شؤون وقضايا محلية وعربية

شؤون وقضايا محلية وعربية

التقت «الحوادث» سماحة آية اللّه العظمى السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه (حفظه المولى) وحاورته حول شؤون وقضايا محلية وعربية، فرأى أنَّ الخلاف بين لبنان والأمم المتحدة لن يبلغ مستوىً خطيراً، لأنَّ للمنظمة الدولية مصلحة في البقاء بلبنان، أمّا على المستوى الداخلي رأى أن لا مشكلة حوار بين اللبنانيين، إنَّما المشكلة هي في من يحاول إنتاج العصبية في لبنان، وغير ذلك من أمور.

أجرت الحوار من بيروت بارعة الفقيه، ونشر على صفحات «الحوادث» في 17 آب، 2001 وقد جاء فيه:

رجلٌ تخطى الزمن بأشواط، إنسان عشق إنسانية الآخرين، علاّمة لـم يتوسل الدّين غاية، مثقف في عالـم شحّ مثقفوه، شاعرٌ يأبى الاعتراف، كبيرٌ نادر تواضعه. هو المرجع المجدّد والعلاّمة المتنور السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه، رمز الجهاد والممانعة وأحد أعلام المقاومة الذي بقي رمحاً منصباً رغم جميع التحدّيات.

إيمانه باللّه والحقيقة أفشل مساعي التصفية السياسيّة والمعنويّة وحملات التشهير من النيل منه، رفض الغموض لأنَّه تعود العيش في الهواء الطلق وصحو النهار، استطاع أن يتجاوز الإطار المذهبي الضيّق إلى المدى الإسلامي الرحب والبُعد الإنساني الشامل جامعاً حوله آلاف المتعطشين لدولة الإنسان.

الحوار مع العلاّمة فضل اللّه متعة سامية تسبح معها الروح في عالـم تعشقه إنسانية الإنسان. تسأله عن أحوال لبنان فيجيبك وجدان الأب العطوف، تستوضحه عن هموم الانتفاضة والقدس فيهب ضمير العربي الأبي.. تسأله عن الأديان والتيارات والاختلاف فيأبى الحديث إلاَّ عن الإنسان..

«الحوادث» التقت العلاّمة فضل اللّه وحاورته حول شؤون وشجون الساحتين اللبنانية والعربية.

س: أمّا وقد وصلت الأوضاع إلى هذا التعقيد في فلسطين المحتلة وخصوصاً في موضوع القدس.. ما رأي سماحتكم بالحركات الصهيونية التي تحاول نفض الغبار عن تاريخ مزعوم لهيكل مزعوم؟

ج: عندما انطلقت الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر كانت تحاول تأسيس موقع يهودي يدخل السياسة العالمية من باب واسع، ومن الطبيعي أنَّ هذه المسألة كانت بحاجة إلى إيجاد أرضية تاريخية تجتذب يهود العالـم تُقنع من خلالها الرأي العام العالمي ولا سيّما الغربي، واستطاعت الحركة الصهيونية بتأثيرها على البروتستانت أن تعطي لحركتها قداسة التاريخ المسيحي الذي يتفاعل فيه العهد الجديد مع العهد القديـم لتكون مسألة أرض الميعاد ومسألة الهيكل وما إلى ذلك حقائق دينية تفرض نفسها على الوجدان المسيحي بالإضافة إلى الشخصية اليهودية.

ولهذا كان اليهود بحاجة إلى تاريخ مقدّس في فلسطين وفي القدس بالذات، فأنتجوا قضية الهيكل، الذي يُقال أنَّه تحت المسجد الأقصى، ليشكل بذلك جزءاً من التاريخ المزعوم الذي استطاع أن يأخذ له موقعاً كبيراً في العالـم. ولذلك انطلقت الحركة الصهيونية من أجل تحويل اليهودية إلى قومية إلى جانب كونها خطّاً دينياً، مستفيدة من الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود في التاريخ حيث كان المسيحيون يحتقرون اليهود وأضيف إليه ما جرى لليهود وما رافق ذلك من أساطير وكتب في التاريخ الحديث من قبل هتلر خلال الحرب العالمية الثانية أعدّت حول المحرقة النازية بشكل مضخم جداً حيثُ استطاع أن يثقل ضمير العالـم الغربي الذي تحمّل مسؤولية ذلك كلّه ولـم يستطع أيّ باحث أو مؤرخ بإعادة القضية إلى نصابها الواقعي الطبيعي بعنوان أنَّ ذلك يمثِّل معاداة للسامية، الشعار الذي يرفعه اليهود بوجه كلّ من يواجه المسألة اليهودية. إنَّ كلّ المفردات اليهودية على المستوى التاريخي والسياسي والإنساني تمثِّل خطّة مترابطة من أجل أن تتجذر المسألة اليهودية في وجدان العالـم، وقد نجحوا نجاحاً كبيراً في هذا المجال، لأنَّهم استخدموا كلّ مفاصل القوّة عندهم واستطاعوا أن يوزعوا اليهود على المواقع الحيوية في العالـم ولا سيّما المواقع الاقتصادية والإعلامية التي استطاعت أن تنتج مواقعاً سياسية كما هو الحال في أمريكا وأوروبا وروسيا، وقد فعل اليهود ذلك، لأنَّهم يريدون أن يؤكّدوا وجوداً عميقاً في واقع السياسة الدولية لـم يكن له تاريخ في هذا المجال، ومن الطبيعي أنَّهم منسجمون مع أنفسهم، والمسألة الأساس هي في عدم انطلاق العرب والمسلمون معهم وهم يملكون تاريخاً يحمل جذوراً عميقة في وجدان العالـم سواء في بعض جوانب السلب أو الإيجاب، لكنَّهم أهملوا هذا التاريخ، واعتمدوا على الذاكرة التي نعرف أنَّها إذا لـم يلاحقها المعنيون بها فإنَّها تغيب أو تفسح المجال لكلّ الذين يحاولون التخفيف من وهجها وعمقها.

س: كيف تتوقعون انتهاء حرب الاستنزاف الدائرة اليوم في الأراضي المحتلة خصوصاً أنَّ العالـم العربي يقف في صفوف المتفرجين؟

ج: إنَّنا عندما نذكر العالـم العربي فإنَّ لي كلمة منذ مدّة طويلة تتكرر في أحاديثي وهي أنَّ العرب منذ أن أسقطوا اللاءات الثلاثة: لا مفاوضات ولا صلح ولا اعتراف، بدأوا يخطّطون للتحرر من القضية الفلسطينية لأنَّهم شعروا بالتعب منها وخاصة أنَّها في حركيتها الثورية بدأت تهدّد مواقع المسؤولين العرب، لأنَّها تثير الوعي العميق لدى الشعوب العربية التي سوف تفكّر بطريقة جديدة، لا سيّما أنَّ الجراح التي تصنعها الانتفاضة في جسم الأمّة تثير الآلام الكبيرة التي قد تفجّر القضايا الكبيرة، لذلك فإنَّ مسألة العرب في القضية الفلسطينية أصبحت تشبه مسألة رفع العتب على طريقة المتنبي:

لا خيل عندك تهديها ولا مال         فليسعد النطق إن لـم تسعد الحال.

وأنا أتصوّر أنَّ الانتفاضة استطاعت أن تجد طريقاً نحو الامتداد والاستمرار لأنَّه لا خيار آخر للفلسطينيين أمام طروحات شارون الذي يريد أن ينسف كلّ الاتفاقات حتّى في المفاوضات بما في ذلك اتفاق أوسلو، ولهذا فالقضية «البحر وراءكم والعدوّ أمامكم» ولهذا فإنَّني أتوقع أن تبقى هذه لا جبهة مشتعلة لتحرج إسرائيل أكثر ولتحشرها في المأزق الأمني الذي بدأ يؤثر على المأزق الاقتصادي بشكل كبير جداً.

س: هل الانتفاضة قادرة لوحدها على التحرير أم أنَّ الثورات بحاجة إلى قوّة تدعمها عندما تبلغ أوج تحرّكها؟

ج: إنَّ قوّة الانتفاضة هي أنَّها حركة شعب وليس حركة حزب معيّن حتّى ليست في امتداداتها حركة سلطة الحكم الذاتي بالرغم من أنَّ سلطة الحكم الذاتي ما تزال تمثِّل موقعاً قيادياً للانتفاضة، لكنَّ اليهود يصنعون في كلّ يوم جذوة جديدة بوجدان الشعب الفلسطيني. إنَّنا عندما نتابع تشييع جنازات الشهداء نجد أنَّ هناك وعياً وتجذيراً للشعارات الثورية والاستمرار بالانتفاضة وفرحاً روحياً بالشهادة، وأعتقد أنَّه ليس باستطاعة أيّة قيادة فلسطينية أن توقف الانتفاضة حتّى لو مورست عليها ضغوط كبيرة من هنا وهناك فإنَّ هناك أكثر من ثغرة تفسح المجال للانتفاضة بالاستمرار والتمدّد. إنَّ المسألة التاريخية في هذه الانتفاضة هي أنَّه لا انتفاضة بعدها إذا توقفت، لأنَّ الفلسطينيين أعطوا كلّ طاقاتهم فيها.

قد يلاحظ أنَّ هناك أكثر من نقطة ضعف في الواقع الفلسطيني، هناك الحصار الاقتصادي والجغرافي والتقتيل اليومي والاغتيالات مع العجز العربي، لكنَّ الانتفاضة أثقلت ضمير العالـم، حتّى أنَّنا عندما ندرس السياسة الأميركية في مسألة الانتفاضة، فإنَّنا نرى هناك حالة إحراج للإدارة الأميركية التي ما تزال تدعم إسرائيل بحيثُ تشعر أنَّها تعيش نوعاً من المأزق. لذلك تحاول أن تتوزع الأدوار في التعبير عن الموقف الأميركي، ونلاحظ أنَّ أسلوب الرئيس بوش الذي يحاول أن يتوجه به للإسرائيليين للحفاظ على دعم اللوبي اليهودي له في الكونغرس الأميركي يختلف عن الأسلوب الذي يستخدمه وزير الخارجية الأميركي كولن باول في استنكار بعض ما تقوم به إسرائيل من عمليات اغتيال، وهذا يمثِّل نوعاً من المأزق الذي يشعر به الأميركيون، لأنَّ العالـم العربي بدأ يبتعد عن أميركا، وأصبح يضغط على أنظمته للوقوف في وجهها ويعتبرها الشيطان الأكبر. إنَّ المحللين السياسيين في الإدارة الأميركية بدأوا يثيرون الخطر في تحليلاتهم من موقف الشعوب العربيّة والإسلاميّة من السياسة الأميركية في المنطقة وهذا ما تفسِّره دعوات أميركا لرعاياها في العالـم العربي والإسلامي أن يكونوا حذرين.

س: ما هو مدى صمود الفلسطينيين في هذا الوضع العربي والتعنّت الشاروني؟

ج: أنا أختلف مع الإعلام الذي يحاول أن يصوّر شارون كفزاعة أمنية لا يملك أحد أن يضبطها لأنَّه يعيش جنون الجريمة.. إنَّ شارون يخضع لخطوط حمراء في داخل الساحة الفلسطينية وكلّ حديث عن أنَّه يفكّر مع القيادة العسكرية الصهيونية باجتياح أراضي سلطة الحكم الذاتي هو كلام للاستهلاك الإعلامي الذي يتحرّك بإطار الحرب النفسية. لأنَّ العالـم كلّه لا يوافق ومنطقة الحكم الذاتي وجدت لتبقى، وإذا كان شارون يتوغل 500 مترا أو أكثر داخل أراضي السلطة الفلسطينية (ليهدم) فإنَّه يتراجع رأساً ويحاول أن يبرر هذه الحركات بأنَّها دفاع عن النفس.

لهذا أن يُقال أنَّ شارون يملك القيام بعمل كبير يلغي فيه الانتفاضة بالقوّة العسكرية قد لا تكون مسألة واقعية، نحن لا نتحدّث بالمطلق، ولكن بحساب المعطيات السياسية المحيطة بالقضية الفلسطينية والتي ترتبط بالمصالح الأميركية والروسية والأوروبية والصينية في العالـم والتي لا يمكن أن تعطي شارون الضوء الأخضر الكبير في هذا المجال.

ومن هنا قوّة الانتفاضة أنَّها دخلت في ضمير العالـم ووجدانه وأصبح هذا النهر من الدماء الذي يتدفق في كلّ يوم وينقله الإعلام العالمي يمثِّل نوعاً من أنواع الحدث الذي تدخل المشاعر الإنسانية في الرأي العام العالمي بشكل هادئ تدريجي إلى أن يغطي على وجدانه، تماماً كما كانت مجزرة صبرا وشاتيلا ومجزرة قانا. إنَّها تمثِّل قانا متحركة وصبرا وشاتيلا متحركة، وأعتقد أنَّ الزمن ليس لصالح الإسرائيليين إنَّما يتحرّك لصالح الفلسطينيين، صحيح قد تنطلق بعض العمليات الفاشلة لكنَّها تخلق قلقاً وخوفاً بحيثُ لا يشعر أيّ إسرائيلي بالأمن. وبرأيي أنَّ دعوات شارون للعالـم بوقف الانتفاضة هي دليل على عدم تحمّله امتدادها.

س: ما هو الحلّ المرتجى للقدس في ظلّ الطغيان الإسرائيلي والموقف العربي الجامع حول عروبتها؟

ج: لا أستطيع أن أفصل القدس عن قضية فلسطين، ولعلّ قضية القدس أثيرت باعتبارها تمثِّل عنواناً مقدساً لدى المسلمين والمسيحيين لاجتذاب المشاعر الدينيّة التي يمكن أن تتحرّك في القضية الفلسطينيّة، ولهذا فإنَّ قضية القدس مرتبطة بالقضية الفلسطينية، ولا يمكن حلّ القضية الفلسطينية دون أن تحلّ قضية القدس. إنَّ القدس هي أساس المشكلة في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ومن خلالها لا يملك العرب ولا المسلمون أن يكونوا على حياد في قضية القدس. وأتصوّر لو أنَّ عرفات قدّم القدس لإسرائيل لكانت قد تنازلت له عن كلّ الضفة الغربية وغزة، لكن القدس هي الأساس، لأنَّها معنى إسرائيل وبدونها لا معنى لإسرائيل، والقدس هي معنى فلسطين وبدونها لا معنى لفلسطين، ولذلك هي نقطة الصراع التي تترك تأثيراتها سلباً أو إيجابياً على مجمل القضايا الأخرى المتصلة بالقضية الفلسطينية. ولهذا لن تموت قضية القدس، ولن يملك العرب التنازل عنها، وهذا ما يجعل إسرائيل تكرر بمناسبة وغير مناسبة أنَّ القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل.

س: في ظلّ الحصار الديبلوماسي المفروض على لبنان، هل برأيك ستقوم أزمة بين لبنان والأمم المتحدة بسبب الاتجاه لتغيير مهمات القوات الدولية في الجنوب؟

ج: أنا لا أتصوّر أنَّ الخلاف بين لبنان والأمم المتحدة سوف يبلغ مستوى خطيراً، لأنَّ المسائل المثارة في علاقة لبنان بالأمم المتحدة هي مسألة قوات الأمم المتحدة: هل تخفض وبأية أشهر؟ هل تتحوّل إلى قوات مراقبة؟ إنَّني أتصوّر أنَّ هذه العناوين تتحرّك في الاستهلاك السياسي على مستوى الحرب النفسية ضدّ لبنان، لأنَّنا لو درسنا المسألة دراسة سياسية أمنية واقعية، فإنَّنا نجد أنَّ الأمم المتحدة ومن خلفها أميركا والاتحاد الأوروبي هي التي تملك المصلحة في بقاء الأمم المتحدة في لبنان وليس لبنان بالمعنى الكبير. لماذا؟ لأنَّه مع وجود المقاومة الإسلامية على حدود إسرائيل في جمهورية جديدة تعرف إسرائيل ويعرف الآخرون قدرتها الردعية، ولا نريد أن نتحدّث عن قوّة هائلة توازن قوّة إسرائيل، لكنَّها قوّة قادرة على إزعاج إسرائيل على الأقل، سواء كانت المسألة مسألة القوّة الذاتية للمقاومة الإسلامية أو كانت المسألة مسألة الدعم الإيراني والدعم السوري في إرسال صواريخ بعيدة المدى كما يتحدّث الإعلام الإسرائيلي. فلو انسحبت قوات الأمم المتحدة فمعنى ذلك أنَّ المنطقة الحدودية سوف تستسلم للنصوص الأمنية والتي تفسح المجال لعودة الصراع ضدّ إسرائيل وبالتالي إمكانية امتداد المقاومة التي تعلن دعمها للانتفاضة إلى داخل فلسطين مما يُربك الكثير من الخطوط الحمراء الموضوعة على الخطّ الأزرق وعلى المنطقة أميركياً وأوروبياً.

لذلك أعتقد أنَّ كلّ هذه الضغوط الدبلوماسية بما فيها الاجتماع القادم لمجلس الأمن الذي سيبحث مسألة تحويل قوات الأمم المتحدة إلى قوات مراقبة لن يسقط الموقف اللبناني الذي «شرب حليب السباع» لا أتصوّر أنَّ هذا الضجيج الدولي للأمم المتحدة سوف يغيّر شيئاً من أصول اللعبة ستبقى المقاومة على الحدود حتّى تتحرر مزارع شبعا، ولا أعتقد أنَّ هناك أيّة أحوال سياسية وإقليمية ودولية تسمح للإسرائيليين القيام بحربٍ إسرائيلية ـ سورية أو إسرائيلية ـ لبنانية ـ سورية، فمسألة الحرب الإقليمية خارج فلسطين قد ولّت إلى غير رجعة، لأنَّ المصالح الدولية تفرض ذلك، وأيّ حرب سوف تربك حلّ حلفاء أميركا والسياسة الأميركية التي تحاول أن تركّز قواعدها باعتبار ما تخطّط له من العصر الأميركي في المنطقة.

س: يرزح لبنان اليوم تحت وطأة أزمة اقتصادية خطيرة باعتراف الجميع، برأي سماحتكم كيف يمكن تجاوزها؟ وهل أنت راضٍ عن الطريقة التي تتمّ فيها معالجة الملفات المطروحة؟

ج: إنَّني أعتقد أنَّ الكلمة التي يمكن أن نطلقها على حركة الاقتصاد اللبناني هي كلمة الفوضى، لأنَّ مسألة خصخصة الخدمات العامّة سوف لن يحقّق الكثير للدولة، بل ربَّما لن تسدّ بعض نسب الفوائد على الدين العام، ولأنَّ المشكلة الاقتصادية لـم تنطلق من قلّة المساعدات الدولية التي قد تهدّد بها أميركا وتفضلت علينا بـ 60 مليون دولار أو غيرها. لأنَّه من الطبيعي أن لا يغطي البنك الدولي اقتصادنا كما غطى الاقتصاد التركي، لأنَّ موقع تركيا في الاستراتيجية الأميركية يختلف كثيراً عن موقع لبنان. وأتصوّر أنَّ المسألة الاقتصادية اللبنانية هي مسألة داخلية في طبيعة سياسة الحكومات المتعاقبة وليست مسألة إفرازات الحرب، لأنَّ لبنان كان يعيش حالة من الرخاء وقت الحرب، وليست مسألة وجود المقاومة في الجنوب، لأنَّ المساعدات الدولية الاقتصادية للبنان مهما بلغت فإنَّها لن تصل إلى حجم يمكن أن يغطي الأزمة الاقتصادية في مستوى الدين المتراكم على لبنان.

المسألة هي أنَّ الدولة اللبنانية تُنهب من الداخل، وأنَّ الكثيرين من الكبار قد أثروا على حساب المال العام وأنَّ المال العام ما زال يُنهب وأنَّ المسألة هي مسألة «العين لا تقاوم المخرز» ولا يمكن أن نحاكم هذا النافذ أو ذاك. وأتصوّر أنَّ الحكومة الحالية تحاول جاهدة أن تقدّم خطّة أو حلاً للوضع الاقتصادي، لكن المسألة هي ليست في الخطّة التي نريد أن نرسم، إنَّما من هم الذي ينفذون هذه الخطّة ومن هم الذين يسمحون بالإصلاح الإداري والإصلاح السياسي، ولهذا نجد أنَّ الحركة الاقتصادية في مسألة الخدمات تنطلق من وجود ضغط في هذه المنطقة لتستجيب لها الحكومة وتسكت بعض الأصوات هنا وهناك. لست متشائماً بالمستوى الذي يتحدّث فيه البعض عن الانهيار وأعتقد أنَّ لبنان ممنوع من الانهيار الاقتصادي على أساس اللاءات الثلاث التي كنت أردّدها أيام الحرب، لا تقسيم، لا انهيار، ولا استقرار، لأنَّ لبنان معادلة دولية لـم يستغنِ عنها الواقع الدولي.

وقد دُرس هذا الأمر في أثناء الحرب ووجدوا أنَّ قيمة لبنان هو إنسانه المتميّز الذي لـم يجدوا مثله لا في اليونان ولا قبرص ولا في الخليج. ولذلك لن يُسمح للبنان بأن ينهار كما لن يُسمح له بالاستقرار، وأتصوّر أنَّه من الممكن جداً أن يعطى لبنان بعض الجرعات التي تجعله يتماسك، لكنَّه قد يخرج من غرفة العناية الفائقة ولكن بدور النقاهة لا بدور الصحة.

س: كيف تقيّم أداء الدولة تجاه بعض تجمعات الشباب وما يرافق ذلك من توقيفات؟

ج: كنت أقول أنّي أحمل مصباح «ديوجين» في النهار لأرى لبنانياً فلم أجد إلاَّ الطائفي في لبنان، وأنا أحمل مصباح ديوجين الآن لأرى دولة فلا أرى دولة، هناك مزرعة وليست هناك دولة بالمعنى الذي نفهم فيه معنى الدولة بالعالـم المتحضر، في دولة متحضرة ليس هناك كبير فوق الشعب وليس هناك شعب يخاف من قياداته. في الدول المتحضرة القيادات تخاف من الشعب، في لبنان الشعب يخاف من القيادات والقيادات لا تخاف من الشعب، والدولة تخاف من أمراء الطوائف أن تصلح نفسها، ولذلك عندما يكون الفساد هو طابع الإدارة والسياسة وربَّما القضاء والأمن فأين الدولة؟

س: برأيك هل نعيش اليوم عصراً سياسياً، أم أنَّ العصبيات هي من تحكمنا؟ وأين الحوار الوطني؟

ج: كنت أقول أنَّ على القمة بالمعنى الرسمي لها، إذا أرادت أن ترتفع فلا بُدَّ أن ترتفع إلى مستوى القاعدة، لأنَّ الشعب اللبناني حاور بعضه البعض وأخذ النتائج، وبقي هناك في الأبراج العاجية من يتحدّث عن شروط الحوار. هل هناك مشكلة حوار بين المسلمين والمسيحيين في الجنوب والبقاع والشمال والجبل؟ ليست هناك مشكلة حوار. النّاس يتعايشون في مصانعهم ومزارعهم والنوادي الثقافية والرياضية.. هناك من يحاول أن ينتج العصبية في لبنان وينتج المشاكل في لبنان. هناك الطائفيون من رجال الدين والسياسيين الذين يريدون أن يخلقوا الحساسيات الطائفية في هذه المواقع لهذه الطائفة أو تلك.

إنَّني ألاحظ في مواكبتي للحالة الشعبية أنَّها حالة توحدت بالجوع وتوحدت بالاهتزاز الاقتصادي والأمني والسياسي، لذلك يفتش النّاس عن حياتهم ويحدّقون بالذين سلبوا منهم شروط الحياة فوصلوا من خلال جوع النّاس إلى حدّ التخمة، أمّا بالنسبة للحياة السياسية فهناك اليوم نوعٌ من أنواع الضجيج السياسي، أمّا الحياة السياسية الحقيقية فلا نجد لها موقعاً لأنَّ الحياة السياسية هي الحياة الفاعلة التي يملك فيها تيار سياسي أن يغلب تياراً سياسياً آخر وأن يتحرّك في خطّ التغيير. أمّا في لبنان فالمسألة هي «تحدّث بالسياسة في كلّ المواقع ولكن بدون أن يتغيّر شيء في الأرض».

س: ما الهدف برأيك من إعادة طرح مسألة إقامة دولة شيعية في لبنان، خصوصاً من مثل بعض الصحف العربية؟

ج: لـم يخطر في ذهن أيّ شيعي من أصغر طالب في المدرسة إلى أعلى موقع ديني أو سياسي أن يكون للشيعة دولة في لبنان، إنَّ المسلمين الشيعة كبقية اللبنانيين يريدون أن يعيشوا في لبنان إلى جانب مواطنيهم اللبنانيين في حياة طبيعية من الناحية الاقتصادية والسياسية والتربوية. لـم يفكّر أحد لا بالدولة الشيعية ولا حتّى بالجمهورية الإسلامية على المستوى الواقعي. الشيعة عاشوا في اضطهاد بالتاريخ ويريدون أن يعيشوا مع النّاس ولا يريدون لهم أيّ موقع يستقلون به عن مواطنيهم.

س: كيف تصف علاقتك مع القوى اللبنانية على اختلافها وهل تشعر أنَّك تُغتال سياسياً وسراً ومن أقرب المقربين؟

ج: ليس هناك من يملك اغتيالي سياسياً أو دينياً أو روحياً ليس لأنَّني أحاول الحديث عن تضخيم لشخصيتي، ولكن لأنَّني أؤمن أنَّه لا يستطيع أحدٌ أن يلغي أحداً إذا كان له حضورٌ في الواقع العام وإذا كان يتحرّك من خلال جذور عميقة في الواقع الشعبي. لقد انطلقت منذ البداية وقلبي مفتوحٌ على الجميع. إنَّني ملتزم بالإسلام بكلّ قوّة، ملتزم بخطّ أئمة أهل البيت (عليهم السَّلام) بكلّ دقة، لكنَّني منفتح على المسلمين كلّهم وعلى كلّ الأديان والتيارات بما فيها التيارات العلمانية، لأنَّني أؤمن بأنَّ الإنسان إذا كان من حقّه أن يختلف مع الآخر فمن حقّ الآخر أن يختلف معه بالحوار الإنساني ـ الإنساني وهذا ما أطرحه.

إنَّ الذين يتحدّثون ببعض الأساليب هم الذين يعيشون في زنزاناتهم الذاتية أو الطائفية أو الحزبية، وإنَّني من النّاس الذين تعودت أن أعيش في الهواء الطلق وفي صحو النور ومع الإنسان كلّه. وأتصوّر نفسي في قلب كلّ إنسان يؤمن باللّه وبالحقيقة وبالإنسان، ولهذا لن يملك هؤلاء أن يطفئوه عندما ينطلق من إشراقة الشمس وتلك هي المسألة.

س: ضجت وكالات الأنباء العالمية بخبر البروفسور الإيطالي انتينوري الذي ينوي إجراء أول عملية استنساخ بشري في العالـم. ما هو موقفك من هذا النوع من الاستنساخ؟

ج: إنَّ الاستنساخ سواء كان استنساخاً للحيوان أو للإنسان لا ينافي العقيدة الدينية، لأنَّه ليس خلقاً (ما من خالق إلاَّ اللّه). الخلق هو أن تنتج قانوناً جديداً للوجود يختلف عن القانون الذي وضعه اللّه للخلق. ونحن عندما ندرس الاستنساخ، فإنَّنا نجد أنَّه لن يبتعد عن الخطّ الحيوي للقانون الإلهي في مسألة التوالد. من أين يخلق الكائن الحي؟ هو يخلق من خلية تختزن رقم (46) من الـ Chromosome وهي موزعة بين النطفة (23) والبويضة (23) وعندما تتكامل النطفة في عملية التلقيح تبدأ حركة الحياة في الإنسان الحي. هنا ما الذي يفعله المستنسخون؟ أن يأتوا بخلية تختزن هذا الرقم (46) ثُمَّ يفرغوا البويضة بما فيها من الكروموزومات ويزرعوا فيها هذه الخلية فتكون الخلية (46) ولكنَّها كانت موزعة بين النطفة والبويضة وأصبحت متكاملة في قلب البويضة. إنَّهم لـم يخلقوا قانوناً للوجود، بل صنعوا على القانون الموجود. لذلك نحن نقول ليس هناك عملية خلق في مقابل خلق اللّه. ولكن المسألة التي طرحناها منذ البداية ونطرحها هي أنَّ تجربة استنساخ الحيوان لا مشكلة فيها ولكن تجربة استنساخ الإنسان قد تُربك النظام الإنساني في طبيعة العلاقات، ثُمَّ إنَّها ربَّما تُكلّف الإنسان الذي يقوم في هذه العملية جهداً مالياً لا يحتاجه في إنتاج أيّ إنسان أو أيّ حيوان في الطرق الطبيعية في هذا المجال.

لذلك فلا بُدَّ أن تدرس المسألة من ناحية الواقعية، والتشريع من خلال طبيعة السلبيات والإيجابيات التي تحدث من خلال هذا الاكتشاف الجديد، فإذا كانت السلبيات أكثر فمن الطبيعي أن نحرّم ذلك لا من خلال طبيعة التجربة العلمية، نحن لسنا ضدّ العلم إلاَّ إذا تحوّل العلم إلى عنصر تدمير للبشرية، كما في القنابل الذرية وغيرها، وإذا كانت الإيجابيات أكثر فمرحباً بالاستنساخ البشري.

س: يُقال أنَّ أموالاً شرعية مكدسة في المصارف في حين أنَّ الشباب يُعانون من ضائقة اقتصادية تمنعهم من الزواج وبناء حياةٍ أفضل؟

ج: نعتقد أنَّ المسألة مُبالغ فيها، في الواقع ليست هناك أموال شرعية كبيرة مكدسة في المصارف بحيثُ يمكن أن تحلّ مشكلة ولو جزئية للشباب في مسائل الزواج أو إيجاد سكن وما إلى ذلك. إنَّ أغلب الحقوق الشرعية تُصرف على الفقراء بشكل تدريجي ويومي، والذين يدفعون الحقوق الشرعية هم قلّة وغالباً ما يكونون من الفقراء والطبقة المتوسطة. نحن نتكلّم عن تجربتنا الخاصة، تأتينا مبالغ من الحقوق الشرعية، ولكن نحن نصرف هذه الحقوق في عدّة مواقع. الموقع الأول هو مكتب الخدمات الاجتماعية الذي يُلاحق الفقراء في قراهم ليقدّم لهم ما يمكن من موجودات عينية أو نقدية ويصرف هذا المكتب سنوياً ما يُقارب الـ 15% من الأموال الشرعية. ثُمَّ هناك أيضاً الحوزات الدينية التي يتخصص فيها علماء الدين والذين تصرف لهم مساعدات مالية محدودة تسدّ قسماً من حاجاتهم. وهناك المشاريع الاجتماعية، وقد استطاعت جمعية المبرات الخيرية التي أُشرفُ عليها أن تؤسّس حوالي 25 مبرة، هناك 7 مبرات للأيتام، ومدارس نموذجية ومدرسة للمكفوفين والصم ومن المرجح إنشاء مدرسة للبكم بالإضافة إلى المدارس على مستوى لبنان كلّه تضمّ حوالي 14 ألف تلميذ وتلميذة. وهناك مستشفى (بهمن) وآخر ننوي إنشاءه في بلدة العباسية بصور فضلاً عن المؤسسات الدينية حتّى أنَّنا أسّسنا بعض المساجد في درعا السورية وننفق على الفقراء بمنطقة السيِّدة زينب (ع) ممن هجّروا من العراق وغيرها ولدينا حوزة هناك أيضاً. لذلك نحن نُعاني مشكلة في الميزانية لا تخمة في الأموال. يُضاف إلى ذلك المساعدات التي نقدّمها للشباب الذي ينوي الزواج والمقاومة والانتفاضة حوالي ربع مليون دولار، وهذا طبعاً من خلال المحسنين لذلك نحن نعاني مشكلة في الرصيد المالي لا العكس.

التقت «الحوادث» سماحة آية اللّه العظمى السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه (حفظه المولى) وحاورته حول شؤون وقضايا محلية وعربية، فرأى أنَّ الخلاف بين لبنان والأمم المتحدة لن يبلغ مستوىً خطيراً، لأنَّ للمنظمة الدولية مصلحة في البقاء بلبنان، أمّا على المستوى الداخلي رأى أن لا مشكلة حوار بين اللبنانيين، إنَّما المشكلة هي في من يحاول إنتاج العصبية في لبنان، وغير ذلك من أمور.

أجرت الحوار من بيروت بارعة الفقيه، ونشر على صفحات «الحوادث» في 17 آب، 2001 وقد جاء فيه:

رجلٌ تخطى الزمن بأشواط، إنسان عشق إنسانية الآخرين، علاّمة لـم يتوسل الدّين غاية، مثقف في عالـم شحّ مثقفوه، شاعرٌ يأبى الاعتراف، كبيرٌ نادر تواضعه. هو المرجع المجدّد والعلاّمة المتنور السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه، رمز الجهاد والممانعة وأحد أعلام المقاومة الذي بقي رمحاً منصباً رغم جميع التحدّيات.

إيمانه باللّه والحقيقة أفشل مساعي التصفية السياسيّة والمعنويّة وحملات التشهير من النيل منه، رفض الغموض لأنَّه تعود العيش في الهواء الطلق وصحو النهار، استطاع أن يتجاوز الإطار المذهبي الضيّق إلى المدى الإسلامي الرحب والبُعد الإنساني الشامل جامعاً حوله آلاف المتعطشين لدولة الإنسان.

الحوار مع العلاّمة فضل اللّه متعة سامية تسبح معها الروح في عالـم تعشقه إنسانية الإنسان. تسأله عن أحوال لبنان فيجيبك وجدان الأب العطوف، تستوضحه عن هموم الانتفاضة والقدس فيهب ضمير العربي الأبي.. تسأله عن الأديان والتيارات والاختلاف فيأبى الحديث إلاَّ عن الإنسان..

«الحوادث» التقت العلاّمة فضل اللّه وحاورته حول شؤون وشجون الساحتين اللبنانية والعربية.

س: أمّا وقد وصلت الأوضاع إلى هذا التعقيد في فلسطين المحتلة وخصوصاً في موضوع القدس.. ما رأي سماحتكم بالحركات الصهيونية التي تحاول نفض الغبار عن تاريخ مزعوم لهيكل مزعوم؟

ج: عندما انطلقت الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر كانت تحاول تأسيس موقع يهودي يدخل السياسة العالمية من باب واسع، ومن الطبيعي أنَّ هذه المسألة كانت بحاجة إلى إيجاد أرضية تاريخية تجتذب يهود العالـم تُقنع من خلالها الرأي العام العالمي ولا سيّما الغربي، واستطاعت الحركة الصهيونية بتأثيرها على البروتستانت أن تعطي لحركتها قداسة التاريخ المسيحي الذي يتفاعل فيه العهد الجديد مع العهد القديـم لتكون مسألة أرض الميعاد ومسألة الهيكل وما إلى ذلك حقائق دينية تفرض نفسها على الوجدان المسيحي بالإضافة إلى الشخصية اليهودية.

ولهذا كان اليهود بحاجة إلى تاريخ مقدّس في فلسطين وفي القدس بالذات، فأنتجوا قضية الهيكل، الذي يُقال أنَّه تحت المسجد الأقصى، ليشكل بذلك جزءاً من التاريخ المزعوم الذي استطاع أن يأخذ له موقعاً كبيراً في العالـم. ولذلك انطلقت الحركة الصهيونية من أجل تحويل اليهودية إلى قومية إلى جانب كونها خطّاً دينياً، مستفيدة من الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود في التاريخ حيث كان المسيحيون يحتقرون اليهود وأضيف إليه ما جرى لليهود وما رافق ذلك من أساطير وكتب في التاريخ الحديث من قبل هتلر خلال الحرب العالمية الثانية أعدّت حول المحرقة النازية بشكل مضخم جداً حيثُ استطاع أن يثقل ضمير العالـم الغربي الذي تحمّل مسؤولية ذلك كلّه ولـم يستطع أيّ باحث أو مؤرخ بإعادة القضية إلى نصابها الواقعي الطبيعي بعنوان أنَّ ذلك يمثِّل معاداة للسامية، الشعار الذي يرفعه اليهود بوجه كلّ من يواجه المسألة اليهودية. إنَّ كلّ المفردات اليهودية على المستوى التاريخي والسياسي والإنساني تمثِّل خطّة مترابطة من أجل أن تتجذر المسألة اليهودية في وجدان العالـم، وقد نجحوا نجاحاً كبيراً في هذا المجال، لأنَّهم استخدموا كلّ مفاصل القوّة عندهم واستطاعوا أن يوزعوا اليهود على المواقع الحيوية في العالـم ولا سيّما المواقع الاقتصادية والإعلامية التي استطاعت أن تنتج مواقعاً سياسية كما هو الحال في أمريكا وأوروبا وروسيا، وقد فعل اليهود ذلك، لأنَّهم يريدون أن يؤكّدوا وجوداً عميقاً في واقع السياسة الدولية لـم يكن له تاريخ في هذا المجال، ومن الطبيعي أنَّهم منسجمون مع أنفسهم، والمسألة الأساس هي في عدم انطلاق العرب والمسلمون معهم وهم يملكون تاريخاً يحمل جذوراً عميقة في وجدان العالـم سواء في بعض جوانب السلب أو الإيجاب، لكنَّهم أهملوا هذا التاريخ، واعتمدوا على الذاكرة التي نعرف أنَّها إذا لـم يلاحقها المعنيون بها فإنَّها تغيب أو تفسح المجال لكلّ الذين يحاولون التخفيف من وهجها وعمقها.

س: كيف تتوقعون انتهاء حرب الاستنزاف الدائرة اليوم في الأراضي المحتلة خصوصاً أنَّ العالـم العربي يقف في صفوف المتفرجين؟

ج: إنَّنا عندما نذكر العالـم العربي فإنَّ لي كلمة منذ مدّة طويلة تتكرر في أحاديثي وهي أنَّ العرب منذ أن أسقطوا اللاءات الثلاثة: لا مفاوضات ولا صلح ولا اعتراف، بدأوا يخطّطون للتحرر من القضية الفلسطينية لأنَّهم شعروا بالتعب منها وخاصة أنَّها في حركيتها الثورية بدأت تهدّد مواقع المسؤولين العرب، لأنَّها تثير الوعي العميق لدى الشعوب العربية التي سوف تفكّر بطريقة جديدة، لا سيّما أنَّ الجراح التي تصنعها الانتفاضة في جسم الأمّة تثير الآلام الكبيرة التي قد تفجّر القضايا الكبيرة، لذلك فإنَّ مسألة العرب في القضية الفلسطينية أصبحت تشبه مسألة رفع العتب على طريقة المتنبي:

لا خيل عندك تهديها ولا مال         فليسعد النطق إن لـم تسعد الحال.

وأنا أتصوّر أنَّ الانتفاضة استطاعت أن تجد طريقاً نحو الامتداد والاستمرار لأنَّه لا خيار آخر للفلسطينيين أمام طروحات شارون الذي يريد أن ينسف كلّ الاتفاقات حتّى في المفاوضات بما في ذلك اتفاق أوسلو، ولهذا فالقضية «البحر وراءكم والعدوّ أمامكم» ولهذا فإنَّني أتوقع أن تبقى هذه لا جبهة مشتعلة لتحرج إسرائيل أكثر ولتحشرها في المأزق الأمني الذي بدأ يؤثر على المأزق الاقتصادي بشكل كبير جداً.

س: هل الانتفاضة قادرة لوحدها على التحرير أم أنَّ الثورات بحاجة إلى قوّة تدعمها عندما تبلغ أوج تحرّكها؟

ج: إنَّ قوّة الانتفاضة هي أنَّها حركة شعب وليس حركة حزب معيّن حتّى ليست في امتداداتها حركة سلطة الحكم الذاتي بالرغم من أنَّ سلطة الحكم الذاتي ما تزال تمثِّل موقعاً قيادياً للانتفاضة، لكنَّ اليهود يصنعون في كلّ يوم جذوة جديدة بوجدان الشعب الفلسطيني. إنَّنا عندما نتابع تشييع جنازات الشهداء نجد أنَّ هناك وعياً وتجذيراً للشعارات الثورية والاستمرار بالانتفاضة وفرحاً روحياً بالشهادة، وأعتقد أنَّه ليس باستطاعة أيّة قيادة فلسطينية أن توقف الانتفاضة حتّى لو مورست عليها ضغوط كبيرة من هنا وهناك فإنَّ هناك أكثر من ثغرة تفسح المجال للانتفاضة بالاستمرار والتمدّد. إنَّ المسألة التاريخية في هذه الانتفاضة هي أنَّه لا انتفاضة بعدها إذا توقفت، لأنَّ الفلسطينيين أعطوا كلّ طاقاتهم فيها.

قد يلاحظ أنَّ هناك أكثر من نقطة ضعف في الواقع الفلسطيني، هناك الحصار الاقتصادي والجغرافي والتقتيل اليومي والاغتيالات مع العجز العربي، لكنَّ الانتفاضة أثقلت ضمير العالـم، حتّى أنَّنا عندما ندرس السياسة الأميركية في مسألة الانتفاضة، فإنَّنا نرى هناك حالة إحراج للإدارة الأميركية التي ما تزال تدعم إسرائيل بحيثُ تشعر أنَّها تعيش نوعاً من المأزق. لذلك تحاول أن تتوزع الأدوار في التعبير عن الموقف الأميركي، ونلاحظ أنَّ أسلوب الرئيس بوش الذي يحاول أن يتوجه به للإسرائيليين للحفاظ على دعم اللوبي اليهودي له في الكونغرس الأميركي يختلف عن الأسلوب الذي يستخدمه وزير الخارجية الأميركي كولن باول في استنكار بعض ما تقوم به إسرائيل من عمليات اغتيال، وهذا يمثِّل نوعاً من المأزق الذي يشعر به الأميركيون، لأنَّ العالـم العربي بدأ يبتعد عن أميركا، وأصبح يضغط على أنظمته للوقوف في وجهها ويعتبرها الشيطان الأكبر. إنَّ المحللين السياسيين في الإدارة الأميركية بدأوا يثيرون الخطر في تحليلاتهم من موقف الشعوب العربيّة والإسلاميّة من السياسة الأميركية في المنطقة وهذا ما تفسِّره دعوات أميركا لرعاياها في العالـم العربي والإسلامي أن يكونوا حذرين.

س: ما هو مدى صمود الفلسطينيين في هذا الوضع العربي والتعنّت الشاروني؟

ج: أنا أختلف مع الإعلام الذي يحاول أن يصوّر شارون كفزاعة أمنية لا يملك أحد أن يضبطها لأنَّه يعيش جنون الجريمة.. إنَّ شارون يخضع لخطوط حمراء في داخل الساحة الفلسطينية وكلّ حديث عن أنَّه يفكّر مع القيادة العسكرية الصهيونية باجتياح أراضي سلطة الحكم الذاتي هو كلام للاستهلاك الإعلامي الذي يتحرّك بإطار الحرب النفسية. لأنَّ العالـم كلّه لا يوافق ومنطقة الحكم الذاتي وجدت لتبقى، وإذا كان شارون يتوغل 500 مترا أو أكثر داخل أراضي السلطة الفلسطينية (ليهدم) فإنَّه يتراجع رأساً ويحاول أن يبرر هذه الحركات بأنَّها دفاع عن النفس.

لهذا أن يُقال أنَّ شارون يملك القيام بعمل كبير يلغي فيه الانتفاضة بالقوّة العسكرية قد لا تكون مسألة واقعية، نحن لا نتحدّث بالمطلق، ولكن بحساب المعطيات السياسية المحيطة بالقضية الفلسطينية والتي ترتبط بالمصالح الأميركية والروسية والأوروبية والصينية في العالـم والتي لا يمكن أن تعطي شارون الضوء الأخضر الكبير في هذا المجال.

ومن هنا قوّة الانتفاضة أنَّها دخلت في ضمير العالـم ووجدانه وأصبح هذا النهر من الدماء الذي يتدفق في كلّ يوم وينقله الإعلام العالمي يمثِّل نوعاً من أنواع الحدث الذي تدخل المشاعر الإنسانية في الرأي العام العالمي بشكل هادئ تدريجي إلى أن يغطي على وجدانه، تماماً كما كانت مجزرة صبرا وشاتيلا ومجزرة قانا. إنَّها تمثِّل قانا متحركة وصبرا وشاتيلا متحركة، وأعتقد أنَّ الزمن ليس لصالح الإسرائيليين إنَّما يتحرّك لصالح الفلسطينيين، صحيح قد تنطلق بعض العمليات الفاشلة لكنَّها تخلق قلقاً وخوفاً بحيثُ لا يشعر أيّ إسرائيلي بالأمن. وبرأيي أنَّ دعوات شارون للعالـم بوقف الانتفاضة هي دليل على عدم تحمّله امتدادها.

س: ما هو الحلّ المرتجى للقدس في ظلّ الطغيان الإسرائيلي والموقف العربي الجامع حول عروبتها؟

ج: لا أستطيع أن أفصل القدس عن قضية فلسطين، ولعلّ قضية القدس أثيرت باعتبارها تمثِّل عنواناً مقدساً لدى المسلمين والمسيحيين لاجتذاب المشاعر الدينيّة التي يمكن أن تتحرّك في القضية الفلسطينيّة، ولهذا فإنَّ قضية القدس مرتبطة بالقضية الفلسطينية، ولا يمكن حلّ القضية الفلسطينية دون أن تحلّ قضية القدس. إنَّ القدس هي أساس المشكلة في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ومن خلالها لا يملك العرب ولا المسلمون أن يكونوا على حياد في قضية القدس. وأتصوّر لو أنَّ عرفات قدّم القدس لإسرائيل لكانت قد تنازلت له عن كلّ الضفة الغربية وغزة، لكن القدس هي الأساس، لأنَّها معنى إسرائيل وبدونها لا معنى لإسرائيل، والقدس هي معنى فلسطين وبدونها لا معنى لفلسطين، ولذلك هي نقطة الصراع التي تترك تأثيراتها سلباً أو إيجابياً على مجمل القضايا الأخرى المتصلة بالقضية الفلسطينية. ولهذا لن تموت قضية القدس، ولن يملك العرب التنازل عنها، وهذا ما يجعل إسرائيل تكرر بمناسبة وغير مناسبة أنَّ القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل.

س: في ظلّ الحصار الديبلوماسي المفروض على لبنان، هل برأيك ستقوم أزمة بين لبنان والأمم المتحدة بسبب الاتجاه لتغيير مهمات القوات الدولية في الجنوب؟

ج: أنا لا أتصوّر أنَّ الخلاف بين لبنان والأمم المتحدة سوف يبلغ مستوى خطيراً، لأنَّ المسائل المثارة في علاقة لبنان بالأمم المتحدة هي مسألة قوات الأمم المتحدة: هل تخفض وبأية أشهر؟ هل تتحوّل إلى قوات مراقبة؟ إنَّني أتصوّر أنَّ هذه العناوين تتحرّك في الاستهلاك السياسي على مستوى الحرب النفسية ضدّ لبنان، لأنَّنا لو درسنا المسألة دراسة سياسية أمنية واقعية، فإنَّنا نجد أنَّ الأمم المتحدة ومن خلفها أميركا والاتحاد الأوروبي هي التي تملك المصلحة في بقاء الأمم المتحدة في لبنان وليس لبنان بالمعنى الكبير. لماذا؟ لأنَّه مع وجود المقاومة الإسلامية على حدود إسرائيل في جمهورية جديدة تعرف إسرائيل ويعرف الآخرون قدرتها الردعية، ولا نريد أن نتحدّث عن قوّة هائلة توازن قوّة إسرائيل، لكنَّها قوّة قادرة على إزعاج إسرائيل على الأقل، سواء كانت المسألة مسألة القوّة الذاتية للمقاومة الإسلامية أو كانت المسألة مسألة الدعم الإيراني والدعم السوري في إرسال صواريخ بعيدة المدى كما يتحدّث الإعلام الإسرائيلي. فلو انسحبت قوات الأمم المتحدة فمعنى ذلك أنَّ المنطقة الحدودية سوف تستسلم للنصوص الأمنية والتي تفسح المجال لعودة الصراع ضدّ إسرائيل وبالتالي إمكانية امتداد المقاومة التي تعلن دعمها للانتفاضة إلى داخل فلسطين مما يُربك الكثير من الخطوط الحمراء الموضوعة على الخطّ الأزرق وعلى المنطقة أميركياً وأوروبياً.

لذلك أعتقد أنَّ كلّ هذه الضغوط الدبلوماسية بما فيها الاجتماع القادم لمجلس الأمن الذي سيبحث مسألة تحويل قوات الأمم المتحدة إلى قوات مراقبة لن يسقط الموقف اللبناني الذي «شرب حليب السباع» لا أتصوّر أنَّ هذا الضجيج الدولي للأمم المتحدة سوف يغيّر شيئاً من أصول اللعبة ستبقى المقاومة على الحدود حتّى تتحرر مزارع شبعا، ولا أعتقد أنَّ هناك أيّة أحوال سياسية وإقليمية ودولية تسمح للإسرائيليين القيام بحربٍ إسرائيلية ـ سورية أو إسرائيلية ـ لبنانية ـ سورية، فمسألة الحرب الإقليمية خارج فلسطين قد ولّت إلى غير رجعة، لأنَّ المصالح الدولية تفرض ذلك، وأيّ حرب سوف تربك حلّ حلفاء أميركا والسياسة الأميركية التي تحاول أن تركّز قواعدها باعتبار ما تخطّط له من العصر الأميركي في المنطقة.

س: يرزح لبنان اليوم تحت وطأة أزمة اقتصادية خطيرة باعتراف الجميع، برأي سماحتكم كيف يمكن تجاوزها؟ وهل أنت راضٍ عن الطريقة التي تتمّ فيها معالجة الملفات المطروحة؟

ج: إنَّني أعتقد أنَّ الكلمة التي يمكن أن نطلقها على حركة الاقتصاد اللبناني هي كلمة الفوضى، لأنَّ مسألة خصخصة الخدمات العامّة سوف لن يحقّق الكثير للدولة، بل ربَّما لن تسدّ بعض نسب الفوائد على الدين العام، ولأنَّ المشكلة الاقتصادية لـم تنطلق من قلّة المساعدات الدولية التي قد تهدّد بها أميركا وتفضلت علينا بـ 60 مليون دولار أو غيرها. لأنَّه من الطبيعي أن لا يغطي البنك الدولي اقتصادنا كما غطى الاقتصاد التركي، لأنَّ موقع تركيا في الاستراتيجية الأميركية يختلف كثيراً عن موقع لبنان. وأتصوّر أنَّ المسألة الاقتصادية اللبنانية هي مسألة داخلية في طبيعة سياسة الحكومات المتعاقبة وليست مسألة إفرازات الحرب، لأنَّ لبنان كان يعيش حالة من الرخاء وقت الحرب، وليست مسألة وجود المقاومة في الجنوب، لأنَّ المساعدات الدولية الاقتصادية للبنان مهما بلغت فإنَّها لن تصل إلى حجم يمكن أن يغطي الأزمة الاقتصادية في مستوى الدين المتراكم على لبنان.

المسألة هي أنَّ الدولة اللبنانية تُنهب من الداخل، وأنَّ الكثيرين من الكبار قد أثروا على حساب المال العام وأنَّ المال العام ما زال يُنهب وأنَّ المسألة هي مسألة «العين لا تقاوم المخرز» ولا يمكن أن نحاكم هذا النافذ أو ذاك. وأتصوّر أنَّ الحكومة الحالية تحاول جاهدة أن تقدّم خطّة أو حلاً للوضع الاقتصادي، لكن المسألة هي ليست في الخطّة التي نريد أن نرسم، إنَّما من هم الذي ينفذون هذه الخطّة ومن هم الذين يسمحون بالإصلاح الإداري والإصلاح السياسي، ولهذا نجد أنَّ الحركة الاقتصادية في مسألة الخدمات تنطلق من وجود ضغط في هذه المنطقة لتستجيب لها الحكومة وتسكت بعض الأصوات هنا وهناك. لست متشائماً بالمستوى الذي يتحدّث فيه البعض عن الانهيار وأعتقد أنَّ لبنان ممنوع من الانهيار الاقتصادي على أساس اللاءات الثلاث التي كنت أردّدها أيام الحرب، لا تقسيم، لا انهيار، ولا استقرار، لأنَّ لبنان معادلة دولية لـم يستغنِ عنها الواقع الدولي.

وقد دُرس هذا الأمر في أثناء الحرب ووجدوا أنَّ قيمة لبنان هو إنسانه المتميّز الذي لـم يجدوا مثله لا في اليونان ولا قبرص ولا في الخليج. ولذلك لن يُسمح للبنان بأن ينهار كما لن يُسمح له بالاستقرار، وأتصوّر أنَّه من الممكن جداً أن يعطى لبنان بعض الجرعات التي تجعله يتماسك، لكنَّه قد يخرج من غرفة العناية الفائقة ولكن بدور النقاهة لا بدور الصحة.

س: كيف تقيّم أداء الدولة تجاه بعض تجمعات الشباب وما يرافق ذلك من توقيفات؟

ج: كنت أقول أنّي أحمل مصباح «ديوجين» في النهار لأرى لبنانياً فلم أجد إلاَّ الطائفي في لبنان، وأنا أحمل مصباح ديوجين الآن لأرى دولة فلا أرى دولة، هناك مزرعة وليست هناك دولة بالمعنى الذي نفهم فيه معنى الدولة بالعالـم المتحضر، في دولة متحضرة ليس هناك كبير فوق الشعب وليس هناك شعب يخاف من قياداته. في الدول المتحضرة القيادات تخاف من الشعب، في لبنان الشعب يخاف من القيادات والقيادات لا تخاف من الشعب، والدولة تخاف من أمراء الطوائف أن تصلح نفسها، ولذلك عندما يكون الفساد هو طابع الإدارة والسياسة وربَّما القضاء والأمن فأين الدولة؟

س: برأيك هل نعيش اليوم عصراً سياسياً، أم أنَّ العصبيات هي من تحكمنا؟ وأين الحوار الوطني؟

ج: كنت أقول أنَّ على القمة بالمعنى الرسمي لها، إذا أرادت أن ترتفع فلا بُدَّ أن ترتفع إلى مستوى القاعدة، لأنَّ الشعب اللبناني حاور بعضه البعض وأخذ النتائج، وبقي هناك في الأبراج العاجية من يتحدّث عن شروط الحوار. هل هناك مشكلة حوار بين المسلمين والمسيحيين في الجنوب والبقاع والشمال والجبل؟ ليست هناك مشكلة حوار. النّاس يتعايشون في مصانعهم ومزارعهم والنوادي الثقافية والرياضية.. هناك من يحاول أن ينتج العصبية في لبنان وينتج المشاكل في لبنان. هناك الطائفيون من رجال الدين والسياسيين الذين يريدون أن يخلقوا الحساسيات الطائفية في هذه المواقع لهذه الطائفة أو تلك.

إنَّني ألاحظ في مواكبتي للحالة الشعبية أنَّها حالة توحدت بالجوع وتوحدت بالاهتزاز الاقتصادي والأمني والسياسي، لذلك يفتش النّاس عن حياتهم ويحدّقون بالذين سلبوا منهم شروط الحياة فوصلوا من خلال جوع النّاس إلى حدّ التخمة، أمّا بالنسبة للحياة السياسية فهناك اليوم نوعٌ من أنواع الضجيج السياسي، أمّا الحياة السياسية الحقيقية فلا نجد لها موقعاً لأنَّ الحياة السياسية هي الحياة الفاعلة التي يملك فيها تيار سياسي أن يغلب تياراً سياسياً آخر وأن يتحرّك في خطّ التغيير. أمّا في لبنان فالمسألة هي «تحدّث بالسياسة في كلّ المواقع ولكن بدون أن يتغيّر شيء في الأرض».

س: ما الهدف برأيك من إعادة طرح مسألة إقامة دولة شيعية في لبنان، خصوصاً من مثل بعض الصحف العربية؟

ج: لـم يخطر في ذهن أيّ شيعي من أصغر طالب في المدرسة إلى أعلى موقع ديني أو سياسي أن يكون للشيعة دولة في لبنان، إنَّ المسلمين الشيعة كبقية اللبنانيين يريدون أن يعيشوا في لبنان إلى جانب مواطنيهم اللبنانيين في حياة طبيعية من الناحية الاقتصادية والسياسية والتربوية. لـم يفكّر أحد لا بالدولة الشيعية ولا حتّى بالجمهورية الإسلامية على المستوى الواقعي. الشيعة عاشوا في اضطهاد بالتاريخ ويريدون أن يعيشوا مع النّاس ولا يريدون لهم أيّ موقع يستقلون به عن مواطنيهم.

س: كيف تصف علاقتك مع القوى اللبنانية على اختلافها وهل تشعر أنَّك تُغتال سياسياً وسراً ومن أقرب المقربين؟

ج: ليس هناك من يملك اغتيالي سياسياً أو دينياً أو روحياً ليس لأنَّني أحاول الحديث عن تضخيم لشخصيتي، ولكن لأنَّني أؤمن أنَّه لا يستطيع أحدٌ أن يلغي أحداً إذا كان له حضورٌ في الواقع العام وإذا كان يتحرّك من خلال جذور عميقة في الواقع الشعبي. لقد انطلقت منذ البداية وقلبي مفتوحٌ على الجميع. إنَّني ملتزم بالإسلام بكلّ قوّة، ملتزم بخطّ أئمة أهل البيت (عليهم السَّلام) بكلّ دقة، لكنَّني منفتح على المسلمين كلّهم وعلى كلّ الأديان والتيارات بما فيها التيارات العلمانية، لأنَّني أؤمن بأنَّ الإنسان إذا كان من حقّه أن يختلف مع الآخر فمن حقّ الآخر أن يختلف معه بالحوار الإنساني ـ الإنساني وهذا ما أطرحه.

إنَّ الذين يتحدّثون ببعض الأساليب هم الذين يعيشون في زنزاناتهم الذاتية أو الطائفية أو الحزبية، وإنَّني من النّاس الذين تعودت أن أعيش في الهواء الطلق وفي صحو النور ومع الإنسان كلّه. وأتصوّر نفسي في قلب كلّ إنسان يؤمن باللّه وبالحقيقة وبالإنسان، ولهذا لن يملك هؤلاء أن يطفئوه عندما ينطلق من إشراقة الشمس وتلك هي المسألة.

س: ضجت وكالات الأنباء العالمية بخبر البروفسور الإيطالي انتينوري الذي ينوي إجراء أول عملية استنساخ بشري في العالـم. ما هو موقفك من هذا النوع من الاستنساخ؟

ج: إنَّ الاستنساخ سواء كان استنساخاً للحيوان أو للإنسان لا ينافي العقيدة الدينية، لأنَّه ليس خلقاً (ما من خالق إلاَّ اللّه). الخلق هو أن تنتج قانوناً جديداً للوجود يختلف عن القانون الذي وضعه اللّه للخلق. ونحن عندما ندرس الاستنساخ، فإنَّنا نجد أنَّه لن يبتعد عن الخطّ الحيوي للقانون الإلهي في مسألة التوالد. من أين يخلق الكائن الحي؟ هو يخلق من خلية تختزن رقم (46) من الـ Chromosome وهي موزعة بين النطفة (23) والبويضة (23) وعندما تتكامل النطفة في عملية التلقيح تبدأ حركة الحياة في الإنسان الحي. هنا ما الذي يفعله المستنسخون؟ أن يأتوا بخلية تختزن هذا الرقم (46) ثُمَّ يفرغوا البويضة بما فيها من الكروموزومات ويزرعوا فيها هذه الخلية فتكون الخلية (46) ولكنَّها كانت موزعة بين النطفة والبويضة وأصبحت متكاملة في قلب البويضة. إنَّهم لـم يخلقوا قانوناً للوجود، بل صنعوا على القانون الموجود. لذلك نحن نقول ليس هناك عملية خلق في مقابل خلق اللّه. ولكن المسألة التي طرحناها منذ البداية ونطرحها هي أنَّ تجربة استنساخ الحيوان لا مشكلة فيها ولكن تجربة استنساخ الإنسان قد تُربك النظام الإنساني في طبيعة العلاقات، ثُمَّ إنَّها ربَّما تُكلّف الإنسان الذي يقوم في هذه العملية جهداً مالياً لا يحتاجه في إنتاج أيّ إنسان أو أيّ حيوان في الطرق الطبيعية في هذا المجال.

لذلك فلا بُدَّ أن تدرس المسألة من ناحية الواقعية، والتشريع من خلال طبيعة السلبيات والإيجابيات التي تحدث من خلال هذا الاكتشاف الجديد، فإذا كانت السلبيات أكثر فمن الطبيعي أن نحرّم ذلك لا من خلال طبيعة التجربة العلمية، نحن لسنا ضدّ العلم إلاَّ إذا تحوّل العلم إلى عنصر تدمير للبشرية، كما في القنابل الذرية وغيرها، وإذا كانت الإيجابيات أكثر فمرحباً بالاستنساخ البشري.

س: يُقال أنَّ أموالاً شرعية مكدسة في المصارف في حين أنَّ الشباب يُعانون من ضائقة اقتصادية تمنعهم من الزواج وبناء حياةٍ أفضل؟

ج: نعتقد أنَّ المسألة مُبالغ فيها، في الواقع ليست هناك أموال شرعية كبيرة مكدسة في المصارف بحيثُ يمكن أن تحلّ مشكلة ولو جزئية للشباب في مسائل الزواج أو إيجاد سكن وما إلى ذلك. إنَّ أغلب الحقوق الشرعية تُصرف على الفقراء بشكل تدريجي ويومي، والذين يدفعون الحقوق الشرعية هم قلّة وغالباً ما يكونون من الفقراء والطبقة المتوسطة. نحن نتكلّم عن تجربتنا الخاصة، تأتينا مبالغ من الحقوق الشرعية، ولكن نحن نصرف هذه الحقوق في عدّة مواقع. الموقع الأول هو مكتب الخدمات الاجتماعية الذي يُلاحق الفقراء في قراهم ليقدّم لهم ما يمكن من موجودات عينية أو نقدية ويصرف هذا المكتب سنوياً ما يُقارب الـ 15% من الأموال الشرعية. ثُمَّ هناك أيضاً الحوزات الدينية التي يتخصص فيها علماء الدين والذين تصرف لهم مساعدات مالية محدودة تسدّ قسماً من حاجاتهم. وهناك المشاريع الاجتماعية، وقد استطاعت جمعية المبرات الخيرية التي أُشرفُ عليها أن تؤسّس حوالي 25 مبرة، هناك 7 مبرات للأيتام، ومدارس نموذجية ومدرسة للمكفوفين والصم ومن المرجح إنشاء مدرسة للبكم بالإضافة إلى المدارس على مستوى لبنان كلّه تضمّ حوالي 14 ألف تلميذ وتلميذة. وهناك مستشفى (بهمن) وآخر ننوي إنشاءه في بلدة العباسية بصور فضلاً عن المؤسسات الدينية حتّى أنَّنا أسّسنا بعض المساجد في درعا السورية وننفق على الفقراء بمنطقة السيِّدة زينب (ع) ممن هجّروا من العراق وغيرها ولدينا حوزة هناك أيضاً. لذلك نحن نُعاني مشكلة في الميزانية لا تخمة في الأموال. يُضاف إلى ذلك المساعدات التي نقدّمها للشباب الذي ينوي الزواج والمقاومة والانتفاضة حوالي ربع مليون دولار، وهذا طبعاً من خلال المحسنين لذلك نحن نعاني مشكلة في الرصيد المالي لا العكس.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير