المرجع فضل الله يتحدَّث عن الحوار والتّجديد وقضيّة فلسطين

المرجع فضل الله يتحدَّث عن الحوار والتّجديد وقضيّة فلسطين

في مقابلة قناة "أبو ظبي الفضائيّة" معه

المرجع فضل الله يتحدَّث عن الحوار والتّجديد وقضيّة فلسطين

مقدّمة رفيق نصر الله:

ربّما أهمّ ما يميّز العلّامة والمرجع الديني السيّد محمّد حسين فضل الله أنّه رجل حوار، وعندما يمتلك رجل الدّين أو رجل السياسة هذه الصفة، فإنّه يعني أنه رجل تحليل يرقى إلى انفتاح، والانفتاح يقود إلى التواصل.

باختصار، الحوار مع المرجع الديني العلامة السيّد محمد حسين فضل الله هو حوار مع الذات، هو حوار مع الآخر، هو حوار ربما مع حوار مفقود في زمن بات يصعب التواصل.

أهلاً وسهلاً سماحة السيّد.

الحوار يعني الحياة!

س: سأنطلق من مقدّمتي.. هل ما زالت هناك فعلاً إمكانيّة للحوار؛ الحوار مع الذات، الحوار مع الآخر، الحوار مع من، ونحن ربما فعلاً أكثر ما نعانيه هو هذا الحوار المفقود ربما مع ذواتنا؟!

ج: أن تعيش الحوار هو أن تحيا، لأنّ مسألة أن لا تحاور، أن تتجمّد، أن يموت فكرك، عندما يختنق في دائرة كلّ ما اختزنته مما عاش معك في ماضيك إنتاجاً، أو مما ورثته، أن يتعفّن الفكر عندما يكفّ عن أن يدخل الحوار في داخل الذّات، حتى تكتشف الذات من خلال تجربة جديدة وأفق جديد، ثغرةً هنا وثغرةً هناك، لتتجدّد الذات عندما يتجدّد الفكر، من خلال حركيّة التأمّل من جهة، والتجربة من جهة أخرى.

أن يبتعد المجتمع عن الحوار، أن يبقى في التّاريخ ولا يدخل الحاضر، لأنّ قصّة أن تدخل الحاضر، هي أن تعيش حضور القضايا الجديدة والأفكار الجديدة، وكلّ التطوّرات الجديدة، ومن الطبيعي أنّ التطوّر يعني أنّ هناك فكراً مات في الماضي ليخلفه فكر آخر، وأنّ هناك قضيّة ابتعدت عن السّاحة لتأتي بعدها قضيّة أخرى. لذلك، أن يفتقد المجتمع الحوار، هو أن يبقى متجمّداً.

س: ماذا يريد هذا الحوار سماحة السيّد؟

ج: الحوار ينطلق في البداية من أن تفهم نفسك، عندما تحاور نفسك فيما مضى وفيما يأتي.

التّقليد موت!

س: ولكن ألا يحتاج ذلك إلى الوعي؟

ج: من الطبيعيّ أن يكون وعيك لحياتك، هو وعيك لحركيّة فكرك فيما عاشه وفيما يمكن أن يعيشه.. الحوار أن تفهم ذاتك، أن يفهم المجتمع طريقه وحركيّته وهدفه وقضاياه وأوضاعه، أن لا يستسلم لجمود التّقليد فيه، لأنّ التقليد موت، بينما الإنتاج للفكر وللحياة هو الحياة.

علاقة الحوار بالموروث

س: لكن هنا سماحة السيّد، كيف ستكون الملاءمة ما بين هذا الوعي وهذا  الحوار، وما بين الموروث لدينا من أفكار ومبادئ ربما هي صائبة، أو بعضها على الأقلّ، وربما هي غير ذلك؟

ج: الحوار لا يعني أن تقتل الموروث، ولكن أن تؤصّله، وأن تفتحه للهواء الطّلق، ليتنفّس في الصّحو، ولتنفتح، وأنت تحدّق فيه، على ما مات وما بقي حيّاً للحياة.

مشكلة الذين يختنقون في الموروث أنهم يقدّسون غير المقدَّس، لذلك يغرقون في تقديس الخرافة ليحسبوا أنها الحقيقة.. إنّ الموروث ليس الحقيقة دائماً، هناك موروث ينطلق من الرّسالات، والرّسالات كلمة الله، ولكن كيف نفهم كلمة الله؟ لا يكفي أن نؤمن بأنّ القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنّه كلمة الله، لا يكفي أن نأخذ كلّ تفسير للقرآن، لأنَّ تفسيره من خلال اجتهاد المجتهدين، هو فكر بشريّ يخطئ ويصيب.. لا يمكن أن تفرض نفسك على القرآن، ليكون فكرك في فهم القرآن قرآناً.

كلفة الإصلاح

س: الحوار سماحة السيّد يقود إلى الانفتاح، ومن يقود هذا الحوار ضمن سياسة الانفتاح ويجتهد، سوف يصطدم حكماً مع الآخر فينا، وأنت ربما عايشت هذا الواقع.

كيف يمكن هنا، أن تضع أسس المواجهة، مع التّسليم بأنّ هناك أشياء فعلاً من الموروث ما تزال تخلق قناعات ربما هي غير صحيحة؟

ج: إنّني أتصوّر في البداية قبل الدخول في الجواب عن السؤال، أنّك لكي تخلص للموروث، عليك أن تدخل في الحوار حوله لتفهمه جيّداً، ولتؤصّله جيّداً، ولتطرح عنه كلّ ما علق به من عناصر التخلّف التاريخيّة التي أطبقت عليه، لأنّ المسألة أنّ التخلّف يفرض نفسه على الفكر الذي ينتمي إليه النّاس.

لذلك، أن تدخل في حوار حول الموروث، ليس معناه أنّك تنكّرت له، وأنّك دخلت في عمليّة هرطقة أو تجديف، ولكن أن تغسله، وأن تطهّره، ليبرز نقيّاً خالياً من كلّ أقذار التخلّف.

س: حتى لو أصابت مقتلاً؟

ج: حتى لو أصابت مقتلاً. إنّ المصلحين في التاريخ الّذين وقفوا ضدّ تيار التخلّف، أصّلوا فكرهم عندما سالت دماؤهم، سواء كانت دماء الفكر عندما يُجرَح، أو دماء الحسّ عندما يُتحدَّى، أو دماء الجسد. إنّ تاريخ الأنبياء هو تاريخ كلّ الدماء التي سالت من الّذين استشهدوا منهم {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ} جادلوا وكافحوا وانطلقوا في مواجهة التخلّف، {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}.

س: سماحة السيّد، لماذا يجنح هذا الاتهام لمن هم بهذه الدّرجة من الاستشهاد في سبيل القضيّة، إلى حالة الإلحاد أحياناً؟

ج: إنَّ مشكلة هؤلاء، هي أنهم ضعفاء لا يمتلكون الحجَّة على ما يلتزمونه من فكر، إن كان ما يلتزمونه فكراً. ولذلك، فإنَّ الأسلوب الذي يغطّون به هذا الضّعف، ويحاولون من خلاله أن يؤخّروا حركة الأصالة في الفكر، هو أسلوب التّكفير والتّضليل.

خارطة من دون عرب

س: كيف تنظرون إلى الخارطة السياسيّة الآن في المنطقة العربيّة، ونحن ـ كما يبدو ـ متّجهون إلى تسويةٍ ما ربما ستشكّل محطّة كبيرة أيضاً في المستقبل المنظور؟ ماذا لو تمت التّسوية فعلاً؟ بالمفهوم الاستراتيجي، ما هو انعكاسها على الإنسان العربي، على الواقع الإسلاميّ، وعلى الحالة الجديدة التي سنواجه بها مرحلة ما بعد.. لا أقول خاتمة الصّراع، ولكن خاتمة حالة عايشناها طوال قرن، منذ أن أطلّ العام 1914 من "سايكس بيكو" إلى "وعد بلفور" إلى نشوء الصهيونيّة وغيرها؟

ج: لعلَّ مشكلة ترتيب الخارطة العربيَّة، هي أنها خارطة ليس فيها شيء عربي، لأنَّ معنى أن يكون الشّيء عربياً، هو أن تكون القضايا عربيّة في موقعها العربي الشّامل، وفي الاستراتيجيّة التي يتحرّك فيها القائمون على الشؤون العربيّة. ولكنّنا نلاحظ من خلال طبيعة حركة الواقع السياسي، وربما الاقتصادي والأمني، أنّ الإقليميّة التي ترتفع في عناوينها الكبرى الشخصانيّة، هي التي يستغرق فيها الواقع العربي في النظرة إلى أيّ قضية من القضايا.

ولعلّنا عندما ندرك أنّ الإطار الشخصي الذي يفرض نفسه على الإطار الإقليمي ـ القطري، والذي يحاول أن يستفيد من العنوان العربي، هو ما جعل الساحة خاضعةً للقوى الكبرى التي قد توحي إلى هذا وذاك بأنها هي التي تستطيع أن تحميه من الآخر، الآخر الّذي يعيش في دائرة صغيرة كما يعيش هو.. وبذلك رأينا نتيجة هذا الضّعف الذي يعيشه العرب، لتختنق كلّ دولة بخصوصيّاتها، ولترى في المشاكل بينها وبين الدولة الأخرى، أكثر من المشاكل بين الواقع العربي والصّهيوني أو الإمبريالي، إلى آخر الكلمات الاستهلاكيّة في هذا المجال... ندرك أنّ هذا جعل ثروة العرب لغير العرب، وجعل المواقع الاستراتيجيّة للعرب لغير العرب، ولكن بحجّة حماية العرب من بعضهم البعض لا من العدوّ الخارجي، وجعل الخطوط السياسية لهذا البلد أو ذاك البلد خاضعة للخطوط السياسية الكبرى. حتى إنّنا نعرف من خلال بعض المعلومات، أنّ أيّ قطرٍ من هذه الأقطار، لا يملك أن يقدّم مساعدة لأيّ قطرٍ آخر مماثل، إلا عندما يأتيه الضّوء الأخضر من هذه الدولة الكبرى أو تلك.

 لذلك، ليس هناك واقعٌ عربي بمعنى أن تكون هناك سياسة عربيّة فاعلة، قد تكون هناك قرارات في الجامعة العربيّة والقمم العربيّة، ولكنّنا عندما ندرس هذه القرارات، فإننا نجد أنها لا تحرّك الخطوط التفصيليّة في داخلها.

استغراقٌ في الأحلام؟!

س: سماحة السيّد، في المشروع القومي، كان الحلم بالوحدة، بالتحرّر، بالانتعاش، بتحرير فلسطين، يتمّ فعلاً بصوت مرتفع، الآن قد نكون أمام اللاحلم واللاصوت. هل تعتقد أنّ المرحلة المقبلة سوف تصادر منا قضيّة فلسطين كقضيّة مركزيّة حاضنة للعرب، وهم في هذه الحالة؟

ج: لعلّ مشكلة الحلم العربي الذي انطلق في بداية الخمسينات أو في نهاية الأربعينات، كان حلماً بعيداً عن حركية الواقع، يعيش في مستوى الأحلام الضبابيّة. لقد كان الصوت عالياً في الوحدة العربيّة، ولكنّ هذه الوحدة لم تدرس من خلال المشاكل الواقعيَّة الميدانيَّة على الأرض، ومن خلال طبيعة الظروف الموضعيَّة التي أحاطت بالواقع العربي، والتحدّيات الكبرى في المصالح الدوليّة. لعلّ المطلوب في تلك الفترة ـ ونحن لا نريد أن نطلق الإدانة لأحد ـ هو أن يخطَّط للوحدة العربيّة من خلال الدراسات السياسية والخطوات السياسية إلى سنة الألفين، بحيث تتحرّك المسألة من الوحدة الوطنيّة إلى ما يقترب من التنسيق العربي الذي ربما يمرّ بالاتحادات العربيَّة لتكون الوحدة العربيّة.

أنا أذكر في بعض مراحل الواقع العربي، عندما كنا في العراق، وبعد انقلاب عبد السلام عارف، أنّه حدثت هناك معركة بين القوميّين والشيوعيّين، فالقوميون ينادون بالوحدة الاندماجيّة، والشيوعيّون ينادون بالوحدة الاتحاديّة والاتحاد الفدرالي، وكانت المظاهرات تتحرّك بكلّ عنف هنا وهناك، لكن الّذين ينادون بالوحدة العربيّة، لا يملكون أيّ فكرة عن آليّة هذه الوحدة، كما أنّ الذين يتحدّثون عن الاتحاد الفدرالي، لا يملكون أيّ فكرة عن ذلك أو لا يريدون ذلك.

المسألة هي أن هذا الحلم العربي كان حلماً ضائعاً في الضّباب. ولذلك، سمعنا في الستينات قائداً عربيّاً كبيراً، كبيراً جدّاً، يتحدّث عن مسألة الصّراع مع إسرائيل، فأجاب عن سؤال صحفي: هل هناك خطّة للحرب مع إسرائيل، أو خطّة لتحرير فلسطين؟ وكان الجواب: لا خطّة، لأن المسألة كانت مزيداً من الشّعارات، ومزيداً من حركة المخابرات، ومزيداً من جعل الناس يصفّقون ويصفّقون، ويهتفون ويهتفون، ولكنّهم لا يعرفون ماذا يريدون،كانت حلماً كأحلام الشّباب.

حركة تفتقد التَّخطيط

س: سماحة السيّد، ربما كانت تلك المرحلة تحتاج فعلاً إلى الحلم، والحلم يقود إلى الرومانسيّة. ولكن قد نبرّر بعض هذه الأخطاء التي جرت، لأنّنا كنا نخرج من عتمة قرون، وأيضاً نحمل هذا الوميض في سبيل الخروج من هذه العتمة إلى الوحدة، إلى التحرّر، ونواجه أيضاً استعماراً بكلّ صوره.. الآن نحن أيضاً نتحدَّث عن بدايات قرن جديد، لنقل إنَّ هذا المشروع القوميّ ربما أصيب بنكسات.. ولكنّنا وجدنا أنّ هناك بعض التجارب الإسلاميّة خلال العقود الثّلاثة الماضية تعبّر عن نفسها في الكثير من الحالات.. هل بالإمكان فعلاً الوصول إلى مشروع إسلاميّ سياسيّ واضح؟

ج: أمّا بالنسبة إلى الشخصيّة الإسلاميّة التي ولدت مع الصحوة الإسلاميّة، فربما أصيبت بما أصيبت به الشخصيّة العربيّة، حيث كانت قد نجحت في بعض مواقعها قبل أن تنضج، وقبل أن تدخل في تخطيط تفصيليّ لمواقعها، ولذلك كانت الظروف تفرض نفسها على هذه الساحة أو تلك الساحة، لتكون الحركة الإسلاميَّة هنا وهناك، عمليَّة ردّ فعل لهذا الظّرف أو ذاك، أو لهذا التحدّي أو ذاك.. كانت هناك فكرة واسعة لأسلمة العالم، ولكنّها كانت تفتقد للتَّخطيط.. كانت هناك مشاعر إسلاميَّة، ولا سيَّما عندما انفتحت هذه المشاعر الإسلاميّة على انتصارات سياسيّة...

إسلامات أم إسلام؟!

س: هذه المظاهر، ألم تصل بنا إلى ما يمكن تسميته الآن بإسلام جزائريّ، بإسلام إيراني، بإسلام أفغاني، بإسلام عربي... إسلاميّات سياسيّة؟

ج: أنا لا أوافق على تقسيم الإسلام حسب المواقع الجغرافيّة. ليست المسألة أن هناك عدة إسلامات، ولكنّ المسألة هي أنّ هناك بعض الاختلاف في الاجتهادات، كما في مسألة الرفق والعنف، أي أنّ الوصول إلى الهدف الإسلامي، هل لا بدَّ أن يمرّ في دائرة العنف، على نحو يكون العنف هو الوسيلة الوحيدة للتّغيير، أو في دائرة الرّفق، كما يتحدّث البعض عن الأساليب الديمقراطيّة أو الاعتدال، أو أنها تتحرّك بين الرّفق والعنف تبعاً لحاجة الظروف الموجودة؟! ربما كانت هناك بعض الاجتهادات المتنوّعة.. وربّما كان هناك بعض التخلّف في بعض المواقع التي اعتبرت نفسها إسلاميّة وهي تعيش الأميّة في فهمها للإسلام.

لا عودة إلى القمقم

س: ألا يعود هذا أيضاً إلى خلل في الرّؤية؟

ج: من الطبيعي أنّ أيّ تجربة جديدة.. نحن عندما نتحدّث عن الإسلام، علينا أن نعتبر أنّ حركيّته تمثّل تجربة جديدة للمسلمين، ولا سيّما بعد كلّ هذا التاريخ الطويل الذي تعدّدت فيه المذهبيات الكلامية والفقهية، والذي تنوّعت فيه المشاكل الداخليّة بين المسلمين، مع ملاحظة وجود الاستكبار العالمي المتحالف مع الكفر العالمي الّذي يعمل على أساس أن لا يسمح للمسلمين بأن يتوحّدوا، ولا يسمح لهم بأن يديروا ثرواتهم وأوضاعهم بأنفسهم.

لكني أعتقد أنَّ الإسلام ربح الجولة الأولى في أنّه دخل في وجدان المسلمين كقاعدة للفكر والعاطفة والحياة، ودخل في وجدان العالم كحركة تمثّل قوّةً جديدة في مواجهة مصالح الدول المستكبرة وما إلى ذلك، وأعتقد أنّ الإسلام لن يعود إلى القمقم، وسوف يواجه الكثير من التحدّيات. ولعلّ ما حدث في لبنان من الانتصار على إسرائيل بعناوين إسلاميّة كبيرة، بقطع النظر عما يتحدث به الوطنيّون والقوميّون وما إلى ذلك، استطاع أن يؤكّد في وجدان العالم، أنّ الإسلام قادر على أن يدخل معركةً غير متكافئة وينتصر فيها من خلال إيمان راسخ، وتكتيك ذكيّ، واستراتيجية مدروسة، وأفق كبير واسع في مواجهة الواقع.

رواسب صليبيّة؟!

س: سماحة السيّد، هل لا يزال الغرب يتعاطى مع الإسلام وصحوة الإسلام في العقود الأخيرة برواسب تعود إلى روحيّة الحروب الصليبيّة، وهذا ما نشعر به من خلال بعض المواقف التي تعود إلى هذا المنطق الطقوسي الأسطوري الآتي من روحيّة الحروب الصليبيّة؟

ج: هناك تفصيل في الجواب، عندما ندرس الغرب في سياسته، نجد هناك بعض رواسب الحروب الصليبيّة في بعض المواقع الغربيّة، وربما قد نجد بعضاً منها في فرنسا، وربما نجد هناك نوعاً من أنواع التّنسيق بين حركة التّبشير في بعض المناطق وحركة الغرب، على أساس لقاء المصالح، ولا نريد أن نخوض في ذلك كثيراً، لكنّ الغرب يقف في مواجهة الحركة الإسلاميّة السياسيّة المنفتحة على قضايا العالم الإسلاميّ، من أجل استقلاله الاقتصادي والسياسي والأمني والثقافي، لأن مصالحه تتعرّض للخطر من خلال هذه الحركة.

المذهبيّة الفكريّة لا الطّائفيّة

س: سماحة السيّد، سأدخل في سلبيّة بعض الواقع الإسلامي الذي نعيش، وسوف أقترب قليلاً من الخطّ السّاخن لهذه السلبيّة، انطلاقاً أوّلاً من دور رجال الدين في هذه الخارطة التي نعيش، في ظلّ تنامي حالة مذهبيّة بدأنا نشعر بها خلال العقدين الأخيرين، تزيد ربما بعض الانقسامات في الصفّ الإسلامي. وثانياً أريد أن أتحدّث عن تعدّد المرجعيّات حتى داخل المذهب الواحد في الإسلام؟

ج: أمّا مسألة رجال الدين أو علماء الدّين، فهم نتاج البيئة التي عاشوها، والثقافة التي تثقّفوها، فربما ينطلق البعض منهم متأثّراً برواسب البيئة التي قد تحشره في زاوية العصبيّة المذهبيّة، لأنّنا لا نعتبر أنّ التمذهب يمثّل سلبيّة، وإنما يمثّل وجهة نظر في فهم الدين، تماماً كما هو التمذهب الذي يمثّل وجهة نظر في فهم الخطّ القوميّ أو الخطّ الماركسي أو غيره عندما تختلف الاجتهادات فيه. التمذهب هو حالة من حالات الالتزام بالخطّ الذي تمثّله خطوط المذهب.

وقد تحدّثت في أبحاث سابقة عن الفرق بين المذهبيّة الفكريّة والمذهبيّة الطائفيّة، وكنت أدعو إلى المذهبيّة الفكريّة التي تمثّل غنىً للإسلام، باعتبار أنها تنفتح على تنوّع الاجتهادات، وعلى الحوار في حركة هذا الاجتهاد المتنوّع، ما يغني التجربة الإسلاميّة، ويفتح آفاقاً جديدة للفكر الإسلامي من خلال علماء المسلمين.

أمّا المذهبيّة الطائفيّة، فإنها تمثّل العصبيّة المذهبيّة التي لا تنفتح على الحوار، ولا تنفتح على الآخر. إنَّ المذهبيّة الفكريّة تنفتح على الآخر، سواء الآخر في داخل المذهب أو في خارجه، لأنها تتحرَّك من موقع الفكر الذي لا يتعقَّد من فكرٍ آخر إذا كان يملك مواجهته بالحجَّة والبرهان والدَّليل. أمّا المذهبيّة الطائفيّة، فهي حالةٌ عشائريّة، سواء كانت مذهبيّة في داخل الإسلام، أو مذهبيّة في داخل العلمانيّة، أو في داخل المسيحيّة أو اليهوديّة، أو أيّ موقع ديني أو غير ديني.

أسلوبٌ غير محترم!

س: أنتم من الذين تداولوا ـ إذا صحّ التّعبير ـ بالتجديد، وكانت هناك آراء يعتبرها البعض أكثر جرأةً مما كان مفترضاً، وقد أصابتك جراح كثيرة حتى من أقرب المقرَّبين. هذا المنهج إلى أين؟

ج: أتصوّر أنّ مسؤوليّتي الإسلاميّة هي أن أدرس الإسلام من خلال أصالة الفهم للنّصّ الّذي أعتبره نصّاً يختزن الكثير من الحيويّة في داخله المضموني، وإن كان ثابتاً في حروفه. ومن هنا، فإنني في الوقت الذي درست أفكار الفقهاء القدامى أو المتكلّمين القدامى، لاحظت وجود علامات استفهام كثيرة في الدّليل الذي يقدّمونه، أو في الفكر الذي ينتجونه، لذلك فإني أعتبر أنّ مسؤوليّتي الإسلاميّة هي أن أقول الكلمة التي أؤمن بها، ولا أدّعي العصمة لنفسي.

ولكنّ المشكلة التي واجهتها، هي أنَّ هذا الفكر أو هذا الفقه الذي انطلقت فيه من النصّ القرآني والنصّ الحديثي النبويّ أو الإماميّ ـ وأنا من الأشخاص الذين كتبوا تفسيراً قرآنياً من أفضل التفاسير في 25 مجلداً، وعشت القرآن منذ أكثر من خمسين سنة، كما أني أزعم أنّ لديّ ثقافة أدبيّة تعينني على فهم النّصّ بشكلٍ أفضل ـ ووجِهْتُ فيه بالكلمات السلبيّة.. لم أواجه نقداً موضوعيّاً لمسألة فقهيّة أو حتى لمسألة كلاميّة، كلّ ما هنالك كلمات شاتمة وسابّة ومكفّرة ومضلّلة وما إلى ذلك، ولهذا فإني لم أحترم هذا الأسلوب.

تخلّفٌ فكريّ

س: كيف تفسّر سماحتكم أنّ معظم هؤلاء كانوا من الشّيعة؟

ج: ليست المسألة مسألة شيعية ـ سنيّة، بل هي مسألة وعي وتخلّف، وإن كان بعض الناس يتضايقون من هذا التّعبير. إنّي أعتبر أنّ كلّ إنسان يواجه الفكر بالسبّ والشتم، أو بأساليب التّكفير والتضليل فيما لا كفر فيه ولا ضلال، هو إنسان متخلّف فكريّاً، لأنّ الإنسان الواعي فكريّاً هو الذي يواجه الحجّة بالحجّة، والبرهان بالبرهان.

ضريبة المصلحين

س: هل يمكن اعتبار أنّ هؤلاء في مواقفهم،لا يريدون فعلاً حواراً على مستوى المذهب الواحد في الإسلام، باتجاه توحيد الكلمة، باتجاه توحيد الرّؤية الإسلاميّة، وخصوصاً ونحن نواجه كلّ هذه التحدّيات، أم أنّ المسألة قد تكون متعلّقة بآراء سماحتك لأسباب معيّنة؟!

ج: لا، أنا لست أوّل إنسان واجهته هذه الكلمات، فقد واجهت الكثير من العلماء، منهم المرحوم السيّد محسن الأمين الّذي واجه هجوماً فوق العادة، عندما حرّم بعض وسائل الاحتفال بعاشوراء، كمسألة الضّرب بالسّيف على الرأس، أو ضرب الظهور بالسلاسل، وهكذا وُوجِهَ الكثير من المصلحين. إنّ هناك بعض الكلمات كانت تنطلق من عقدة، وهناك بعض الكبار الّذين يتحدّثون بشكل سلبي اعترفوا بأنهم لم يقرأوا كتاباً من كتبي.

الخوف من التّجديد

س: سماحة السيّد، لماذا يخشى البعض من طرح مشروع التّجديد في الإسلام؟

ج: ربما يفكّر هؤلاء أن التجديد أو أنّ أيّ شيء جديد، يمكن أن يفتح الساحة على تغيير بالفكر الإسلامي، وتوجيهه في الخطوط التي تسيء إلى الحقائق الإسلاميّة، كأنهم يعتبرون أنّ هذا التّراث الإسلامي هو الإسلام، وعلى هذا الأساس، فإنّ أيّ شيءٍ جديد سوف يكون غير إسلاميّ وبعيداً عن الإسلام، بما يؤدّي إلى سقوط الإسلام في عقائده ومفاهيمه! حتى إنّ بعضهم يرفض أن تثير الشكّ في مفهوم من المفاهيم، لأنّ الشكّ في نظره يُجرّئ النّاس على أن ينفتحوا على احتمالاتٍ جديدة، وعلى شبهات جديدة، ولهذا ينبغي أن نقبل كلّ شيء عندنا بما يتّصل بالعقائد، أو ما يتصل بالأحكام الشرعيّة أو بالمفاهيم!

إنّ هذه النظرية تنطلق من تقديس الماضي، ومن اعتبار الماضي في اجتهاداته يمثِّل الحقيقة الإسلاميَّة الحاسمة. ولذلك، فإنهم يخافون من أيّ شيءٍ جديد، ومن أيّ شخصٍ يفكّر باستقلالٍ وبأصالةٍ كما لو كان يحاول أن يفهم الإسلام لأوّل مرةٍ.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ الكثيرين من هؤلاء لا يملكون الأدوات التي يستطيعون فيها أن يناقشوا الفكر الجديد بروحيّة وذهنيّةٍ معاصرة، لأنهم عاشوا في الماضي، في أساليبهم كما في أفكارهم.

لكنّنا نعتقد أنَّ الإسلام لكي يستمرّ، ولكي ينفتح على أكثر من عصر، لا بدَّ له من أن يواجه دائماً حاجات الإنسان وتطلّعاته في كلّ عصرٍ وزمان، ليفكّر من موقع الإسلام الجديد باجتهاداتٍ لا يفرضها على النصّ، ولا على الإسلام، بل يحاول أن ينظر إليه نظرةً موضوعيّة مستقلّة حرّة تجعله يؤصِّل فهمه له.

مسؤوليَّة المثقّف

س: دعني سماحة السيّد أرسم صورةً للمتلقّي الآن العربي الإسلامي، لكلّ ما هو محيط به في زمن العولمة، وزمن التطوّر التكنولوجي، من قنوات وفضائيات ومن وسائل اتصال ومن إنترنت وغيرها..

كيف يمكن فعلاً أن نجدِّد الثقافة الإسلاميّة، في ظلّ هذا الكمّ الكبير الّذي يتلقّاه الفرد الآن؟ ما هو واجب رجل الدّين؟ ما هو واجب المفكّر الإسلامي؟ وما هو أيضاً واجب أدوات إيصال الثقافة الإسلاميّة؟

ج: من الطبيعي أنّك لكي تتحدّث عن أيّ ثقافة ترتكز على قاعدةٍ معيّنة، لا بدّ لك من أن تؤكّد ضرورة أن يتمتّع هذا المثقّف بهذه الثقافة القاعديّة بشكل عميقٍ وواسع، بحيث يستطيع أن يتمثّلها في وجدانه عندما يتطلّع إلى الواقع من حوله، وإلى النّاس أمامه، وإلى كلّ المتغيّرات والتطوّرات والحركات.

لهذا، فإنّ المثقّف الإسلامي لا بدّ أن يكون متميّزاً بوعيٍ عميقٍ واسعٍ للثقافة الإسلاميّة مقارنةً بحاجات الإنسان المعاصر.

ومن الطبيعي أيضاً أنه لن يستطيع أن يحصل على ذلك إذا لم يكن مطّلعاً على حركة التيّارات المعاصرة، إن في الجانب الثقافي الفكري، أو في الجانب السياسي أو الاجتماعي، حتى إنّه لا بدَّ أن يلاحق حركة الانحرافات الاجتماعيّة في خلفيّاتها، وحركة الانحرافات الأخلاقيّة في طبيعتها، بحيث يعيش النّاس ويتنفّس كلّ مشاعرهم وأحاسيسهم، حتّى يملك القدرة على أن يفيدهم وينفعهم، ليعالج كلّ الثّغرات الموجودة في واقعهم.

س: سبق سماحة السيّد أن تحدّثتم عمّا أسميتموه "الحرية القلقة"، هل لي أن أتحدّث عن واقع المثقّف العربي والإسلامي، ما هي هذه الحريّة القلقة؟

ج: إنّ الحريّة القلقة تمثّل توق الإنسان للانفتاح، ولكن في مناخٍ ضبابيّ، بحيث يريد الإنسان شيئاً، ولا يعرف حدود ما يريده.

أهميّة الانتفاضة

س: أنتم من الذين يقرأون جيّداً منحى أحداث كبيرة تعيشها المنطقة، إلى أين تتّجه الانتفاضة، إلى أين تتجّه القضيّة الفلسطينيّة؟ هل نحن أمام مؤامرة كبرى؟ هل نحن أمام حالة استقلاليّة صغرى؟ هل نحن أمام دويلة فلسطينيّة تنهي هذا الصّراع أم ماذا؟ ماذا يجري؟

ج: إنّني أتصوّر أنّ الانتفاضة استطاعت أن تصنع حقائق جديدة لم تكن في السابق، فقد كان الصّراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني يقفز عن الساحة الفلسطينيّة ليدخل إلى مواقع الأنظمة العربيّة، ولذلك كانت إسرائيل تملك الضغط على هذا النظام العربي أو ذاك النظام العربي بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر من خلال الضغوط الأمريكيّة.

ومن هنا، كانت المسألة الفلسطينيّة تتحرّك في نطاق الظروف العربيّة الرّسميّة، وكانت تلك مشكلة الفلسطينيّين.. عندما جاءت الانتفاضة، استطاعت أن تخلق واقعاً جديداً، وهو أنها أدخلت المسألة الفلسطينيّة في عمق المجتمع اليهودي، بحيث أصبحت مسألة الانتفاضة مشكلة داخليّة إسرائيليّة، بدلاً من أن تكون في إطار العلاقات العربية ـ الإسرائيلية.

ومن هنا، سمعنا نتنياهو عند بداية الانتفاضة يتحدّث عن الخوف من انهيار الكيان الصهيوني، بفعل هذه الانتفاضة التي تحوّلت إلى ما يشبه الثّورة الشعبيّة التي يتحدّى فيها الشعب الفلسطيني الموت.

لقد كانت العمليّات ضدّ الإسرائيليّين تنطلق من عمليات استشهادية تقوم بها حماس أو الجهاد الإسلامي، ولكنّ العمليّات الاستشهاديّة الآن تحرّكت بشكل جديد ومتنوّع لا يثير أيّ مشكلة إنسانيّة في العالم على أساس العطف على الأطفال الإسرائيليّين الذين يموتون بفعل هذا التفجير، بل أصبحت تصبّ في حساب الفلسطينيّين، عندما ينطلق هذا الشابّ وذلك الشّيخ وتلك المرأة وذاك الطّفل الذي يحمل الحجارة، لمقاومة المحتلّ، ما خلق حقيقة جديدة.

ثم إنّ الانتفاضة استطاعت أن تخلق حقيقة سياسيّة جديدة، وهي أنّ أيّ قيادة فلسطينيّة، لا تملك أن تقدّم تنازلات في المسائل الحيويّة. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنها استطاعت أن تحرج الشّارع العربي، فتثير انتفاضة سياسيّة وإعلاميّة في الساحة العربيّة، ما دفع بكبار المسؤولين العرب ليتحدّثوا بلغةٍ لم تكن مألوفة. إننا عندما نستمع إلى الرئيس حسني مبارك وهو يتحدث بأنّه ليس من حقّ الفلسطينيّين أن يتنازلوا عن القدس، لأنّ القدس ـ المسجد الأقصى ـ هو مسؤوليّة عربية إسلامية، نعرف بذلك مدى تأثير الشّارع العربي والإسلامي في العنوان السياسي للنظام العربي الرسمي.

ومن هنا، فإنّ من الصّعب جداً على القيادة الفلسطينيّة التي قادت حركة في ساحة منفتحة بمشاعرها وأحاسيسها وأحلامها وآمالها في كلّ ساحة الشّعب الفلسطيني، أن تتنازل بسهولة، بحيث تتحرّك في هذا الإطار الآن، وتدخل الانتفاضة في هذه المحادثات أو تلك، حتى لا تضبط متلبّسة بالرّفض المطلق لتفرض شروطها التي لا تقبلها إسرائيل لتُحمِّل إسرائيل المسؤوليّة، أو لتنطلق المسؤوليّة مشتركة بينها وبين إسرائيل.

إنني في الوقت الذي لا أهوّن من جبال الضغوط الأمريكية والأوروبية وبعض الضغوط العربية، إضافةً إلى الضغوط الإسرائيليّة، ولا سيما ضغوط التجويع والحصار الاقتصادي والقتل المنظَّم، فإنني  أؤمن بأنّ هذه هي الفرصة الأخيرة للفلسطينيّين لتحقيق طموحاتهم في التحرير، وأنَّ هذه الانتفاضة إذا سقطت ـ لا سمح الله ـ فلن يملك الفلسطينيّون بعدها أيّ ظرفٍ سياسي فلسطيني أو عربي أو إسلامي لإعادة إنتاج الانتفاضة من جديد. لهذا، فالانتفاضة مستمرة بالرّغم من كلّ الجراحات في الجسم الفلسطيني.

من يحرّر القدس؟!

س: سماحة السيّد، كانت القدس دائماً مربوطة بناحية الفرسان المسلمين من أجل تحريرها كلّما تعرّضت للخطر، هل نحتاج فعلاً إلى حطّين أخرى أو إلى صلاح الدّين آخر، أم نحتاج إلى حالةٍ إسلاميّة قادرة فعلاً على تحصين القدس، حتى لا تقودنا  المفاوضات أو غير المفاوضات إلى حالة جديدة ربما تبدّل من هويّة القدس؟

ج: نحن نحتاج إلى ذلك، ولكنّ الظروف الموضوعيّة لا تمكّن المسلمين من الدخول إلى فلسطين على فرسٍ بيضاء لفتح القدس، ولكني أعتقد أن التعبئة العربية والإسلامية على مستوى الشعوب التي تستمرّ مع استمرار الانتفاضة، تنتج لنا انتفاضة جهاديّة في داخل فلسطين، وانتفاضة سياسيّة وإعلاميّة، وربما اقتصادية، في خارجها، للضغط على المصالح الاقتصادية للذين يؤيّدون إسرائيل، ولذلك عندما تتحرّك الانتفاضة من هنا وهناك، ساعتئذٍ يمكن أن تفتح القدس.

س: هل هناك معطيات، في رأيكم، في عالمنا العربي ـ الإسلامي قادرة على ذلك؟

ج: بكلّ أسف، هناك مشاكل كبيرة جداً تواجه هذا الشّارع العربي والإسلامي، ولكنّ الجراح عندما تكبر، سوف تخترق الإحساس العربي والإسلامي.

التَّغيير ممنوع!

س: سماحة السيّد، اسمح لي أن أعبر إلى الهمّ اللّبناني، لقد أجريت مع سماحتكم عدّة حوارات هنا، وأنا أدخل في هذا الدّرب الضيّق في أحد أحياء الضاحية الجنوبيّة إلى منزلكم، طرحتُ على نفسي هذا السؤال: ما الذي تبدّل؟ كأنّ الجدران هي نفسها؟ كأنّ الصّور كذلك؟ كأنّ الشعارات... وأيضاً كأنّ الساسة هم أنفسهم؟ ما الذي يجعلنا لا نتبدّل سماحة السيّد؟

ج: أتصوّر أن المسألة السياسيّة هي التي تمثّل مشكلة لبنان، وهي أنّ لبنان لم يؤسّس في اللّعبة الدوليّة ليكون وطناً لبنيه، بل ليكون ساحة للتجاذبات السياسيّة التي تثقّف العالم العربي بكلّ السلبيّات، والتي تمثّل المختبر الذي يختبر فيه الآخرون ـ وفي مقدّمهم الغرب ـ كلّ حركة التيارات السياسية في المنطقة. ولعلّ من المفارقات، أن الحزب الشيوعي كان ممنوعاً في كلّ البلاد العربيّة، ولكنه موجودٌ في لبنان. وهكذا تعمل كلّ الأحزاب اليسارية واليمينية في لبنان، حتى الأحزاب غير المرخّصة، بكلّ حرية.

إنّ المطلوب هو كيف يمكن اختبار الخطوط التي تتحرّك بها الأحزاب، وكيف يمكن إنتاج المذهبيّة في خلافات السنّة والشيعة، أو في خلافات الكاثوليك والأرثوذكس، أو في خلافات المسلمين والمسيحيّين، حتى تتثقّف المنطقة بعصبيّات عندما تختفي هذه العصبيّات أو تخفّ.

إنّ لبنان هو الرئة التي تتنفّس بها مشاكل المنطقة. لذلك، قد يكون مسموحاً في لبنان حريّة الكلمة، ولكن ليس مسموحاً فيه ـ ولا أتحدّث عن القواعد ـ بالتغيير الحقيقي، لأنّ اللّبنانيّين أدمنوا ذلك، ولأنّ النظام الطائفي أبعد اللّبنانيّين عن لبنانهم، فقد لا تجد في لبنان لبنانيّاً لوطنه بالمعنى الرّحب للموقع، فإنّ كلّ لبناني يعيش لطائفته، لا بالمعنى القيمي للطائفة، ولكن بالمعنى الغرائزي لها.

ولذلك، تتحدث كل طائفة عن حقوق الطائفة كما لو كانت دولةً مستقلةً، أمّا القضايا الكبرى، فإنها تتحرك لتكون مثاراً للجدل، كما لاحظنا في القضيّة الفلسطينيّة، وكما لاحظنا في قضيّة المقاومة عندما انطلقت، وما نلاحظه في إثارة فتح ملفّاتٍ وإغلاق أخرى.

من هنا، قلت في أكثر من حديثٍ سابق: إنّ الجميع يتقاسمون الحصص في كلّ المواقع الرسميّة الكبرى، في الوزارة والنيابة، ولكن هناك فريقاً واحداً كان يحصل على حصّته وعلى نظامه.

س: هذا الوطن المسكين الذي نتقاسمه، هل هو أمام عتبة انفجارٍ آخر؟

ج: ليس هناك أيّ مناسبة أو فرصة لأيّ انفجارٍ في لبنان.

كلمةٌ من القلب

س: سماحة السيّد، المختلف في منهجه، ماذا يقول أخيراً للّذين يتفقون معه وللذين لا يتّفقون؟

ج: إنّني أقول لهم، إنّني أحبكم جميعاً، لأنّني أحبّ الفكر الذي يقودنا إلى الاقتراب من الحقيقة، إذا لم يقدْنا إلى الحقيقة نفسها.. إنّني أحبّكم عندما تفكّرون، وعندما تعيشون العقل في حركة الفكر وفي حركة الانتماء، ولا تعيشون الغريزة، لأنها تقتل العقل، وبالتالي، فإنها تقتل الإنسان.. إنّني أحبّ الذين أختلف معهم لأحاورهم، وليغنينا الحوار في فكرٍ جديد أو تفاهم جديد أو لقاءٍ جديد.. ابحثوا عن المنهج الذي يعينكم على أن تفكّروا بحريّة واستقلال، ولا تخضعوا لغرائزيّتكم في الداخل أو لغرائزيّة الغوغاء الذين يصفّقون للتخلّف، ويرجمون الوعي بالحجارة.

شكراً للمرجع الدّيني سماحة السيّد محمد حسين فضل الله، من قناة "أبو ظبي" الفضائيّة، وكان لديّ الكثير لأكمله. شكراً لكم...

* نصّ المقابلة التلفزيونيّة التي أجرتها قناة أبوظبي الفضائيّة مع العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض)، بتاريخ 19 كانون الثاني 2001م، ضمن برنامج "بدون مقدّمات".

في مقابلة قناة "أبو ظبي الفضائيّة" معه

المرجع فضل الله يتحدَّث عن الحوار والتّجديد وقضيّة فلسطين

مقدّمة رفيق نصر الله:

ربّما أهمّ ما يميّز العلّامة والمرجع الديني السيّد محمّد حسين فضل الله أنّه رجل حوار، وعندما يمتلك رجل الدّين أو رجل السياسة هذه الصفة، فإنّه يعني أنه رجل تحليل يرقى إلى انفتاح، والانفتاح يقود إلى التواصل.

باختصار، الحوار مع المرجع الديني العلامة السيّد محمد حسين فضل الله هو حوار مع الذات، هو حوار مع الآخر، هو حوار ربما مع حوار مفقود في زمن بات يصعب التواصل.

أهلاً وسهلاً سماحة السيّد.

الحوار يعني الحياة!

س: سأنطلق من مقدّمتي.. هل ما زالت هناك فعلاً إمكانيّة للحوار؛ الحوار مع الذات، الحوار مع الآخر، الحوار مع من، ونحن ربما فعلاً أكثر ما نعانيه هو هذا الحوار المفقود ربما مع ذواتنا؟!

ج: أن تعيش الحوار هو أن تحيا، لأنّ مسألة أن لا تحاور، أن تتجمّد، أن يموت فكرك، عندما يختنق في دائرة كلّ ما اختزنته مما عاش معك في ماضيك إنتاجاً، أو مما ورثته، أن يتعفّن الفكر عندما يكفّ عن أن يدخل الحوار في داخل الذّات، حتى تكتشف الذات من خلال تجربة جديدة وأفق جديد، ثغرةً هنا وثغرةً هناك، لتتجدّد الذات عندما يتجدّد الفكر، من خلال حركيّة التأمّل من جهة، والتجربة من جهة أخرى.

أن يبتعد المجتمع عن الحوار، أن يبقى في التّاريخ ولا يدخل الحاضر، لأنّ قصّة أن تدخل الحاضر، هي أن تعيش حضور القضايا الجديدة والأفكار الجديدة، وكلّ التطوّرات الجديدة، ومن الطبيعي أنّ التطوّر يعني أنّ هناك فكراً مات في الماضي ليخلفه فكر آخر، وأنّ هناك قضيّة ابتعدت عن السّاحة لتأتي بعدها قضيّة أخرى. لذلك، أن يفتقد المجتمع الحوار، هو أن يبقى متجمّداً.

س: ماذا يريد هذا الحوار سماحة السيّد؟

ج: الحوار ينطلق في البداية من أن تفهم نفسك، عندما تحاور نفسك فيما مضى وفيما يأتي.

التّقليد موت!

س: ولكن ألا يحتاج ذلك إلى الوعي؟

ج: من الطبيعيّ أن يكون وعيك لحياتك، هو وعيك لحركيّة فكرك فيما عاشه وفيما يمكن أن يعيشه.. الحوار أن تفهم ذاتك، أن يفهم المجتمع طريقه وحركيّته وهدفه وقضاياه وأوضاعه، أن لا يستسلم لجمود التّقليد فيه، لأنّ التقليد موت، بينما الإنتاج للفكر وللحياة هو الحياة.

علاقة الحوار بالموروث

س: لكن هنا سماحة السيّد، كيف ستكون الملاءمة ما بين هذا الوعي وهذا  الحوار، وما بين الموروث لدينا من أفكار ومبادئ ربما هي صائبة، أو بعضها على الأقلّ، وربما هي غير ذلك؟

ج: الحوار لا يعني أن تقتل الموروث، ولكن أن تؤصّله، وأن تفتحه للهواء الطّلق، ليتنفّس في الصّحو، ولتنفتح، وأنت تحدّق فيه، على ما مات وما بقي حيّاً للحياة.

مشكلة الذين يختنقون في الموروث أنهم يقدّسون غير المقدَّس، لذلك يغرقون في تقديس الخرافة ليحسبوا أنها الحقيقة.. إنّ الموروث ليس الحقيقة دائماً، هناك موروث ينطلق من الرّسالات، والرّسالات كلمة الله، ولكن كيف نفهم كلمة الله؟ لا يكفي أن نؤمن بأنّ القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنّه كلمة الله، لا يكفي أن نأخذ كلّ تفسير للقرآن، لأنَّ تفسيره من خلال اجتهاد المجتهدين، هو فكر بشريّ يخطئ ويصيب.. لا يمكن أن تفرض نفسك على القرآن، ليكون فكرك في فهم القرآن قرآناً.

كلفة الإصلاح

س: الحوار سماحة السيّد يقود إلى الانفتاح، ومن يقود هذا الحوار ضمن سياسة الانفتاح ويجتهد، سوف يصطدم حكماً مع الآخر فينا، وأنت ربما عايشت هذا الواقع.

كيف يمكن هنا، أن تضع أسس المواجهة، مع التّسليم بأنّ هناك أشياء فعلاً من الموروث ما تزال تخلق قناعات ربما هي غير صحيحة؟

ج: إنّني أتصوّر في البداية قبل الدخول في الجواب عن السؤال، أنّك لكي تخلص للموروث، عليك أن تدخل في الحوار حوله لتفهمه جيّداً، ولتؤصّله جيّداً، ولتطرح عنه كلّ ما علق به من عناصر التخلّف التاريخيّة التي أطبقت عليه، لأنّ المسألة أنّ التخلّف يفرض نفسه على الفكر الذي ينتمي إليه النّاس.

لذلك، أن تدخل في حوار حول الموروث، ليس معناه أنّك تنكّرت له، وأنّك دخلت في عمليّة هرطقة أو تجديف، ولكن أن تغسله، وأن تطهّره، ليبرز نقيّاً خالياً من كلّ أقذار التخلّف.

س: حتى لو أصابت مقتلاً؟

ج: حتى لو أصابت مقتلاً. إنّ المصلحين في التاريخ الّذين وقفوا ضدّ تيار التخلّف، أصّلوا فكرهم عندما سالت دماؤهم، سواء كانت دماء الفكر عندما يُجرَح، أو دماء الحسّ عندما يُتحدَّى، أو دماء الجسد. إنّ تاريخ الأنبياء هو تاريخ كلّ الدماء التي سالت من الّذين استشهدوا منهم {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ} جادلوا وكافحوا وانطلقوا في مواجهة التخلّف، {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}.

س: سماحة السيّد، لماذا يجنح هذا الاتهام لمن هم بهذه الدّرجة من الاستشهاد في سبيل القضيّة، إلى حالة الإلحاد أحياناً؟

ج: إنَّ مشكلة هؤلاء، هي أنهم ضعفاء لا يمتلكون الحجَّة على ما يلتزمونه من فكر، إن كان ما يلتزمونه فكراً. ولذلك، فإنَّ الأسلوب الذي يغطّون به هذا الضّعف، ويحاولون من خلاله أن يؤخّروا حركة الأصالة في الفكر، هو أسلوب التّكفير والتّضليل.

خارطة من دون عرب

س: كيف تنظرون إلى الخارطة السياسيّة الآن في المنطقة العربيّة، ونحن ـ كما يبدو ـ متّجهون إلى تسويةٍ ما ربما ستشكّل محطّة كبيرة أيضاً في المستقبل المنظور؟ ماذا لو تمت التّسوية فعلاً؟ بالمفهوم الاستراتيجي، ما هو انعكاسها على الإنسان العربي، على الواقع الإسلاميّ، وعلى الحالة الجديدة التي سنواجه بها مرحلة ما بعد.. لا أقول خاتمة الصّراع، ولكن خاتمة حالة عايشناها طوال قرن، منذ أن أطلّ العام 1914 من "سايكس بيكو" إلى "وعد بلفور" إلى نشوء الصهيونيّة وغيرها؟

ج: لعلَّ مشكلة ترتيب الخارطة العربيَّة، هي أنها خارطة ليس فيها شيء عربي، لأنَّ معنى أن يكون الشّيء عربياً، هو أن تكون القضايا عربيّة في موقعها العربي الشّامل، وفي الاستراتيجيّة التي يتحرّك فيها القائمون على الشؤون العربيّة. ولكنّنا نلاحظ من خلال طبيعة حركة الواقع السياسي، وربما الاقتصادي والأمني، أنّ الإقليميّة التي ترتفع في عناوينها الكبرى الشخصانيّة، هي التي يستغرق فيها الواقع العربي في النظرة إلى أيّ قضية من القضايا.

ولعلّنا عندما ندرك أنّ الإطار الشخصي الذي يفرض نفسه على الإطار الإقليمي ـ القطري، والذي يحاول أن يستفيد من العنوان العربي، هو ما جعل الساحة خاضعةً للقوى الكبرى التي قد توحي إلى هذا وذاك بأنها هي التي تستطيع أن تحميه من الآخر، الآخر الّذي يعيش في دائرة صغيرة كما يعيش هو.. وبذلك رأينا نتيجة هذا الضّعف الذي يعيشه العرب، لتختنق كلّ دولة بخصوصيّاتها، ولترى في المشاكل بينها وبين الدولة الأخرى، أكثر من المشاكل بين الواقع العربي والصّهيوني أو الإمبريالي، إلى آخر الكلمات الاستهلاكيّة في هذا المجال... ندرك أنّ هذا جعل ثروة العرب لغير العرب، وجعل المواقع الاستراتيجيّة للعرب لغير العرب، ولكن بحجّة حماية العرب من بعضهم البعض لا من العدوّ الخارجي، وجعل الخطوط السياسية لهذا البلد أو ذاك البلد خاضعة للخطوط السياسية الكبرى. حتى إنّنا نعرف من خلال بعض المعلومات، أنّ أيّ قطرٍ من هذه الأقطار، لا يملك أن يقدّم مساعدة لأيّ قطرٍ آخر مماثل، إلا عندما يأتيه الضّوء الأخضر من هذه الدولة الكبرى أو تلك.

 لذلك، ليس هناك واقعٌ عربي بمعنى أن تكون هناك سياسة عربيّة فاعلة، قد تكون هناك قرارات في الجامعة العربيّة والقمم العربيّة، ولكنّنا عندما ندرس هذه القرارات، فإننا نجد أنها لا تحرّك الخطوط التفصيليّة في داخلها.

استغراقٌ في الأحلام؟!

س: سماحة السيّد، في المشروع القومي، كان الحلم بالوحدة، بالتحرّر، بالانتعاش، بتحرير فلسطين، يتمّ فعلاً بصوت مرتفع، الآن قد نكون أمام اللاحلم واللاصوت. هل تعتقد أنّ المرحلة المقبلة سوف تصادر منا قضيّة فلسطين كقضيّة مركزيّة حاضنة للعرب، وهم في هذه الحالة؟

ج: لعلّ مشكلة الحلم العربي الذي انطلق في بداية الخمسينات أو في نهاية الأربعينات، كان حلماً بعيداً عن حركية الواقع، يعيش في مستوى الأحلام الضبابيّة. لقد كان الصوت عالياً في الوحدة العربيّة، ولكنّ هذه الوحدة لم تدرس من خلال المشاكل الواقعيَّة الميدانيَّة على الأرض، ومن خلال طبيعة الظروف الموضعيَّة التي أحاطت بالواقع العربي، والتحدّيات الكبرى في المصالح الدوليّة. لعلّ المطلوب في تلك الفترة ـ ونحن لا نريد أن نطلق الإدانة لأحد ـ هو أن يخطَّط للوحدة العربيّة من خلال الدراسات السياسية والخطوات السياسية إلى سنة الألفين، بحيث تتحرّك المسألة من الوحدة الوطنيّة إلى ما يقترب من التنسيق العربي الذي ربما يمرّ بالاتحادات العربيَّة لتكون الوحدة العربيّة.

أنا أذكر في بعض مراحل الواقع العربي، عندما كنا في العراق، وبعد انقلاب عبد السلام عارف، أنّه حدثت هناك معركة بين القوميّين والشيوعيّين، فالقوميون ينادون بالوحدة الاندماجيّة، والشيوعيّون ينادون بالوحدة الاتحاديّة والاتحاد الفدرالي، وكانت المظاهرات تتحرّك بكلّ عنف هنا وهناك، لكن الّذين ينادون بالوحدة العربيّة، لا يملكون أيّ فكرة عن آليّة هذه الوحدة، كما أنّ الذين يتحدّثون عن الاتحاد الفدرالي، لا يملكون أيّ فكرة عن ذلك أو لا يريدون ذلك.

المسألة هي أن هذا الحلم العربي كان حلماً ضائعاً في الضّباب. ولذلك، سمعنا في الستينات قائداً عربيّاً كبيراً، كبيراً جدّاً، يتحدّث عن مسألة الصّراع مع إسرائيل، فأجاب عن سؤال صحفي: هل هناك خطّة للحرب مع إسرائيل، أو خطّة لتحرير فلسطين؟ وكان الجواب: لا خطّة، لأن المسألة كانت مزيداً من الشّعارات، ومزيداً من حركة المخابرات، ومزيداً من جعل الناس يصفّقون ويصفّقون، ويهتفون ويهتفون، ولكنّهم لا يعرفون ماذا يريدون،كانت حلماً كأحلام الشّباب.

حركة تفتقد التَّخطيط

س: سماحة السيّد، ربما كانت تلك المرحلة تحتاج فعلاً إلى الحلم، والحلم يقود إلى الرومانسيّة. ولكن قد نبرّر بعض هذه الأخطاء التي جرت، لأنّنا كنا نخرج من عتمة قرون، وأيضاً نحمل هذا الوميض في سبيل الخروج من هذه العتمة إلى الوحدة، إلى التحرّر، ونواجه أيضاً استعماراً بكلّ صوره.. الآن نحن أيضاً نتحدَّث عن بدايات قرن جديد، لنقل إنَّ هذا المشروع القوميّ ربما أصيب بنكسات.. ولكنّنا وجدنا أنّ هناك بعض التجارب الإسلاميّة خلال العقود الثّلاثة الماضية تعبّر عن نفسها في الكثير من الحالات.. هل بالإمكان فعلاً الوصول إلى مشروع إسلاميّ سياسيّ واضح؟

ج: أمّا بالنسبة إلى الشخصيّة الإسلاميّة التي ولدت مع الصحوة الإسلاميّة، فربما أصيبت بما أصيبت به الشخصيّة العربيّة، حيث كانت قد نجحت في بعض مواقعها قبل أن تنضج، وقبل أن تدخل في تخطيط تفصيليّ لمواقعها، ولذلك كانت الظروف تفرض نفسها على هذه الساحة أو تلك الساحة، لتكون الحركة الإسلاميَّة هنا وهناك، عمليَّة ردّ فعل لهذا الظّرف أو ذاك، أو لهذا التحدّي أو ذاك.. كانت هناك فكرة واسعة لأسلمة العالم، ولكنّها كانت تفتقد للتَّخطيط.. كانت هناك مشاعر إسلاميَّة، ولا سيَّما عندما انفتحت هذه المشاعر الإسلاميّة على انتصارات سياسيّة...

إسلامات أم إسلام؟!

س: هذه المظاهر، ألم تصل بنا إلى ما يمكن تسميته الآن بإسلام جزائريّ، بإسلام إيراني، بإسلام أفغاني، بإسلام عربي... إسلاميّات سياسيّة؟

ج: أنا لا أوافق على تقسيم الإسلام حسب المواقع الجغرافيّة. ليست المسألة أن هناك عدة إسلامات، ولكنّ المسألة هي أنّ هناك بعض الاختلاف في الاجتهادات، كما في مسألة الرفق والعنف، أي أنّ الوصول إلى الهدف الإسلامي، هل لا بدَّ أن يمرّ في دائرة العنف، على نحو يكون العنف هو الوسيلة الوحيدة للتّغيير، أو في دائرة الرّفق، كما يتحدّث البعض عن الأساليب الديمقراطيّة أو الاعتدال، أو أنها تتحرّك بين الرّفق والعنف تبعاً لحاجة الظروف الموجودة؟! ربما كانت هناك بعض الاجتهادات المتنوّعة.. وربّما كان هناك بعض التخلّف في بعض المواقع التي اعتبرت نفسها إسلاميّة وهي تعيش الأميّة في فهمها للإسلام.

لا عودة إلى القمقم

س: ألا يعود هذا أيضاً إلى خلل في الرّؤية؟

ج: من الطبيعي أنّ أيّ تجربة جديدة.. نحن عندما نتحدّث عن الإسلام، علينا أن نعتبر أنّ حركيّته تمثّل تجربة جديدة للمسلمين، ولا سيّما بعد كلّ هذا التاريخ الطويل الذي تعدّدت فيه المذهبيات الكلامية والفقهية، والذي تنوّعت فيه المشاكل الداخليّة بين المسلمين، مع ملاحظة وجود الاستكبار العالمي المتحالف مع الكفر العالمي الّذي يعمل على أساس أن لا يسمح للمسلمين بأن يتوحّدوا، ولا يسمح لهم بأن يديروا ثرواتهم وأوضاعهم بأنفسهم.

لكني أعتقد أنَّ الإسلام ربح الجولة الأولى في أنّه دخل في وجدان المسلمين كقاعدة للفكر والعاطفة والحياة، ودخل في وجدان العالم كحركة تمثّل قوّةً جديدة في مواجهة مصالح الدول المستكبرة وما إلى ذلك، وأعتقد أنّ الإسلام لن يعود إلى القمقم، وسوف يواجه الكثير من التحدّيات. ولعلّ ما حدث في لبنان من الانتصار على إسرائيل بعناوين إسلاميّة كبيرة، بقطع النظر عما يتحدث به الوطنيّون والقوميّون وما إلى ذلك، استطاع أن يؤكّد في وجدان العالم، أنّ الإسلام قادر على أن يدخل معركةً غير متكافئة وينتصر فيها من خلال إيمان راسخ، وتكتيك ذكيّ، واستراتيجية مدروسة، وأفق كبير واسع في مواجهة الواقع.

رواسب صليبيّة؟!

س: سماحة السيّد، هل لا يزال الغرب يتعاطى مع الإسلام وصحوة الإسلام في العقود الأخيرة برواسب تعود إلى روحيّة الحروب الصليبيّة، وهذا ما نشعر به من خلال بعض المواقف التي تعود إلى هذا المنطق الطقوسي الأسطوري الآتي من روحيّة الحروب الصليبيّة؟

ج: هناك تفصيل في الجواب، عندما ندرس الغرب في سياسته، نجد هناك بعض رواسب الحروب الصليبيّة في بعض المواقع الغربيّة، وربما قد نجد بعضاً منها في فرنسا، وربما نجد هناك نوعاً من أنواع التّنسيق بين حركة التّبشير في بعض المناطق وحركة الغرب، على أساس لقاء المصالح، ولا نريد أن نخوض في ذلك كثيراً، لكنّ الغرب يقف في مواجهة الحركة الإسلاميّة السياسيّة المنفتحة على قضايا العالم الإسلاميّ، من أجل استقلاله الاقتصادي والسياسي والأمني والثقافي، لأن مصالحه تتعرّض للخطر من خلال هذه الحركة.

المذهبيّة الفكريّة لا الطّائفيّة

س: سماحة السيّد، سأدخل في سلبيّة بعض الواقع الإسلامي الذي نعيش، وسوف أقترب قليلاً من الخطّ السّاخن لهذه السلبيّة، انطلاقاً أوّلاً من دور رجال الدين في هذه الخارطة التي نعيش، في ظلّ تنامي حالة مذهبيّة بدأنا نشعر بها خلال العقدين الأخيرين، تزيد ربما بعض الانقسامات في الصفّ الإسلامي. وثانياً أريد أن أتحدّث عن تعدّد المرجعيّات حتى داخل المذهب الواحد في الإسلام؟

ج: أمّا مسألة رجال الدين أو علماء الدّين، فهم نتاج البيئة التي عاشوها، والثقافة التي تثقّفوها، فربما ينطلق البعض منهم متأثّراً برواسب البيئة التي قد تحشره في زاوية العصبيّة المذهبيّة، لأنّنا لا نعتبر أنّ التمذهب يمثّل سلبيّة، وإنما يمثّل وجهة نظر في فهم الدين، تماماً كما هو التمذهب الذي يمثّل وجهة نظر في فهم الخطّ القوميّ أو الخطّ الماركسي أو غيره عندما تختلف الاجتهادات فيه. التمذهب هو حالة من حالات الالتزام بالخطّ الذي تمثّله خطوط المذهب.

وقد تحدّثت في أبحاث سابقة عن الفرق بين المذهبيّة الفكريّة والمذهبيّة الطائفيّة، وكنت أدعو إلى المذهبيّة الفكريّة التي تمثّل غنىً للإسلام، باعتبار أنها تنفتح على تنوّع الاجتهادات، وعلى الحوار في حركة هذا الاجتهاد المتنوّع، ما يغني التجربة الإسلاميّة، ويفتح آفاقاً جديدة للفكر الإسلامي من خلال علماء المسلمين.

أمّا المذهبيّة الطائفيّة، فإنها تمثّل العصبيّة المذهبيّة التي لا تنفتح على الحوار، ولا تنفتح على الآخر. إنَّ المذهبيّة الفكريّة تنفتح على الآخر، سواء الآخر في داخل المذهب أو في خارجه، لأنها تتحرَّك من موقع الفكر الذي لا يتعقَّد من فكرٍ آخر إذا كان يملك مواجهته بالحجَّة والبرهان والدَّليل. أمّا المذهبيّة الطائفيّة، فهي حالةٌ عشائريّة، سواء كانت مذهبيّة في داخل الإسلام، أو مذهبيّة في داخل العلمانيّة، أو في داخل المسيحيّة أو اليهوديّة، أو أيّ موقع ديني أو غير ديني.

أسلوبٌ غير محترم!

س: أنتم من الذين تداولوا ـ إذا صحّ التّعبير ـ بالتجديد، وكانت هناك آراء يعتبرها البعض أكثر جرأةً مما كان مفترضاً، وقد أصابتك جراح كثيرة حتى من أقرب المقرَّبين. هذا المنهج إلى أين؟

ج: أتصوّر أنّ مسؤوليّتي الإسلاميّة هي أن أدرس الإسلام من خلال أصالة الفهم للنّصّ الّذي أعتبره نصّاً يختزن الكثير من الحيويّة في داخله المضموني، وإن كان ثابتاً في حروفه. ومن هنا، فإنني في الوقت الذي درست أفكار الفقهاء القدامى أو المتكلّمين القدامى، لاحظت وجود علامات استفهام كثيرة في الدّليل الذي يقدّمونه، أو في الفكر الذي ينتجونه، لذلك فإني أعتبر أنّ مسؤوليّتي الإسلاميّة هي أن أقول الكلمة التي أؤمن بها، ولا أدّعي العصمة لنفسي.

ولكنّ المشكلة التي واجهتها، هي أنَّ هذا الفكر أو هذا الفقه الذي انطلقت فيه من النصّ القرآني والنصّ الحديثي النبويّ أو الإماميّ ـ وأنا من الأشخاص الذين كتبوا تفسيراً قرآنياً من أفضل التفاسير في 25 مجلداً، وعشت القرآن منذ أكثر من خمسين سنة، كما أني أزعم أنّ لديّ ثقافة أدبيّة تعينني على فهم النّصّ بشكلٍ أفضل ـ ووجِهْتُ فيه بالكلمات السلبيّة.. لم أواجه نقداً موضوعيّاً لمسألة فقهيّة أو حتى لمسألة كلاميّة، كلّ ما هنالك كلمات شاتمة وسابّة ومكفّرة ومضلّلة وما إلى ذلك، ولهذا فإني لم أحترم هذا الأسلوب.

تخلّفٌ فكريّ

س: كيف تفسّر سماحتكم أنّ معظم هؤلاء كانوا من الشّيعة؟

ج: ليست المسألة مسألة شيعية ـ سنيّة، بل هي مسألة وعي وتخلّف، وإن كان بعض الناس يتضايقون من هذا التّعبير. إنّي أعتبر أنّ كلّ إنسان يواجه الفكر بالسبّ والشتم، أو بأساليب التّكفير والتضليل فيما لا كفر فيه ولا ضلال، هو إنسان متخلّف فكريّاً، لأنّ الإنسان الواعي فكريّاً هو الذي يواجه الحجّة بالحجّة، والبرهان بالبرهان.

ضريبة المصلحين

س: هل يمكن اعتبار أنّ هؤلاء في مواقفهم،لا يريدون فعلاً حواراً على مستوى المذهب الواحد في الإسلام، باتجاه توحيد الكلمة، باتجاه توحيد الرّؤية الإسلاميّة، وخصوصاً ونحن نواجه كلّ هذه التحدّيات، أم أنّ المسألة قد تكون متعلّقة بآراء سماحتك لأسباب معيّنة؟!

ج: لا، أنا لست أوّل إنسان واجهته هذه الكلمات، فقد واجهت الكثير من العلماء، منهم المرحوم السيّد محسن الأمين الّذي واجه هجوماً فوق العادة، عندما حرّم بعض وسائل الاحتفال بعاشوراء، كمسألة الضّرب بالسّيف على الرأس، أو ضرب الظهور بالسلاسل، وهكذا وُوجِهَ الكثير من المصلحين. إنّ هناك بعض الكلمات كانت تنطلق من عقدة، وهناك بعض الكبار الّذين يتحدّثون بشكل سلبي اعترفوا بأنهم لم يقرأوا كتاباً من كتبي.

الخوف من التّجديد

س: سماحة السيّد، لماذا يخشى البعض من طرح مشروع التّجديد في الإسلام؟

ج: ربما يفكّر هؤلاء أن التجديد أو أنّ أيّ شيء جديد، يمكن أن يفتح الساحة على تغيير بالفكر الإسلامي، وتوجيهه في الخطوط التي تسيء إلى الحقائق الإسلاميّة، كأنهم يعتبرون أنّ هذا التّراث الإسلامي هو الإسلام، وعلى هذا الأساس، فإنّ أيّ شيءٍ جديد سوف يكون غير إسلاميّ وبعيداً عن الإسلام، بما يؤدّي إلى سقوط الإسلام في عقائده ومفاهيمه! حتى إنّ بعضهم يرفض أن تثير الشكّ في مفهوم من المفاهيم، لأنّ الشكّ في نظره يُجرّئ النّاس على أن ينفتحوا على احتمالاتٍ جديدة، وعلى شبهات جديدة، ولهذا ينبغي أن نقبل كلّ شيء عندنا بما يتّصل بالعقائد، أو ما يتصل بالأحكام الشرعيّة أو بالمفاهيم!

إنّ هذه النظرية تنطلق من تقديس الماضي، ومن اعتبار الماضي في اجتهاداته يمثِّل الحقيقة الإسلاميَّة الحاسمة. ولذلك، فإنهم يخافون من أيّ شيءٍ جديد، ومن أيّ شخصٍ يفكّر باستقلالٍ وبأصالةٍ كما لو كان يحاول أن يفهم الإسلام لأوّل مرةٍ.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ الكثيرين من هؤلاء لا يملكون الأدوات التي يستطيعون فيها أن يناقشوا الفكر الجديد بروحيّة وذهنيّةٍ معاصرة، لأنهم عاشوا في الماضي، في أساليبهم كما في أفكارهم.

لكنّنا نعتقد أنَّ الإسلام لكي يستمرّ، ولكي ينفتح على أكثر من عصر، لا بدَّ له من أن يواجه دائماً حاجات الإنسان وتطلّعاته في كلّ عصرٍ وزمان، ليفكّر من موقع الإسلام الجديد باجتهاداتٍ لا يفرضها على النصّ، ولا على الإسلام، بل يحاول أن ينظر إليه نظرةً موضوعيّة مستقلّة حرّة تجعله يؤصِّل فهمه له.

مسؤوليَّة المثقّف

س: دعني سماحة السيّد أرسم صورةً للمتلقّي الآن العربي الإسلامي، لكلّ ما هو محيط به في زمن العولمة، وزمن التطوّر التكنولوجي، من قنوات وفضائيات ومن وسائل اتصال ومن إنترنت وغيرها..

كيف يمكن فعلاً أن نجدِّد الثقافة الإسلاميّة، في ظلّ هذا الكمّ الكبير الّذي يتلقّاه الفرد الآن؟ ما هو واجب رجل الدّين؟ ما هو واجب المفكّر الإسلامي؟ وما هو أيضاً واجب أدوات إيصال الثقافة الإسلاميّة؟

ج: من الطبيعي أنّك لكي تتحدّث عن أيّ ثقافة ترتكز على قاعدةٍ معيّنة، لا بدّ لك من أن تؤكّد ضرورة أن يتمتّع هذا المثقّف بهذه الثقافة القاعديّة بشكل عميقٍ وواسع، بحيث يستطيع أن يتمثّلها في وجدانه عندما يتطلّع إلى الواقع من حوله، وإلى النّاس أمامه، وإلى كلّ المتغيّرات والتطوّرات والحركات.

لهذا، فإنّ المثقّف الإسلامي لا بدّ أن يكون متميّزاً بوعيٍ عميقٍ واسعٍ للثقافة الإسلاميّة مقارنةً بحاجات الإنسان المعاصر.

ومن الطبيعي أيضاً أنه لن يستطيع أن يحصل على ذلك إذا لم يكن مطّلعاً على حركة التيّارات المعاصرة، إن في الجانب الثقافي الفكري، أو في الجانب السياسي أو الاجتماعي، حتى إنّه لا بدَّ أن يلاحق حركة الانحرافات الاجتماعيّة في خلفيّاتها، وحركة الانحرافات الأخلاقيّة في طبيعتها، بحيث يعيش النّاس ويتنفّس كلّ مشاعرهم وأحاسيسهم، حتّى يملك القدرة على أن يفيدهم وينفعهم، ليعالج كلّ الثّغرات الموجودة في واقعهم.

س: سبق سماحة السيّد أن تحدّثتم عمّا أسميتموه "الحرية القلقة"، هل لي أن أتحدّث عن واقع المثقّف العربي والإسلامي، ما هي هذه الحريّة القلقة؟

ج: إنّ الحريّة القلقة تمثّل توق الإنسان للانفتاح، ولكن في مناخٍ ضبابيّ، بحيث يريد الإنسان شيئاً، ولا يعرف حدود ما يريده.

أهميّة الانتفاضة

س: أنتم من الذين يقرأون جيّداً منحى أحداث كبيرة تعيشها المنطقة، إلى أين تتّجه الانتفاضة، إلى أين تتجّه القضيّة الفلسطينيّة؟ هل نحن أمام مؤامرة كبرى؟ هل نحن أمام حالة استقلاليّة صغرى؟ هل نحن أمام دويلة فلسطينيّة تنهي هذا الصّراع أم ماذا؟ ماذا يجري؟

ج: إنّني أتصوّر أنّ الانتفاضة استطاعت أن تصنع حقائق جديدة لم تكن في السابق، فقد كان الصّراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني يقفز عن الساحة الفلسطينيّة ليدخل إلى مواقع الأنظمة العربيّة، ولذلك كانت إسرائيل تملك الضغط على هذا النظام العربي أو ذاك النظام العربي بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر من خلال الضغوط الأمريكيّة.

ومن هنا، كانت المسألة الفلسطينيّة تتحرّك في نطاق الظروف العربيّة الرّسميّة، وكانت تلك مشكلة الفلسطينيّين.. عندما جاءت الانتفاضة، استطاعت أن تخلق واقعاً جديداً، وهو أنها أدخلت المسألة الفلسطينيّة في عمق المجتمع اليهودي، بحيث أصبحت مسألة الانتفاضة مشكلة داخليّة إسرائيليّة، بدلاً من أن تكون في إطار العلاقات العربية ـ الإسرائيلية.

ومن هنا، سمعنا نتنياهو عند بداية الانتفاضة يتحدّث عن الخوف من انهيار الكيان الصهيوني، بفعل هذه الانتفاضة التي تحوّلت إلى ما يشبه الثّورة الشعبيّة التي يتحدّى فيها الشعب الفلسطيني الموت.

لقد كانت العمليّات ضدّ الإسرائيليّين تنطلق من عمليات استشهادية تقوم بها حماس أو الجهاد الإسلامي، ولكنّ العمليّات الاستشهاديّة الآن تحرّكت بشكل جديد ومتنوّع لا يثير أيّ مشكلة إنسانيّة في العالم على أساس العطف على الأطفال الإسرائيليّين الذين يموتون بفعل هذا التفجير، بل أصبحت تصبّ في حساب الفلسطينيّين، عندما ينطلق هذا الشابّ وذلك الشّيخ وتلك المرأة وذاك الطّفل الذي يحمل الحجارة، لمقاومة المحتلّ، ما خلق حقيقة جديدة.

ثم إنّ الانتفاضة استطاعت أن تخلق حقيقة سياسيّة جديدة، وهي أنّ أيّ قيادة فلسطينيّة، لا تملك أن تقدّم تنازلات في المسائل الحيويّة. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنها استطاعت أن تحرج الشّارع العربي، فتثير انتفاضة سياسيّة وإعلاميّة في الساحة العربيّة، ما دفع بكبار المسؤولين العرب ليتحدّثوا بلغةٍ لم تكن مألوفة. إننا عندما نستمع إلى الرئيس حسني مبارك وهو يتحدث بأنّه ليس من حقّ الفلسطينيّين أن يتنازلوا عن القدس، لأنّ القدس ـ المسجد الأقصى ـ هو مسؤوليّة عربية إسلامية، نعرف بذلك مدى تأثير الشّارع العربي والإسلامي في العنوان السياسي للنظام العربي الرسمي.

ومن هنا، فإنّ من الصّعب جداً على القيادة الفلسطينيّة التي قادت حركة في ساحة منفتحة بمشاعرها وأحاسيسها وأحلامها وآمالها في كلّ ساحة الشّعب الفلسطيني، أن تتنازل بسهولة، بحيث تتحرّك في هذا الإطار الآن، وتدخل الانتفاضة في هذه المحادثات أو تلك، حتى لا تضبط متلبّسة بالرّفض المطلق لتفرض شروطها التي لا تقبلها إسرائيل لتُحمِّل إسرائيل المسؤوليّة، أو لتنطلق المسؤوليّة مشتركة بينها وبين إسرائيل.

إنني في الوقت الذي لا أهوّن من جبال الضغوط الأمريكية والأوروبية وبعض الضغوط العربية، إضافةً إلى الضغوط الإسرائيليّة، ولا سيما ضغوط التجويع والحصار الاقتصادي والقتل المنظَّم، فإنني  أؤمن بأنّ هذه هي الفرصة الأخيرة للفلسطينيّين لتحقيق طموحاتهم في التحرير، وأنَّ هذه الانتفاضة إذا سقطت ـ لا سمح الله ـ فلن يملك الفلسطينيّون بعدها أيّ ظرفٍ سياسي فلسطيني أو عربي أو إسلامي لإعادة إنتاج الانتفاضة من جديد. لهذا، فالانتفاضة مستمرة بالرّغم من كلّ الجراحات في الجسم الفلسطيني.

من يحرّر القدس؟!

س: سماحة السيّد، كانت القدس دائماً مربوطة بناحية الفرسان المسلمين من أجل تحريرها كلّما تعرّضت للخطر، هل نحتاج فعلاً إلى حطّين أخرى أو إلى صلاح الدّين آخر، أم نحتاج إلى حالةٍ إسلاميّة قادرة فعلاً على تحصين القدس، حتى لا تقودنا  المفاوضات أو غير المفاوضات إلى حالة جديدة ربما تبدّل من هويّة القدس؟

ج: نحن نحتاج إلى ذلك، ولكنّ الظروف الموضوعيّة لا تمكّن المسلمين من الدخول إلى فلسطين على فرسٍ بيضاء لفتح القدس، ولكني أعتقد أن التعبئة العربية والإسلامية على مستوى الشعوب التي تستمرّ مع استمرار الانتفاضة، تنتج لنا انتفاضة جهاديّة في داخل فلسطين، وانتفاضة سياسيّة وإعلاميّة، وربما اقتصادية، في خارجها، للضغط على المصالح الاقتصادية للذين يؤيّدون إسرائيل، ولذلك عندما تتحرّك الانتفاضة من هنا وهناك، ساعتئذٍ يمكن أن تفتح القدس.

س: هل هناك معطيات، في رأيكم، في عالمنا العربي ـ الإسلامي قادرة على ذلك؟

ج: بكلّ أسف، هناك مشاكل كبيرة جداً تواجه هذا الشّارع العربي والإسلامي، ولكنّ الجراح عندما تكبر، سوف تخترق الإحساس العربي والإسلامي.

التَّغيير ممنوع!

س: سماحة السيّد، اسمح لي أن أعبر إلى الهمّ اللّبناني، لقد أجريت مع سماحتكم عدّة حوارات هنا، وأنا أدخل في هذا الدّرب الضيّق في أحد أحياء الضاحية الجنوبيّة إلى منزلكم، طرحتُ على نفسي هذا السؤال: ما الذي تبدّل؟ كأنّ الجدران هي نفسها؟ كأنّ الصّور كذلك؟ كأنّ الشعارات... وأيضاً كأنّ الساسة هم أنفسهم؟ ما الذي يجعلنا لا نتبدّل سماحة السيّد؟

ج: أتصوّر أن المسألة السياسيّة هي التي تمثّل مشكلة لبنان، وهي أنّ لبنان لم يؤسّس في اللّعبة الدوليّة ليكون وطناً لبنيه، بل ليكون ساحة للتجاذبات السياسيّة التي تثقّف العالم العربي بكلّ السلبيّات، والتي تمثّل المختبر الذي يختبر فيه الآخرون ـ وفي مقدّمهم الغرب ـ كلّ حركة التيارات السياسية في المنطقة. ولعلّ من المفارقات، أن الحزب الشيوعي كان ممنوعاً في كلّ البلاد العربيّة، ولكنه موجودٌ في لبنان. وهكذا تعمل كلّ الأحزاب اليسارية واليمينية في لبنان، حتى الأحزاب غير المرخّصة، بكلّ حرية.

إنّ المطلوب هو كيف يمكن اختبار الخطوط التي تتحرّك بها الأحزاب، وكيف يمكن إنتاج المذهبيّة في خلافات السنّة والشيعة، أو في خلافات الكاثوليك والأرثوذكس، أو في خلافات المسلمين والمسيحيّين، حتى تتثقّف المنطقة بعصبيّات عندما تختفي هذه العصبيّات أو تخفّ.

إنّ لبنان هو الرئة التي تتنفّس بها مشاكل المنطقة. لذلك، قد يكون مسموحاً في لبنان حريّة الكلمة، ولكن ليس مسموحاً فيه ـ ولا أتحدّث عن القواعد ـ بالتغيير الحقيقي، لأنّ اللّبنانيّين أدمنوا ذلك، ولأنّ النظام الطائفي أبعد اللّبنانيّين عن لبنانهم، فقد لا تجد في لبنان لبنانيّاً لوطنه بالمعنى الرّحب للموقع، فإنّ كلّ لبناني يعيش لطائفته، لا بالمعنى القيمي للطائفة، ولكن بالمعنى الغرائزي لها.

ولذلك، تتحدث كل طائفة عن حقوق الطائفة كما لو كانت دولةً مستقلةً، أمّا القضايا الكبرى، فإنها تتحرك لتكون مثاراً للجدل، كما لاحظنا في القضيّة الفلسطينيّة، وكما لاحظنا في قضيّة المقاومة عندما انطلقت، وما نلاحظه في إثارة فتح ملفّاتٍ وإغلاق أخرى.

من هنا، قلت في أكثر من حديثٍ سابق: إنّ الجميع يتقاسمون الحصص في كلّ المواقع الرسميّة الكبرى، في الوزارة والنيابة، ولكن هناك فريقاً واحداً كان يحصل على حصّته وعلى نظامه.

س: هذا الوطن المسكين الذي نتقاسمه، هل هو أمام عتبة انفجارٍ آخر؟

ج: ليس هناك أيّ مناسبة أو فرصة لأيّ انفجارٍ في لبنان.

كلمةٌ من القلب

س: سماحة السيّد، المختلف في منهجه، ماذا يقول أخيراً للّذين يتفقون معه وللذين لا يتّفقون؟

ج: إنّني أقول لهم، إنّني أحبكم جميعاً، لأنّني أحبّ الفكر الذي يقودنا إلى الاقتراب من الحقيقة، إذا لم يقدْنا إلى الحقيقة نفسها.. إنّني أحبّكم عندما تفكّرون، وعندما تعيشون العقل في حركة الفكر وفي حركة الانتماء، ولا تعيشون الغريزة، لأنها تقتل العقل، وبالتالي، فإنها تقتل الإنسان.. إنّني أحبّ الذين أختلف معهم لأحاورهم، وليغنينا الحوار في فكرٍ جديد أو تفاهم جديد أو لقاءٍ جديد.. ابحثوا عن المنهج الذي يعينكم على أن تفكّروا بحريّة واستقلال، ولا تخضعوا لغرائزيّتكم في الداخل أو لغرائزيّة الغوغاء الذين يصفّقون للتخلّف، ويرجمون الوعي بالحجارة.

شكراً للمرجع الدّيني سماحة السيّد محمد حسين فضل الله، من قناة "أبو ظبي" الفضائيّة، وكان لديّ الكثير لأكمله. شكراً لكم...

* نصّ المقابلة التلفزيونيّة التي أجرتها قناة أبوظبي الفضائيّة مع العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض)، بتاريخ 19 كانون الثاني 2001م، ضمن برنامج "بدون مقدّمات".

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير