يأخذوا من أحسن متاع الأرض هديّةً إلى الرّجل، وأن يأخذوا معهم أصرّة الفضّة التي رُدّت إليهم في أوعيتهم، ففعلوا.


  ولمّا وردوا مصر، لقوا وكيل يوسف على أموره، وأخبروه بحاجتهم، وأنّ بضاعتهم رُدّت إليهم في رحالهم، وعرضوا له هديّتهم، فرحّب بهم وأكرمهم وأخبرهم أنّ فضّتهم لهم، وأخرج إليهم الرّهين، ثم أدخلهم على يوسف، فسجدوا له وقدّموا إليه هديّته، فرحّب بهم واستفسرهم عن حالهم وعن سلامة أبيهم، وعرضوا عليه أخاهم الصّغير، فأكرمه ودعا له، ثم أمر بتقديم الطّعام، فقُدّم له وحده ولهم وحدهم ولمن عنده من المصريّين وحدهم.


  ثم أمر وكيله أن يملؤوا أوعيتهم طعاماً، وأن يدسّ فيها هديّتهم، وأن يضع طاسةً في عِدل أخيهم الصّغير، ففعل، فلمّا أضاء الصّبح من غدٍ، شدّوا الرّحال على الحمير وانصرفوا، فلمّا خرجوا من المدينة ولما يبتعدوا، قال لوكيله: أدرك القوم وقل لهم: بئس ما صنعتم! جازيتم الإحسان بالإساءة، سرقتم طاس سيّدي الذي يشرب فيه ويتفاءل به. فبهتوا من استماع هذا القول، وقالوا: حاشانا من ذلك، هو ذا الفضّة التي وجدناها في أفواه عِدالنا، جئنا بها إليكم من كنعان، فكيف نسرق من بيت سيّدك فضّةً أو ذهباً، من وجد الطّاس في رحله يُقتل، ونحن جميعاً عبيد سيّدك! فرضي بما ذكروا له من الجزاء.

  فبادروا إلى عدولهم، وأنزل كلّ واحدٍ منهم عِدله وفتحه، فأخذ يفتّشها، وابتدأ من الكبير حتى انتهى إلى الصّغير، وأخرج الطّاس من عِدله، فلمّا رأى ذلك أخوته، مزّقوا ثيابهم ورجعوا إلى المدينة، ودخلوا على يوسف، وأعادوا عليه قولهم معتذرين معترفين بالذّنب، عليهم سيماء الصّغار والهوان والخجل، فقال: حاشا أن نأخذ إلا من وجد متاعنا عنده، وأمّا أنتم، فارجعوا بسلام إلى أبيكم. فتقدّم إليه يهوذا، وتضرّع إليه واسترحمه، وذكر له قصّتهم مع أبيهم حين أمرهم يوسف بإحضار بنيامين، فسألوا أباهم ذلك، فأبى أشدّ الإباء، حتّى أتاه يهوذا بالميثاق على أن يردّ بنيامين، وأنّ أباهم الشّيخ لو سمع منهم ذلك لمات من وقته، ثم سأله أن يأخذه مكان بنيامين عبداً لنفسه ويُطلق بنيامين لتقرّ بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من أمّه يوسف.


  لقاء يوسف بأخوته

  فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده، فصرخ: أخرِجوا كلّ إنسان عنّي، فلم يقف عنده أحدٌ حين عرّف أخوته بنفسه، فأطلق صوته بالبكاء، فسمع المصريّون وسمع بيت فرعون، وقال يوسف لأخوته، أنا يوسف، أحيّ أبي بعد؟ فلم يستطع أخوته أن يجيبوا لأنّهم ارتاعوا منه، وقال يوسف: تقدّموا إليّ، فتقدموا، فقال: أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر، والآن لا تتأسّفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا، لأنّه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدّامكم، لأنّ للجوع في الأرض الآن سنتين وخمس سنين أيضاً لا يكون فيها فِلاحة ولا حصاد، فقد أرسلني الله قدّامكم ليجعل لكم بقيّةً في الأرض، وليستبقي لكم نجاةً عظيمةً، فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا، بل الله، وهو قد جعلني أباً لفرعون، وسيّداً لكلّ بيته، ومتسلّطاً على كلّ أرض مصر.


  أسرعوا واصعدوا إلى أبي، وقولوا له: هكذا يقول ابنك يوسف، انزل إليّ، لا تقف فتسكن أرض جاسان وتكون قريباً مني أنت وبنوك وبنو بنيك وغنمك وبقرك وكلّ مالك، وهي ذا عيونكم ترى، وعينا أخي بنيامين، أنّ فمي هو الذي يكلّمكم وتخبرون أبي بكلّ مجدي في مصر، وبكلّ ما رأيتم، وتستعجلون بأبي إلى هنا. ثم وقع على عين بنيامين أخيه، وبكى طويلاً، وبكى بنيامين على عنقه، وقبّل جميع أخوته وبكى عليهم.

  ثم إنّه جهّزهم أحسن التّجهيز، وسيّرهم إلى كنعان، فجاؤوا أباهم وبشّروه بحياة يوسف، وقصّوا عليه القصص، فسرّ بذلك، وسار بأهله جميعاً إلى مصر وهم جميعاً سبعون نسمةً، ووردوا أرض جاسان، وركب يوسف إلى هناك يستقبل أباه، ولقيه قادماً، فتعانقا وبكى طويلاً، ثم أنزله وبنيه وأقرّهم هناك، وأكرمهم فرعون إكراماً بالغاً، وأمّنهم، وأعطاهم ضيعةً في أفضل بقاع مصر، وعالهم يوسف ما دامت السّنون المجدبة، وعاش يعقوب في أرض مصر بعد لقاء يوسف سبع عشرة سنةً، إلى هنا انتهت القصة التي أوردها التوراة .


  ملاحظات على القصّة التّوراتية

  إنّنا نلاحظ في القصّة التوراتيّة، أنّها تختلف عن قصّة القرآن في قضيّة الحُلم الّذي رآه يوسف، حيث إنّه لم يقصّه إلا على أبيه الّذي خوّفه من نتائجه وتأويله، خوفاً من حسد أخوته الّذي انتهى به إلى ما انتهى إليه.

  ثم نلاحظ أنّ القصّة القرآنيّة تحتفظ ليعقوب بشخصيّته الرّساليّة، وتصوّر حزنه حزناً إنسانيّاً لا جزع فيه، في رجوع إلى الله فيما يبتلي عباده الصّالحين ورسله المقرّبين. هذا إلى جانب ما أفاض الله عليه من الكرامة التي تشبه المعجزة وتقرّبه إلى الله.


  وفي هذا الجوّ، نجد الكثير من التّفاصيل التي تتحدّث عن الحلم اليوسفيّ في حواره مع أخوته عنه، ممّا لا يجد الإنسان فيه أيّة واقعيّة، لأنَّه ليس أمراً حقيقيّاً... ثم تفيض في الحديث عن يعقوب وموقف بنيه منه، وسوء نظرتهم إليه كرسولٍ، في اعتبارهم أنّه يمكنُ أن يضلَّ ويبتعد عن وعي معنى النّبوّة، سواء بالنّسبة إلى أولاده أو غيرهم.


  وفي ختام هذه القصّة اليوسفيّة الّتي وردت في التّوراة، والّتي قد تلتقي مع بعض ما تحدّث عنه القرآن، ولكن بما لا يخلو من الفوضى، ينبغي للمؤمنين من قارئي القرآن، أن يدخلوا في المقارنة بين القصص القرآنيّ وقصص التّوراة، التي دخل بها التّحريف والتّشويه. ويبقى القرآن هو النّور الّذي يشرق في قلب التّاريخ والحاضر والمستقبل من أجل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. والحمد لله رب العالمين.


   *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
  
  
1  [الإصحاح 41 من سفر التكوين].
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير