حول بكاء الزّهراء (ع) على الرّسول (ص)!

حول بكاء الزّهراء (ع) على الرّسول (ص)!

إنّ ما أفاضت به بعض المرويّات ـــ التي يقرأها بعض قرّاء العزاء ـــ والتي تُصوِّر الزّهراء (ع) وكأنّها لا شغل لها إلّا البكاء، فهذا ما نرسم حوله بعض علامات الاستفهام، لأنّي لا أتصوَّر الزهراء (ع) إنسانة لا شغل لها في اللّيل والنّهار إلّا البكاء، ولا أتصوّر الزّهراء (ع)، وهي المنفتحة على قِيَم الإسلام وعلى قضاء الله وقدره، إنسانة ينزعج منها أهل المدينة لكثرة بكائها ـــ كما تُصوِّر هذه الروايات ـــ حتّى لو كان الفقيد على مستوى رسول الله (ص)، فإنّ ذلك لا يلغي معنى الصّبر، لأنَّ الصبر قيمة إسلاميّة تجعل الإنسان يتوازن ويتماسَك في أشدّ الحالات قساوةً وصعوبةً، وهذا ما يجعلنا نعتقد أنَّ حزن فاطمة (ع) كان حزن القضيّة وحزن الرّسالة أكثر ممّا هو حزن الذّات، لأنّها كانت تستشعر بفقدها أبيها محمّد (ص) أنّها فقدت الرّسول الذي انقطعت بموته أخبار السّماء، كما جاء في بعض كلماتها1.

وزيادةً في توضيح هذا الأمر، ودفعاً لبعض الالتباسات والاعتراضات نقول: إنَّ فراق رسول الله (ص) لم يكن بالأمر الهيِّن، ولا سيّما على ابنته السيّدة الزهراء (ع)، التي أحسَّت أكثر من غيرها بعظيم الفادحة وثقل المصيبة التي أَلَمَّتْ بالمسلمين بوفاة رسول الله.. ولهذا، كان حزنها عليه أعظم الحزن، وبكاؤها عليه أعظم البكاء، وكانت تخرج إلى قبره الشَّريف مصطحبةً ولديها الحسنين (ع) لتبكي أباها وكلّ الشّهداء الذين سقطوا معه، لتذكّر المسلمين من خلال ذلك برسول الله (ص)، حتّى لا ينسوه في غمرة الأحداث الكبيرة التي عاشوها، ولكنّها لم تكن تستغرق وقتها في اللّيل والنّهار في البكاء، ولا أنّها كانت كلّ هذه المدّة "يغشى عليها ساعةً بعد ساعة"2، وذلك:

1 ـــ لأنّ الصّبر ـــ كما أشرنا ـــ قيمة إسلاميّة كبرى، ومن الطبيعي أن تمثّل الزهراء (ع) أعلى درجات الصّبر من خلال مقامها الرّفيع عند الله...

2 ـــ ولأنّ الزّهراء (ع) كانت مشغولةً في معظم وقتها بالدّفاع عن حقّ عليّ (ع) في الخلافة، ومن أبرز مظاهر تحرّكها، خطبتها في المسجد، وكلامها مع نساء المهاجرين والأنصار ورجالهنّ...

3 ـــ إنّنا لا ننكر مشروعيّة البكاء إسلاميّاً، فقد بكى رسول الله على ولده إبراهيم، وبكى يعقوب على يوسف (ع). ومن الطبيعيّ أن تبكي الزهراء (ع) لأنّها بشر، والبشر من طبعه البكاء عند فقد الأحبَّة، لكنّنا ننكر أنْ يتحوَّل البكاء إلى حالة من الجزع أو ما يشبه الجزع، بحسب الصّورة التي تتلى في المجالس...

4 ـــ إنّ هناك وصيّة خاصّة من رسول الله لابنته فاطمة في هذا الخصوص، وهي ما رواه الصّدوق بإسناده عن عمرو بن أبي المقدام، قال: سمعت أبا الحسن وأبا جعفر (ع) يقول في هذه الآية: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}[الممتحنة: 12]، قال: "إنّ رسول الله قال لفاطمة (ع): إذا أنا متّ، فلا تخمشي عليّ وجهاً، ولا ترخي عليّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليّ نائحة". ثمّ قال: "هذا المعروف الّذي قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه: {وَلَا يَعْصِينكَ فِي مَعْرُوفٍ}"3.

ونستوحي من هذا الحديث التحفُّظ عمّا نسب إلى سيّدتنا فاطمة الزهراء من الحزن الذي يقرب من الجزع، لأنَّ هذه الوصيّة تدلّ على أنّ النبيّ (ص) أراد لها أن تبتعد عن مظاهر الحزن الشّديد.

5 ـــ إنّ الزهراء (ع) نفسها أمرت نساء بني هاشم اللاتي جئن يساعدنها عند وفاة أبيها (ص) بأنْ يقتصرن على الدّعاء. ففي الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (ع) عن أمير المؤمنين قال: "مروا أهاليكم بالقول الحسن عند موتاكم، فإنّ فاطمة (ع) لما قبض أبوها (ص)، أسعدتها بنات هاشم، فقالت: اتركن التعداد، وعليكنّ بالدعاء"4.

ونستوحي من هذا الحديث، أنّ الزهراء (ع) كانت متوازنةً إبّان وفاة أبيها، رغم فداحة المصيبة...

ومحصّل ما نريد قوله، أنَّ الزهراء (ع) لم تعرف الفرح في الفترة القصيرة التي قضتها بعد وفاة رسول الله (ص)5، لكنّ حزنها كان حزناً إسلامياً، لم يكن جزعاً ولا ابتعاداً عن خطّ التّوازن. والرواية التي يمكن الوثوق بها في هذا المقام، هي التي تقول: إنّها كانت تخرج في الأسبوع مرّة أو مرّتين إلى قبر النبيّ (ص)، وتأخذ معها ولديها الحسن والحسين (ع)، وتبكيه هناك، وتتذكَّر كيف كان يخطب هنا، وكيف كان يصلّي هناك، وكيف كان يعظ النّاس هنالك6.

وأرادت بذلك أن تعيد إلى الأُمّة الغارقة في متاهات الدّنيا رسول الله (ص) في معناه الرسالي، ولذا لم تتحدّث عنه (ص) ـــ في ما نقل في الروايات الموثوقة ـــ حديثاً عاطفياً شخصياً، لأنّها كانت الرسالة مجسّدة، وأرادت للناس أن يرتبطوا بأبيها الرّسول لا الشّخص.

*من كتاب "الزهراء القدوة".

[1]بحار الأنوار، ج:43، ص:207. وجاء فيها: "يا أبتاه، انقطع عنّا خبر السّماء".

[2]كما جاء في بعض الروايات، راجع: بحار الأنوار، ج:43، ص:181. وعوالم الزهراء، ص:451.

[3]معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص:39، منشورات جماعة المدرسين، قم ـ إيران 1379 هــ.

[4]الكافي، ج:3، ص:217، رواية:6، ورواه الصدوق في الخصال، ص:610، رواية:1.

[5]وقد مرّ أنّها لم ترَ كاشرة ولا ضاحكة.. البحار، ج:43، ص:195، والكافي، ج:4، ص:561.

[6]م.ن.

إنّ ما أفاضت به بعض المرويّات ـــ التي يقرأها بعض قرّاء العزاء ـــ والتي تُصوِّر الزّهراء (ع) وكأنّها لا شغل لها إلّا البكاء، فهذا ما نرسم حوله بعض علامات الاستفهام، لأنّي لا أتصوَّر الزهراء (ع) إنسانة لا شغل لها في اللّيل والنّهار إلّا البكاء، ولا أتصوّر الزّهراء (ع)، وهي المنفتحة على قِيَم الإسلام وعلى قضاء الله وقدره، إنسانة ينزعج منها أهل المدينة لكثرة بكائها ـــ كما تُصوِّر هذه الروايات ـــ حتّى لو كان الفقيد على مستوى رسول الله (ص)، فإنّ ذلك لا يلغي معنى الصّبر، لأنَّ الصبر قيمة إسلاميّة تجعل الإنسان يتوازن ويتماسَك في أشدّ الحالات قساوةً وصعوبةً، وهذا ما يجعلنا نعتقد أنَّ حزن فاطمة (ع) كان حزن القضيّة وحزن الرّسالة أكثر ممّا هو حزن الذّات، لأنّها كانت تستشعر بفقدها أبيها محمّد (ص) أنّها فقدت الرّسول الذي انقطعت بموته أخبار السّماء، كما جاء في بعض كلماتها1.

وزيادةً في توضيح هذا الأمر، ودفعاً لبعض الالتباسات والاعتراضات نقول: إنَّ فراق رسول الله (ص) لم يكن بالأمر الهيِّن، ولا سيّما على ابنته السيّدة الزهراء (ع)، التي أحسَّت أكثر من غيرها بعظيم الفادحة وثقل المصيبة التي أَلَمَّتْ بالمسلمين بوفاة رسول الله.. ولهذا، كان حزنها عليه أعظم الحزن، وبكاؤها عليه أعظم البكاء، وكانت تخرج إلى قبره الشَّريف مصطحبةً ولديها الحسنين (ع) لتبكي أباها وكلّ الشّهداء الذين سقطوا معه، لتذكّر المسلمين من خلال ذلك برسول الله (ص)، حتّى لا ينسوه في غمرة الأحداث الكبيرة التي عاشوها، ولكنّها لم تكن تستغرق وقتها في اللّيل والنّهار في البكاء، ولا أنّها كانت كلّ هذه المدّة "يغشى عليها ساعةً بعد ساعة"2، وذلك:

1 ـــ لأنّ الصّبر ـــ كما أشرنا ـــ قيمة إسلاميّة كبرى، ومن الطبيعي أن تمثّل الزهراء (ع) أعلى درجات الصّبر من خلال مقامها الرّفيع عند الله...

2 ـــ ولأنّ الزّهراء (ع) كانت مشغولةً في معظم وقتها بالدّفاع عن حقّ عليّ (ع) في الخلافة، ومن أبرز مظاهر تحرّكها، خطبتها في المسجد، وكلامها مع نساء المهاجرين والأنصار ورجالهنّ...

3 ـــ إنّنا لا ننكر مشروعيّة البكاء إسلاميّاً، فقد بكى رسول الله على ولده إبراهيم، وبكى يعقوب على يوسف (ع). ومن الطبيعيّ أن تبكي الزهراء (ع) لأنّها بشر، والبشر من طبعه البكاء عند فقد الأحبَّة، لكنّنا ننكر أنْ يتحوَّل البكاء إلى حالة من الجزع أو ما يشبه الجزع، بحسب الصّورة التي تتلى في المجالس...

4 ـــ إنّ هناك وصيّة خاصّة من رسول الله لابنته فاطمة في هذا الخصوص، وهي ما رواه الصّدوق بإسناده عن عمرو بن أبي المقدام، قال: سمعت أبا الحسن وأبا جعفر (ع) يقول في هذه الآية: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}[الممتحنة: 12]، قال: "إنّ رسول الله قال لفاطمة (ع): إذا أنا متّ، فلا تخمشي عليّ وجهاً، ولا ترخي عليّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليّ نائحة". ثمّ قال: "هذا المعروف الّذي قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه: {وَلَا يَعْصِينكَ فِي مَعْرُوفٍ}"3.

ونستوحي من هذا الحديث التحفُّظ عمّا نسب إلى سيّدتنا فاطمة الزهراء من الحزن الذي يقرب من الجزع، لأنَّ هذه الوصيّة تدلّ على أنّ النبيّ (ص) أراد لها أن تبتعد عن مظاهر الحزن الشّديد.

5 ـــ إنّ الزهراء (ع) نفسها أمرت نساء بني هاشم اللاتي جئن يساعدنها عند وفاة أبيها (ص) بأنْ يقتصرن على الدّعاء. ففي الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (ع) عن أمير المؤمنين قال: "مروا أهاليكم بالقول الحسن عند موتاكم، فإنّ فاطمة (ع) لما قبض أبوها (ص)، أسعدتها بنات هاشم، فقالت: اتركن التعداد، وعليكنّ بالدعاء"4.

ونستوحي من هذا الحديث، أنّ الزهراء (ع) كانت متوازنةً إبّان وفاة أبيها، رغم فداحة المصيبة...

ومحصّل ما نريد قوله، أنَّ الزهراء (ع) لم تعرف الفرح في الفترة القصيرة التي قضتها بعد وفاة رسول الله (ص)5، لكنّ حزنها كان حزناً إسلامياً، لم يكن جزعاً ولا ابتعاداً عن خطّ التّوازن. والرواية التي يمكن الوثوق بها في هذا المقام، هي التي تقول: إنّها كانت تخرج في الأسبوع مرّة أو مرّتين إلى قبر النبيّ (ص)، وتأخذ معها ولديها الحسن والحسين (ع)، وتبكيه هناك، وتتذكَّر كيف كان يخطب هنا، وكيف كان يصلّي هناك، وكيف كان يعظ النّاس هنالك6.

وأرادت بذلك أن تعيد إلى الأُمّة الغارقة في متاهات الدّنيا رسول الله (ص) في معناه الرسالي، ولذا لم تتحدّث عنه (ص) ـــ في ما نقل في الروايات الموثوقة ـــ حديثاً عاطفياً شخصياً، لأنّها كانت الرسالة مجسّدة، وأرادت للناس أن يرتبطوا بأبيها الرّسول لا الشّخص.

*من كتاب "الزهراء القدوة".

[1]بحار الأنوار، ج:43، ص:207. وجاء فيها: "يا أبتاه، انقطع عنّا خبر السّماء".

[2]كما جاء في بعض الروايات، راجع: بحار الأنوار، ج:43، ص:181. وعوالم الزهراء، ص:451.

[3]معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص:39، منشورات جماعة المدرسين، قم ـ إيران 1379 هــ.

[4]الكافي، ج:3، ص:217، رواية:6، ورواه الصدوق في الخصال، ص:610، رواية:1.

[5]وقد مرّ أنّها لم ترَ كاشرة ولا ضاحكة.. البحار، ج:43، ص:195، والكافي، ج:4، ص:561.

[6]م.ن.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية