في ذكرى ولادة الرسول(ص): علينا أن نحمل مسؤوليّة رسالته

في ذكرى ولادة الرسول(ص): علينا أن نحمل مسؤوليّة رسالته

لماذا نثير ذكراه؟ هل نسيناه ونحن نلتقي به في الصباح والمساء في كل صلاة؟! إنّ ذكرى الرسول(ص) ليست قضيته وإنّما هي قضيتنا، لأن رسول الله(ص) كونٌ إنساني تنفتح شخصيته على كل معاني الإنسانية التي تصعد إلى الله تعالى، وتلتقي به، وتعيش معه، وتذوب فيه، وتتحرك من أجل أن تصنع الإنسان الجديد؛ الإنسان الذي يتجاوز ذاته وكل خصوصيته، وينطلق مع كل إنسان، عندما ينفتح على المسؤولية.

النبي الإنسان

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}[1]، فهو الرسول الَّذي عاش مع الناس، وكان أكثر الذين اتبعوه من المستضعفين، وربما كان بعضهم مستضعفاً في عقله، أو في حياته وأوضاعه وظروفه، فكان يتطلع إلى كل هؤلاء الناس المستضعفين، يدرس آلامهم في كل ما يواجهونه من مشقات في حياتهم وظروفهم ومشاكلهم، وقلبه يخفق وينبض ويتألم من أجلهم.

وكان(ص) يفكر ويخطط من أجل أن يرفع عنهم كل هذا الجهد الذي يعانونه، وكل هذه المشقات، حتى يفتح عقولهم على رحابة الإيمان بالله، وقلوبهم على الثقة به، وحتى ينطلقوا في حياتهم من صلابة الإرادة، وصلابة الموقف، وصلابة الحركة، وصلابة التحدي.

{حَرِيصٌ عَلَيْكُم}، كما تحرص الأم على أولادها. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، فهو الذي أرسله الله رحمةً للعالمين في رسالته، ورحمةً في حركته، ورحمةً في حربه وسلمه، فكانت الرحمة كلها مجسدةً فيه، وكان الرّؤوف بكلّ المؤمنين.

وبذلك، فإننا عندما ننفتح عليه، ننفتح على النبي الإنسان، الذي يريد أن يكون الفرد هو الإنسان المسلم، لأن الإسلام ليس مجرد كلمة يتلفظ بها، أو مجرد صلاة يؤديها هذا أو ذاك، ولكن أن تكون مسلماً، هو أن يكون عقلك عقلاً منفتحاً على الإنسان كله وعلى العالم كله، أن يخفق قلبك بحب الناس من حولك، أن لا تحمل في قلبك أي حقد أو أية عقدة ضد أي إنسان آخر. وهكذا يريد النبي فيما يعيشه من هذه الرحمة الكونية الإنسانية، أن يصنع الإنسان الذي يعيش الرحمة في قلبه تجاه كل مظاهر اليتم والمسكنة والفقر وما إلى ذلك.

إنّنا عندما نتذكّر النبي الإنسان، فلكي نتأنسن، لأننا في الواقع الذي نعيشه، أصبح فينا شيء من معنى الوحش، وأصبح الإنسان المسلم يقتل المسلم، ويكفّره، ويضطهده تحت تأثير خرافات يعتبرها فكريةً وفقهيةً وما إلى ذلك.

إنّنا نتذكّر النبي من أجل أن نستعيد معنى الحضارة التي صنعها. لقد جاء والأرض جاهلية، حيث لم يكن للعقل أو للعلم أي دور في ذلك الواقع، ولم تكن للحرية أية مواقع، فحتى العزة التي كان يختزنها الجاهليون لم تكن عزة القيمة، وإنّما كانت عزة العنفوان وعزة الذات. جاء الرسول(ص) من أجل أن يصنع الحضارة التي تهبط من السماء في كل آيات الوحي، وتتحرك في الأرض في كل معنى الإنسانية والقيمة التي تصنع من الإنسان إنسان القيمة. جاء وقال للناس: إنّ العقل هو حجة الله على عباده، وهو الحجة بين العبد والله سبحانه وتعالى.

العلم والحضارة

ونحن نقرأ في بعض الأحاديث المأثورة: "إن الله لما خلق العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أحسن منك، إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أثيب وإياك أعاقب". ولذلك، ورد أن الله يثيب الإنسان على قدر عقله، ويعاقبه على قدر عقله، لأن العقل هو الذي يطلق الإنسان في كل ما يتحرك فيه وفي كل ما يعمله، وهو القاعدة التي يمكن أن يرتكز عليها في كل ما يقرأ ويسمع. يقول المحققون والمفسّرون، إنه إذا كان ظاهر النصّ مخالفاً للعقل القطعي، فيؤوّل الظاهر لمصلحة العقل القطعي، لأن الله ورسوله لا يمكن أن يتحدثا بما يناقض العقل وينافيه، ولذلك، أوَّل العلماء كل الآيات التي قد يظهر منها معنى الجبر أو التفويض، وقالوا إن هذا الظاهر ليس مراداً، لأن الجبر لا يتناسب مع عدالة الله سبحانه وتعالى، بمعنى أنه يجبر الإنسان على المعصية، ثم يعاقبه عليها.

ولقد انطلقت الرسالة الإسلامية لتؤكِّد مسألة العلم، لتصنع مجتمعاً يرتكز على العقل كقاعدة للتفكير، وعلى العلم كقاعدة للانفتاح على الإنسان كله والكون كله، حتى ينطلق ليصعد إلى السماء، ولينفتح على الله في إطار ما يملكه من وسائل وما إلى ذلك، وقد جاء في القرآن الكريم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[2]، فالعلم هو القيمة الإنسانية، لأنّه هو الذي يعطي الإنسان معنى إنسانيته المنفتحة على مسؤوليته في الحياة كلها. وعندما أكد الله سبحانه أهمية العلم، أراد للأمة أن لا تقف عند مستوى معين منه، بل أن تظلّ في حال ارتقاء وصعود حتى تستوعب كل علم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]، لأن الإسلام انطلق من أجل أن يعطي الإنسان حضارته، ولا حضارة بدون العقل أو العلم.

ولذلك، استطاع الإسلام في أقل من مائة سنة، أن يصنع الحضارة الإسلامية، وأن ينفتح على كل مواقع المعرفة في العالم، فأعطى الفرصة للترجمات من العلوم التي كان يتقنها الآخرون. تقول بعض الشخصيات المثقفة المسؤولة، وهو البانديت جواهر لال نهرو، في كتابه (لمحات في تاريخ العالم): "إنّ الحضارة الإسلامية هي أم الحضارات الحديثة"، لأن الحضارات الحديثة انطلقت من خلال ما ألفه العلماء المسلمون في أكثر من جانب من جوانب المعرفة. وهناك نقطة أخرى في هذا المجال، وهي أنّ التأمل كان مصدر المعرفة في الفكر الغربي، وجاء الإسلام من خلال ما ركّزه القرآن الكريم وما فكّر فيه العلماء، ولا سيما في الأندلس، فاعتبر أن التجربة هي المصدر الثاني للمعرفة، وعندما انطلقت التجربة في الغرب، استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه بعد أن زاوج بين التأمل والتجربة، بحيث جعل التجربة تنفتح على التأمل، وجعل التأمل يتحرّك ليوسع التجربة وليطلقها خارج نطاقها المحدود.

الحرية

وهكذا انطلق الخط الإسلامي الذي اختطّه رسول الله(ص) ليؤكد معنى الحرية، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي(ع) وهو يتوجه إلى كل إنسان، ليؤكد له معنى حريته: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"، لأنّ حريتك تدخل في معنى خلقك ووجودك وإنسانيتك. لذلك، كُن حراً في عقلك، فالله خلق العقل وأعطاه الحرية في أن يفكر كما يشاء، ولكن في خط المسؤولية، وفي أن تكون حراً في قلبك، فلا يفرض عليك أحد أية عاطفة، بأن تحب لأن الآخرين يحبون، أو أن تبغض لأن الآخرين يبغضون، ولكن أحبّ لأن الحب ينطلق من عمق إنسانيتك، وأبغض لأنّ البغض ينطلق من عمق هذه الإنسانية في دراستها لما حولها ولمن حولها.

وقد قال الإمام جعفر الصادق(ع) في مسألة الحرية: "إنّ الحرّ حرٌ في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسراً". فالحرية ليست مرسوماً يمكن أن يطلقه شخص يملك موقعاً رسمياً، فهي قيمة إنسانية داخلية؛ فمعنى أن تكون حراً، هو أن تكون إرادتك حرة، أن لا تخضع لما لا تقتنع به حتى لو فرض عليك هذا أو ذاك ما يريدون. لقد قال بعضهم، إن الفيلسوف جان بول سارتر، هو الذي قال إنّ الحرية تنطلق من الداخل لا من الخارج، ولكننا قلنا لمن تحدث بهذا، إن الإمام جعفر الصادق(ع) هو الذي تحدّث عن أنّ الحرية إنّما تنطلق من داخل الإنسان؛ فأنت حر إذا كنت تملك إرادتك وفكرك وخطك وحركتك، وتملك أن تقول لا عندما تكون لا هي قناعتك، وأن تقول نعم عندما تكون نعم هي قناعتك، حتى لو كنت في داخل الزنزانة، وأنت عبد إذا كنت لا تملك أن تريد أو لا تريد، حتى لو كنت في الصحراء أو في أعالي الفضاء.

والإمام جعفر الصادق(ع) عندما يقرأ هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8]، يقول: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ـ طبعاً فيما يحل ـ ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"، فأنت لست حراً في أن تذل نفسك. ثم يقول: "إن المؤمن أعزّ من الجبل، إن الجبل يستقلّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يُستقلّ من دينه شيء"، لأن دينه وفكره وكل قناعاته، تنطلق من عمق ذاته، ولا تنطلق من الآخرين حتى يكون بمقدور الآخرين إسقاطها.

وفي ضوء ذلك، فقد أراد الإسلام من خلال الخط الذي خطّه الرسول(ص)، من خلال كتاب الله وسنته، أن نصنع الحضارة، وأن ننفتح عليها، وأن نأخذ بأسبابها. والحضارة ليست انعزالاً، بل هي تفاعل مع الحضارات الأخرى. نحن لا نريد أن نأخذ من الآخرين ما يبتعد بنا عن قيمنا وعن قواعدنا الحضارية، ولكن لا بد من أن ننطلق في حوار الحضارات، وأن ندرس ما عند الآخرين وما عندنا، لنكتشف ما نلتقي عليه، دون أن نسقط أمام حضارة الآخرين أو أن ننبهر بها، بل أن نفكر فيها ونناقشها وندخل في الحوار مع الآخرين، لأن الله أرادنا أن نفتح أبواب الحوار على مستوى العالم كله، ولا مقدسات في الحوار، فالله حاور الملائكة وحاور إبليس، والقرآن حاور المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وأراد أن تنطلق علاقة المسلمين مع الآخرين بالجدال بالتي هي أحسن، والبحث عن مواقع اللقاء معهم، لننطلق بعد ذلك إلى البحث في مواقع الخلاف.

لذلك، نحن عندما نعيش في هذا العالم، لا نريد أن ننعزل عن الآخرين، وأن نأكل على موائد الآخرين، بل أن ننصب مائدتنا، ثم نتطلع إلى موائد الآخرين، لنكتشف الخط الذي كان أساساً للاكتشاف عندهم، وأن لا نبيع أدمغتنا، بل أن نجعل هذه الأدمغة تتحرك من أجل أن تصنع أدمغةً مسلمةً عربيةً تنفتح على كل الإبداع.

الانسانية والحوار

إننا ندعو إلى الحوار؛ حوار المسلمين بعضهم مع بعض، وحوار المسلمين مع المسيحيين، وحوار المسلمين مع اليهود والبوذيين والهندوس، لأن الله قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[3]، حتى إننا نريد أن يكون الحوار أيضاً مع العلمانيين، وأن نثير الحوار بين الإسلام والغرب، لنقدم للآخرين ما عندنا، ونسمع ما لدى الآخرين. نحن لا نريد أن ننعزل عن العالم، بل أن ندخله من موقع القوة، لا من موقع الضعف.

وفي ضوء هذا، لا بد لنا من أن ننتبه إلى الحرب الثقافية التي يثيرها الغرب الآن، الغرب الاستكباري، لا الغرب كله، ففي الغرب مؤسسات ثقافية ونوادٍ علمية، ولكن الغرب الاستكباري يحرِّك كل مفاصله الاستكبارية من أجل الحرب ضد الإسلام والمسلمين.

علينا أن نعمل على متابعة ما يتحدث به الغرب، وفي مقدمة ذلك، الحديث عن الإرهاب، وقد رأينا كيف يتحرك الكثيرون في أميركا وفي أوروبا من أجل تشويه صورة الإسلام أمام الرأي العام عندهم، لتكون صورته صورة الدين الذي يحمل سيفاً ليقتل به العالم.

علينا أمام هذا الواقع أن نعمل أولاً على أن نثقف المسلمين بالنظرية الإسلامية في قضية احترام الإنسان للإنسان، لأنهم شوّهوا كثيراً من مفاهيمنا، كمفهوم الجهاد، وحاولوا أن يقولوا إن الجهاد يمثل العنف الذي يؤمن به الإسلام ويحركه المسلمون، ويستشهدون على ذلك بما حدث في أميركا وبريطانيا وأسبانيا من أعمال ليست مبررة، حتى إسلامياً.

إن علينا، أيها الأحبة، أن نثقف المسلمين، لا في العبادات فقط، بل أن نثقفهم بالنظرية الإسلامية في مسألة التعامل مع الإنسان الآخر، وفي مسألة الرفق والعنف، وأن نعلِّم المسلمين، حتى الأطفال في المدارس الابتدائية، أن الإسلام دين سلام وليس دين حرب، حتى إن الله تعالى جعل التحية التي يلتقي فيها المسلم بالمسلم وبالآخرين هي السلام، واعتبر أن تحية أهل الجنة هي السلام، أما الحرب في الإسلام، فإنّها لا تبتعد عمّا هو موجود في كل الحضارات، بأنها حرب دفاعية من جهة، ووقائية من جهة ثانية: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}[4]، {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}[5]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}[6].

وفي حديث للنبي(ص) نقرأ: "إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلى شانه"، ونقرأ أيضاً: "إنّ الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف". وفي الآية الكريمة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[7]، اتّبع الأسلوب الذي تحوِّل به أعداءك إلى أصدقاء.

أيها المسلمون، اعملوا على أن تكونوا أصدقاء العالم بالأسلوب الذي تفتحون فيه عقول العالم على عقولكم، وقلوبهم على قلوبكم، وحياتهم على حياتكم. هذا هو الإسلام الذي يؤكد مسألة الرفق، ويرفض العنف في كل المجالات التي تنطلق في حياتنا مع الآخرين. ولا بد من أن نثقف الإنسان المسلم بهذه الثقافة الإنسانية المنفتحة على الآخرين.

في ذكرى رسول الله(ص) علينا أن نولد فيه، والله لم يتحدث عن ولادته، وإنما تحدث عن بعثته وعن رسالته، تحدّث عن ولادة الإسلام فيه. لذلك، علينا أن نولد فيه، بأن نولد في رسالته، وأن لا تكون ذكراه مجرد لحن وكلمات، بل حركةً تصنع للأمة حاضرها ومستقبلها، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} [الأحزاب:21].

*  محاضرة لمناسبة ولادة الرسول الأكرم(ص)


[1] [التوبة: 128].

[2] [الزمر:9]

[3] [النحل:125]

[4] [البقرة:190]

[5] [النساء:74]

[6] [البقرة:193]

[7] [فصّلت:34]

لماذا نثير ذكراه؟ هل نسيناه ونحن نلتقي به في الصباح والمساء في كل صلاة؟! إنّ ذكرى الرسول(ص) ليست قضيته وإنّما هي قضيتنا، لأن رسول الله(ص) كونٌ إنساني تنفتح شخصيته على كل معاني الإنسانية التي تصعد إلى الله تعالى، وتلتقي به، وتعيش معه، وتذوب فيه، وتتحرك من أجل أن تصنع الإنسان الجديد؛ الإنسان الذي يتجاوز ذاته وكل خصوصيته، وينطلق مع كل إنسان، عندما ينفتح على المسؤولية.

النبي الإنسان

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}[1]، فهو الرسول الَّذي عاش مع الناس، وكان أكثر الذين اتبعوه من المستضعفين، وربما كان بعضهم مستضعفاً في عقله، أو في حياته وأوضاعه وظروفه، فكان يتطلع إلى كل هؤلاء الناس المستضعفين، يدرس آلامهم في كل ما يواجهونه من مشقات في حياتهم وظروفهم ومشاكلهم، وقلبه يخفق وينبض ويتألم من أجلهم.

وكان(ص) يفكر ويخطط من أجل أن يرفع عنهم كل هذا الجهد الذي يعانونه، وكل هذه المشقات، حتى يفتح عقولهم على رحابة الإيمان بالله، وقلوبهم على الثقة به، وحتى ينطلقوا في حياتهم من صلابة الإرادة، وصلابة الموقف، وصلابة الحركة، وصلابة التحدي.

{حَرِيصٌ عَلَيْكُم}، كما تحرص الأم على أولادها. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، فهو الذي أرسله الله رحمةً للعالمين في رسالته، ورحمةً في حركته، ورحمةً في حربه وسلمه، فكانت الرحمة كلها مجسدةً فيه، وكان الرّؤوف بكلّ المؤمنين.

وبذلك، فإننا عندما ننفتح عليه، ننفتح على النبي الإنسان، الذي يريد أن يكون الفرد هو الإنسان المسلم، لأن الإسلام ليس مجرد كلمة يتلفظ بها، أو مجرد صلاة يؤديها هذا أو ذاك، ولكن أن تكون مسلماً، هو أن يكون عقلك عقلاً منفتحاً على الإنسان كله وعلى العالم كله، أن يخفق قلبك بحب الناس من حولك، أن لا تحمل في قلبك أي حقد أو أية عقدة ضد أي إنسان آخر. وهكذا يريد النبي فيما يعيشه من هذه الرحمة الكونية الإنسانية، أن يصنع الإنسان الذي يعيش الرحمة في قلبه تجاه كل مظاهر اليتم والمسكنة والفقر وما إلى ذلك.

إنّنا عندما نتذكّر النبي الإنسان، فلكي نتأنسن، لأننا في الواقع الذي نعيشه، أصبح فينا شيء من معنى الوحش، وأصبح الإنسان المسلم يقتل المسلم، ويكفّره، ويضطهده تحت تأثير خرافات يعتبرها فكريةً وفقهيةً وما إلى ذلك.

إنّنا نتذكّر النبي من أجل أن نستعيد معنى الحضارة التي صنعها. لقد جاء والأرض جاهلية، حيث لم يكن للعقل أو للعلم أي دور في ذلك الواقع، ولم تكن للحرية أية مواقع، فحتى العزة التي كان يختزنها الجاهليون لم تكن عزة القيمة، وإنّما كانت عزة العنفوان وعزة الذات. جاء الرسول(ص) من أجل أن يصنع الحضارة التي تهبط من السماء في كل آيات الوحي، وتتحرك في الأرض في كل معنى الإنسانية والقيمة التي تصنع من الإنسان إنسان القيمة. جاء وقال للناس: إنّ العقل هو حجة الله على عباده، وهو الحجة بين العبد والله سبحانه وتعالى.

العلم والحضارة

ونحن نقرأ في بعض الأحاديث المأثورة: "إن الله لما خلق العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أحسن منك، إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أثيب وإياك أعاقب". ولذلك، ورد أن الله يثيب الإنسان على قدر عقله، ويعاقبه على قدر عقله، لأن العقل هو الذي يطلق الإنسان في كل ما يتحرك فيه وفي كل ما يعمله، وهو القاعدة التي يمكن أن يرتكز عليها في كل ما يقرأ ويسمع. يقول المحققون والمفسّرون، إنه إذا كان ظاهر النصّ مخالفاً للعقل القطعي، فيؤوّل الظاهر لمصلحة العقل القطعي، لأن الله ورسوله لا يمكن أن يتحدثا بما يناقض العقل وينافيه، ولذلك، أوَّل العلماء كل الآيات التي قد يظهر منها معنى الجبر أو التفويض، وقالوا إن هذا الظاهر ليس مراداً، لأن الجبر لا يتناسب مع عدالة الله سبحانه وتعالى، بمعنى أنه يجبر الإنسان على المعصية، ثم يعاقبه عليها.

ولقد انطلقت الرسالة الإسلامية لتؤكِّد مسألة العلم، لتصنع مجتمعاً يرتكز على العقل كقاعدة للتفكير، وعلى العلم كقاعدة للانفتاح على الإنسان كله والكون كله، حتى ينطلق ليصعد إلى السماء، ولينفتح على الله في إطار ما يملكه من وسائل وما إلى ذلك، وقد جاء في القرآن الكريم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[2]، فالعلم هو القيمة الإنسانية، لأنّه هو الذي يعطي الإنسان معنى إنسانيته المنفتحة على مسؤوليته في الحياة كلها. وعندما أكد الله سبحانه أهمية العلم، أراد للأمة أن لا تقف عند مستوى معين منه، بل أن تظلّ في حال ارتقاء وصعود حتى تستوعب كل علم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]، لأن الإسلام انطلق من أجل أن يعطي الإنسان حضارته، ولا حضارة بدون العقل أو العلم.

ولذلك، استطاع الإسلام في أقل من مائة سنة، أن يصنع الحضارة الإسلامية، وأن ينفتح على كل مواقع المعرفة في العالم، فأعطى الفرصة للترجمات من العلوم التي كان يتقنها الآخرون. تقول بعض الشخصيات المثقفة المسؤولة، وهو البانديت جواهر لال نهرو، في كتابه (لمحات في تاريخ العالم): "إنّ الحضارة الإسلامية هي أم الحضارات الحديثة"، لأن الحضارات الحديثة انطلقت من خلال ما ألفه العلماء المسلمون في أكثر من جانب من جوانب المعرفة. وهناك نقطة أخرى في هذا المجال، وهي أنّ التأمل كان مصدر المعرفة في الفكر الغربي، وجاء الإسلام من خلال ما ركّزه القرآن الكريم وما فكّر فيه العلماء، ولا سيما في الأندلس، فاعتبر أن التجربة هي المصدر الثاني للمعرفة، وعندما انطلقت التجربة في الغرب، استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه بعد أن زاوج بين التأمل والتجربة، بحيث جعل التجربة تنفتح على التأمل، وجعل التأمل يتحرّك ليوسع التجربة وليطلقها خارج نطاقها المحدود.

الحرية

وهكذا انطلق الخط الإسلامي الذي اختطّه رسول الله(ص) ليؤكد معنى الحرية، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي(ع) وهو يتوجه إلى كل إنسان، ليؤكد له معنى حريته: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"، لأنّ حريتك تدخل في معنى خلقك ووجودك وإنسانيتك. لذلك، كُن حراً في عقلك، فالله خلق العقل وأعطاه الحرية في أن يفكر كما يشاء، ولكن في خط المسؤولية، وفي أن تكون حراً في قلبك، فلا يفرض عليك أحد أية عاطفة، بأن تحب لأن الآخرين يحبون، أو أن تبغض لأن الآخرين يبغضون، ولكن أحبّ لأن الحب ينطلق من عمق إنسانيتك، وأبغض لأنّ البغض ينطلق من عمق هذه الإنسانية في دراستها لما حولها ولمن حولها.

وقد قال الإمام جعفر الصادق(ع) في مسألة الحرية: "إنّ الحرّ حرٌ في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسراً". فالحرية ليست مرسوماً يمكن أن يطلقه شخص يملك موقعاً رسمياً، فهي قيمة إنسانية داخلية؛ فمعنى أن تكون حراً، هو أن تكون إرادتك حرة، أن لا تخضع لما لا تقتنع به حتى لو فرض عليك هذا أو ذاك ما يريدون. لقد قال بعضهم، إن الفيلسوف جان بول سارتر، هو الذي قال إنّ الحرية تنطلق من الداخل لا من الخارج، ولكننا قلنا لمن تحدث بهذا، إن الإمام جعفر الصادق(ع) هو الذي تحدّث عن أنّ الحرية إنّما تنطلق من داخل الإنسان؛ فأنت حر إذا كنت تملك إرادتك وفكرك وخطك وحركتك، وتملك أن تقول لا عندما تكون لا هي قناعتك، وأن تقول نعم عندما تكون نعم هي قناعتك، حتى لو كنت في داخل الزنزانة، وأنت عبد إذا كنت لا تملك أن تريد أو لا تريد، حتى لو كنت في الصحراء أو في أعالي الفضاء.

والإمام جعفر الصادق(ع) عندما يقرأ هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8]، يقول: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ـ طبعاً فيما يحل ـ ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"، فأنت لست حراً في أن تذل نفسك. ثم يقول: "إن المؤمن أعزّ من الجبل، إن الجبل يستقلّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يُستقلّ من دينه شيء"، لأن دينه وفكره وكل قناعاته، تنطلق من عمق ذاته، ولا تنطلق من الآخرين حتى يكون بمقدور الآخرين إسقاطها.

وفي ضوء ذلك، فقد أراد الإسلام من خلال الخط الذي خطّه الرسول(ص)، من خلال كتاب الله وسنته، أن نصنع الحضارة، وأن ننفتح عليها، وأن نأخذ بأسبابها. والحضارة ليست انعزالاً، بل هي تفاعل مع الحضارات الأخرى. نحن لا نريد أن نأخذ من الآخرين ما يبتعد بنا عن قيمنا وعن قواعدنا الحضارية، ولكن لا بد من أن ننطلق في حوار الحضارات، وأن ندرس ما عند الآخرين وما عندنا، لنكتشف ما نلتقي عليه، دون أن نسقط أمام حضارة الآخرين أو أن ننبهر بها، بل أن نفكر فيها ونناقشها وندخل في الحوار مع الآخرين، لأن الله أرادنا أن نفتح أبواب الحوار على مستوى العالم كله، ولا مقدسات في الحوار، فالله حاور الملائكة وحاور إبليس، والقرآن حاور المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وأراد أن تنطلق علاقة المسلمين مع الآخرين بالجدال بالتي هي أحسن، والبحث عن مواقع اللقاء معهم، لننطلق بعد ذلك إلى البحث في مواقع الخلاف.

لذلك، نحن عندما نعيش في هذا العالم، لا نريد أن ننعزل عن الآخرين، وأن نأكل على موائد الآخرين، بل أن ننصب مائدتنا، ثم نتطلع إلى موائد الآخرين، لنكتشف الخط الذي كان أساساً للاكتشاف عندهم، وأن لا نبيع أدمغتنا، بل أن نجعل هذه الأدمغة تتحرك من أجل أن تصنع أدمغةً مسلمةً عربيةً تنفتح على كل الإبداع.

الانسانية والحوار

إننا ندعو إلى الحوار؛ حوار المسلمين بعضهم مع بعض، وحوار المسلمين مع المسيحيين، وحوار المسلمين مع اليهود والبوذيين والهندوس، لأن الله قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[3]، حتى إننا نريد أن يكون الحوار أيضاً مع العلمانيين، وأن نثير الحوار بين الإسلام والغرب، لنقدم للآخرين ما عندنا، ونسمع ما لدى الآخرين. نحن لا نريد أن ننعزل عن العالم، بل أن ندخله من موقع القوة، لا من موقع الضعف.

وفي ضوء هذا، لا بد لنا من أن ننتبه إلى الحرب الثقافية التي يثيرها الغرب الآن، الغرب الاستكباري، لا الغرب كله، ففي الغرب مؤسسات ثقافية ونوادٍ علمية، ولكن الغرب الاستكباري يحرِّك كل مفاصله الاستكبارية من أجل الحرب ضد الإسلام والمسلمين.

علينا أن نعمل على متابعة ما يتحدث به الغرب، وفي مقدمة ذلك، الحديث عن الإرهاب، وقد رأينا كيف يتحرك الكثيرون في أميركا وفي أوروبا من أجل تشويه صورة الإسلام أمام الرأي العام عندهم، لتكون صورته صورة الدين الذي يحمل سيفاً ليقتل به العالم.

علينا أمام هذا الواقع أن نعمل أولاً على أن نثقف المسلمين بالنظرية الإسلامية في قضية احترام الإنسان للإنسان، لأنهم شوّهوا كثيراً من مفاهيمنا، كمفهوم الجهاد، وحاولوا أن يقولوا إن الجهاد يمثل العنف الذي يؤمن به الإسلام ويحركه المسلمون، ويستشهدون على ذلك بما حدث في أميركا وبريطانيا وأسبانيا من أعمال ليست مبررة، حتى إسلامياً.

إن علينا، أيها الأحبة، أن نثقف المسلمين، لا في العبادات فقط، بل أن نثقفهم بالنظرية الإسلامية في مسألة التعامل مع الإنسان الآخر، وفي مسألة الرفق والعنف، وأن نعلِّم المسلمين، حتى الأطفال في المدارس الابتدائية، أن الإسلام دين سلام وليس دين حرب، حتى إن الله تعالى جعل التحية التي يلتقي فيها المسلم بالمسلم وبالآخرين هي السلام، واعتبر أن تحية أهل الجنة هي السلام، أما الحرب في الإسلام، فإنّها لا تبتعد عمّا هو موجود في كل الحضارات، بأنها حرب دفاعية من جهة، ووقائية من جهة ثانية: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}[4]، {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}[5]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}[6].

وفي حديث للنبي(ص) نقرأ: "إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلى شانه"، ونقرأ أيضاً: "إنّ الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف". وفي الآية الكريمة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[7]، اتّبع الأسلوب الذي تحوِّل به أعداءك إلى أصدقاء.

أيها المسلمون، اعملوا على أن تكونوا أصدقاء العالم بالأسلوب الذي تفتحون فيه عقول العالم على عقولكم، وقلوبهم على قلوبكم، وحياتهم على حياتكم. هذا هو الإسلام الذي يؤكد مسألة الرفق، ويرفض العنف في كل المجالات التي تنطلق في حياتنا مع الآخرين. ولا بد من أن نثقف الإنسان المسلم بهذه الثقافة الإنسانية المنفتحة على الآخرين.

في ذكرى رسول الله(ص) علينا أن نولد فيه، والله لم يتحدث عن ولادته، وإنما تحدث عن بعثته وعن رسالته، تحدّث عن ولادة الإسلام فيه. لذلك، علينا أن نولد فيه، بأن نولد في رسالته، وأن لا تكون ذكراه مجرد لحن وكلمات، بل حركةً تصنع للأمة حاضرها ومستقبلها، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} [الأحزاب:21].

*  محاضرة لمناسبة ولادة الرسول الأكرم(ص)


[1] [التوبة: 128].

[2] [الزمر:9]

[3] [النحل:125]

[4] [البقرة:190]

[5] [النساء:74]

[6] [البقرة:193]

[7] [فصّلت:34]

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير