المرجعيّة الشيعيّة في فكر المرجع فضل الله

المرجعيّة الشيعيّة في فكر المرجع فضل الله

أدلى العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله بهذا الحديث عن ماضي المرجعيّة الشيعيّة وواقعها ومستقبلها، في شهر شباط/فبراير من العام 1992م، ونُشر في مجلّة (البلاد) اللّبنانيّة الغرّاء في الأعداد: 98-99-100.

وفي الحديث، نجد أنّ العلامة المرجع فضل الله قدّم تقويماً جريئاً، على عادته، لما هو عليه واقع المرجعيّة الشيعيّة والحوزة، وما ينبغي أن يجري عليها من تطوير علميّ ومنهجيّ، لافتاً إلى أنّ الإمام الخميني(قده) أعطى للمرجعيّة أفقاً غنيّاً فيما مثّلته شخصيّة القيادة المرجعيّة، وهو ما قد يتعب الكثيرون قبل أن يصلوا إليه، مقترحاً إضافة شروط جديدة إلى شخصيّة المرجع لتحقيق وحدة المرجعيّة.

وطرح العلامة فضل الله البابويّة نموذجاً لما يمكن أن تؤدّيه المرجعيّة من دور في حياة الأمّة، وقد أُجريَ الحديث قبل عدّة أشهر من رحيل الإمام الخوئي(قده):

المرجعيّة بين الانفتاح والجمود

ـ كيف يقيّم العلامة فضل الله المرجعيّة الشيعيّة خلال القرنين الهجريّين الأخيرين؟

ـ عندما ندرس المرجعيّة الشيعية في القرن الثالث عشر هجري، فإننا لا نجد هناك أية انطلاقات غير عاديّة فيما يتصل بحركة المرجعية في العالم الإسلامي على الصعيد السياسي، بالمستوى الذي يمكن أن تفتح نافذة على حركة المسؤوليّة المرجعيّة في رعايتها للعالم الإسلامي، فقد تكون الضّغوط القاسية الّتي أطبقت على الوضع الشيعيّ في مواقع المرجعيّة، سبباً في انكماش هذا الجانب في حركة المرجعيّة.

لكنّنا نلاحظ في هذا القرن، وجود فراغ فقهيّ واسع، يتمثّل بالعلماء الكبار الذين يمكن أن نعتبرهم قاعدة فقهيّة للمستقبل الفقهيّ الّذي أطلّ على حركة القرن الرابع عشر، أمثال صاحب "الجواهر"، وصاحب "كشف الغطاء"، وأمثال هؤلاء الّذين كانوا القمة الفقهيّة، مع بعض النقاط الحركية البسيطة التي يمكن أن تطلّ على بعض الانفتاح السياسيّ، في ما نلاحظه في الإجازة التي أجاز بها الشّيخ صاحب "كشف الغطاء"، لأحد ملوك إيران، حتّى يكون عمله شرعيّاً، من خلال إجازة الحاكم الشّرعيّ، ما قد يجعل المسألة تتحرّك في أجواء ولاية الفقيه.

وربما كانت هناك بعض المواقف الداخليّة الّتي كان بعض المراجع يستعملونها، في التدخّل الحادّ في بعض الأمور الّتي كانت تحدث في المناطق الداخليّة، كما في بعض الحروب الدّاخليّة الّتي حدثت في العراق أو في النّجف بين فئتين من النّاس.

إنّنا عندما نطلّ على القرن الرابع عشر الهجري، فإنّنا نرى أن هناك بدايات رائعة، وذلك في نشاطات المرجع المعروف السيّد محمد حسين الشيرازي، في فتواه التاريخيّة بحرمة التنباك، كردّ على احتكارات الشركات الأجنبيّة، التي حاولت أن تكون المدخل للاستيلاء على إيران آنذاك، ثم مسألة حركة "المشروطة" و"المستبدّة"، الّتي اتخذ فيها العلماء موقفاً حاداً مختلفاً، بالمستوى الّذي دعوا فيه إلى الخروج على رأس جيوش، لمحاربة بعض قوى الكفر الّتي كانت تريد أن تسيطر على إيران، ما خلق هناك حركة سياسيّة فكريّة وعمليّة، وانقسم الواقع الإسلامي الشيعي إلى معسكرين، أو حزبين أو تيّارين: "المشروطة" و"المستبدّة"، وكان من بركات هذا الصّراع، الكتاب الّذي ألّفه الشيخ النائيني(رض) حول هذه المسألة.

وفي تلك الفترة، انطلقت حركة الثّورة العراقيّة، بقيادة علماء النجف الأشرف في ثورة العشرين، وهكذا، امتدّ هذا التيار الذي كان يطلّ على الجو السياسي والجو الثوري بين فترة وأخرى، ليتحرك مدّاً وجزراً، تبعاً للظروف القاسية الّتي كانت تحيط بالواقع المرجعيّ من جهة، والّتي كان يخضع لها المجتمع الحوزويّ من جهة أخرى، من خلال طبيعة التيارات الفكريّة التي كانت تتحرّك في اتجاه العزلة عن الواقع السياسي، أو في اتجاه الانفتاح عليه.

وامتدّت هذه المسألة إلى المدى الّذي انفتح على قضيّة المرجعيّة المتمثّلة بالسيّد أبي الحسن الأصفهاني والشّيخ النّائيني، في موقفهما من الانتخابات النيابيّة، والّذي أدّى إلى تهجيرهما من العراق، ثم عودتهما، مع الالتزام بعدم التدخّل في الأمور السياسيّة، ولا سيّما أنهما أجنبيّان، بحسب القانون العراقيّ.

وهكذا، انطلقت مرجعيّة السيّد محسن الحكيم، التي كانت تمثّل نوعاً من أنواع الانفتاح على الواقع السياسيّ، تبعاً للظروف المحيطة بالمرجعيّة آنذاك، سواء في الأوضاع العراقية التي كان للسيد الحكيم تدخّل فاعل في أحداثها، أو في مواقفه من القضايا الإسلاميّة العامّة، الّتي كان يرسل رسائله ويعطي فتاواه فيها، ولا سيَّما المقاومة الفلسطينيّة.

وهكذا، لاحظنا أنّ المرجعيّة ارتفعت إلى أعلى مستوى، في مواجهة الواقع السياسيّ العالمي الّذي كان يطلّ على واقع البلدان الإسلاميّة في آخر هذا القرن، في انطلاقة الإمام الخميني، الّتي انتهت بانتصار الثورة الإسلاميّة، وولادة الجمهوريّة الإسلاميّة.

فعندما نطلّ على الحركة المرجعيّة في القرن الرّابع عشر الهجري، فإنّنا نراها حركة أقرب إلى الانفتاح منها إلى الانغلاق، وإلى الفاعليّة منها إلى الجمود، وإن كانت تختلف بين مرجع وآخر، أو بين مرحلة وأخرى...

ما بعد الإمام الخميني

ـ بعد وفاة الإمام الخميني، هل تتصوّرون أنّ المرجعيّة لن تواجه أزمات في عملها في الإطار العام؟

ـ في الواقع، عندما نريد أن نواجه مرحلة ما بعد الإمام، فهناك مشكلة واجهتها المرجعيّة، وهي المستقبل المرجعيّ، لأنّ هناك موقعين لا بدَّ من أن نتحدّث فيهما؛ أحدهما الموقع الّذي تمثّله مرجعيّة المراجع الحاليّين الكبار، الّذين يمثلون التيّار التقليديّ في المرجعيّة، مع بعض الإضاءات في موقف هذا أو ذاك في بعض حياة المرجعيّة.

ولذلك، نحن لا نتحدّث عن هذه الدّائرة، باعتبار أنها ليست دائرة ما بعد الإمام، ولكنّها الدائرة التي رافقت مرجعيّة الإمام، واختلفت عنها في الطابع وفي الأداء العلميّ من جانب المرجعيّة.

إنّ المرجعيّة التي تمثل مرحلة ما بعد الإمام في إطلالتها على المستقبل، هي مرجعيّة غامضة، باعتبار أنّنا لا نملك هناك أسماء كبيرة في العالم المتحرّك للمرجعيّة، كما كان يحدث عند وفاة أيّ مرجع، حيث تجد هناك أسماء كثيرة مهيّأة من ناحية عمليّة، حتى في حياة المرجع، للانطلاق نحو المرجعيّة، بحيث يكون لها حضور عامّ في الواقع الإسلاميّ الشيعيّ العام. فما نلاحظه، أنّ هناك عدّة أسماء تتداول في السّاحة، ولكنّها أسماء لا تملك الكثير من الموقع المتحرّك في الخطّ الواقعيّ للمرجعيّة، بل هي مشاريع للمستقبل، بحيث إنّ هناك أسماء تملك بعض الصّفات الّتي تؤهّلها لذلك.

ولكنّ المسألة هي مسألة التيّار الّذي يمكن أن يدفع هذه الأسماء إلى الواجهة، لأنّ هذه الأمور لا تخضع لخطوط مستقيمة عادةً، بل تخضع لخطوط متنوّعة في طبيعة التحرّك والظروف، وفي طبيعة الأوضاع المحيطة.

إنّنا نعتقد أنّ الإمام أعطى أفقاً للمرجعيّة، قد يتعب الكثيرون قبل أن يصلوا إليه، إذا كانت لديهم القدرة على الوصول إليه، لأنّ مرجعيّة الإمام الّتي أخذت هذا الحجم العالميّ، كانت منطلقة من عناصر الشخصيّة الذاتيّة، ولا سيّما شجاعة الموقف ورحابة الأفق، ومن الظّروف الموضوعيّة الّتي هيّأت له الكثير من الشروط الواقعيّة التي ساهمت في الوصول إلى هذه النّتائج، مما قد لا يحصل لمراجع آخرين قد يملكون شجاعة الإمام ورحابة الأفق، ومن الظّروف الموضوعيّة الّتي قد تدفع بالواقع إلى الآفاق الكبيرة التي أوصلها إليها الإمام.

افتقاد الوهج المرجعي

إنّنا نلاحظ أنّ الأسماء المطروحة في ساحة الحوزات العلميَّة، لا تملك الكثير من الوهج المرجعيّ الّذي يطلّ على المسألة السياسيّة من موقع متقدِّم، باعتبار أنّ طريقة حركتهم التاريخيّة في حياتهم الماضية، لا تمثّل إضاءات كبيرة. وإذا كانت هناك بعض الأسماء التي لها بعض التاريخ الثوريّ، فإنّ التعقيدات الأخيرة التي حصلت في بعض مواقع الحوزة، أبعدت هذه الأسماء عن أن تكون انطلاقة في حركة التيّار، لتبقى مجرّد أسماء قد تأخذ حيّزاً، ولكن من الصَّعب أن تصل إلى مستوى الواقع المرجعيّ.

لذلك، فإنني أواجه المسألة على أساس أنّ هناك كثيراً من الحذر والترقّب والخوف من أن تفقد المرجعيّة في المراحل الّتي تعقب هؤلاء المراجع الكبار، ومرحلة ما بعد الإمام، تلك القوّة الّتي استطاعت أن تحصل عليها من خلال كلّ هذه المسيرة.

اهتزاز في المقاييس

ـ بناءً على ذلك، نفهم أنّكم تتوقّعون أزمة بالنّسبة إلى المرجعيّة تؤثّر في الجسم السياسيّ؟

ـ هذا شيء حقيقيّ، لأنّ هناك ارتباكاً في مسألة العناصر الّتي تؤهّل الفقيه ليكون مرجعاً، فإنّ النظرة السّابقة كانت تكتفي بمسألة الفقاهة في مستوى القمّة، بمعنى الأعلميّة والعدالة، وهذان العنصران قد يكونان في مستوى الأهميّة عند الكثيرين في المجتمع الإسلاميّ الشيعيّ، ولكنّ مرجعيّة الإمام الخميني، جعلت مثل هذين العنصرين جانبيّين عند فريق كبير من المسلمين الشّيعة، الّذين أصبحوا ينظرون إلى الجانب الحركيّ، والجانب السياسيّ الّذي يطلّ على قضايا المسلمين وعلى قضايا العالم، من موقع الفقه والعدالة، ما يجعل هناك نوعاً من أنواع الاهتزاز في المقاييس الّتي تتحرّك بها المرجعيّة في ولادتها وحركيّتها في ذهنيّة المسلمين في هذا العصر، ما قد يوجد ارتباكاً في هذه المسألة، فهناك الكثيرون من النّاس الّذين قد يكونون على استعداد لتجاوز مسألة الوعي السياسيّ والخبرة السياسيّة والأفق الواسع، عندما تتوفّر مسألة الأعلميّة والعدالة، وهناك أناس قد يكونون على استعداد لتجاوز مسألة الأعلميّة والعدالة، للاكتفاء بمجتهد، أيّ مجتهد كان، وربما يتسامحون في مسألة الاجتهاد عندما تتوفّر مسألة الخبرة السياسيّة والوعي السياسيّ والانفتاح العام.

إننا نخشى أن يكون هذا الاهتزاز في وعي عناصر المرجعيّة، سبباً في ارتباك النّتائج الّتي يمكن أن تحصل من خلال الحركة الجديدة للأشخاص الّذين يراد لهم أن يكونوا في هذا المستوى.

تعدديّة المراجع!

ـ في مقابل ذلك، نرى أنّ الكثرة العدديّة للمراجع، قد ترتدّ بشكل سلبيّ على الجسم الشيعيّ، كما حدث في "المشروطة" و"المستبدّة"!

ـ إنّ للكثرة إيجابيّات يذكرها الكثيرون في مسألة التعدّديّة الّتي قد يتحدّث فيها الناس عن الجانب السياسيّ.. ما يجعل التعدّدية غنى في التجربة، وغنى في حركة الحريّة في اتخاذ المواقف، ولكن هناك سلبيّة كبيرة جداً، وهي مسألة انقسام الأمّة واهتزاز مواقفها، بحيث لا يستطيع أيّ تيار أن يكتسب الصفة الحاسمة في النّهاية، وذلك عندما تتعادل التيّارات في التزام النّاس بها، ما يجعل هناك شللاً في الوصول إلى القرارات الحاسمة، في غياب أيّ نوع من أنواع التّفاهم حول القواسم المشتركة الّتي قد تشترك فيها هذه التيارات.

إنّنا نعتقد أنَّ خلاف المرجعيّات أوجد مشكلة كبيرة جداً في الجسم الإسلاميّ الشيعي، مع المحافظة على الإيجابيّات الأخرى، ولكنّ السلبيّة أكثر. ولذلك، لا بدّ من دراسة فقهيّة جديدة للشروط التي لا بدّ من توفرها في المرجع، وطريقة تعيين المرجع، حتى لا تخضع لمزاجات مفاتيح المرجعيّة، تماماً كما هي المفاتيح الانتخابيّة، لأننا نعرف أن حركة المرجعيّة في بعض ظروفها ومراحلها، قد تعتمد على شخصيّات تسيطر على هذا الموقع أو ذاك، من خلال طبيعة الظروف المحليّة أو الإقليميّة، ما يجعل من كلمة هذا الشخص في هذا القطر، سبباً في رجوع هذا القطر إلى هذا المرجع، بعيداً عن مسألة المواصفات الحقيقيّة التي تميز بين مرجع وآخر، وما إلى ذلك من الضّغوط التي لم تصل، بحمد الله، إلى الضّغوط السياسيّة، ولكنها قد تعيش أجواء سلبيّة، من خلال طبيعة الوضع الشعبي، أو طريقة نموّ هذا التيّار التّابع لهذا الشخص أو ذاك. لذلك، أعتقد أنّ من الضّروريّ دراسة هذه المسألة بشكل جديد، لأنّ المرجعيّة كانت في السّابق مجرّد مرجعيّة فتوى تتّصل بالجوانب الشرعيّة في أخذ الفتوى من المجتهد، أو في مسألة حركة الحقوق الشرعيّة وإدارة الحوزات وما إلى ذلك.

أمّا الآن، فقد أصبح المرجع في الواجهة السياسيّة في العالم، بعدما أصبحت مسألة الطّوائف أو مسألة الأديان، تمثّل وجهاً من وجوه الحركة العالميّة الّتي تتأثّر بطبيعة القيادة هنا والقيادة هناك.. أصبح النّاس يرجعون إلى المرجع في القضايا السياسيّة والقضايا الاجتماعيّة، وما إلى ذلك من الأمور الّتي تقتحم على العالم الإسلامي كلّ مواقعه وكلّ قضاياه، ما يعني أنّنا لا بدّ من أن نضيف شروطاً للعناصر التي تتألّف منها شخصيّة المرجع، ولأنّ هذا يمكن أن يكون موجوداً في أفراد قلائل، لا بدَّ من الدّخول مرّة ثانية في عمليّة التّمييز بينهم، ما قد يؤدّي إلى وحدة المرجعيّة في هذا المجال.

ولكنّ مشكلة هذا الطّرح، هي أنّ الحوزات العلميّة الّتي تمارس مسألة الاجتهاد، قد لا تكون هذه المسائل ذات أهميّة كبرى بالنّسبة إليها في الخطّ الاجتهاديّ. ولذلك، فإنّنا لا نتصوَّر لهذه المسألة حلاً في المستقبل القريب، فقد تكون هناك بعض الإضاءات في ذهنيّة بعض المجتهدين، ولكنَّ مسألة قبول الجوّ العامّ بهذه الإضاءات، قد يحتاج إلى هزّات كبيرة وأوضاع وصدمات كبيرة...

الحضور الشّامل

ـ ما هي نظرتكم إلى دور المرجعيّة على مستوى الفكر والأمّة والسياسة؟

ـ في الواقع، إنّني في الذهنيّة الشيعيّة المنطلقة من الخطّ الذي يبتدئ من النبوّة مروراً بالإمامة، ليطلّ على المرجعيّة. إنَّ فهمنا لهذا، هو أنّ المرجع يمثّل القائد للأمّة، الّذي لا بدّ له من أن يختزن في شخصيّته الكفاءات الثقافيّة والروحيّة والعلميّة، الّتي تمكّنه من أن يكون أميناً على سلامة حياة الأمّة في كلّ هذه الجوانب. أنا لا أدّعي أن يكون أعلم النّاس في كلّ شيء، وأكثر الناس خبرةً في كلّ شيء، ولكنني أقول إن المفروض أن يكون للمرجع الرشد الفقهي، والرشد الاجتماعي، والرشد الحركي، مع الاستقامة الأخلاقيّة في الخط، والقوّة الروحيّة التي يستطيع من خلالها أن يطلّ على قضايا الأمّة، وأن ينفتح على كلّ الخبرات والطّاقات، من موقع الإنسان الذي يستطيع أن يستفيد من هذه الخبرات، باعتبار أنّه يمثّل حركية تلك الطاقة. وأن يكون الإنسان الّذي يحمل اهتمامات الأمّة في اهتماماته، ويتحرّك مع الأمّة ليعطيها غنى في التجربة، كما يأخذ غنى التجربة، ليكون معلّماً وتلميذاً في آن واحد.

إنّني أتصوّر أن المرجعية لا بدَّ من أن يكون لها حضور شامل في كل قضايا الأمّة، وفي كلّ قضايا العالم التي تتّصل بمصير الأمة الإسلامية، فلا يجوز أن يكون المرجع غائباً عن أية قضية من قضايا المستضعفين، أو أية قضية من قضايا المسلمين في العالم، حتى تلك التي لا تتّصل بالواقع الشيعي أو الإسلامي، لأنّ المرجع الذي يحمل رسالة الإسلام، لا بدّ من أن يطلّ على الواقع العالميّ في كلّ اهتزازاته وتياراته، وفي كلّ مواقعه، لأن ذلك من مسؤوليّته في ما هي مسؤوليّة الإسلام في العالم، ولأنّ ذلك يتصل بالمسلمين بشكل عام، وبالشيعة بشكل خاصّ.

إننا نتصور أن مسألة الحضور السياسي والثقافي والروحي، عنصر حيويّ من عناصر المرجعيّة، التي تكون في مستوى العصر والإسلام والتحدّيات الكبيرة التي يواجهها الإسلام في هذا العصر.

مشروعٌ للقيادة

ـ قدّم الإمام الخميني نموذج حكم الفقيه، وطرح الشّهيد الصّدر مشروع المرجعيّة الصّالحة. ما هو تعليقكم على المشروعين؟ وما هو مشروعكم في هذا الخصوص؟

ـ إنّ الإمام الخميني انطلق في وعيه لمسألة المرجعيّة، من وعيه لمسألة الإسلام، فلم يفكّر في أنّ من الممكن لأيّة مرحلة من المراحل، مهما كانت طبيعتها، أن تختلف عن مرحلة أخرى في شموليّة الإسلام، وفي حركيّته في مسؤوليّته عن حكم الحياة. ومن خلال ذلك، فإنّه لم يفرّق بين حالة حضور الأئمّة وحالة غيبتهم، باعتبار أنّ الإسلام لم يأتِ لمرحلة معيّنة، وأنّ الّذين يتحدّثون عن أنّ الإسلام كان في مرحلة خاصّة على مستوى الدّولة، ويمكن له أن يعيش في المرحلة الأخرى على مستوى الأفراد، هؤلاء يجعلون الإسلام خاضعاً للقيادة، بحيث تكون ظروف الإسلام هي ظروف القيادة في إمكاناتها، بدلاً من أن تكون القيادة خاضعةً للإسلام، بحيث تكون ظروف الإسلام هي الّتي تحدّد للقيادة ظروفها وحركيّتها.

نحن نعرف أنّ الإسلام هو دين الله، وأنّ عظمة الرّسول هي أنه بلّغ رسالة الله، وأراد أن يكون الدّين كلّه لله. وبذلك، كان الرّسول هو خادم الدّين، ولم يكن الدّين خادماً للرّسول، فالله لم يرسل الإسلام ليكون خصوصيَّة للرّسول، وإنما أرسل الرّسول وشرع القيادة من بعده، من أجل أن يكونوا خدماً للإسلام ودعاةً إليه وقادة له، لذا، الإسلام أوّلاً، والقيادات ثانياً.

عندما أطلّ الإمام الخميني على هذا الأفق الواسع، اعتبر أن مسألة الحكومة الإسلاميّة التي تعني حركيّة الإسلام في نظام الحياة وفي نظام النّاس بشكل شامل، هي قضية الحياة. وإذا كانت المسألة، بحسب الفقه الإسلامي الشيعي، قد انطلقت من خلال القيادة الواحدة المتمثّلة بالنبيّ(ص)، ثم الأئمّة(ع)، فإنّها لا بدّ من أن تتحرّك في هذا الخطّ على المستوى الشموليّ الّذي كانت عليه. ولذلك، ليس هناك فرق بين مهمّة الفقيه العادل المؤهّل للقيادة من خلال العناصر الأساسيّة، ومهمّة الرّسول والإمام، وإن لم يصل هو إلى مرتبة الرّسول أو إلى مرتبة الإمام، ما يجعل مسألة المرجعيّة تتّسع حسب اتّساع مسألة الإسلام، ومسؤوليّتها تكبر حسب مسؤوليّات الإسلام.

فليست هناك حدود لمسؤوليّات المرجعيّة، ما دام الإسلام لا يعيش مثل هذه الحدود. ومن هنا، فإنّ موقع المرجعيّة في نظر الإمام الخميني(رض)، هو موقع الإسلام في كلّ المجالات، فلا بدّ من أن تتحرّك حيث يتحرّك الإسلام، وهذا هو الّذي يجعل المرجع الموصل للقيادة والولاية، منفتحاً على كلّ الحياة، وعلى كلّ الواقع، وعلى كلّ المسؤوليّات.

أما الشهيد السيد الصدر(رض)، فإنّه في الفقه الإسلاميّ الواسع، ليس بعيداً عن هذا الخطّ، وقد لاحظنا كيف استقبل نجاح الثورة الإسلاميّة، ونجاح الإمام الخميني في قيادته، بالكلمات الرّائعة التي أطلقها في ضرورة الذّوبان في مرجعية الإمام الخميني، لأنه يلتقي بهذا الأفق الواسع الّذي انطلق منه الإمام الخميني، وحاول أن يتحرّك في هذا الخط في رسالته "الإسلام يقود الحياة". ولكنّه عندما تحدث عن المرجعيّة، كان يتحدّث فيما أسماه "المرجعيّة الرشيدة"، عن الجانب التنظيمي الإداري للمرجعيّة، من خلال طبيعة مسؤوليّاتها الإداريّة. وبتعبير آخر، كان يريد أن يحدّد الوسائل العملية الّتي تجعل المرجعيّة تتحرّك كمؤسّسة لا كشخص. ولذلك، فإنّنا لا نستطيع أن نقول إنّ الشّهيد الصّدر قد ابتعد عن خطّ الإمام الخميني في هذا الأفق الواسع، ولكنّه لم يعش هذه التّجربة، ولم يرافق حركة الثّورة الإسلاميّة بهذه الشموليّة، وأعتقد أنّه لو مدّ الله في عمره، لما اختلف عن الإمام الخميني في أيّ جانب من الجوانب.

المرجعيّة المؤسّسة

أما رأينا، فإنّنا نعتقد أنّ المسألة تتحرّك في هذا الخطّ، ويمكن لنا أن نفكّر في الجانب الواقعيّ للمسألة، عندما لا نستطيع أن نتحكّم بالظّروف السياسيّة الواسعة التي يمكن أن تدفع بالمرجعيّة إلى أن تكون قوّة فاعلة تهزّ العالم... إنّنا نتصوّر أنّه لا بدّ لنا، إضافةً إلى ما ذكره السيّد الشّهيد من التّخطيط الإداري للمرجعيّة الرّشيدة، من بحث الخطوط العامّة، لأننا لسنا في وارد بحث التفاصيل التي قد يفكّر الإنسان في أنّ من الممكن أن تتوسّع أو تضيق. ولذا نتصوّر أنّ المرجعيّة الإسلاميّة الشيعية قد تحتاج في ظروفها المحدّدة، أو في طبيعة أوضاعها الخاصّة، إلى أن تتحرّك في دائرتين:

الدائرة الأولى: هي أن لا تكون المرجعيّة شخصاً، بحيث يرث أولاده تراثه وتجربته، أو أن تكون أجهزته خاضعة لخصوصيّاته، بل أن تكون المرجعيّة مؤسّسة، بحيث إن المرجع يأتي إلى مؤسّسة تختزن تجارب المراجع السابقين، بحيث يكون بين يدي المرجع الجديد، كلّ الوثائق الّتي تمثّل علاقات المرجعيّة بالعالم، وتجاربها، وخصوصيّات القضايا الّتي عالجتها، حتّى في مسألة الاستفتاء والأسئلة والأجوبة، وبحيث يجد المرجع الجديد كلّ هذه التجارب جاهزة في مؤسّسة المرجعيّة، ليبدأ من حيث انتهى المرجع السّابق، لا ليبدأ من نقطة الصّفر بعيداً عن كلّ التجارب السّابقة. وفي هذا المجال، نحن لا نمانع في أن يكون للمرجع معاونون يختارهم في حركته، ولكن على أن لا يكونوا هم المؤسّسة، بل أن يكونوا المعاونين الّذين ينسجم معهم في دائرة المؤسّسة وإطارها.

الدّائرة الثّانية: هي أنّنا نتصوّر أنّه لا بدّ للمرجع من أن يطلّ على قضايا العالم، ولو من ناحية اتخاذ المواقف السياسيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة الّتي تطلّ على كلّ مواقع المرجعيّة، أو ما يمتدّ منها إلى أبعد من هذه المواقع، مما تتأثّر به سلباً أو إيجاباً.

نموذج البابويّة

وهناك نقطة ثالثة في هذا المجال، وهي مسألة أن يتحرّك المرجع في أنحاء العالم، وأن لا يبقى في موقعه بعيداً عن الناس، بحيث يكون موقع المرجعيّة، مع بعض الفوارق، شبيهاً بموقع البابويّة، فلا بدّ للمرجع، تبعاً لظروفه الخاصّة والمرحلة الّتي يعيش فيها، من أن يطلّ على مواقع مرجعيّته، ليخاطب النّاس، وينفتح عليهم، ويتحدّث في شؤونهم. إنّ هذا هو الّذي يمكن أن يحقّق للمرجعيّة حيويّتها وحركيّتها التي تكون بها عنصراً فاعلاً في حياة كلّ النّاس الّذين ينتمون إليها ويتبعونها.

ومن الطبيعيّ أنّ الجوانب التنظيميّة في هذه المؤسّسة، لا بدّ من أن تخضع لتخطيط معيّن، بحيث تتكامل كلّ المواقع في داخل الموقع الكبير. إنّني أتصوّر أنّ طبيعة تحدّيات العصر، وشموليّة قضاياه، والمتغيّرات الّتي تتحرّك بين يوم وآخر، والحيرة الّتي يعيشها الناس في ما هو تكليفهم الشرعيّ في كلّ القضايا التي تتّصل بحياتهم السياسيّة والاجتماعيّة، تحتاج إلى أن تخرج المرجعيّة من عزلتها، وأن يكون المرجع إنساناً منفتحاً على الإسلام كلّه، وعلى العالم كلّه، وعلى كلّ المتغيّرات التي تتحرّك في ساحته، انفتاح الموقف، لا انفتاح الثّقافة فحسب.

الحوزة وحاجات العصر

ـ تحدّث الكثير عن تنظيم الحوزة العلميّة بمنهجيّة جديدة، وآمن الكثير بذلك دون أن يصرّحوا برأيهم. ماذا تقولون في هذا الموضوع؟

ـ إنّنا نعتقد أنّ الحوزة العلميّة لا تمثّل الموقع العلميّ الّذي يواجه حاجات العصر وتحدّياته، لأنّ المناهج المطروحة في الحوزة، بحسب خطّها الدّراسيّ، لا تزيد عن الفقه والأصول... فقد نُفاجأ بأنّ الحوزة العلميّة، سواء في النّجف أو في قمّ، وفي غيرهما، لا تملك منهجاً دراسيّاً إلزاميّاً للقرآن، أو للحديث، أو لعلم الكلام، أو للفلسفة، أو للمفاهيم الإسلاميّة العامّة، أو لما يتّصل بأساليب الدّعوة، أو ما إلى ذلك من القضايا الّتي تتّصل بثقافة الإنسان الفقيه الدّاعية المبلّغ، الّذي يمكن أن يكون حجّةً للإسلام في ثقافته الإسلاميّة الواسعة.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الحوزات لا تخضع حتّى الآن للمناهج التقويميّة للطّالب، سواء في مسألة الامتحان، أو ما أشبه ذلك من أساليب النّتائج الأخيرة عند الطّالب عندما يريد أن يتخرّج، فالطالب يمكن أن يتخرّج بعد سنتين، ويذهب إلى بلاده ليعتبر عالماً، وقد يسيء إلى الإسلام كلّه في هذا المجال، وقد يدخل إنسان غير مؤهّل للمسألة، فيكون مشكلة للإسلام.

لذلك، فإنّنا نتصوَّر أنّ الحوزة تمثّل في مناهجها الدراسيّة، كما تمثّل في طبيعتها التنظيميّة، مرحلة ما قبل مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة سنة، ولا تمثّل مرحلة العصر الّذي تقدّمت فيه المناهج والأساليب التربويّة خطوات واسعة، اختصرت على الطالب كثيراً من عمره، حيث قرّبت المسافات بين الحاجة والنّتائج، وبين الحاجة وما يلبّي هذه الحاجة... ولذلك، فإنّنا نرى مثلاً أنّ المنهج الأوروبّيّ في التّدريس كان معقّداً سابقاً، وكذلك المنهج الأمريكيّ، ولكنّ هذه المناهج تطوَّرت، حيث بات بإمكان الإنسان أن يحصل على شهادة الدّكتوراه في أقرب وقت، بينما كانت المسألة سابقاً تحتاج إلى سنين متعدّدة.

نحن لا نريد أن نقول إنّ علينا أن نتبع المناهج الحديثة ونترك مناهجنا، ولكن نقول إنّ علينا أن نقوم بدراسةٍ نأخذ فيها من التطوّرات الحديثة، على مستوى المنهج والموادّ الفكريّة الّتي تتّصل بالثقافة الإسلاميّة، وعلى مستوى طبيعة التّنظيم، في مسألة دخول الطّالب إلى الحوزة، وفي حياته داخل الحوزة، وفي تخرّجه من الحوزة. إنّنا نحتاج إلى جهد كبير في هذا المجال، ولا أتصوّر أنّ هناك حركة تنطلق الآن في الحوزة العلميّة في بعض هذه الأمور الّتي أثرناها. إنّ هناك نوعاً من إمكانات النَّجاح، ولكن بشكل عاقل هادئ، ونرجو أن يقدَّر لهذه التَّجارب المزيد من النَّجاح.

مشروع مرجعيّة!

ـ هل لديكم مشروع ما للمرجعيّة؟

ـ لا أريد أن أتحدّث عن مشروع، لأنّ للكلمة امتداداتها الّتي قد لا يحقّقها هذا الجواب، ولكنّني أتصوّر أنّنا عندما ندرس المرجعيّة الإسلاميّة الشيعيّة بمعناها الواسع،  نرى أنّها ترتكز في دائرة اللاوعي الشيعيّ باعتبارها امتداداً لدور الإمام، بحيث إنّ وجود المرجع يسدّ فراغاً على الصّعيد الروحيّ والفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، حتى لا يعيش النّاس فراغ القيادة في أيّ جانب من الجوانب، سواء كان ذلك في دائرة القضايا الّتي تتحرّك في داخل الوضع الإسلاميّ الشّيعيّ، أو في داخل الوضع الإسلاميّ العام، أو في دائرة القضايا العالميّة المرتبطة بالواقع الإسلامي، أو بالواقع الإسلاميّ الشّيعيّ بشكل خاصّ.

عندما نجد أنّ الكلمة تستبطن كلّ هذه الآفاق والخطوط، فإنّ من الطبيعيّ للمرجع أن لا يكون مرجعاً في الفتيا فقط، أو مرجعاً في القضايا الّتي تعيش على هامش موقع الفتيا، كالحقوق الشرعيّة وأمور القاصرين وما إلى ذلك، مما اعتاد الفقهاء أن يتحدّثوا عنه، كموقع للمجتهد أو للمرجع، أو كمسألة القضاء الّتي يعتبرها الفقهاء من صلاحيّات المرجع أو المجتهد.

إنّ المرجعيّة تحتاج إلى ذهنيّة واسعة سعة المسؤوليّة الّتي تتحرّك فيها بعنوان كونها نيابةً عن الإمام، ولا بدَّ من أن تنطلق من خلال مؤسَّسات تتحرّك في نطاق المؤسّسة الكبرى، فالمرجعيّة تضمّ خبراء في سائر القضايا الّتي تتحرّك فيها، وتضم الدّراسات الّتي تحتاج إليها، ولا بدّ من أن تكون الممثليّات للمرجعيّة ممثّليّات متحرّكة، بحيث تستطيع أن تجسّد الحضور المتحرّك للمرجعيّة في هذا البلد أو ذاك البلد، لتكون أشبه بالسّفارات أو الممثليّات المشابهة لممثليّات المنظّمة الإقليمية أو الدوليّة وما إلى ذلك.

إنّني عندما أريد أن أجد نموذجاً للصّورة التي أتمثّلها في فكري حول دور المرجعيّة، فإنّني أجد نموذج البابويّة، الّتي تنطلق في صفتها الدينيّة الشّاملة نحو المواقع السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، وتتحرّك من خلال ممثّليها بفعاليّة في كلّ القضايا المطروحة في البلدان الّتي يعيش فيها الكاثوليك، أو الّتي يعيش فيها المسيحيّون، سواء كان في شؤونهم الداخليّة، أو في علاقاتهم بالمذاهب الأخرى في دائرة المسيحيّة، أو بالأديان الأخرى في دائرة الإسلام واليهوديّة والبوذيّة وما إلى ذلك، ما يجعل المسيحيّة تتحرّك من خلال هذه المؤسسات والممثليات في كل الواقع العالمي المرتبط بالمسيحية على مستوى العلاقات، الأمر الذي يجعل لها قوّة معنويّة تطلّ على كلّ مواقع العالم.

وقد نلاحظ أنّ البابويّة تتحرّك ميدانياً لتطلّ على مواقعها الشعبيّة في العالم، حتّى إنها تطلّ على مواقع غير مسيحيّة، لتجتذب عواطفها أو مواقفها بشكل أو بآخر، ولا سيّما في المناطق المتخلفة، ما يهيّئ الجوّ للمبشّرين كي يستفيدوا من ذلك، كما في مواقع أفريقيا أو أمريكا اللاتينيّة، وما إلى ذلك من مواقع.

إنَّ هذا الحضور الميداني الواسع والمتحرّك، الّذي لا يفقد الروحيّة في إطلالته على المواقع الّتي يزورها البابا، لا يعدم الوسائل لامتداد المسيحيّة، ولحلّ الكثير من المشاكل السياسيّة في هذا المجال أو ذاك. وربما تساهم البابويّة في حلّ الكثير من القضايا السياسيّة المعقّدة، كما لاحظنا ذلك في حركة البابويّة فيما يتعلق بـ"بولونيا"، الّتي هي الوطن الأمّ للبابا الحالي، فقد نلاحظ أنّه كان للبابويّة الدّور الكبير في تفجير الأحداث هناك لمصلحة الوقوف ضدّ الماركسية، وتقوية عناصر التّغيير المسيحيّة الّتي وقفت في وجه الماركسيّة.

هذا إلى جانب الغنى الثّقافي الّذي يمكن أن يتحرّك من خلال هذا الواقع الواسع في الدفاع عن المسيحيّة، وفي بلورة مفاهيمها، وفي نشر عقائدها وقضاياها، في المستوى الّذي تدخل فيه هذه القضايا في الكيان الفكري للعالم، من خلال الحضور الدائم في هذا المجال أو ذاك المجال.

ونحن نلاحظ أنّ هناك نوعاً من أنواع التخطيط الدّولي الّذي يتحرّك من خلال بعض المواقع الإسلاميّة، عن طريق بعض الدّول الّتي تتبنّى بعض المذاهب الإسلاميّة المضادّة للتشيّع، وأنّ هناك حملة ضدّ الشيعة تصل إلى حدّ التكفير، وهذه الحملة مربوطة بالأخطبوط الاستعماري الدّوليّ، وبالحراس السياسيّين في الدول الإسلاميّة لحركة هذا الأخطبوط في الواقع الإسلامي.

إنّ من أوّل واجبات المرجعية، مواجهة هذه الحملة بالوسائل العصريّة الحديثة، التي لا تجعل المسألة مسألة انفعال، بل مسألة تخطيط طويل الأمد، ينفتح على القضايا الفكريّة المذهبيّة بما يتلاءم مع الأجواء الثقافيّة المعاصرة.

ومن الطبيعيّ أنّنا عندما نتحدَّث عن الواقع السياسيّ في العالم، فإنّنا لا بدَّ من أن ندرس في كلّ مرحلة، ظروف المرجعيّة في قدرتها على تحريك الشّارع الإسلاميّ، في مسائل التحرّر الداخليّ أو الخارجيّ، ومدى الإمكانيّات الّتي تملكها في هذا السّبيل أو ذاك، من خلال بعض النَّماذج الَّتي عاشتها المرجعيّات السّابقة، في إطلالتها على الواقع السياسي بنسبة معيّنة أو بنسبة كبيرة، ما يجعل المسألة السياسيّة مسؤوليّتها بشكل أو بآخر.

إنّني أتصوّر المرجع شخصاً منفتحاً على العالم كلّه، من خلال انفتاح الإسلام على العالم، وشخصاً واعياً للأحداث، بحيث يتابعها يوميّاً حتّى في صغريات الأمور، من خلال التّقارير الّتي تقدّم إليه، أو من خلال الممارسة المباشرة لذلك، كما كنّا نلاحظ في الإمام الخميني(رض)، الّذي كان يلاحق الأخبار التي تذيعها الإذاعات، كما كان يراقب حتى التلفزيون، ويقدّم الملاحظات حتى للفنيّين، من ممثلين أو أدباء أو ما إلى ذلك.

إنَّ مسألة المرجعيَّة الّتي تريد أن تكون القيادة العامّة للأمّة، لا بدّ من أن تكون منفتحة على كلّ قضايا الأمّة، ولا تكون منعزلة عن الواقع في الدّوائر الّتي أرادت الأوضاع التاريخيّة أن تحبسها فيها.

بين التحدّي والصّمود

ـ نفهم من كلامكم أنكم ترسمون للمرجعيَّة صورة التحدّي وليس الصّمود؟

ـ من الطَّبيعي أنّك لكي تصمد، لا بدّ من أن تتحدّى، ولا بدّ من أن تواجه التحدي، باعتبار أنّ الهجوم قد يكون في بعض الحالات، حركةً تتيح لك تثبيت قدميك.

إنّنا لا نستطيع أن نفصل في واقعنا المعاصر بين الصّمود والتحدّي، لأنّ الواقع المعاصر يعمل على أن يهزّ الأرض من تحت قدميك، ولن تستطيع أن تثبّتهما إلا إذا استطعت أن تشغل الآخرين، بأن تهزّ الأرض تحت أقدامهم، لأنّ وقوفك في أرضك ثابتاً في مواجهة الآخرين، يجعل المسألة خاسرةً على مستوى ما يخطّطون له من إسقاط الأرض الّتي تقف عليها.

إنَّ الحركيّة هي الخطّ الّذي لا بدَّ من أن يتحرَّك فيه الإنسان، لأنّه لا معنى لأن تصمد في المطلق. إنَّ الصّمود يمثّل المرحلة الّتي تستطيع فيها أن تملك القدرة على التّخطيط والاستعداد، لتبادر في المستقبل إلى التحرّك نحو أهدافك. ومن الطبيعيّ أن يكون الصّمود مقدّمة للحركة، لا أن يكون هو الهدف.

المرجعيّة: تعدّديّة أم وحدة؟!

ـ ماذا عن القيادة المرجعيّة والاندماج في شخص المرجع؟

ـ من الطَّبيعي أنّ المشكلة الّتي تواجه التعدّدية بين القيادة والمرجعيّة، هي أنّ مسألة المرجعيّة التي تتحرّك في واقعها الحاليّ في دائرة الفتاوى، قد تختلف في خطوطها الفتوائيّة عن نظرة القيادة إلى ما فيه مصلحة الأمّة، وبذاك، يحصل التجاذب بين الفتوى المرجعيَّة وحركة القيادة حول ما فيه مصلحة الأمّة، كما أن طبيعة الموقعين القياديّين اللّذين يطلّ أحدهما على الآخر، قد يوجد الكثير من الضّغط المضادّ والحركة المضادّة، ما يوجب إرباك الواقع الإسلامي.

لذلك، فالأصل أن تتوحَّد المرجعيّة والقيادة في شخص واحد، ولكن إذا كنّا في موقع لا تملك المرجعيّة في الفتيا الإمكانات التي تستطيع من خلالها أن تتحرّك في خطّ الواقع، فإن من الطبيعي أن يكون موقع القيادة مختلفاً عن موقع المرجعيّة، ولا بدّ من وجود حالة تنسيقيّة بين القيادة والمرجعيّة، حتى لا ترتبك الأمور، وحتى لا تتعقّد المواقف.

في عالم المرجعيّة، سواء بمفهومها التقليديّ الّذي يدور حول الفتيا، أو بمفهومها المستقبلي الّذي هو الطّموح الّذي يدور حول القيادة، لا نستطيع أن نفكّر في مرجعيّتين، ولكن فيما يتّصل بنظريّة ولاية الفقيه، التي تنطلق من فكرة أن الفقيه هو نائب الإمام، قد يُقال إنّ من الممكن جداً أن يكون للإمام أكثر من نائب في غيبته، كما كان له أكثر من نائب في حضوره. ولكنّ هذه المسألة تخضع للمصلحة الإسلاميّة العليا، فقد تفرض المسألة أن لا يكون هناك إلا وليّ واحد لكلّ العالم الإسلاميّ الشيعيّ، تماماً كما هي مسألة المرجعيَّة، وقد تكون هناك مصلحة في التعدّدية. وإذا كانت هناك مصلحة في التعدّدية، فإنّ من الطبيعيّ أن يكون هناك نوع من التّنسيق، الّذي يجعل لكلّ موقع دائرة خاصّة يتحرّك فيها، من أجل إدارة الأمور الذاتيّة للمنطقة التي يتولى أمرها، ودائرة عامّة، وهي الدائرة الشموليّة لكلّ مواقع الولاية، ما يقلّل من خطر الإقليميّة، أو يزيل هذا الخطر.

لذلك، عندما نريد أن نفكّر في العناوين الكبرى لهذه المسألة من الناحية الفكريّة، لا بدَّ من أن نفكّر في الضَّمانات التي يمكن أن تحفظ حركتها في الدائرة الواقعيّة.

أنا لا أجد أيّة سلبيّة من ناحية حركة الصّراع في هذا المجال، بل إنّ حركة الصّراع كانت إيجابيَّة بشكل بارز، لأنها استطاعت أن تكسر الجمود الّذي سيطر على هذه النظريّة الفقهيّة، بسبب المسار التّاريخيّ الّذي جعلها خاضعةً للحصار الّذي عاشه المجتهدون في كلّ مواقعهم التّاريخيّة، بحيث سيطر هذا التوجه على الذهنيّة الاجتهاديّة، التي جعلت المجتهد لا يفكّر في دولة إسلاميّة، ولا في الإمكانات الواقعيّة لمجتمع يمكن أن يتولى الفقيه أمره، ولذلك، لم تتوفّر للمجتهدين الآفاق الواسعة الّتي تضع الموضوع الواقعي في الواجهة، بحيث يفرض على المجتهد أن يفكّر في أحكامه فيما لو حدث، أو في أحكامه لكي يحدث، الأمر الذي جعل مسألة الولاية عندهم محصورة في الدوائر الصغيرة التي تواجههم وجهاً لوجه، كقضايا القاصرين، وأموال الغائب، والأوقاف، وما إلى ذلك من الأمور.

إن الحركة الفقهية المتداخلة مع الحركة السياسية، استطاعت أن تقدم النظرية والواقع دفعة واحدة، بحيث لم تنطلق النظرية في دائرتها الفكرية التجريدية، بل قدمت نفسها من خلال واقع يتيح للمجتهد أن يحكم، وأن يحرك الأمور في دائرة ولايته على خط المنهج الإسلامي، ما جعل الواقع يفرض نفسه حتى على الذين ينكرون ولاية الفقيه، ليتحدثوا عن أحكام الناس الذين يعيشون في دائرة منطقة الولاية، وكيف يتعاملون معها: هل إن التعامل مع الفقيه الذي يحكم الموقع الإسلامي المعين، يشبه التعامل مع الحاكم الجائر الذي كان يحكم هذا البلد أو ذاك البلد، أو أن الأمر يختلف في ذلك؟

لقد فتحت مجالاً للبحث حتّى بالنسبة إلى الذين لا يرون ولاية الفقيه. أما مسألة السلبيات الصغيرة التي تحركت في هذا المجال، فهي السلبيات الطبيعية التي تحكم كل حركة جديدة، سواء كانت على مستوى القضايا الفقهيّة، أو الفكريّة، أو السياسيّة، أو غير ذلك من الأمور التي تتّصل بحياة الناس، وبالصّدمة التي تحقّقها لكلّ المألوف الذي كان الناس يألفونه، من الوسائل العاطفية والانفعالية التي يحاول هذا الفريق أن يوجّهها إلى الفريق الآخر، الأمر الذي أبعد الكثير من حالات الجدل الكلاميّ، أو ما إلى ذلك، عن دائرة الخطوط الفكريّة الفقهيّة التي تواجه المسألة بعقلانيّة وموضوعيّة.

لعلّ هذه هي الوسائل السلبيّة التي فرضت نفسها على واقع حركة الصّراع في الحوزة أو في خارج الحوزة، وهي ليست بدعاً من الوسائل، بل إننا نراها في كلّ قضيّة جديدة تخالف المألوف، عندما يتبنّاها بعض ويرفضها بعض آخر، فإنّ الأدوات التي تتحرك عادةً في البداية، هي الأدوات الانفعاليّة العاطفيّة، لا الأدوات العلميّة الموضوعيّة.

حركة الفقهاء.. وراء الحدث

من الطبيعيّ أن يتحرّك كلّ الفقهاء وراء الحدث السياسيّ في مجالهم الدراسيّ، باعتبار أنّ الحدث يصنع موضوعاً يثير التّفكير في خصوصيّاته وفي طبيعة أحكامه، تماماً كما هي الحاجات الّتي تتجدّد في حياة الأمّة، فتفرض نفسها على كلّ الّذين يتحرّكون في سدّ هذه الحاجات أو معالجتها.

إنّ الفقيه يلاحق الحدث بعد أن يحدث، ولكنّنا نلاحظ أنّ فقهاءنا قد طرحوا مسائل كثيرة لم تحدث حتى الآن، باعتبار الإيحاءات الّتي تنطلق فيها حركة الاختراعات والاكتشافات، ما يفرض إمكانات موضوعات جديدة، فنحن نجد أنّ كثيراً من الفقهاء تحدّثوا عن أحكام وجود الإنسان على القمر، وعن أحكام وجود الإنسان في المرّيخ، وعن أحكام الإنسان خارج نطاق الجاذبيّة وما إلى ذلك، ما يوحي بأنّ فقهاءنا، لا يعدمون الخيال العلميّ الّذي يطرح موضوعات لم تحدث، على أساس إمكانات حدوثها.

أما قضيّة أن يصنعوا الحدث، فهذه مسألة لا تتّصل بالجانب الفقهيّ، ولكنّها تتّصل بالجانب القياديّ السياسيّ.

ـ عُرِف عن فقهاء الشيعة انشغالهم بالأبحاث الحوزويّة إلى درجة الاستغراق، ولم يُعرف هذا عنكم!

ـ لقد عشت كل حياتي في دراسة متتابعة، ولم أعرف الفراغ في أيّ يوم من أيّام حياتي العلميّة، فأنا أمارس دراساتي الفقهية والأصولية في لبنان، كما كنت أمارسها في النجف. ولكن المشكلة أنّني لم أوفّق لكتابة هذه الأبحاث، ولكنّ الكثيرين يعرفون أن هناك الكثير من العلماء الّذين تخرّجوا على يديّ في هذه الفترة، من خلال الدراسات الفقهيّة والأصوليّة، التي لا يقلّ اهتمامي بها عن الاهتمام بالدراسات الإسلاميَّة العامة.

ـ انشغلتم بالكتابات الحركيّة والفكرية والسياسية، ولم تصدر عنكم كتابات فقهية!

ـ ربما كنت أجد أنّ الحاجات التي يفرضها الواقع الإسلامي الحركي إلى الأبحاث الإسلامية على مستوى المفاهيم، وعلى مستوى التنظير للحركة الإسلامية، أكثر من الحاجة إلى الكتابة الفقهيّة التي استنفد الفقهاء كلّ جهدهم فيها، بحيث إنّ الكتابة فيها قد لا تضيف شيئاً جديداً إلى الفكرة، وإن كانت تضيف شيئاً جديداً إلى الأسلوب. وأرجو أن يوفّقني الله للقيام بذلك في ما أستقبل من الأيام، إن شاء الله.

ـ بناءً على هذا الحديث، هل تتمنّون على الفقهاء الشيعة أن ينصرفوا إلى البحث الفكري والسياسي؟

ـ إنَّني أتصوَّر أنّ الفقيه لا يستطيع في المرحلة الحاضرة أن يعيش خارج نطاق عصره، باعتبار أنّ قضايا العصر، حتى في المسألة الفقهيّة، تمثّل موضوعات الأحكام الّتي يحتاج المجتهد إلى أن يستنبطها، وإلى أن يحدّدها كمنهج إسلاميّ في الحياة.. ولذلك، فإنّ الفقهاء لا بدّ من أن يواجهوا الأسئلة الكثيرة من قِبَل مقلّديهم حول القضايا السياسيّة، وحول الموقف من قضايا الانتخاب، ومن قضايا العلاقة مع الحاكم الجائر، أو من خلال مسائل الجهاد، مما لا يمكن أن يجيبوا عنه بجواب سريع، على الطّريقة التي كانوا يجيبون عنها في الماضي، باعتبار أن حياة الناس المعاصرة ارتبطت ارتباطاً عضوياً يوميّاً بكلّ الواقع المعاش، وأصبحت مسألة الكيان الإسلامي، والكيان الشّيعيّ بشكلٍ خاصّ، في نموّه وتطوّره وحيويّته وعزته، ترتبط بطبيعة العلاقات مع هذا النّظام أو ذاك، ومع هذا المحور الدّوليّ أو ذاك، مما لا يمكن أن يكون الجواب فيه سلبيّاً بالمطلق، كما كانت المسألة في العصور الماضية. لذلك، فإنّ الفقيه، حتى في دائرته الفقهيّة، لا يستطيع أن يبتعد عن قضايا العصر، وإلا كان معزولاً عن مسألة الاجتهاد، لتكون أكثر القضايا الّتي يعيشها الناس لا يملك عليها جواباً، لأنه لا يملك معرفة فيها. وبذلك، ينعدم دوره كمرجع، حتى في المسائل الفقهيّة.

ومن جهة أخرى، فإنَّ طبيعة التزام الفقهاء بالإسلام، تطلّ على كلّ قضايا الحياة، كما هو الفقه الإسلاميّ الّذي يجتهد فيه المجتهدون، والذي يشمل كل نواحي الحياة، باعتبار القاعدة الموجودة عندهم: "ما من واقعة إلا ولله فيها حكم"، ما يفرض عليهم الاهتمام بالجانب الواقعي للفقه، كاهتمامهم بالجانب النظريّ له، لأنّ الفقه يُحرّك من أجل أن يعيش في الواقع، لا من أجل أن يبقى مجرّد نظريات بائدة، تدرس كما تدرس القوانين الرومانية، وما إلى ذلك من القوانين.

إن الفرق بين الفقيه الإسلامي والفقيه غير الإسلامي، أنّ الفقيه الإسلامي يعيش الحركية في طبيعة فقهه، بينما ينطلق الفقهاء الآخرون، ليعيشوا الجانب الثقافي والنظري في مسألتهم الفقهيّة.

أنا لا أمانع التخصّص في الفقه بالمعنى الثقافي، ولكنّني أجد أنّ هذا التخصّص لا ينفصل عن الوعي السياسي والوعي الاجتماعي الّذي يحتاجه الفقيه من أجل أن يبلور فتاواه أكثر، ومن أجل أن يبلور فهمه لخلفيّات الأسئلة الّتي يتحرك فيها السائلون، لأن السائل قد ينطلق من خلفيّة معيّنة، لا تستطيع الجواب فيها عن سؤال إلا إذا فهمت الخلفيّة، لأنّ فهم الخلفيّة قد يفرض فهم حركة السّؤال.

[مقابلة مع مجلّة البلاد اللبنانية، 1992م الأعداد: 98-99-100].

أدلى العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله بهذا الحديث عن ماضي المرجعيّة الشيعيّة وواقعها ومستقبلها، في شهر شباط/فبراير من العام 1992م، ونُشر في مجلّة (البلاد) اللّبنانيّة الغرّاء في الأعداد: 98-99-100.

وفي الحديث، نجد أنّ العلامة المرجع فضل الله قدّم تقويماً جريئاً، على عادته، لما هو عليه واقع المرجعيّة الشيعيّة والحوزة، وما ينبغي أن يجري عليها من تطوير علميّ ومنهجيّ، لافتاً إلى أنّ الإمام الخميني(قده) أعطى للمرجعيّة أفقاً غنيّاً فيما مثّلته شخصيّة القيادة المرجعيّة، وهو ما قد يتعب الكثيرون قبل أن يصلوا إليه، مقترحاً إضافة شروط جديدة إلى شخصيّة المرجع لتحقيق وحدة المرجعيّة.

وطرح العلامة فضل الله البابويّة نموذجاً لما يمكن أن تؤدّيه المرجعيّة من دور في حياة الأمّة، وقد أُجريَ الحديث قبل عدّة أشهر من رحيل الإمام الخوئي(قده):

المرجعيّة بين الانفتاح والجمود

ـ كيف يقيّم العلامة فضل الله المرجعيّة الشيعيّة خلال القرنين الهجريّين الأخيرين؟

ـ عندما ندرس المرجعيّة الشيعية في القرن الثالث عشر هجري، فإننا لا نجد هناك أية انطلاقات غير عاديّة فيما يتصل بحركة المرجعية في العالم الإسلامي على الصعيد السياسي، بالمستوى الذي يمكن أن تفتح نافذة على حركة المسؤوليّة المرجعيّة في رعايتها للعالم الإسلامي، فقد تكون الضّغوط القاسية الّتي أطبقت على الوضع الشيعيّ في مواقع المرجعيّة، سبباً في انكماش هذا الجانب في حركة المرجعيّة.

لكنّنا نلاحظ في هذا القرن، وجود فراغ فقهيّ واسع، يتمثّل بالعلماء الكبار الذين يمكن أن نعتبرهم قاعدة فقهيّة للمستقبل الفقهيّ الّذي أطلّ على حركة القرن الرابع عشر، أمثال صاحب "الجواهر"، وصاحب "كشف الغطاء"، وأمثال هؤلاء الّذين كانوا القمة الفقهيّة، مع بعض النقاط الحركية البسيطة التي يمكن أن تطلّ على بعض الانفتاح السياسيّ، في ما نلاحظه في الإجازة التي أجاز بها الشّيخ صاحب "كشف الغطاء"، لأحد ملوك إيران، حتّى يكون عمله شرعيّاً، من خلال إجازة الحاكم الشّرعيّ، ما قد يجعل المسألة تتحرّك في أجواء ولاية الفقيه.

وربما كانت هناك بعض المواقف الداخليّة الّتي كان بعض المراجع يستعملونها، في التدخّل الحادّ في بعض الأمور الّتي كانت تحدث في المناطق الداخليّة، كما في بعض الحروب الدّاخليّة الّتي حدثت في العراق أو في النّجف بين فئتين من النّاس.

إنّنا عندما نطلّ على القرن الرابع عشر الهجري، فإنّنا نرى أن هناك بدايات رائعة، وذلك في نشاطات المرجع المعروف السيّد محمد حسين الشيرازي، في فتواه التاريخيّة بحرمة التنباك، كردّ على احتكارات الشركات الأجنبيّة، التي حاولت أن تكون المدخل للاستيلاء على إيران آنذاك، ثم مسألة حركة "المشروطة" و"المستبدّة"، الّتي اتخذ فيها العلماء موقفاً حاداً مختلفاً، بالمستوى الّذي دعوا فيه إلى الخروج على رأس جيوش، لمحاربة بعض قوى الكفر الّتي كانت تريد أن تسيطر على إيران، ما خلق هناك حركة سياسيّة فكريّة وعمليّة، وانقسم الواقع الإسلامي الشيعي إلى معسكرين، أو حزبين أو تيّارين: "المشروطة" و"المستبدّة"، وكان من بركات هذا الصّراع، الكتاب الّذي ألّفه الشيخ النائيني(رض) حول هذه المسألة.

وفي تلك الفترة، انطلقت حركة الثّورة العراقيّة، بقيادة علماء النجف الأشرف في ثورة العشرين، وهكذا، امتدّ هذا التيار الذي كان يطلّ على الجو السياسي والجو الثوري بين فترة وأخرى، ليتحرك مدّاً وجزراً، تبعاً للظروف القاسية الّتي كانت تحيط بالواقع المرجعيّ من جهة، والّتي كان يخضع لها المجتمع الحوزويّ من جهة أخرى، من خلال طبيعة التيارات الفكريّة التي كانت تتحرّك في اتجاه العزلة عن الواقع السياسي، أو في اتجاه الانفتاح عليه.

وامتدّت هذه المسألة إلى المدى الّذي انفتح على قضيّة المرجعيّة المتمثّلة بالسيّد أبي الحسن الأصفهاني والشّيخ النّائيني، في موقفهما من الانتخابات النيابيّة، والّذي أدّى إلى تهجيرهما من العراق، ثم عودتهما، مع الالتزام بعدم التدخّل في الأمور السياسيّة، ولا سيّما أنهما أجنبيّان، بحسب القانون العراقيّ.

وهكذا، انطلقت مرجعيّة السيّد محسن الحكيم، التي كانت تمثّل نوعاً من أنواع الانفتاح على الواقع السياسيّ، تبعاً للظروف المحيطة بالمرجعيّة آنذاك، سواء في الأوضاع العراقية التي كان للسيد الحكيم تدخّل فاعل في أحداثها، أو في مواقفه من القضايا الإسلاميّة العامّة، الّتي كان يرسل رسائله ويعطي فتاواه فيها، ولا سيَّما المقاومة الفلسطينيّة.

وهكذا، لاحظنا أنّ المرجعيّة ارتفعت إلى أعلى مستوى، في مواجهة الواقع السياسيّ العالمي الّذي كان يطلّ على واقع البلدان الإسلاميّة في آخر هذا القرن، في انطلاقة الإمام الخميني، الّتي انتهت بانتصار الثورة الإسلاميّة، وولادة الجمهوريّة الإسلاميّة.

فعندما نطلّ على الحركة المرجعيّة في القرن الرّابع عشر الهجري، فإنّنا نراها حركة أقرب إلى الانفتاح منها إلى الانغلاق، وإلى الفاعليّة منها إلى الجمود، وإن كانت تختلف بين مرجع وآخر، أو بين مرحلة وأخرى...

ما بعد الإمام الخميني

ـ بعد وفاة الإمام الخميني، هل تتصوّرون أنّ المرجعيّة لن تواجه أزمات في عملها في الإطار العام؟

ـ في الواقع، عندما نريد أن نواجه مرحلة ما بعد الإمام، فهناك مشكلة واجهتها المرجعيّة، وهي المستقبل المرجعيّ، لأنّ هناك موقعين لا بدَّ من أن نتحدّث فيهما؛ أحدهما الموقع الّذي تمثّله مرجعيّة المراجع الحاليّين الكبار، الّذين يمثلون التيّار التقليديّ في المرجعيّة، مع بعض الإضاءات في موقف هذا أو ذاك في بعض حياة المرجعيّة.

ولذلك، نحن لا نتحدّث عن هذه الدّائرة، باعتبار أنها ليست دائرة ما بعد الإمام، ولكنّها الدائرة التي رافقت مرجعيّة الإمام، واختلفت عنها في الطابع وفي الأداء العلميّ من جانب المرجعيّة.

إنّ المرجعيّة التي تمثل مرحلة ما بعد الإمام في إطلالتها على المستقبل، هي مرجعيّة غامضة، باعتبار أنّنا لا نملك هناك أسماء كبيرة في العالم المتحرّك للمرجعيّة، كما كان يحدث عند وفاة أيّ مرجع، حيث تجد هناك أسماء كثيرة مهيّأة من ناحية عمليّة، حتى في حياة المرجع، للانطلاق نحو المرجعيّة، بحيث يكون لها حضور عامّ في الواقع الإسلاميّ الشيعيّ العام. فما نلاحظه، أنّ هناك عدّة أسماء تتداول في السّاحة، ولكنّها أسماء لا تملك الكثير من الموقع المتحرّك في الخطّ الواقعيّ للمرجعيّة، بل هي مشاريع للمستقبل، بحيث إنّ هناك أسماء تملك بعض الصّفات الّتي تؤهّلها لذلك.

ولكنّ المسألة هي مسألة التيّار الّذي يمكن أن يدفع هذه الأسماء إلى الواجهة، لأنّ هذه الأمور لا تخضع لخطوط مستقيمة عادةً، بل تخضع لخطوط متنوّعة في طبيعة التحرّك والظروف، وفي طبيعة الأوضاع المحيطة.

إنّنا نعتقد أنّ الإمام أعطى أفقاً للمرجعيّة، قد يتعب الكثيرون قبل أن يصلوا إليه، إذا كانت لديهم القدرة على الوصول إليه، لأنّ مرجعيّة الإمام الّتي أخذت هذا الحجم العالميّ، كانت منطلقة من عناصر الشخصيّة الذاتيّة، ولا سيّما شجاعة الموقف ورحابة الأفق، ومن الظّروف الموضوعيّة الّتي هيّأت له الكثير من الشروط الواقعيّة التي ساهمت في الوصول إلى هذه النّتائج، مما قد لا يحصل لمراجع آخرين قد يملكون شجاعة الإمام ورحابة الأفق، ومن الظّروف الموضوعيّة الّتي قد تدفع بالواقع إلى الآفاق الكبيرة التي أوصلها إليها الإمام.

افتقاد الوهج المرجعي

إنّنا نلاحظ أنّ الأسماء المطروحة في ساحة الحوزات العلميَّة، لا تملك الكثير من الوهج المرجعيّ الّذي يطلّ على المسألة السياسيّة من موقع متقدِّم، باعتبار أنّ طريقة حركتهم التاريخيّة في حياتهم الماضية، لا تمثّل إضاءات كبيرة. وإذا كانت هناك بعض الأسماء التي لها بعض التاريخ الثوريّ، فإنّ التعقيدات الأخيرة التي حصلت في بعض مواقع الحوزة، أبعدت هذه الأسماء عن أن تكون انطلاقة في حركة التيّار، لتبقى مجرّد أسماء قد تأخذ حيّزاً، ولكن من الصَّعب أن تصل إلى مستوى الواقع المرجعيّ.

لذلك، فإنني أواجه المسألة على أساس أنّ هناك كثيراً من الحذر والترقّب والخوف من أن تفقد المرجعيّة في المراحل الّتي تعقب هؤلاء المراجع الكبار، ومرحلة ما بعد الإمام، تلك القوّة الّتي استطاعت أن تحصل عليها من خلال كلّ هذه المسيرة.

اهتزاز في المقاييس

ـ بناءً على ذلك، نفهم أنّكم تتوقّعون أزمة بالنّسبة إلى المرجعيّة تؤثّر في الجسم السياسيّ؟

ـ هذا شيء حقيقيّ، لأنّ هناك ارتباكاً في مسألة العناصر الّتي تؤهّل الفقيه ليكون مرجعاً، فإنّ النظرة السّابقة كانت تكتفي بمسألة الفقاهة في مستوى القمّة، بمعنى الأعلميّة والعدالة، وهذان العنصران قد يكونان في مستوى الأهميّة عند الكثيرين في المجتمع الإسلاميّ الشيعيّ، ولكنّ مرجعيّة الإمام الخميني، جعلت مثل هذين العنصرين جانبيّين عند فريق كبير من المسلمين الشّيعة، الّذين أصبحوا ينظرون إلى الجانب الحركيّ، والجانب السياسيّ الّذي يطلّ على قضايا المسلمين وعلى قضايا العالم، من موقع الفقه والعدالة، ما يجعل هناك نوعاً من أنواع الاهتزاز في المقاييس الّتي تتحرّك بها المرجعيّة في ولادتها وحركيّتها في ذهنيّة المسلمين في هذا العصر، ما قد يوجد ارتباكاً في هذه المسألة، فهناك الكثيرون من النّاس الّذين قد يكونون على استعداد لتجاوز مسألة الوعي السياسيّ والخبرة السياسيّة والأفق الواسع، عندما تتوفّر مسألة الأعلميّة والعدالة، وهناك أناس قد يكونون على استعداد لتجاوز مسألة الأعلميّة والعدالة، للاكتفاء بمجتهد، أيّ مجتهد كان، وربما يتسامحون في مسألة الاجتهاد عندما تتوفّر مسألة الخبرة السياسيّة والوعي السياسيّ والانفتاح العام.

إننا نخشى أن يكون هذا الاهتزاز في وعي عناصر المرجعيّة، سبباً في ارتباك النّتائج الّتي يمكن أن تحصل من خلال الحركة الجديدة للأشخاص الّذين يراد لهم أن يكونوا في هذا المستوى.

تعدديّة المراجع!

ـ في مقابل ذلك، نرى أنّ الكثرة العدديّة للمراجع، قد ترتدّ بشكل سلبيّ على الجسم الشيعيّ، كما حدث في "المشروطة" و"المستبدّة"!

ـ إنّ للكثرة إيجابيّات يذكرها الكثيرون في مسألة التعدّديّة الّتي قد يتحدّث فيها الناس عن الجانب السياسيّ.. ما يجعل التعدّدية غنى في التجربة، وغنى في حركة الحريّة في اتخاذ المواقف، ولكن هناك سلبيّة كبيرة جداً، وهي مسألة انقسام الأمّة واهتزاز مواقفها، بحيث لا يستطيع أيّ تيار أن يكتسب الصفة الحاسمة في النّهاية، وذلك عندما تتعادل التيّارات في التزام النّاس بها، ما يجعل هناك شللاً في الوصول إلى القرارات الحاسمة، في غياب أيّ نوع من أنواع التّفاهم حول القواسم المشتركة الّتي قد تشترك فيها هذه التيارات.

إنّنا نعتقد أنَّ خلاف المرجعيّات أوجد مشكلة كبيرة جداً في الجسم الإسلاميّ الشيعي، مع المحافظة على الإيجابيّات الأخرى، ولكنّ السلبيّة أكثر. ولذلك، لا بدّ من دراسة فقهيّة جديدة للشروط التي لا بدّ من توفرها في المرجع، وطريقة تعيين المرجع، حتى لا تخضع لمزاجات مفاتيح المرجعيّة، تماماً كما هي المفاتيح الانتخابيّة، لأننا نعرف أن حركة المرجعيّة في بعض ظروفها ومراحلها، قد تعتمد على شخصيّات تسيطر على هذا الموقع أو ذاك، من خلال طبيعة الظروف المحليّة أو الإقليميّة، ما يجعل من كلمة هذا الشخص في هذا القطر، سبباً في رجوع هذا القطر إلى هذا المرجع، بعيداً عن مسألة المواصفات الحقيقيّة التي تميز بين مرجع وآخر، وما إلى ذلك من الضّغوط التي لم تصل، بحمد الله، إلى الضّغوط السياسيّة، ولكنها قد تعيش أجواء سلبيّة، من خلال طبيعة الوضع الشعبي، أو طريقة نموّ هذا التيّار التّابع لهذا الشخص أو ذاك. لذلك، أعتقد أنّ من الضّروريّ دراسة هذه المسألة بشكل جديد، لأنّ المرجعيّة كانت في السّابق مجرّد مرجعيّة فتوى تتّصل بالجوانب الشرعيّة في أخذ الفتوى من المجتهد، أو في مسألة حركة الحقوق الشرعيّة وإدارة الحوزات وما إلى ذلك.

أمّا الآن، فقد أصبح المرجع في الواجهة السياسيّة في العالم، بعدما أصبحت مسألة الطّوائف أو مسألة الأديان، تمثّل وجهاً من وجوه الحركة العالميّة الّتي تتأثّر بطبيعة القيادة هنا والقيادة هناك.. أصبح النّاس يرجعون إلى المرجع في القضايا السياسيّة والقضايا الاجتماعيّة، وما إلى ذلك من الأمور الّتي تقتحم على العالم الإسلامي كلّ مواقعه وكلّ قضاياه، ما يعني أنّنا لا بدّ من أن نضيف شروطاً للعناصر التي تتألّف منها شخصيّة المرجع، ولأنّ هذا يمكن أن يكون موجوداً في أفراد قلائل، لا بدَّ من الدّخول مرّة ثانية في عمليّة التّمييز بينهم، ما قد يؤدّي إلى وحدة المرجعيّة في هذا المجال.

ولكنّ مشكلة هذا الطّرح، هي أنّ الحوزات العلميّة الّتي تمارس مسألة الاجتهاد، قد لا تكون هذه المسائل ذات أهميّة كبرى بالنّسبة إليها في الخطّ الاجتهاديّ. ولذلك، فإنّنا لا نتصوَّر لهذه المسألة حلاً في المستقبل القريب، فقد تكون هناك بعض الإضاءات في ذهنيّة بعض المجتهدين، ولكنَّ مسألة قبول الجوّ العامّ بهذه الإضاءات، قد يحتاج إلى هزّات كبيرة وأوضاع وصدمات كبيرة...

الحضور الشّامل

ـ ما هي نظرتكم إلى دور المرجعيّة على مستوى الفكر والأمّة والسياسة؟

ـ في الواقع، إنّني في الذهنيّة الشيعيّة المنطلقة من الخطّ الذي يبتدئ من النبوّة مروراً بالإمامة، ليطلّ على المرجعيّة. إنَّ فهمنا لهذا، هو أنّ المرجع يمثّل القائد للأمّة، الّذي لا بدّ له من أن يختزن في شخصيّته الكفاءات الثقافيّة والروحيّة والعلميّة، الّتي تمكّنه من أن يكون أميناً على سلامة حياة الأمّة في كلّ هذه الجوانب. أنا لا أدّعي أن يكون أعلم النّاس في كلّ شيء، وأكثر الناس خبرةً في كلّ شيء، ولكنني أقول إن المفروض أن يكون للمرجع الرشد الفقهي، والرشد الاجتماعي، والرشد الحركي، مع الاستقامة الأخلاقيّة في الخط، والقوّة الروحيّة التي يستطيع من خلالها أن يطلّ على قضايا الأمّة، وأن ينفتح على كلّ الخبرات والطّاقات، من موقع الإنسان الذي يستطيع أن يستفيد من هذه الخبرات، باعتبار أنّه يمثّل حركية تلك الطاقة. وأن يكون الإنسان الّذي يحمل اهتمامات الأمّة في اهتماماته، ويتحرّك مع الأمّة ليعطيها غنى في التجربة، كما يأخذ غنى التجربة، ليكون معلّماً وتلميذاً في آن واحد.

إنّني أتصوّر أن المرجعية لا بدَّ من أن يكون لها حضور شامل في كل قضايا الأمّة، وفي كلّ قضايا العالم التي تتّصل بمصير الأمة الإسلامية، فلا يجوز أن يكون المرجع غائباً عن أية قضية من قضايا المستضعفين، أو أية قضية من قضايا المسلمين في العالم، حتى تلك التي لا تتّصل بالواقع الشيعي أو الإسلامي، لأنّ المرجع الذي يحمل رسالة الإسلام، لا بدّ من أن يطلّ على الواقع العالميّ في كلّ اهتزازاته وتياراته، وفي كلّ مواقعه، لأن ذلك من مسؤوليّته في ما هي مسؤوليّة الإسلام في العالم، ولأنّ ذلك يتصل بالمسلمين بشكل عام، وبالشيعة بشكل خاصّ.

إننا نتصور أن مسألة الحضور السياسي والثقافي والروحي، عنصر حيويّ من عناصر المرجعيّة، التي تكون في مستوى العصر والإسلام والتحدّيات الكبيرة التي يواجهها الإسلام في هذا العصر.

مشروعٌ للقيادة

ـ قدّم الإمام الخميني نموذج حكم الفقيه، وطرح الشّهيد الصّدر مشروع المرجعيّة الصّالحة. ما هو تعليقكم على المشروعين؟ وما هو مشروعكم في هذا الخصوص؟

ـ إنّ الإمام الخميني انطلق في وعيه لمسألة المرجعيّة، من وعيه لمسألة الإسلام، فلم يفكّر في أنّ من الممكن لأيّة مرحلة من المراحل، مهما كانت طبيعتها، أن تختلف عن مرحلة أخرى في شموليّة الإسلام، وفي حركيّته في مسؤوليّته عن حكم الحياة. ومن خلال ذلك، فإنّه لم يفرّق بين حالة حضور الأئمّة وحالة غيبتهم، باعتبار أنّ الإسلام لم يأتِ لمرحلة معيّنة، وأنّ الّذين يتحدّثون عن أنّ الإسلام كان في مرحلة خاصّة على مستوى الدّولة، ويمكن له أن يعيش في المرحلة الأخرى على مستوى الأفراد، هؤلاء يجعلون الإسلام خاضعاً للقيادة، بحيث تكون ظروف الإسلام هي ظروف القيادة في إمكاناتها، بدلاً من أن تكون القيادة خاضعةً للإسلام، بحيث تكون ظروف الإسلام هي الّتي تحدّد للقيادة ظروفها وحركيّتها.

نحن نعرف أنّ الإسلام هو دين الله، وأنّ عظمة الرّسول هي أنه بلّغ رسالة الله، وأراد أن يكون الدّين كلّه لله. وبذلك، كان الرّسول هو خادم الدّين، ولم يكن الدّين خادماً للرّسول، فالله لم يرسل الإسلام ليكون خصوصيَّة للرّسول، وإنما أرسل الرّسول وشرع القيادة من بعده، من أجل أن يكونوا خدماً للإسلام ودعاةً إليه وقادة له، لذا، الإسلام أوّلاً، والقيادات ثانياً.

عندما أطلّ الإمام الخميني على هذا الأفق الواسع، اعتبر أن مسألة الحكومة الإسلاميّة التي تعني حركيّة الإسلام في نظام الحياة وفي نظام النّاس بشكل شامل، هي قضية الحياة. وإذا كانت المسألة، بحسب الفقه الإسلامي الشيعي، قد انطلقت من خلال القيادة الواحدة المتمثّلة بالنبيّ(ص)، ثم الأئمّة(ع)، فإنّها لا بدّ من أن تتحرّك في هذا الخطّ على المستوى الشموليّ الّذي كانت عليه. ولذلك، ليس هناك فرق بين مهمّة الفقيه العادل المؤهّل للقيادة من خلال العناصر الأساسيّة، ومهمّة الرّسول والإمام، وإن لم يصل هو إلى مرتبة الرّسول أو إلى مرتبة الإمام، ما يجعل مسألة المرجعيّة تتّسع حسب اتّساع مسألة الإسلام، ومسؤوليّتها تكبر حسب مسؤوليّات الإسلام.

فليست هناك حدود لمسؤوليّات المرجعيّة، ما دام الإسلام لا يعيش مثل هذه الحدود. ومن هنا، فإنّ موقع المرجعيّة في نظر الإمام الخميني(رض)، هو موقع الإسلام في كلّ المجالات، فلا بدّ من أن تتحرّك حيث يتحرّك الإسلام، وهذا هو الّذي يجعل المرجع الموصل للقيادة والولاية، منفتحاً على كلّ الحياة، وعلى كلّ الواقع، وعلى كلّ المسؤوليّات.

أما الشهيد السيد الصدر(رض)، فإنّه في الفقه الإسلاميّ الواسع، ليس بعيداً عن هذا الخطّ، وقد لاحظنا كيف استقبل نجاح الثورة الإسلاميّة، ونجاح الإمام الخميني في قيادته، بالكلمات الرّائعة التي أطلقها في ضرورة الذّوبان في مرجعية الإمام الخميني، لأنه يلتقي بهذا الأفق الواسع الّذي انطلق منه الإمام الخميني، وحاول أن يتحرّك في هذا الخط في رسالته "الإسلام يقود الحياة". ولكنّه عندما تحدث عن المرجعيّة، كان يتحدّث فيما أسماه "المرجعيّة الرشيدة"، عن الجانب التنظيمي الإداري للمرجعيّة، من خلال طبيعة مسؤوليّاتها الإداريّة. وبتعبير آخر، كان يريد أن يحدّد الوسائل العملية الّتي تجعل المرجعيّة تتحرّك كمؤسّسة لا كشخص. ولذلك، فإنّنا لا نستطيع أن نقول إنّ الشّهيد الصّدر قد ابتعد عن خطّ الإمام الخميني في هذا الأفق الواسع، ولكنّه لم يعش هذه التّجربة، ولم يرافق حركة الثّورة الإسلاميّة بهذه الشموليّة، وأعتقد أنّه لو مدّ الله في عمره، لما اختلف عن الإمام الخميني في أيّ جانب من الجوانب.

المرجعيّة المؤسّسة

أما رأينا، فإنّنا نعتقد أنّ المسألة تتحرّك في هذا الخطّ، ويمكن لنا أن نفكّر في الجانب الواقعيّ للمسألة، عندما لا نستطيع أن نتحكّم بالظّروف السياسيّة الواسعة التي يمكن أن تدفع بالمرجعيّة إلى أن تكون قوّة فاعلة تهزّ العالم... إنّنا نتصوّر أنّه لا بدّ لنا، إضافةً إلى ما ذكره السيّد الشّهيد من التّخطيط الإداري للمرجعيّة الرّشيدة، من بحث الخطوط العامّة، لأننا لسنا في وارد بحث التفاصيل التي قد يفكّر الإنسان في أنّ من الممكن أن تتوسّع أو تضيق. ولذا نتصوّر أنّ المرجعيّة الإسلاميّة الشيعية قد تحتاج في ظروفها المحدّدة، أو في طبيعة أوضاعها الخاصّة، إلى أن تتحرّك في دائرتين:

الدائرة الأولى: هي أن لا تكون المرجعيّة شخصاً، بحيث يرث أولاده تراثه وتجربته، أو أن تكون أجهزته خاضعة لخصوصيّاته، بل أن تكون المرجعيّة مؤسّسة، بحيث إن المرجع يأتي إلى مؤسّسة تختزن تجارب المراجع السابقين، بحيث يكون بين يدي المرجع الجديد، كلّ الوثائق الّتي تمثّل علاقات المرجعيّة بالعالم، وتجاربها، وخصوصيّات القضايا الّتي عالجتها، حتّى في مسألة الاستفتاء والأسئلة والأجوبة، وبحيث يجد المرجع الجديد كلّ هذه التجارب جاهزة في مؤسّسة المرجعيّة، ليبدأ من حيث انتهى المرجع السّابق، لا ليبدأ من نقطة الصّفر بعيداً عن كلّ التجارب السّابقة. وفي هذا المجال، نحن لا نمانع في أن يكون للمرجع معاونون يختارهم في حركته، ولكن على أن لا يكونوا هم المؤسّسة، بل أن يكونوا المعاونين الّذين ينسجم معهم في دائرة المؤسّسة وإطارها.

الدّائرة الثّانية: هي أنّنا نتصوّر أنّه لا بدّ للمرجع من أن يطلّ على قضايا العالم، ولو من ناحية اتخاذ المواقف السياسيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة الّتي تطلّ على كلّ مواقع المرجعيّة، أو ما يمتدّ منها إلى أبعد من هذه المواقع، مما تتأثّر به سلباً أو إيجاباً.

نموذج البابويّة

وهناك نقطة ثالثة في هذا المجال، وهي مسألة أن يتحرّك المرجع في أنحاء العالم، وأن لا يبقى في موقعه بعيداً عن الناس، بحيث يكون موقع المرجعيّة، مع بعض الفوارق، شبيهاً بموقع البابويّة، فلا بدّ للمرجع، تبعاً لظروفه الخاصّة والمرحلة الّتي يعيش فيها، من أن يطلّ على مواقع مرجعيّته، ليخاطب النّاس، وينفتح عليهم، ويتحدّث في شؤونهم. إنّ هذا هو الّذي يمكن أن يحقّق للمرجعيّة حيويّتها وحركيّتها التي تكون بها عنصراً فاعلاً في حياة كلّ النّاس الّذين ينتمون إليها ويتبعونها.

ومن الطبيعيّ أنّ الجوانب التنظيميّة في هذه المؤسّسة، لا بدّ من أن تخضع لتخطيط معيّن، بحيث تتكامل كلّ المواقع في داخل الموقع الكبير. إنّني أتصوّر أنّ طبيعة تحدّيات العصر، وشموليّة قضاياه، والمتغيّرات الّتي تتحرّك بين يوم وآخر، والحيرة الّتي يعيشها الناس في ما هو تكليفهم الشرعيّ في كلّ القضايا التي تتّصل بحياتهم السياسيّة والاجتماعيّة، تحتاج إلى أن تخرج المرجعيّة من عزلتها، وأن يكون المرجع إنساناً منفتحاً على الإسلام كلّه، وعلى العالم كلّه، وعلى كلّ المتغيّرات التي تتحرّك في ساحته، انفتاح الموقف، لا انفتاح الثّقافة فحسب.

الحوزة وحاجات العصر

ـ تحدّث الكثير عن تنظيم الحوزة العلميّة بمنهجيّة جديدة، وآمن الكثير بذلك دون أن يصرّحوا برأيهم. ماذا تقولون في هذا الموضوع؟

ـ إنّنا نعتقد أنّ الحوزة العلميّة لا تمثّل الموقع العلميّ الّذي يواجه حاجات العصر وتحدّياته، لأنّ المناهج المطروحة في الحوزة، بحسب خطّها الدّراسيّ، لا تزيد عن الفقه والأصول... فقد نُفاجأ بأنّ الحوزة العلميّة، سواء في النّجف أو في قمّ، وفي غيرهما، لا تملك منهجاً دراسيّاً إلزاميّاً للقرآن، أو للحديث، أو لعلم الكلام، أو للفلسفة، أو للمفاهيم الإسلاميّة العامّة، أو لما يتّصل بأساليب الدّعوة، أو ما إلى ذلك من القضايا الّتي تتّصل بثقافة الإنسان الفقيه الدّاعية المبلّغ، الّذي يمكن أن يكون حجّةً للإسلام في ثقافته الإسلاميّة الواسعة.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الحوزات لا تخضع حتّى الآن للمناهج التقويميّة للطّالب، سواء في مسألة الامتحان، أو ما أشبه ذلك من أساليب النّتائج الأخيرة عند الطّالب عندما يريد أن يتخرّج، فالطالب يمكن أن يتخرّج بعد سنتين، ويذهب إلى بلاده ليعتبر عالماً، وقد يسيء إلى الإسلام كلّه في هذا المجال، وقد يدخل إنسان غير مؤهّل للمسألة، فيكون مشكلة للإسلام.

لذلك، فإنّنا نتصوَّر أنّ الحوزة تمثّل في مناهجها الدراسيّة، كما تمثّل في طبيعتها التنظيميّة، مرحلة ما قبل مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة سنة، ولا تمثّل مرحلة العصر الّذي تقدّمت فيه المناهج والأساليب التربويّة خطوات واسعة، اختصرت على الطالب كثيراً من عمره، حيث قرّبت المسافات بين الحاجة والنّتائج، وبين الحاجة وما يلبّي هذه الحاجة... ولذلك، فإنّنا نرى مثلاً أنّ المنهج الأوروبّيّ في التّدريس كان معقّداً سابقاً، وكذلك المنهج الأمريكيّ، ولكنّ هذه المناهج تطوَّرت، حيث بات بإمكان الإنسان أن يحصل على شهادة الدّكتوراه في أقرب وقت، بينما كانت المسألة سابقاً تحتاج إلى سنين متعدّدة.

نحن لا نريد أن نقول إنّ علينا أن نتبع المناهج الحديثة ونترك مناهجنا، ولكن نقول إنّ علينا أن نقوم بدراسةٍ نأخذ فيها من التطوّرات الحديثة، على مستوى المنهج والموادّ الفكريّة الّتي تتّصل بالثقافة الإسلاميّة، وعلى مستوى طبيعة التّنظيم، في مسألة دخول الطّالب إلى الحوزة، وفي حياته داخل الحوزة، وفي تخرّجه من الحوزة. إنّنا نحتاج إلى جهد كبير في هذا المجال، ولا أتصوّر أنّ هناك حركة تنطلق الآن في الحوزة العلميّة في بعض هذه الأمور الّتي أثرناها. إنّ هناك نوعاً من إمكانات النَّجاح، ولكن بشكل عاقل هادئ، ونرجو أن يقدَّر لهذه التَّجارب المزيد من النَّجاح.

مشروع مرجعيّة!

ـ هل لديكم مشروع ما للمرجعيّة؟

ـ لا أريد أن أتحدّث عن مشروع، لأنّ للكلمة امتداداتها الّتي قد لا يحقّقها هذا الجواب، ولكنّني أتصوّر أنّنا عندما ندرس المرجعيّة الإسلاميّة الشيعيّة بمعناها الواسع،  نرى أنّها ترتكز في دائرة اللاوعي الشيعيّ باعتبارها امتداداً لدور الإمام، بحيث إنّ وجود المرجع يسدّ فراغاً على الصّعيد الروحيّ والفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، حتى لا يعيش النّاس فراغ القيادة في أيّ جانب من الجوانب، سواء كان ذلك في دائرة القضايا الّتي تتحرّك في داخل الوضع الإسلاميّ الشّيعيّ، أو في داخل الوضع الإسلاميّ العام، أو في دائرة القضايا العالميّة المرتبطة بالواقع الإسلامي، أو بالواقع الإسلاميّ الشّيعيّ بشكل خاصّ.

عندما نجد أنّ الكلمة تستبطن كلّ هذه الآفاق والخطوط، فإنّ من الطبيعيّ للمرجع أن لا يكون مرجعاً في الفتيا فقط، أو مرجعاً في القضايا الّتي تعيش على هامش موقع الفتيا، كالحقوق الشرعيّة وأمور القاصرين وما إلى ذلك، مما اعتاد الفقهاء أن يتحدّثوا عنه، كموقع للمجتهد أو للمرجع، أو كمسألة القضاء الّتي يعتبرها الفقهاء من صلاحيّات المرجع أو المجتهد.

إنّ المرجعيّة تحتاج إلى ذهنيّة واسعة سعة المسؤوليّة الّتي تتحرّك فيها بعنوان كونها نيابةً عن الإمام، ولا بدَّ من أن تنطلق من خلال مؤسَّسات تتحرّك في نطاق المؤسّسة الكبرى، فالمرجعيّة تضمّ خبراء في سائر القضايا الّتي تتحرّك فيها، وتضم الدّراسات الّتي تحتاج إليها، ولا بدّ من أن تكون الممثليّات للمرجعيّة ممثّليّات متحرّكة، بحيث تستطيع أن تجسّد الحضور المتحرّك للمرجعيّة في هذا البلد أو ذاك البلد، لتكون أشبه بالسّفارات أو الممثليّات المشابهة لممثليّات المنظّمة الإقليمية أو الدوليّة وما إلى ذلك.

إنّني عندما أريد أن أجد نموذجاً للصّورة التي أتمثّلها في فكري حول دور المرجعيّة، فإنّني أجد نموذج البابويّة، الّتي تنطلق في صفتها الدينيّة الشّاملة نحو المواقع السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، وتتحرّك من خلال ممثّليها بفعاليّة في كلّ القضايا المطروحة في البلدان الّتي يعيش فيها الكاثوليك، أو الّتي يعيش فيها المسيحيّون، سواء كان في شؤونهم الداخليّة، أو في علاقاتهم بالمذاهب الأخرى في دائرة المسيحيّة، أو بالأديان الأخرى في دائرة الإسلام واليهوديّة والبوذيّة وما إلى ذلك، ما يجعل المسيحيّة تتحرّك من خلال هذه المؤسسات والممثليات في كل الواقع العالمي المرتبط بالمسيحية على مستوى العلاقات، الأمر الذي يجعل لها قوّة معنويّة تطلّ على كلّ مواقع العالم.

وقد نلاحظ أنّ البابويّة تتحرّك ميدانياً لتطلّ على مواقعها الشعبيّة في العالم، حتّى إنها تطلّ على مواقع غير مسيحيّة، لتجتذب عواطفها أو مواقفها بشكل أو بآخر، ولا سيّما في المناطق المتخلفة، ما يهيّئ الجوّ للمبشّرين كي يستفيدوا من ذلك، كما في مواقع أفريقيا أو أمريكا اللاتينيّة، وما إلى ذلك من مواقع.

إنَّ هذا الحضور الميداني الواسع والمتحرّك، الّذي لا يفقد الروحيّة في إطلالته على المواقع الّتي يزورها البابا، لا يعدم الوسائل لامتداد المسيحيّة، ولحلّ الكثير من المشاكل السياسيّة في هذا المجال أو ذاك. وربما تساهم البابويّة في حلّ الكثير من القضايا السياسيّة المعقّدة، كما لاحظنا ذلك في حركة البابويّة فيما يتعلق بـ"بولونيا"، الّتي هي الوطن الأمّ للبابا الحالي، فقد نلاحظ أنّه كان للبابويّة الدّور الكبير في تفجير الأحداث هناك لمصلحة الوقوف ضدّ الماركسية، وتقوية عناصر التّغيير المسيحيّة الّتي وقفت في وجه الماركسيّة.

هذا إلى جانب الغنى الثّقافي الّذي يمكن أن يتحرّك من خلال هذا الواقع الواسع في الدفاع عن المسيحيّة، وفي بلورة مفاهيمها، وفي نشر عقائدها وقضاياها، في المستوى الّذي تدخل فيه هذه القضايا في الكيان الفكري للعالم، من خلال الحضور الدائم في هذا المجال أو ذاك المجال.

ونحن نلاحظ أنّ هناك نوعاً من أنواع التخطيط الدّولي الّذي يتحرّك من خلال بعض المواقع الإسلاميّة، عن طريق بعض الدّول الّتي تتبنّى بعض المذاهب الإسلاميّة المضادّة للتشيّع، وأنّ هناك حملة ضدّ الشيعة تصل إلى حدّ التكفير، وهذه الحملة مربوطة بالأخطبوط الاستعماري الدّوليّ، وبالحراس السياسيّين في الدول الإسلاميّة لحركة هذا الأخطبوط في الواقع الإسلامي.

إنّ من أوّل واجبات المرجعية، مواجهة هذه الحملة بالوسائل العصريّة الحديثة، التي لا تجعل المسألة مسألة انفعال، بل مسألة تخطيط طويل الأمد، ينفتح على القضايا الفكريّة المذهبيّة بما يتلاءم مع الأجواء الثقافيّة المعاصرة.

ومن الطبيعيّ أنّنا عندما نتحدَّث عن الواقع السياسيّ في العالم، فإنّنا لا بدَّ من أن ندرس في كلّ مرحلة، ظروف المرجعيّة في قدرتها على تحريك الشّارع الإسلاميّ، في مسائل التحرّر الداخليّ أو الخارجيّ، ومدى الإمكانيّات الّتي تملكها في هذا السّبيل أو ذاك، من خلال بعض النَّماذج الَّتي عاشتها المرجعيّات السّابقة، في إطلالتها على الواقع السياسي بنسبة معيّنة أو بنسبة كبيرة، ما يجعل المسألة السياسيّة مسؤوليّتها بشكل أو بآخر.

إنّني أتصوّر المرجع شخصاً منفتحاً على العالم كلّه، من خلال انفتاح الإسلام على العالم، وشخصاً واعياً للأحداث، بحيث يتابعها يوميّاً حتّى في صغريات الأمور، من خلال التّقارير الّتي تقدّم إليه، أو من خلال الممارسة المباشرة لذلك، كما كنّا نلاحظ في الإمام الخميني(رض)، الّذي كان يلاحق الأخبار التي تذيعها الإذاعات، كما كان يراقب حتى التلفزيون، ويقدّم الملاحظات حتى للفنيّين، من ممثلين أو أدباء أو ما إلى ذلك.

إنَّ مسألة المرجعيَّة الّتي تريد أن تكون القيادة العامّة للأمّة، لا بدّ من أن تكون منفتحة على كلّ قضايا الأمّة، ولا تكون منعزلة عن الواقع في الدّوائر الّتي أرادت الأوضاع التاريخيّة أن تحبسها فيها.

بين التحدّي والصّمود

ـ نفهم من كلامكم أنكم ترسمون للمرجعيَّة صورة التحدّي وليس الصّمود؟

ـ من الطَّبيعي أنّك لكي تصمد، لا بدّ من أن تتحدّى، ولا بدّ من أن تواجه التحدي، باعتبار أنّ الهجوم قد يكون في بعض الحالات، حركةً تتيح لك تثبيت قدميك.

إنّنا لا نستطيع أن نفصل في واقعنا المعاصر بين الصّمود والتحدّي، لأنّ الواقع المعاصر يعمل على أن يهزّ الأرض من تحت قدميك، ولن تستطيع أن تثبّتهما إلا إذا استطعت أن تشغل الآخرين، بأن تهزّ الأرض تحت أقدامهم، لأنّ وقوفك في أرضك ثابتاً في مواجهة الآخرين، يجعل المسألة خاسرةً على مستوى ما يخطّطون له من إسقاط الأرض الّتي تقف عليها.

إنَّ الحركيّة هي الخطّ الّذي لا بدَّ من أن يتحرَّك فيه الإنسان، لأنّه لا معنى لأن تصمد في المطلق. إنَّ الصّمود يمثّل المرحلة الّتي تستطيع فيها أن تملك القدرة على التّخطيط والاستعداد، لتبادر في المستقبل إلى التحرّك نحو أهدافك. ومن الطبيعيّ أن يكون الصّمود مقدّمة للحركة، لا أن يكون هو الهدف.

المرجعيّة: تعدّديّة أم وحدة؟!

ـ ماذا عن القيادة المرجعيّة والاندماج في شخص المرجع؟

ـ من الطَّبيعي أنّ المشكلة الّتي تواجه التعدّدية بين القيادة والمرجعيّة، هي أنّ مسألة المرجعيّة التي تتحرّك في واقعها الحاليّ في دائرة الفتاوى، قد تختلف في خطوطها الفتوائيّة عن نظرة القيادة إلى ما فيه مصلحة الأمّة، وبذاك، يحصل التجاذب بين الفتوى المرجعيَّة وحركة القيادة حول ما فيه مصلحة الأمّة، كما أن طبيعة الموقعين القياديّين اللّذين يطلّ أحدهما على الآخر، قد يوجد الكثير من الضّغط المضادّ والحركة المضادّة، ما يوجب إرباك الواقع الإسلامي.

لذلك، فالأصل أن تتوحَّد المرجعيّة والقيادة في شخص واحد، ولكن إذا كنّا في موقع لا تملك المرجعيّة في الفتيا الإمكانات التي تستطيع من خلالها أن تتحرّك في خطّ الواقع، فإن من الطبيعي أن يكون موقع القيادة مختلفاً عن موقع المرجعيّة، ولا بدّ من وجود حالة تنسيقيّة بين القيادة والمرجعيّة، حتى لا ترتبك الأمور، وحتى لا تتعقّد المواقف.

في عالم المرجعيّة، سواء بمفهومها التقليديّ الّذي يدور حول الفتيا، أو بمفهومها المستقبلي الّذي هو الطّموح الّذي يدور حول القيادة، لا نستطيع أن نفكّر في مرجعيّتين، ولكن فيما يتّصل بنظريّة ولاية الفقيه، التي تنطلق من فكرة أن الفقيه هو نائب الإمام، قد يُقال إنّ من الممكن جداً أن يكون للإمام أكثر من نائب في غيبته، كما كان له أكثر من نائب في حضوره. ولكنّ هذه المسألة تخضع للمصلحة الإسلاميّة العليا، فقد تفرض المسألة أن لا يكون هناك إلا وليّ واحد لكلّ العالم الإسلاميّ الشيعيّ، تماماً كما هي مسألة المرجعيَّة، وقد تكون هناك مصلحة في التعدّدية. وإذا كانت هناك مصلحة في التعدّدية، فإنّ من الطبيعيّ أن يكون هناك نوع من التّنسيق، الّذي يجعل لكلّ موقع دائرة خاصّة يتحرّك فيها، من أجل إدارة الأمور الذاتيّة للمنطقة التي يتولى أمرها، ودائرة عامّة، وهي الدائرة الشموليّة لكلّ مواقع الولاية، ما يقلّل من خطر الإقليميّة، أو يزيل هذا الخطر.

لذلك، عندما نريد أن نفكّر في العناوين الكبرى لهذه المسألة من الناحية الفكريّة، لا بدَّ من أن نفكّر في الضَّمانات التي يمكن أن تحفظ حركتها في الدائرة الواقعيّة.

أنا لا أجد أيّة سلبيّة من ناحية حركة الصّراع في هذا المجال، بل إنّ حركة الصّراع كانت إيجابيَّة بشكل بارز، لأنها استطاعت أن تكسر الجمود الّذي سيطر على هذه النظريّة الفقهيّة، بسبب المسار التّاريخيّ الّذي جعلها خاضعةً للحصار الّذي عاشه المجتهدون في كلّ مواقعهم التّاريخيّة، بحيث سيطر هذا التوجه على الذهنيّة الاجتهاديّة، التي جعلت المجتهد لا يفكّر في دولة إسلاميّة، ولا في الإمكانات الواقعيّة لمجتمع يمكن أن يتولى الفقيه أمره، ولذلك، لم تتوفّر للمجتهدين الآفاق الواسعة الّتي تضع الموضوع الواقعي في الواجهة، بحيث يفرض على المجتهد أن يفكّر في أحكامه فيما لو حدث، أو في أحكامه لكي يحدث، الأمر الذي جعل مسألة الولاية عندهم محصورة في الدوائر الصغيرة التي تواجههم وجهاً لوجه، كقضايا القاصرين، وأموال الغائب، والأوقاف، وما إلى ذلك من الأمور.

إن الحركة الفقهية المتداخلة مع الحركة السياسية، استطاعت أن تقدم النظرية والواقع دفعة واحدة، بحيث لم تنطلق النظرية في دائرتها الفكرية التجريدية، بل قدمت نفسها من خلال واقع يتيح للمجتهد أن يحكم، وأن يحرك الأمور في دائرة ولايته على خط المنهج الإسلامي، ما جعل الواقع يفرض نفسه حتى على الذين ينكرون ولاية الفقيه، ليتحدثوا عن أحكام الناس الذين يعيشون في دائرة منطقة الولاية، وكيف يتعاملون معها: هل إن التعامل مع الفقيه الذي يحكم الموقع الإسلامي المعين، يشبه التعامل مع الحاكم الجائر الذي كان يحكم هذا البلد أو ذاك البلد، أو أن الأمر يختلف في ذلك؟

لقد فتحت مجالاً للبحث حتّى بالنسبة إلى الذين لا يرون ولاية الفقيه. أما مسألة السلبيات الصغيرة التي تحركت في هذا المجال، فهي السلبيات الطبيعية التي تحكم كل حركة جديدة، سواء كانت على مستوى القضايا الفقهيّة، أو الفكريّة، أو السياسيّة، أو غير ذلك من الأمور التي تتّصل بحياة الناس، وبالصّدمة التي تحقّقها لكلّ المألوف الذي كان الناس يألفونه، من الوسائل العاطفية والانفعالية التي يحاول هذا الفريق أن يوجّهها إلى الفريق الآخر، الأمر الذي أبعد الكثير من حالات الجدل الكلاميّ، أو ما إلى ذلك، عن دائرة الخطوط الفكريّة الفقهيّة التي تواجه المسألة بعقلانيّة وموضوعيّة.

لعلّ هذه هي الوسائل السلبيّة التي فرضت نفسها على واقع حركة الصّراع في الحوزة أو في خارج الحوزة، وهي ليست بدعاً من الوسائل، بل إننا نراها في كلّ قضيّة جديدة تخالف المألوف، عندما يتبنّاها بعض ويرفضها بعض آخر، فإنّ الأدوات التي تتحرك عادةً في البداية، هي الأدوات الانفعاليّة العاطفيّة، لا الأدوات العلميّة الموضوعيّة.

حركة الفقهاء.. وراء الحدث

من الطبيعيّ أن يتحرّك كلّ الفقهاء وراء الحدث السياسيّ في مجالهم الدراسيّ، باعتبار أنّ الحدث يصنع موضوعاً يثير التّفكير في خصوصيّاته وفي طبيعة أحكامه، تماماً كما هي الحاجات الّتي تتجدّد في حياة الأمّة، فتفرض نفسها على كلّ الّذين يتحرّكون في سدّ هذه الحاجات أو معالجتها.

إنّ الفقيه يلاحق الحدث بعد أن يحدث، ولكنّنا نلاحظ أنّ فقهاءنا قد طرحوا مسائل كثيرة لم تحدث حتى الآن، باعتبار الإيحاءات الّتي تنطلق فيها حركة الاختراعات والاكتشافات، ما يفرض إمكانات موضوعات جديدة، فنحن نجد أنّ كثيراً من الفقهاء تحدّثوا عن أحكام وجود الإنسان على القمر، وعن أحكام وجود الإنسان في المرّيخ، وعن أحكام الإنسان خارج نطاق الجاذبيّة وما إلى ذلك، ما يوحي بأنّ فقهاءنا، لا يعدمون الخيال العلميّ الّذي يطرح موضوعات لم تحدث، على أساس إمكانات حدوثها.

أما قضيّة أن يصنعوا الحدث، فهذه مسألة لا تتّصل بالجانب الفقهيّ، ولكنّها تتّصل بالجانب القياديّ السياسيّ.

ـ عُرِف عن فقهاء الشيعة انشغالهم بالأبحاث الحوزويّة إلى درجة الاستغراق، ولم يُعرف هذا عنكم!

ـ لقد عشت كل حياتي في دراسة متتابعة، ولم أعرف الفراغ في أيّ يوم من أيّام حياتي العلميّة، فأنا أمارس دراساتي الفقهية والأصولية في لبنان، كما كنت أمارسها في النجف. ولكن المشكلة أنّني لم أوفّق لكتابة هذه الأبحاث، ولكنّ الكثيرين يعرفون أن هناك الكثير من العلماء الّذين تخرّجوا على يديّ في هذه الفترة، من خلال الدراسات الفقهيّة والأصوليّة، التي لا يقلّ اهتمامي بها عن الاهتمام بالدراسات الإسلاميَّة العامة.

ـ انشغلتم بالكتابات الحركيّة والفكرية والسياسية، ولم تصدر عنكم كتابات فقهية!

ـ ربما كنت أجد أنّ الحاجات التي يفرضها الواقع الإسلامي الحركي إلى الأبحاث الإسلامية على مستوى المفاهيم، وعلى مستوى التنظير للحركة الإسلامية، أكثر من الحاجة إلى الكتابة الفقهيّة التي استنفد الفقهاء كلّ جهدهم فيها، بحيث إنّ الكتابة فيها قد لا تضيف شيئاً جديداً إلى الفكرة، وإن كانت تضيف شيئاً جديداً إلى الأسلوب. وأرجو أن يوفّقني الله للقيام بذلك في ما أستقبل من الأيام، إن شاء الله.

ـ بناءً على هذا الحديث، هل تتمنّون على الفقهاء الشيعة أن ينصرفوا إلى البحث الفكري والسياسي؟

ـ إنَّني أتصوَّر أنّ الفقيه لا يستطيع في المرحلة الحاضرة أن يعيش خارج نطاق عصره، باعتبار أنّ قضايا العصر، حتى في المسألة الفقهيّة، تمثّل موضوعات الأحكام الّتي يحتاج المجتهد إلى أن يستنبطها، وإلى أن يحدّدها كمنهج إسلاميّ في الحياة.. ولذلك، فإنّ الفقهاء لا بدّ من أن يواجهوا الأسئلة الكثيرة من قِبَل مقلّديهم حول القضايا السياسيّة، وحول الموقف من قضايا الانتخاب، ومن قضايا العلاقة مع الحاكم الجائر، أو من خلال مسائل الجهاد، مما لا يمكن أن يجيبوا عنه بجواب سريع، على الطّريقة التي كانوا يجيبون عنها في الماضي، باعتبار أن حياة الناس المعاصرة ارتبطت ارتباطاً عضوياً يوميّاً بكلّ الواقع المعاش، وأصبحت مسألة الكيان الإسلامي، والكيان الشّيعيّ بشكلٍ خاصّ، في نموّه وتطوّره وحيويّته وعزته، ترتبط بطبيعة العلاقات مع هذا النّظام أو ذاك، ومع هذا المحور الدّوليّ أو ذاك، مما لا يمكن أن يكون الجواب فيه سلبيّاً بالمطلق، كما كانت المسألة في العصور الماضية. لذلك، فإنّ الفقيه، حتى في دائرته الفقهيّة، لا يستطيع أن يبتعد عن قضايا العصر، وإلا كان معزولاً عن مسألة الاجتهاد، لتكون أكثر القضايا الّتي يعيشها الناس لا يملك عليها جواباً، لأنه لا يملك معرفة فيها. وبذلك، ينعدم دوره كمرجع، حتى في المسائل الفقهيّة.

ومن جهة أخرى، فإنَّ طبيعة التزام الفقهاء بالإسلام، تطلّ على كلّ قضايا الحياة، كما هو الفقه الإسلاميّ الّذي يجتهد فيه المجتهدون، والذي يشمل كل نواحي الحياة، باعتبار القاعدة الموجودة عندهم: "ما من واقعة إلا ولله فيها حكم"، ما يفرض عليهم الاهتمام بالجانب الواقعي للفقه، كاهتمامهم بالجانب النظريّ له، لأنّ الفقه يُحرّك من أجل أن يعيش في الواقع، لا من أجل أن يبقى مجرّد نظريات بائدة، تدرس كما تدرس القوانين الرومانية، وما إلى ذلك من القوانين.

إن الفرق بين الفقيه الإسلامي والفقيه غير الإسلامي، أنّ الفقيه الإسلامي يعيش الحركية في طبيعة فقهه، بينما ينطلق الفقهاء الآخرون، ليعيشوا الجانب الثقافي والنظري في مسألتهم الفقهيّة.

أنا لا أمانع التخصّص في الفقه بالمعنى الثقافي، ولكنّني أجد أنّ هذا التخصّص لا ينفصل عن الوعي السياسي والوعي الاجتماعي الّذي يحتاجه الفقيه من أجل أن يبلور فتاواه أكثر، ومن أجل أن يبلور فهمه لخلفيّات الأسئلة الّتي يتحرك فيها السائلون، لأن السائل قد ينطلق من خلفيّة معيّنة، لا تستطيع الجواب فيها عن سؤال إلا إذا فهمت الخلفيّة، لأنّ فهم الخلفيّة قد يفرض فهم حركة السّؤال.

[مقابلة مع مجلّة البلاد اللبنانية، 1992م الأعداد: 98-99-100].

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير