حول الإستنساخ، الآثار الدينية والإجتماعية

حول الإستنساخ، الآثار الدينية والإجتماعية

سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله رأى أنه لا بدّ لنا من أن نترك العلم يحرك إيجابياته في مصلحة الإنسان:

غالباً ما تشكل فتاوى المرجع الشيعي العلامة السيد محمد حسين فضل الله تصوراً تجديدياً في مقاربة الإسلام للقضايا المطروحة. وليس مبالغة القول إن معظم فتاويه تثير نقاشاً غنياً على المستويين الفقهي والفكري، فهي تحظى بحماسة المتنورين و«ترجم» ممّن يسميهم «أهل الكهوف والمغارات» في إشارة إلى تخلفهم.

ومواقف هذا المرجع، الذي لا يعوز الكلام الكثير عن علمه في الفقه وسعته في الثقافة ورجحانه في قضايا الفلسفة والحياة، من المتحديات التي يواجهها الإسلام، تخرج عن المألوف أحياناً، كموقفه الأخير من الاستنساخ.

فقد اعتبر السيد فضل الله أن الاستنساخ كحدث علمي لا يتحدى العقيدة الدينية بأن الله وحده الخالق، لافتاً إلى «أن العلماء اهتدوا إلى القانون الإلهي لولادة الكائن الحي، وكل اكتشافات الإنسان واختراعاته لم تستطع أن تصنع قانوناً، بل استهدت القوانين المودعة في الكون، والإنسان لا يملك أسرار ومعطيات خلق القانون».

وشدد في حديث إلى «الرأي العام» على «أن العلم هو هبة الله للإنسان، والمشكلة ليست في العلم، بل في سوء استخدامه»، وعلى «أن الخروج عن المألوف لا يمثل كارثة إنسانية، والإسلام اعتبر العقل قاعدة للمسؤولية وأساساً لسلامة الفكر، ولكن المسألة أن البعض لا يزالون يعيشون في كهوف التخلف ومغارات الماضي ولا يفهمون القاعدة الأساسية للإسلام ويرجمون كل جديد بالكفر والزندقة والضلال».

وأوضح فضل الله أنه ليس مع تعميم ظاهرة الاستنساخ وليس مع تقليصها. وبعدما شرح مساوئها وحسناتها، شدد على «أن هذه الظاهرة سوف تبقى في حدودها العلمية ولن يُهيأ لها الانتشار، وبالتالي لا خطر على الإنسانية من خلال هذه التجارب، مع الإشارة إلى أن التشريع الإسلامي ينطلق من أن المفسدة في أي موضوع إذا غلبت على المصلحة كان الحرام والعكس صحيح».

وخالف المرجع الشيعي الفاتيكان والأزهر بأن الاستنساخ عبث بالإنسان أو مس بكرامته، متسائلاً:«أليس أخذ عين أو كلية أو قلب من إنسان وزرعها في إنسان اخر عبث باعضاء الإنسان؟». ورأى أنه إذا تحول الاستنساخ معالجة لبعض مشاكل الإنسان فإن ذلك يمثل كرامة الإنسان، داعياً الناس إلى دق أبواب علماء الاجتماع والنفس والقانون لمعرفة النتائج الإيجابية والسلبية للاستنساخ وعدم دق أبواب الفقهاء، موضحاً «أن الاستنساخ لا يلغي التطور الإنساني الذاتي فيما يمكن أن يتحرك فيه فكر الإنسان في اتجاهات وعواطف جديدة، وبالتالي لا حاجة إلى استنساخ هتلر أو نيرون جديدين أو غيرهما، لأن الطريقة الطبيعية في التناسل والظروف الموضوعية تصنع لنا مثلهم بطريقة أو أخرى». وفي ما يأتي نص الحديث:

الاستنساخ اكتشاف وليس قانوناً:

س:  الطفلة المستنسخة «حواء» انتقلت إلى منزلها. كيف تنظر إلى ظاهرة استنساخ البشر بعد الحيوان؟

ج:  في البداية لا بدّ من ملاحقة هذا الخبر للتعرف على واقعيته، لأنه من الممكن جداً في غياب وجود أدلة حسية أو علمية أن يكون وارداً على أسلوب الدعاية للجهة التي كانت وراء هذا الحدث، حتى لا يعيش العالم في حالة طوارئ أمام ولادة إنسان مستنسخ جديد على أساس بداية الكارثة الجديدة في حياة الإنسان.

أما المسألة في بعدها الثقافي العقيدي ، فأكدنا أكثر من مرة أن الاستنساخ كحدث علمي، هو تحرك للإنسان في الانفتاح على عناصره في الواقع، وهو ليس حدثاً يتحدى العقيدة الدينية التي تؤكد أن الله وحده هو الخالق، لأن مسألة الخلق هي إنتاج النظام الذي يحكم الظاهرة الإنسانية والحيوانية والوجودية والكونية من خلال القانون الذي يحكم كل الحركة الوجودية. والاستنساخ ليس كذلك، فالقانون الإلهي لولادة الكائن الحي، هو أن هذا الكائن يوجد من خلال خلية ناضجة، وهذه الخلية في الحالات الطبيعية للتناسل تنقسم إلى قسمين، فهناك 43 من الكروموزومات في النطفة للذكر و43 من الكروموزومات في البويضة لدى المرأة، فإذا لقّحت البويضة بالنطفة تبدأ رحلة وجود الإنسان.

وقد استهدى هؤلاء الذين اكتشفوا هذا السر إلى هذا القانون، فأخذوا خلية ناضجة وفرغوا بويضة من الكروموزومات وولد الكائن الحي من خلال الخلية نفسها التي يولد فيها بشكلٍ طبيعي.

لذلك فالإنسان لم يتحول خالقاً، وإنما استهدى قانون الخالق في تنويع الشكل تماماً، مع الفارق، كما هو طفل الأنبوب، الذي أفسح المجال لتلقيح البويضة بالنطفة خارج الرحم، وهذا يمثل نوعاً من أنواع التحكم، وإن بطريقة مختلفة، في القانون الطبيعي للتناسل.

الإنسان يستهدي قوانين الخالق:

س:  هناك اية كريمة تقول:< وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً>، الان وصل العلم إلى هذه المرحلة، ألا تخشى أن يتم الاستغناء في المستقبل عن القانون الإلهي للتناسل، من خلال الاستغناء عن النطفة والبويضة وبالتالي الوصول إلى الخلق؟

ج:  لا أخشى ذلك، أولاً لأننا عندما ندرس كل الاكتشافات التي اكتشفها الإنسان واخترع من خلالها الكثير من الأمور، نرى أنها لم تستطع أن تصنع قانوناً، بل استهدت كل القوانين المودعة في الكون، حتى في حركتها للاستفادة من مناخات الفضاء في كل أبعادها. لذلك فإن مسألة خلق القانون لا يملك الإنسان أسرارها ومعطياتها، ونحن نتصور أن العلم هو هبة الله للإنسان، الله خلق العقل وخلق الأدوات التي تموّل العقل بكل المعطيات البصرية والسمعية وما إلى ذلك من حواس، وقال للإنسان فكّر وانطلق وجرّب.

لذلك نحن نعتبر أن العلم خير كله، لأنه هبة الله، ولكن المسألة ليست العلم، بل سوء استخدام منتجات العلم.

العلم بين الخير والشرّ:

س:  هناك من يعتبر أن العلم يمكن استخدامه للشر وليس للخير؟

ج:  أنا لا أتصور أن السلبيات التي يمكن أن تستخدم من خلال العلم تبيح لنا إسقاط الإمكانيات التي يمكن أن نحصل عليها من خلاله، مثلاً تم اختراع الديناميت، ومن الطبيعي أن الديناميت استطاع أن يفيد الإنسان في كثير من مشاريعه، ولكنه في الوقت نفسه استعمل في التدمير، وهكذا بالنسبة إلى الذرة. اكتشاف الذرة استطاع أن يحقق للإنسان الكثير من حاجاته السلمية مع الجانب التدميري الذي لا يملك الإنسان حتى الان الحرية في استعماله، وقد استعمل في حالة واحدة في اليابان، ولكنه لم يستعمل في أي مكان اخر، باعتبار أنه يمثل فزاعة لا تتحمل البشرية مثلها.

أريد أن أؤكد على نقطة حيوية وجودية، وهي أن العالم الذي نعيش فيه، عالم محدود، فلا يمكن أن نحصل على إيجاب إلا ومعه سلب، والعكس صحيح. وفي ضوء هذا، إذا أردنا أن نحدق بالسلبيات في أي ظاهرة أو أي إنتاج علمي، علينا أن نمتنع عن التحرك في أي موقع يختزن سلبية، في الوقت الذي يختزن الكثير من الإيجابيات. لذلك لا بدّ لنا من أن نترك العلم يحرك إيجابياته في مصلحة الإنسان، ونحاول مهما أمكننا في المنهج التربوي أن نثقف هذا الإنسان بأن يحرك العلم في خدمة إنسانيته وتطويرها، تماماً كما هي المناهج التربوية في الجوانب الأخرى في حياته.

س:  ولكن ألا يشكل ذلك خطراً على المفاهيم السائدة التي تؤمن بها البشرية؟

ج:  لا أعتقد أن الخروج عن المألوف يمثل كارثة إنسانية، بل إن الفكر يتقدم، وعلى الفكر الاخر المألوف أن يستحضر كل أسلحته إذا صح التعبير، في سبيل مواجهة هذا الفكر الجديد، ليكتشف سلبياته وليؤكد ايجابياته الذاتية، أو ليكتشف خطأ ما كان يفكر فيه.

الإسلام والاكتشافات العلمية:

س:  هل تعتقد أن الإسلام قادر على مواجهة هذا التطور العلمي؟

ج:  لقد استطاع الإسلام منذ أن انطلق وحتى الان أن يصنع تطوراً علمياً، وهو الذي صنع الحضارة الإنسانية على مدى مئة سنة، وهو الذي أعطى الغرب القاعدة العلمية في اعتبار التجربة مصدراً للمعرفة، لأن الفكر اليوناني، أكان ذلك من خلال أفلاطون أو أرسطو، كان يعتبر التأمل هو الأساس في المعرفة، فجاء الإسلام ووضع التجربة إلى جانب المعرفة من خلال التأكيدات القرانية، ومن خلال ما بنى عليها المفكرون المسلمون في هذا الاتجاه، ومن خلال حركة التجربة كمصدر للمعرفة، استطاع الغرب أن يصل إلى ما وصل إليه من تقدم في استنطاق الواقع لاكتشاف حقائق الحياة والأشياء، وهكذا رأينا كيف أن العلماء المسلمين مثل ابن سينا وابن نفيس وجابر بن حيان وغيرهم استطاعوا في مدى طويل أن يمولوا الغرب بالعلوم التي أنتجوها والحقائق التي اكتشفوها.

لذلك هناك خصوصية في الإسلام، وهي أن الإسلام اعتبر العقل قاعدة للمسؤولية وأساساً لسلامة الفكر، حتى أنه أراد للإيمان أن ينطلق من خلال العقل ولم يقبل التقليد في الإيمان.

س:  هل تعتبر أن كل الإسلام مقتنع بذلك؟

ج:  المسألة هي كيف تفهم الإسلام، تماماً كما هي المسألة كيف تفهم الحياة، هناك كلمة لبعض الغربيين تقول:«الإسلام شي‏ء والمسلمون شي‏ء اخر». المسألة هي أن «البعض» لا يزالون يعيشون في كهوف التخلف وفي مغارات الماضي، لذلك فإنهم لا يفهمون القاعدة الأساسية للإسلام، ويرجمون كل جديد بالكفر والزندقة والضلال وما إلى ذلك، ويعملون على أساس أن يواجهوا الاجتهادات الجديدة بهذا الأسلوب التكفيري من دون أن يملكوا القدرة العلمية على مواجهة هذا الفكر بفكر اخر، لذلك فإن حركة التكفير الموجودة لدى المسلمين، سواء داخل المسلمين السنة أو داخل المسلمين الشيعة، تنطلق من حالة التخلّف وليس من حالة الإيمان، لهذا فإننا مع الفكر الذي يؤكد على العقل وينفتح في الوقت عينه على الوحي، لأننا نروي أن العقل رسول من داخل والرسول عقل من خارج.

س:  الحملة التي تتعرضون لها شخصياً تدخل في هذا الإطار، بعد الفتاوى العديدة التي أصدرتها؟

ج:  نعم، ولذلك أعتقد بأن على العلماء المسلمين الواعين، الذين يعيشون الإسلام وعياً وتقدماً وعقلاً وفكراً، أن يواجهوا هذه الحملات، ليطرحوا إلى جانب ذلك حملة جديدة للتقدم وللوعي، وأعتقد أن الشمس ستطرد كل الظلام.

لست مع تعميم الاستنساخ:

س:  هل تؤيد تعميم تجربة الاستنساخ؟ وهل ترى أنها لن تؤثر على العلاقات الإنسانية والأسرية؟

ج: لست مع تعميمها ولست مع تقليصها . لست مع تعميمها لأن هناك كثيراً من المشاكل التي تواجه هذه التجربة في الواقع الإنساني، سواء في الجانب العاطفي الروحي الإنساني أو في الجانب الاجتماعي بما تمثله الأسرة من خلية اجتماعية يرتكز عليها النمو الطبيعي للإنسان ومن خلال بعض الفوضى التي قد تحدث في الجانب القانوني أو في العلاقات الإنسانية وعلاقات القرابة من جهة ثانية، وقد تكون أم الإنسان المستنسخ أختاً له، عندما تنطلق الخلية من المصدر نفسه الذي أخذت منه خلية الأم للولد، وهكذا فإن الصورة غير واضحة في الإيجابيات التي يمكن أن تحصل للإنسانية من خلال ذلك.

قلت السلبيات كثيرة في هذا المجال، ولكنني لست مع الذين يتحدثون عن رجمها بالحجارة، أو بالفتوائية التكفيرية أو التضليلية أو ما إلى ذلك. لا بدّ أن ندرس ما يمكن أن نستخلص منها من إيجابيات.

س:  ألا ترى أنه لو كانت النوايا سليمة لكان تم الاكتفاء باستنساخ أعضاء بشرية بدلاً من استنساخ إنسان كامل؟

ج:  قد يطرح البعض الجانب الصحي، من خلال استبدال الأعضاء المريضة بأعضاء مستنسخة، ولكننا نؤكد في هذا المجال أنه لايجوز لنا أن نستنسخ طفلاً لنقطع أعضاءه ونستخدمها، بل إذا أمكن للاستنساخ أن يستنسخ أعضاء محددة، فهذا يعتبر تقدماً علمياً جديداً، بذلك نستغني مثلاً عن زراعة قلب من إنسان اخر أو عين.. الخ، مع ملاحظة أخرى، وهي أنني أتصور أن هذه التجربة سوف تبقى في حدودها العلمية، ولن يهيأ لها الانتشار.

س:  ما هو السبب؟

ج:  قضية أن تستنسخ ملايين تحتاج إلى إمكانات مالية في حجم العالم، وأضيف أنه بقطع النظر عما يصل إليه الإنسان من إمكانات تقلل التكاليف المالية، فإن عملية الاستنساخ تكلف جهداً فوق العادة، بينما من خلال الإمكانات الطبيعية فإن التناسل وصل إلى مستوى يشعر الإنسان بالكارثة في نموها الجنوني، بحيث أصبح العالم يتحدث عن تحديد وتنظيم النسل للحد من انتشار هذا التكاثر الطبيعي. لذلك نقول إنه لا خطر على الإنسانية من هذه التجارب، بل سوف تبقى مجرد تجارب محدودة في دائرتها الخاصة، ولا أتصور أن المستقبل سوف يخلق فرصاً كبيرة لنمو هذه التجربة على المستوى العالمي.

س:  هناك تساؤلات لمن يتبع الكائن المستنسخ لوالده أو والدته؟

ج:  عندما تؤخذ الخلية من الأم تتبع لأمها.

س:  ولكن البعض يقول في هذه الحالة إنها تصبح أختها؟

ج:  إن السماء لا تطبق على الأرض في هذا المجال. نحن نعرف أن أولاد ادم تكاثروا من خلال زواج الأخ بأخته عندما كان ذلك حلالاً، ونحن نعرف أنه من الممكن أن يكون هناك ولد من دون أب، كما السيد المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام).

إن مثل هذه الأمور تخلق بعض المشاكل ونحن نؤكدها، وربما تتحول إلى مشاكل عاطفية وأسرية أو اشتراعية، ولكن ذلك يمثل بعض السلبيات التي لا بدّ أن نقارن بينها وبين الإيجابيات. وقد تحدثنا أكثرمن مرة منذ أن انطلق الاستنساخ كحدث علمي بأن التشريع الإسلامي ينطلق من أن المفسدة في أي موضوع إذا غلبت على المصلحة كان الحرام وإذا غلبت المصلحة على المفسدة كان الحلال، لأن الدين جاء من أجل خدمة الإنسان، لذلك فإن من الحرام ما قد يصبح واجباً، لذلك قلت منذ البداية ولا أزال أقول إن علينا أن ندرس الاستنساخ بالتجربة الواقعية، فإن كانت المفاسد أكثر من المصالح، فلا بدّ أن نحكم بحرمته، وإذا كانت المصالح أكثر فلا بدّ أن نحكم بحله.

الاستنساخ من وجهة نظر فاتيكانية أزهرية:

س:  الفاتيكان أكبر مرجعية مسيحية، والأزهر أكبر مرجعية إسلامية، حرّما الاستنساخ واعتبراه تدخلاً في شكل الإنسان؟

ج:  عندما ندرس العناوين التي وضعها الأزهر والفاتيكان لتحريم الاستنساخ، فإننا نجد أنهما يتحدثان عن كرامة الإنسان، وأن هذا نوع من أنواع العبث بالإنسان، أنا لا أعتقد القضية كذلك، لأن مسألة العبث بالإنسان تتحرك في ظل عدم وجود فائدة أو حكمة من ذلك. ألا تعتبر عملية زرع الأعضاء عبثاً بالإنسان، كأن تأخذ عين شخص أو قلبه أو كليته ثم تزرعها لدى شخص اخر؟ هذا عبث بأعضاء الإنسان. البعض قد يرى في ذلك مساساً بكرامة الإنسان، ولكن إذا تحول الاستنساخ إلى ما يحل بعض مشاكل الإنسان فإن ذلك يمثل كرامة الإنسان.

هناك جدل بين الفاتيكان وجهات دينية إسلامية أخرى، حول قضية تنظيم النسل مثلاً، الفاتيكان لا يوافق حتى على موانع الحمل إلا في مواقع نادرة جداً، لأنه يعتبر أن الحياة ملك لله وأن من غير الجائز أن نتدخل في الحياة، ولكن الله سبحانه وتعالى أعطانا العلم الذي نستطيع به أن نتصرف بهذه الحياة بشرط ألا يسي‏ء إلى المناخ الإنساني العام.

أنا لا أوافق على أن نعطي بعض المسائل العلمية عناوين فضفاضة لا تتحرك بشكل دقيق في مفردات الواقع. البعض يقول إن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يولد من خلال رجل وامرأة، لذلك فإن الإنسان الذي يولد من غير عملية زواج فهو غير شرعي، من قال ذلك؟ عندنا الإنسان غير الشرعي هو الذي يكون نتيجة ولادة زنى. لو فرضنا أن امرأة حملت من شخص من دون جماع بطريقة دخول النطفة فإن هذا لا يكون زنى، مع أنه ليس هناك زواج. ليس هناك دليل يحصر المسألة في هذا المعنى أو يقول إن هذا غير شرعي. بعضهم يتحدث ويقول عن لسان الشيطان، كما جاء في القران:<ولأمرنهم فليغيرن خلق الله>، ولكن أكثر الفقهاء والمفسرين يقولون إن المراد من تغيير خلق الله هو تغيير الفطرة التوحيدية التي فطر الله الإنسان عليها. وهذا ما توحي به الاية الكريمة:<فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم>. وإلا فإن مقولة تغيير خلق لل. فإن خلق الله ليس الإنسان والحيوان، فالله خلق كل شي‏ء، وبالتالي لا يجب أن نقطع شجرة أو ننسف جبلاً أو نجفف نهراً. لذلك يقولون لا يمكن الاستدلال على هذا، لأننا لا يمكن أن نأخذ بشموليتها في هذا المجال، لأنه ليس فيها ما يدل على اختصاصها بالإنسان والحيوان.

أخلاقيات الاستنساخ:

س:  المشكلة هنا ما ستؤثره على العلاقات الاجتماعية؟

ج:  لذلك أنا أعتقد أن علينا أن ندرس المسألة في حركة الواقع، لنعرف ما هي الإيجابيات وما هي السلبيات، وقلت إن على الناس أن يدقوا أبواب العلماء ليسألوهم، علماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء القانون، عن النتائج السلبية والإيجابية، ولا يدقوا أبواب الفقهاء.

س:  ولكن للفقهاء وعلماء الدين دوراً توجيهياً على الصعيد الأخلاقي في هذه المسألة؟

ج:  إن علماء الدين في هذا المجال يعتمدون على الدراسات الموثوقة في الإيجابيات والسلبيات التي تحقق لهم موضوع الفتوى بالحرمة والحليّة بما فيها الجوانب الأخلاقية.

س:  العالم المتطور هو الذي يقوم حالياً بعملية الاستنساخ، وعلى سبيل الدعاية هناك من يتحدث عن احتمال عودة هتلر ونيرون، وحتى عن الفنانات الشهيرات اللواتي توفين؟ ألا تعتقد أن ذلك سيؤدي إلى زيادة في سيطرة الغرب على الشعوب الضعيفة؟

ج:  هذه الكلمات تمثل جانب الاستهلاك السياسيّ الساذج، لأن القضية هي أن الغرب تقدم علمياً في هذا الاتجاه ونحن تخلفنا، وأن تقول للاخر لماذا تتقدم ولماذا تجعل نفسك حاجة لي ولماذا تسيطر عليَّ بعلمك؟ هذه مسألة لا معنى لها. القضية أن نتقدم كما تقدموا وأن ننتج كما أنتجوا وأن نكتشف كما اكتشفوا. ونحن نلاحظ في القران الكريم أن الدعاء الذي أمر الله نبيه أن يجهر به وأراد للناس كلهم من خلال النبي أن يأخذوا به، هو قوله تعالى:<وقل رب زدني علماً>، إن الإسلام يريد من المسلم أن يظل في حركة تصاعدية في جانب العلم، بحيث كلما وصل إلى مرحلة عليه أن يتحرك نحو مرحلة من مراحل العلم مما يمكن أن يصل إليها، العلم هو القيمة في الإسلام <قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون> وإن العقل هو القيمة <إنما يتذكر أولو الألباب>. لذلك أتذكر قصة ساذجة: أن زميلين في بعض الحوزات العلمية كانا يدرسان في مرحلة واحدة، واصبح أحدهما مرجعاً وبقي الاخر إنساناً عادياً، وعندما التقيا سأل الإنسان العادي: كنا مع بعضنا البعض وفي درجة واحدة فكيف أصبحت أنت في الأعالي وأنا بقيت في الأسفل؟ فرد عليه المرجع:«سرنا ووقفت». نحن نريد للإنسان ألا يحنط عقله وقلبه وحياته. التحنيط وحده عندما يدرج في الكهف.

س:  هناك تفسيرات عديدة حول «الإنسان المستنسخ»، البعض يقول إنه يأتي صورة عن الشخص المستنسخ عنه، بينما يقول البعض الاخر، إن ذلك يشمل أيضاً تفكيره وعاداته وتصرفاته؟

ج:  أتصور أن الاستنساخ هو نوع من التطوير بنسبة متقدمة جداً للقانون الوراثي. ولكن قوانين الوراثة أو حتى العناصر المادية في الاستنساخ ليست هي التي تصنع فكر الإنسان أو تصنع قلبه. الإنسان يتأثر بما حوله وبمن حوله بتجاربه وبالظروف المحيطة به. لذلك فإن الاستنساخ لا يلغي التطور الإنساني الذاتي فيما يمكن أن يتحرك فيه فكر الإنسان في اتجاهات جديدة وأفكار جديدة وعواطف جديدة. وأنا لا أعتقد أننا في حاجة إلى استنساخ المستنسخ هتلر أو نيرون أو غيرهما، لأن الطريقة الطبيعية في التناسل والظروف الموضوعية تصنع لنا اليوم هتلراً جديداً، كبيراً أو صغيراً، ونيرون جديداً بطريقة أو أخرى. لسنا في حاجة لأن نتعب أنفسنا في صنع هؤلاء، لأن واقعنا يفسح المجال لأمثالهم.

سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله رأى أنه لا بدّ لنا من أن نترك العلم يحرك إيجابياته في مصلحة الإنسان:

غالباً ما تشكل فتاوى المرجع الشيعي العلامة السيد محمد حسين فضل الله تصوراً تجديدياً في مقاربة الإسلام للقضايا المطروحة. وليس مبالغة القول إن معظم فتاويه تثير نقاشاً غنياً على المستويين الفقهي والفكري، فهي تحظى بحماسة المتنورين و«ترجم» ممّن يسميهم «أهل الكهوف والمغارات» في إشارة إلى تخلفهم.

ومواقف هذا المرجع، الذي لا يعوز الكلام الكثير عن علمه في الفقه وسعته في الثقافة ورجحانه في قضايا الفلسفة والحياة، من المتحديات التي يواجهها الإسلام، تخرج عن المألوف أحياناً، كموقفه الأخير من الاستنساخ.

فقد اعتبر السيد فضل الله أن الاستنساخ كحدث علمي لا يتحدى العقيدة الدينية بأن الله وحده الخالق، لافتاً إلى «أن العلماء اهتدوا إلى القانون الإلهي لولادة الكائن الحي، وكل اكتشافات الإنسان واختراعاته لم تستطع أن تصنع قانوناً، بل استهدت القوانين المودعة في الكون، والإنسان لا يملك أسرار ومعطيات خلق القانون».

وشدد في حديث إلى «الرأي العام» على «أن العلم هو هبة الله للإنسان، والمشكلة ليست في العلم، بل في سوء استخدامه»، وعلى «أن الخروج عن المألوف لا يمثل كارثة إنسانية، والإسلام اعتبر العقل قاعدة للمسؤولية وأساساً لسلامة الفكر، ولكن المسألة أن البعض لا يزالون يعيشون في كهوف التخلف ومغارات الماضي ولا يفهمون القاعدة الأساسية للإسلام ويرجمون كل جديد بالكفر والزندقة والضلال».

وأوضح فضل الله أنه ليس مع تعميم ظاهرة الاستنساخ وليس مع تقليصها. وبعدما شرح مساوئها وحسناتها، شدد على «أن هذه الظاهرة سوف تبقى في حدودها العلمية ولن يُهيأ لها الانتشار، وبالتالي لا خطر على الإنسانية من خلال هذه التجارب، مع الإشارة إلى أن التشريع الإسلامي ينطلق من أن المفسدة في أي موضوع إذا غلبت على المصلحة كان الحرام والعكس صحيح».

وخالف المرجع الشيعي الفاتيكان والأزهر بأن الاستنساخ عبث بالإنسان أو مس بكرامته، متسائلاً:«أليس أخذ عين أو كلية أو قلب من إنسان وزرعها في إنسان اخر عبث باعضاء الإنسان؟». ورأى أنه إذا تحول الاستنساخ معالجة لبعض مشاكل الإنسان فإن ذلك يمثل كرامة الإنسان، داعياً الناس إلى دق أبواب علماء الاجتماع والنفس والقانون لمعرفة النتائج الإيجابية والسلبية للاستنساخ وعدم دق أبواب الفقهاء، موضحاً «أن الاستنساخ لا يلغي التطور الإنساني الذاتي فيما يمكن أن يتحرك فيه فكر الإنسان في اتجاهات وعواطف جديدة، وبالتالي لا حاجة إلى استنساخ هتلر أو نيرون جديدين أو غيرهما، لأن الطريقة الطبيعية في التناسل والظروف الموضوعية تصنع لنا مثلهم بطريقة أو أخرى». وفي ما يأتي نص الحديث:

الاستنساخ اكتشاف وليس قانوناً:

س:  الطفلة المستنسخة «حواء» انتقلت إلى منزلها. كيف تنظر إلى ظاهرة استنساخ البشر بعد الحيوان؟

ج:  في البداية لا بدّ من ملاحقة هذا الخبر للتعرف على واقعيته، لأنه من الممكن جداً في غياب وجود أدلة حسية أو علمية أن يكون وارداً على أسلوب الدعاية للجهة التي كانت وراء هذا الحدث، حتى لا يعيش العالم في حالة طوارئ أمام ولادة إنسان مستنسخ جديد على أساس بداية الكارثة الجديدة في حياة الإنسان.

أما المسألة في بعدها الثقافي العقيدي ، فأكدنا أكثر من مرة أن الاستنساخ كحدث علمي، هو تحرك للإنسان في الانفتاح على عناصره في الواقع، وهو ليس حدثاً يتحدى العقيدة الدينية التي تؤكد أن الله وحده هو الخالق، لأن مسألة الخلق هي إنتاج النظام الذي يحكم الظاهرة الإنسانية والحيوانية والوجودية والكونية من خلال القانون الذي يحكم كل الحركة الوجودية. والاستنساخ ليس كذلك، فالقانون الإلهي لولادة الكائن الحي، هو أن هذا الكائن يوجد من خلال خلية ناضجة، وهذه الخلية في الحالات الطبيعية للتناسل تنقسم إلى قسمين، فهناك 43 من الكروموزومات في النطفة للذكر و43 من الكروموزومات في البويضة لدى المرأة، فإذا لقّحت البويضة بالنطفة تبدأ رحلة وجود الإنسان.

وقد استهدى هؤلاء الذين اكتشفوا هذا السر إلى هذا القانون، فأخذوا خلية ناضجة وفرغوا بويضة من الكروموزومات وولد الكائن الحي من خلال الخلية نفسها التي يولد فيها بشكلٍ طبيعي.

لذلك فالإنسان لم يتحول خالقاً، وإنما استهدى قانون الخالق في تنويع الشكل تماماً، مع الفارق، كما هو طفل الأنبوب، الذي أفسح المجال لتلقيح البويضة بالنطفة خارج الرحم، وهذا يمثل نوعاً من أنواع التحكم، وإن بطريقة مختلفة، في القانون الطبيعي للتناسل.

الإنسان يستهدي قوانين الخالق:

س:  هناك اية كريمة تقول:< وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً>، الان وصل العلم إلى هذه المرحلة، ألا تخشى أن يتم الاستغناء في المستقبل عن القانون الإلهي للتناسل، من خلال الاستغناء عن النطفة والبويضة وبالتالي الوصول إلى الخلق؟

ج:  لا أخشى ذلك، أولاً لأننا عندما ندرس كل الاكتشافات التي اكتشفها الإنسان واخترع من خلالها الكثير من الأمور، نرى أنها لم تستطع أن تصنع قانوناً، بل استهدت كل القوانين المودعة في الكون، حتى في حركتها للاستفادة من مناخات الفضاء في كل أبعادها. لذلك فإن مسألة خلق القانون لا يملك الإنسان أسرارها ومعطياتها، ونحن نتصور أن العلم هو هبة الله للإنسان، الله خلق العقل وخلق الأدوات التي تموّل العقل بكل المعطيات البصرية والسمعية وما إلى ذلك من حواس، وقال للإنسان فكّر وانطلق وجرّب.

لذلك نحن نعتبر أن العلم خير كله، لأنه هبة الله، ولكن المسألة ليست العلم، بل سوء استخدام منتجات العلم.

العلم بين الخير والشرّ:

س:  هناك من يعتبر أن العلم يمكن استخدامه للشر وليس للخير؟

ج:  أنا لا أتصور أن السلبيات التي يمكن أن تستخدم من خلال العلم تبيح لنا إسقاط الإمكانيات التي يمكن أن نحصل عليها من خلاله، مثلاً تم اختراع الديناميت، ومن الطبيعي أن الديناميت استطاع أن يفيد الإنسان في كثير من مشاريعه، ولكنه في الوقت نفسه استعمل في التدمير، وهكذا بالنسبة إلى الذرة. اكتشاف الذرة استطاع أن يحقق للإنسان الكثير من حاجاته السلمية مع الجانب التدميري الذي لا يملك الإنسان حتى الان الحرية في استعماله، وقد استعمل في حالة واحدة في اليابان، ولكنه لم يستعمل في أي مكان اخر، باعتبار أنه يمثل فزاعة لا تتحمل البشرية مثلها.

أريد أن أؤكد على نقطة حيوية وجودية، وهي أن العالم الذي نعيش فيه، عالم محدود، فلا يمكن أن نحصل على إيجاب إلا ومعه سلب، والعكس صحيح. وفي ضوء هذا، إذا أردنا أن نحدق بالسلبيات في أي ظاهرة أو أي إنتاج علمي، علينا أن نمتنع عن التحرك في أي موقع يختزن سلبية، في الوقت الذي يختزن الكثير من الإيجابيات. لذلك لا بدّ لنا من أن نترك العلم يحرك إيجابياته في مصلحة الإنسان، ونحاول مهما أمكننا في المنهج التربوي أن نثقف هذا الإنسان بأن يحرك العلم في خدمة إنسانيته وتطويرها، تماماً كما هي المناهج التربوية في الجوانب الأخرى في حياته.

س:  ولكن ألا يشكل ذلك خطراً على المفاهيم السائدة التي تؤمن بها البشرية؟

ج:  لا أعتقد أن الخروج عن المألوف يمثل كارثة إنسانية، بل إن الفكر يتقدم، وعلى الفكر الاخر المألوف أن يستحضر كل أسلحته إذا صح التعبير، في سبيل مواجهة هذا الفكر الجديد، ليكتشف سلبياته وليؤكد ايجابياته الذاتية، أو ليكتشف خطأ ما كان يفكر فيه.

الإسلام والاكتشافات العلمية:

س:  هل تعتقد أن الإسلام قادر على مواجهة هذا التطور العلمي؟

ج:  لقد استطاع الإسلام منذ أن انطلق وحتى الان أن يصنع تطوراً علمياً، وهو الذي صنع الحضارة الإنسانية على مدى مئة سنة، وهو الذي أعطى الغرب القاعدة العلمية في اعتبار التجربة مصدراً للمعرفة، لأن الفكر اليوناني، أكان ذلك من خلال أفلاطون أو أرسطو، كان يعتبر التأمل هو الأساس في المعرفة، فجاء الإسلام ووضع التجربة إلى جانب المعرفة من خلال التأكيدات القرانية، ومن خلال ما بنى عليها المفكرون المسلمون في هذا الاتجاه، ومن خلال حركة التجربة كمصدر للمعرفة، استطاع الغرب أن يصل إلى ما وصل إليه من تقدم في استنطاق الواقع لاكتشاف حقائق الحياة والأشياء، وهكذا رأينا كيف أن العلماء المسلمين مثل ابن سينا وابن نفيس وجابر بن حيان وغيرهم استطاعوا في مدى طويل أن يمولوا الغرب بالعلوم التي أنتجوها والحقائق التي اكتشفوها.

لذلك هناك خصوصية في الإسلام، وهي أن الإسلام اعتبر العقل قاعدة للمسؤولية وأساساً لسلامة الفكر، حتى أنه أراد للإيمان أن ينطلق من خلال العقل ولم يقبل التقليد في الإيمان.

س:  هل تعتبر أن كل الإسلام مقتنع بذلك؟

ج:  المسألة هي كيف تفهم الإسلام، تماماً كما هي المسألة كيف تفهم الحياة، هناك كلمة لبعض الغربيين تقول:«الإسلام شي‏ء والمسلمون شي‏ء اخر». المسألة هي أن «البعض» لا يزالون يعيشون في كهوف التخلف وفي مغارات الماضي، لذلك فإنهم لا يفهمون القاعدة الأساسية للإسلام، ويرجمون كل جديد بالكفر والزندقة والضلال وما إلى ذلك، ويعملون على أساس أن يواجهوا الاجتهادات الجديدة بهذا الأسلوب التكفيري من دون أن يملكوا القدرة العلمية على مواجهة هذا الفكر بفكر اخر، لذلك فإن حركة التكفير الموجودة لدى المسلمين، سواء داخل المسلمين السنة أو داخل المسلمين الشيعة، تنطلق من حالة التخلّف وليس من حالة الإيمان، لهذا فإننا مع الفكر الذي يؤكد على العقل وينفتح في الوقت عينه على الوحي، لأننا نروي أن العقل رسول من داخل والرسول عقل من خارج.

س:  الحملة التي تتعرضون لها شخصياً تدخل في هذا الإطار، بعد الفتاوى العديدة التي أصدرتها؟

ج:  نعم، ولذلك أعتقد بأن على العلماء المسلمين الواعين، الذين يعيشون الإسلام وعياً وتقدماً وعقلاً وفكراً، أن يواجهوا هذه الحملات، ليطرحوا إلى جانب ذلك حملة جديدة للتقدم وللوعي، وأعتقد أن الشمس ستطرد كل الظلام.

لست مع تعميم الاستنساخ:

س:  هل تؤيد تعميم تجربة الاستنساخ؟ وهل ترى أنها لن تؤثر على العلاقات الإنسانية والأسرية؟

ج: لست مع تعميمها ولست مع تقليصها . لست مع تعميمها لأن هناك كثيراً من المشاكل التي تواجه هذه التجربة في الواقع الإنساني، سواء في الجانب العاطفي الروحي الإنساني أو في الجانب الاجتماعي بما تمثله الأسرة من خلية اجتماعية يرتكز عليها النمو الطبيعي للإنسان ومن خلال بعض الفوضى التي قد تحدث في الجانب القانوني أو في العلاقات الإنسانية وعلاقات القرابة من جهة ثانية، وقد تكون أم الإنسان المستنسخ أختاً له، عندما تنطلق الخلية من المصدر نفسه الذي أخذت منه خلية الأم للولد، وهكذا فإن الصورة غير واضحة في الإيجابيات التي يمكن أن تحصل للإنسانية من خلال ذلك.

قلت السلبيات كثيرة في هذا المجال، ولكنني لست مع الذين يتحدثون عن رجمها بالحجارة، أو بالفتوائية التكفيرية أو التضليلية أو ما إلى ذلك. لا بدّ أن ندرس ما يمكن أن نستخلص منها من إيجابيات.

س:  ألا ترى أنه لو كانت النوايا سليمة لكان تم الاكتفاء باستنساخ أعضاء بشرية بدلاً من استنساخ إنسان كامل؟

ج:  قد يطرح البعض الجانب الصحي، من خلال استبدال الأعضاء المريضة بأعضاء مستنسخة، ولكننا نؤكد في هذا المجال أنه لايجوز لنا أن نستنسخ طفلاً لنقطع أعضاءه ونستخدمها، بل إذا أمكن للاستنساخ أن يستنسخ أعضاء محددة، فهذا يعتبر تقدماً علمياً جديداً، بذلك نستغني مثلاً عن زراعة قلب من إنسان اخر أو عين.. الخ، مع ملاحظة أخرى، وهي أنني أتصور أن هذه التجربة سوف تبقى في حدودها العلمية، ولن يهيأ لها الانتشار.

س:  ما هو السبب؟

ج:  قضية أن تستنسخ ملايين تحتاج إلى إمكانات مالية في حجم العالم، وأضيف أنه بقطع النظر عما يصل إليه الإنسان من إمكانات تقلل التكاليف المالية، فإن عملية الاستنساخ تكلف جهداً فوق العادة، بينما من خلال الإمكانات الطبيعية فإن التناسل وصل إلى مستوى يشعر الإنسان بالكارثة في نموها الجنوني، بحيث أصبح العالم يتحدث عن تحديد وتنظيم النسل للحد من انتشار هذا التكاثر الطبيعي. لذلك نقول إنه لا خطر على الإنسانية من هذه التجارب، بل سوف تبقى مجرد تجارب محدودة في دائرتها الخاصة، ولا أتصور أن المستقبل سوف يخلق فرصاً كبيرة لنمو هذه التجربة على المستوى العالمي.

س:  هناك تساؤلات لمن يتبع الكائن المستنسخ لوالده أو والدته؟

ج:  عندما تؤخذ الخلية من الأم تتبع لأمها.

س:  ولكن البعض يقول في هذه الحالة إنها تصبح أختها؟

ج:  إن السماء لا تطبق على الأرض في هذا المجال. نحن نعرف أن أولاد ادم تكاثروا من خلال زواج الأخ بأخته عندما كان ذلك حلالاً، ونحن نعرف أنه من الممكن أن يكون هناك ولد من دون أب، كما السيد المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام).

إن مثل هذه الأمور تخلق بعض المشاكل ونحن نؤكدها، وربما تتحول إلى مشاكل عاطفية وأسرية أو اشتراعية، ولكن ذلك يمثل بعض السلبيات التي لا بدّ أن نقارن بينها وبين الإيجابيات. وقد تحدثنا أكثرمن مرة منذ أن انطلق الاستنساخ كحدث علمي بأن التشريع الإسلامي ينطلق من أن المفسدة في أي موضوع إذا غلبت على المصلحة كان الحرام وإذا غلبت المصلحة على المفسدة كان الحلال، لأن الدين جاء من أجل خدمة الإنسان، لذلك فإن من الحرام ما قد يصبح واجباً، لذلك قلت منذ البداية ولا أزال أقول إن علينا أن ندرس الاستنساخ بالتجربة الواقعية، فإن كانت المفاسد أكثر من المصالح، فلا بدّ أن نحكم بحرمته، وإذا كانت المصالح أكثر فلا بدّ أن نحكم بحله.

الاستنساخ من وجهة نظر فاتيكانية أزهرية:

س:  الفاتيكان أكبر مرجعية مسيحية، والأزهر أكبر مرجعية إسلامية، حرّما الاستنساخ واعتبراه تدخلاً في شكل الإنسان؟

ج:  عندما ندرس العناوين التي وضعها الأزهر والفاتيكان لتحريم الاستنساخ، فإننا نجد أنهما يتحدثان عن كرامة الإنسان، وأن هذا نوع من أنواع العبث بالإنسان، أنا لا أعتقد القضية كذلك، لأن مسألة العبث بالإنسان تتحرك في ظل عدم وجود فائدة أو حكمة من ذلك. ألا تعتبر عملية زرع الأعضاء عبثاً بالإنسان، كأن تأخذ عين شخص أو قلبه أو كليته ثم تزرعها لدى شخص اخر؟ هذا عبث بأعضاء الإنسان. البعض قد يرى في ذلك مساساً بكرامة الإنسان، ولكن إذا تحول الاستنساخ إلى ما يحل بعض مشاكل الإنسان فإن ذلك يمثل كرامة الإنسان.

هناك جدل بين الفاتيكان وجهات دينية إسلامية أخرى، حول قضية تنظيم النسل مثلاً، الفاتيكان لا يوافق حتى على موانع الحمل إلا في مواقع نادرة جداً، لأنه يعتبر أن الحياة ملك لله وأن من غير الجائز أن نتدخل في الحياة، ولكن الله سبحانه وتعالى أعطانا العلم الذي نستطيع به أن نتصرف بهذه الحياة بشرط ألا يسي‏ء إلى المناخ الإنساني العام.

أنا لا أوافق على أن نعطي بعض المسائل العلمية عناوين فضفاضة لا تتحرك بشكل دقيق في مفردات الواقع. البعض يقول إن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يولد من خلال رجل وامرأة، لذلك فإن الإنسان الذي يولد من غير عملية زواج فهو غير شرعي، من قال ذلك؟ عندنا الإنسان غير الشرعي هو الذي يكون نتيجة ولادة زنى. لو فرضنا أن امرأة حملت من شخص من دون جماع بطريقة دخول النطفة فإن هذا لا يكون زنى، مع أنه ليس هناك زواج. ليس هناك دليل يحصر المسألة في هذا المعنى أو يقول إن هذا غير شرعي. بعضهم يتحدث ويقول عن لسان الشيطان، كما جاء في القران:<ولأمرنهم فليغيرن خلق الله>، ولكن أكثر الفقهاء والمفسرين يقولون إن المراد من تغيير خلق الله هو تغيير الفطرة التوحيدية التي فطر الله الإنسان عليها. وهذا ما توحي به الاية الكريمة:<فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم>. وإلا فإن مقولة تغيير خلق لل. فإن خلق الله ليس الإنسان والحيوان، فالله خلق كل شي‏ء، وبالتالي لا يجب أن نقطع شجرة أو ننسف جبلاً أو نجفف نهراً. لذلك يقولون لا يمكن الاستدلال على هذا، لأننا لا يمكن أن نأخذ بشموليتها في هذا المجال، لأنه ليس فيها ما يدل على اختصاصها بالإنسان والحيوان.

أخلاقيات الاستنساخ:

س:  المشكلة هنا ما ستؤثره على العلاقات الاجتماعية؟

ج:  لذلك أنا أعتقد أن علينا أن ندرس المسألة في حركة الواقع، لنعرف ما هي الإيجابيات وما هي السلبيات، وقلت إن على الناس أن يدقوا أبواب العلماء ليسألوهم، علماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء القانون، عن النتائج السلبية والإيجابية، ولا يدقوا أبواب الفقهاء.

س:  ولكن للفقهاء وعلماء الدين دوراً توجيهياً على الصعيد الأخلاقي في هذه المسألة؟

ج:  إن علماء الدين في هذا المجال يعتمدون على الدراسات الموثوقة في الإيجابيات والسلبيات التي تحقق لهم موضوع الفتوى بالحرمة والحليّة بما فيها الجوانب الأخلاقية.

س:  العالم المتطور هو الذي يقوم حالياً بعملية الاستنساخ، وعلى سبيل الدعاية هناك من يتحدث عن احتمال عودة هتلر ونيرون، وحتى عن الفنانات الشهيرات اللواتي توفين؟ ألا تعتقد أن ذلك سيؤدي إلى زيادة في سيطرة الغرب على الشعوب الضعيفة؟

ج:  هذه الكلمات تمثل جانب الاستهلاك السياسيّ الساذج، لأن القضية هي أن الغرب تقدم علمياً في هذا الاتجاه ونحن تخلفنا، وأن تقول للاخر لماذا تتقدم ولماذا تجعل نفسك حاجة لي ولماذا تسيطر عليَّ بعلمك؟ هذه مسألة لا معنى لها. القضية أن نتقدم كما تقدموا وأن ننتج كما أنتجوا وأن نكتشف كما اكتشفوا. ونحن نلاحظ في القران الكريم أن الدعاء الذي أمر الله نبيه أن يجهر به وأراد للناس كلهم من خلال النبي أن يأخذوا به، هو قوله تعالى:<وقل رب زدني علماً>، إن الإسلام يريد من المسلم أن يظل في حركة تصاعدية في جانب العلم، بحيث كلما وصل إلى مرحلة عليه أن يتحرك نحو مرحلة من مراحل العلم مما يمكن أن يصل إليها، العلم هو القيمة في الإسلام <قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون> وإن العقل هو القيمة <إنما يتذكر أولو الألباب>. لذلك أتذكر قصة ساذجة: أن زميلين في بعض الحوزات العلمية كانا يدرسان في مرحلة واحدة، واصبح أحدهما مرجعاً وبقي الاخر إنساناً عادياً، وعندما التقيا سأل الإنسان العادي: كنا مع بعضنا البعض وفي درجة واحدة فكيف أصبحت أنت في الأعالي وأنا بقيت في الأسفل؟ فرد عليه المرجع:«سرنا ووقفت». نحن نريد للإنسان ألا يحنط عقله وقلبه وحياته. التحنيط وحده عندما يدرج في الكهف.

س:  هناك تفسيرات عديدة حول «الإنسان المستنسخ»، البعض يقول إنه يأتي صورة عن الشخص المستنسخ عنه، بينما يقول البعض الاخر، إن ذلك يشمل أيضاً تفكيره وعاداته وتصرفاته؟

ج:  أتصور أن الاستنساخ هو نوع من التطوير بنسبة متقدمة جداً للقانون الوراثي. ولكن قوانين الوراثة أو حتى العناصر المادية في الاستنساخ ليست هي التي تصنع فكر الإنسان أو تصنع قلبه. الإنسان يتأثر بما حوله وبمن حوله بتجاربه وبالظروف المحيطة به. لذلك فإن الاستنساخ لا يلغي التطور الإنساني الذاتي فيما يمكن أن يتحرك فيه فكر الإنسان في اتجاهات جديدة وأفكار جديدة وعواطف جديدة. وأنا لا أعتقد أننا في حاجة إلى استنساخ المستنسخ هتلر أو نيرون أو غيرهما، لأن الطريقة الطبيعية في التناسل والظروف الموضوعية تصنع لنا اليوم هتلراً جديداً، كبيراً أو صغيراً، ونيرون جديداً بطريقة أو أخرى. لسنا في حاجة لأن نتعب أنفسنا في صنع هؤلاء، لأن واقعنا يفسح المجال لأمثالهم.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير