خلفيات القرار 1559

خلفيات القرار 1559
أجرى الأستاذ سركيس نعوم من جريدة النهار اللبنانية حوارا مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله تناول فيه خلفيات القرار 1559، وآفاق العلاقة الأمريكية- السورية وفلسطين ما بعد عرفات
 

الحلقة

العنوان

 18 شوّال 1425هـ الموافق 1 -12-2004

التظاهرات لن تغيِّر شيئاً

 19 شوّال 1425هـ الموافق 2 -12-2004

المشكلة خارجية... لا داخلية

 20 شوّال 1425هـ الموافق 3 -12-2004

عليك أن تدفع ثمن الحرية

 21 شوّال 1425هـ الموافق 4 -12-2004

ليس من لبناني يفكر في لبنان

 23 شوّال 1425هـ الموافق 6 -12-2004

لبنان معادلة دولية لا إلغاء لها

 24 شوّال 1425هـ الموافق 7 -12-2004

سوريا وأميركا والحاجة المتبادلة

 25 شوّال 1425هـ الموافق 8 -12-2004

"أبو مازن" عاجز عن "التنازل"!

 26 شوّال 1425هـ الموافق 9 -12-2004

العلاقة بين طهران وواشنطن


لم يصبح التمديد لرئيس الجمهورية العماد إميل لحود ثلاث سنوات وراء كل اللبنانيين، كما يتمنى مؤيّدوه وراعيه الإقليمي. وبدلاً من أن يكون نقطة انطلاق لمرحلة جديدة عنوانها الأساسي مكافحة الفساد وإصلاح الأوضاع الاقتصادية وتحصين الوضع السياسي الداخلي، بل الوطني في المواجهة التي يخوضها لبنان وسوريا راعي "مسيرة السلم الأهلي" فيه كما تمنى المستفيد منه ومقرره، صار نقطة انطلاق لمعركة حقيقية داخلية عنوانها الرسمي: رفض التدخّلات الأجنبية في الشؤون اللبنانية الداخلية، وعنوانها العملي: دور سوريا في لبنان وحدوده ووجودها العسكري على أرضه، والأهداف التي ترمي إلى تحقيقها من هذا الوجود، وتأثيرها، أو بالأحرى مسها سيادته واستقلاله و"لعبها" بتوازناته الداخلية وتركيبته الطائفية والمذهبية المعقّدة حفاظاً على مصالحها، وتمهيداً لتحقيق غاياتها النهائية فيه. وقد أثارت هذه المعركة التي لم تبدأ رسمياً إلا منذ أسابيع، مخاوف من تطوّرها وتحوّلها انفجاراً يثبت مقولة إن الحرب في لبنان لم تنته بل توقفت حتى إشعار آخر، وإن الخارج العربي والإقليمي والدولي يستطيع إشعالها متى أراد، تماماً مثلما أوقفها قبل نحو أربعة عشر عاماً.

هذه الأمور كلّها أخذناها إلى المرجع الديني الأبرز في التيارات الإسلامية الشيعية الأصولية اللبنانية، وخضنا معه فيها، انطلاقاً من اقتناع عندنا وعند جهات لبنانية متنوعة برجاحة عقله، وسعة اطّلاعه، وحكمته وقدرته على تحليل الحاضر واستشراف المستقبل. كما تطرّقنا معه إلى قضايا إقليمية أخرى، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والعلاقة الأميركية الإيرانية، والوضع في العراق. أثرنا معه في البداية جو التظاهرات والتظاهرات المضادة السائد في البلاد.

* هل هذا الجو تعبير حقيقي عن انقسام اللبنانيين حول خيارات أساسية ارتضاها معظمهم في اتفاق الطائف؟ أم هو تعبير عن استمرار الانقسامات في ما بينهم بعدما ظنوا أن الاتفاق المذكور أزالها مثل الطائفية ثم المذهبية؟ وهل هذا الجو مؤشر لمرحلة معينة وخطيرة مقبلة؟

ـ لا اعتقد أن التظاهرات، سواء كانت في هذا الجانب أو ذاك تمثّل أي لون من ألوان الخطر، لأن التطوّرات السياسية المقبلة من الخارج، أو التي تتحرك بشكل محدود في الداخل، لم تكن منطلقةً من قرار يعرف حركة الواقع في ما يريد أن يحتج عليه، أو في ما يريد أن يصير إليه، لأن المسألة التي قد تحكم كلَّ هذا النوع من "الحوار الصارخ"، إن صح التعبير، بين الفرقاء الذين قد يأخذ بعضهم صفة طائفية هنا وأخرى طائفية هناك، لا ينطلق من خلال جمهور يلتزم القضية التي يتظاهر من أجلها أو يهتف لها بالمعنى الأساسي الدقيق للمسألة. فالواقع الحزبي، سواء أكان تياراً أم تنظيماً، لم ينطلق من خلال تثقيف قاعدته الجماهيرية، بحيث تستوعب الجماهير الفكرة وتناقشها لتتخذ موقفاً ايجابياً أو سلبياً منها. إن المسألة غالباً في هذا الجو الجماهيري العاصف من هنا وهناك، تنطلق من خلال السطح، وخلفيات عميقة تختزن الطائفية، ما يجعل شعارات هذا الفريق، حتى لو كانت بلغة وطنية، تحسب على موقع أو طائفة معينة أو وضع إقليمي أو وضع دولي حتى لو كانت لا تريد ذلك، لأن مسألة الإحساس الطائفي تحوّلت إلى حالة مرضية، بحيث يصعب على الإنسان أن يجرّد نفسه منها، ولذلك نجد هذا الفريق أو ذاك الفريق يرجع إلى قواعده الطائفية سالماً عندما تتأزّم الخطوط السياسية هنا وهناك.

لذلك أتصوّر أن التظاهرات، سواء أكانت من هذا الجانب أم من ذاك الجانب، لم تستطع في الماضي أن تغيّر شيئاً، ولن تستطيع أن تغير شيئاًٍ. نحن عندما ندرس التظاهرات في تاريخ لبنان، والتظاهرات التي حصلت في جورجيا أو التظاهرات التي تحصل الآن في أوكرانيا، نجد أن هناك شعباً يعيش قضية ربما بدرجات متفاوتة، ولكنه يتابع المسيرة بالطريقة التي يحاول فيها أن يحاصر المشكلة، بصرف النظر عن النتائج، وليس هذا محصوراً في فريق معين، وهناك فريق آخر قد يُشار إليه أنه فريق مؤيد لروسيا إلى جانب الفريق الذي يؤيد الغرب. ولكنك تجد هناك في الحالتين شعباً يتحرك من أجل التغيير الحقيقي، بحيث يمارسه بشكل سلمي لم يصل حتى الآن لا في جورجيا ولا في أوكرانيا إلى مستوى العنف، وخصوصاً أن علينا أن نعرف أن هذه المنطقة، الاتحاد السوفياتي سابقاً، ليست غربية ليقال إن تطور الواقع السياسي الغربي، سواء على مستوى الأحزاب أو الجماهير قد وصل إلى مرحلة الوعي، بحيث يفسح المجال لمثل هذه النتائج، بل إنها عاشت تحت تأثير المناخ الشرقي الذي عشناه بطريقة وبأخرى، لأن هذه الجماهير عاشت الأساليب الماركسية وأساليب الحزب الشيوعي الخاضع للاستخبارات.

ولكنها استطاعت أن تتحرر في وقت قصير من سيطرة الاستخبارات. ومن هنا، أتصور أن الوضع الموجود لدينا في لبنان، وربما في المنطقة، ولا أتحدث هنا عن شمولية ساحقة، أن هذا الوضع يمثل نوعاً من أنواع الظاهرة الصوتية التي تحب أن تسمع الصوت وإن كانت لا تفكر في مضمونه السياسي أو الوطني أو ما أشبه ذلك. نحن عندما نواجه كل واقع هذا التظاهر الذي يخشى الجميع أن يتحول إلى حالة أمنية سلبية، كما حصل في "حي السلم" خلال تظاهرة العمال، نرى أنه ينطلق من حالة صوتية قد تبلغ حد الصراخ هنا وهناك، ولكن الجو سوف يرجع إلى حالته الطبيعية، ليفسح المجال للتحليلات والتصريحات التي لا تعني شيئاً".

جريدة النهار:18 شوّال 1425 الموافق في  01/12/2004



* هناك تظاهرات جرت قبل عيد الاستقلال بأيام محدودة. والآن نجد أن هناك من يدعو إلى تظاهرة حاشدة أو مليونية (السلطة والأحزاب وكل الفريق الداعم لها). هل تعني هذه الدعوة أن كل من يشترك فيها هو مع التدخل السوري في الشأن اللبناني؟ وهل هم مع إدارة سوريا مباشرة للملف اللبناني؟ هل هم مع استمرار سوريا في لبنان إلى الأبد؟ أم هم مع تصويب العلاقة اللبنانية السورية ومع إقامة تكامل فعلي ومتنوع معها يجعل مقاومة إسرائيل بفاعلية ممكنة ويعيد اللحمة الحقيقية إلى الوضع الداخلي في لبنان؟

ـ لقد أشرت في الإجابة عن السؤال الأول، إلى أن الجماهير لا تملك ثقافة الخطوط التفصيلية لما تنادي به، بل ربما تنطلق من موقف وخطّ عريض في العناوين الخارجية الكبرى، فهناك العنوان الإسرائيلي الذي أدمنت الجماهير المعيّنة رفضه من خلال التجربة القاسية التي خاضتها معه، منفتحاً على العنوان الأميركي، والذي اختزنته الجماهير من خلال المواقف الأميركية من جهة، والتصريحات الأميركية التي تحدثت عن إسرائيل بما يشبه الدعم المطلق من جهة أخرى. فالجماهير اللبنانية في دائرة معيّنة هي امتداد للجماهير العربية بشكل عام، مع ملاحظة بعض التعقيدات التي بدأت تهوّن من المسألة الإسرائيلية نتيجة المشاكل المحلية التي استغرقت فيها، وأصبحت لا تطيق أي انفتاح على مشاكل أخرى تضيف إليها مشكلة. إن هذه الجماهير تنطلق من الرفض للمسألة الإسرائيلية المتحالفة مع المسألة الأميركية، ليكون هتافها في هذا الاتجاه بعيداً عن التفاصيل.

وطبيعي أن لدى كل الناس تحفّظات عن سلوك هنا وتدخلات هناك، لأن الناس تحب الحرية في هذا المجال، ولكن القضية تتصل بالمسألة الكبرى، وهي مسألة أن ما يصدر من أميركا من مواقف، وخصوصاً القرار 1559، هو قرار لمصلحة إسرائيل. ولذلك لاحظنا التأكيد على هذا جانب في التصريحات الإسرائيلية التي رحبت بهذا القرار. لقد كانت المسألة تمثّل استغراقاً في القضية الإسرائيلية والأميركية، وربما دخلت فرنسا على الخط نتيجة بعض التحليلات والتفسيرات التي قد يفسّرها البعض بالتزام فرنسا بلبنان الحرّ، أو بحرية لبنان، أو ببعض العقد الاقتصادية التي حصلت بين فرنسا وسوريا، أو بمحاولة فرنسا الاقتراب من السياسة الأميركية في المنطقة.

إن الهتافات والتظاهرات تنطلق من المسألة القومية أكثر مما تنطلق من خصوصيات المسألة المحلية. كما أن هناك تحليلاً وتفسيراً للفريق الآخر بأنه يستغرق في المسألة السورية في بعض سلبياتها، ولكنه لا يستغرق مثلاً في المسألة الأميركية أو الإسرائيلية بالقوة نفسها، حتى إن بعض التحليلات قد توحي أنّ ترحيب فريق بقرار مجلس الأمن، إنّما ينطلق من بعض الخطوط والمفردات التي تنسجم مع الخط السياسي الذي يتحرك فيه هذا الفريق وطنياً أو طائفياً أو ما إلى ذلك ـ حسب حسن الظن أو سوء الظن في هذا المجال ـ ما يجعل هناك كثيراً من الفهم الضبابي لهذا الفريق من أنه ينطلق من حالة طائفية مسيحية ضد الخط الإسلامي الذي يتمثل في سوريا، وربما يفسّر البعض الموقف المسيحي بأنه موقف وموقع مسيحي ضد موقع إسلامي، علماً أن سوريا لا تتحرك إسلامياً لأنها دولة علمانية، وربما يشعر المسيحيون في سوريا من الناحية الطائفية برحابة الدولة السورية في الساحة، كما كان يشعر اليهود المقيمون في سوريا في هذا المجال.

هناك خلطٌ في حركةِ التصوّرات، والجميع لا يتعمّقون في المسألة السياسية بشكل دقيق، وربما يتحدث البعض في مجال التحليل، أن اللبنانيين ليسوا واقعيين في هذه المسألة، لأنه من المعلوم، سواء على مستوى الواقع التاريخي لمسألة قوات الردع العربية، أو مسألة طبيعة العلاقات السورية اللبنانية قبل الاستقلال وبعده، أن كل المشكلات الموجودة في لبنان ليست مشكلات داخلية، لأن كلّ المشاكل المتصلة بالعلاقات السورية اللبنانية في خطوطها السلبية، من خلال التفاصيل التي قد يتحدث البعض عنها، هي مشكلة العلاقات الأمنية وليست السياسية، ولو كانت المسألة سياسية لما وصلت إلى هذه التعقيدات، لأنه من الطبيعي أن يكون هناك تداخل بين بلدين متجاورين أو متداخلين على مستوى العلاقات الشعبية أو في الجانب القومي، وأن المسألة الأمنية تأكل المسألة السياسية، وإلا فنحن نعرف دولاً متجاورة (كبرى وصغرى)، لا بد أن تخضع الدولة الصغرى لبعض ضغوط وعناوين الخطوط للدولة الكبرى، كما في أميركا وكندا والمكسيك، وهو أمرٌ معروف في السياسة الدولية. ولهذا نتصوّر أن المشكلة خارجية وليست داخلية، حتى إن هناك من يفسّر القرار 1559 أنه ليس موجهاً إلى لبنان، إنما إلى سوريا بالنسبة إلى المسألة العراقية من جهة الاتفاق على ضبط الحدود العراقية السورية، لأن أميركا تتهم سوريا بأنها تشارك في تشجيع المقاومة.

ولقد رأينا المبعوث الأميركي بيرنز الذي جاء إلى سوريا، أنه تحدث في المقابلة بنسبة9 في المئة عن العلاقات السورية الأميركية بالنسبة إلى القضية العراقية، وأما حديثه عن لبنان فكان عند الوداع... ما يدل على أن المسألة متصلة بالضغط على سوريا من ناحية لبنان، وهو ما لاحظناه من أن الدول لم تقاطع بعد التمديد (ولا سيّما فرنسا وأميركا) رئيس الجمهورية في هذا المجال، بل قرأنا بعض التصريحات التي تهوّن من هذا الموضوع من الناحية الديبلوماسية، وتدعو إلى عدم تحميل المسألة أكثر مما تحمل، لأن الكثير من الدول قد تعيش مثل هذه التجربة وتبقى الدولة وتبقى المعارضة. حتى إن بعض الديبلوماسيين الذين شاركوا في هذا القرار الدولي، كانوا يقولون إننا لم نطالب أن يكون الانسحاب السوري بين ليلة وضحاها، بل قد يحتاج ذلك إلى زمن. ولا أتصوّر أن هناك ضغطاً بالمعنى الحاد في نطاق المصالح الدولية في هذا المجال على الموقف السوري، وبالتالي على الموقف اللبناني.

إن القرار 1559 هو قرار دولي يتحرك في دائرة العلاقات الأميركية السورية، ويبقى للبنان دور الخط السياسي الذي يراد فيه إزعاج الآخرين، لأن لبنان لم يصل إلى مرحلة يمكن أن تفاضل فيه أميركا بينه وبين سوريا، أو بين الواقع فيه والقضية العراقية، كما أن أميركا ليست هي الدولة التي تلاحق قضايا الحرية للشعوب بعيداً عن مصالحها الاستراتيجية.

جريدة النهار:19 شوّال 1425 الموافق في  02/12/2004



* ألم تعط سوريا أميركا حجة أساسية للتدخل والضغط، عندما فرضت التمديد للرئيس إميل لحود أو قررته، علماً أنها لا تحتاج إلى ذرائع للتدخل؟

ـ ربما يدرس البعض هذه المسألة بطريقة أخرى، وذلك أن الوضع بين سوريا وأميركا في علاقتهما المتشنجة، وصل إلى مرحلة تحتاج فيها سوريا إلى ورقة ضغط تؤكد فيها موقعها وموقفها، ولا سيما أن بعض المعلومات ـ ولا أدعي دقتها ـ إن الموقف الأميركي كانت له خلفية إسرائيلية، كأيِّ موقف أميركي يتصل بسوريا أو يتصل بالمنطقة العربية، فالموقف السوري كان يدخل في عملية ضغط يؤكد فيها أننا لن نسقط تحت تأثير هذا الضغط الأميركي، لأن المسألة كانت، وبقطع النظر عن المسألة السلبية، في هذا الكباش الأميركي السوري، في حاجة إلى ورقة ضغط سورية توحي إلى أميركا أن هناك نافذة للعالم لا بد فيها من الحوار، لأن هناك حاجة أميركية لدى سوريا من خلال القضية العراقية، لتكون هناك ورقة ضغط سورية على أميركا من خلال الورقة اللبنانية، لأن أميركا يمكن أن تتدخل مع سوريا من خلال الورقة اللبنانية للمقايضة مع الورقة العراقية، وهذا ما لاحظناه عندما لم نجد هناك حالة حادة أميركية ضد سوريا.

وربما بدأنا نسمع ـ والكلّ يقرأ ـ أن هناك انفتاحاً على الطريقة السورية في إدارة المسألة العراقية، بين مرحِّب مع بعض التحفّظات، وبين مرحب آخر بدون تحفظات، وقد بدأت ذلك بورقة ضغط، ليكون ذلك وسيلة من وسائل إدارة الحوار، وهو ما حصل في هذا الموضوع.

إن البعض ينظر إلى بعض السلبيات التي واجهت سوريا، أو الذين يُعتبرون فريق سوريا في لبنان، من خلال مسألة التمديد، ولكن المسألة أعمق من ذلك، والنتائج التي واجهناها تدل على ذلك، لأنّ لبنان هو الساحة الوحيدة التي تستطيع سوريا بواسطتها تحصين وضعها في المواجهة الشرسة التي تخوضها.

* أيهما كان أفضل لإنجاز هذا التحصين: التمديد للرئيس لحود، أم اختيار رئيس جمهورية جديد له من حلفائها اللبنانيين؟ علماً أنه في سبيل القضية القومية والمواجهة، بذل لبنان تضحيات كثيرة وطلبت ولا تزال تطلب منه تضحيات كبيرة، فكلّما تحدّث أحدٌ عن تصحيح الأمور والعلاقة، يقال له إن الأولوية للقضية الكبرى، علماً أن هذه القضية راحت، وقريباً سيروح استقلال البلاد، وربّما البلاد كلها..؟

ـ علينا ألاّ نعالج هذا الأفق الواسع الذي يطلُّ على المسألة الدولية في الورطة التي تعيشها أميركا في العراق. وعلينا أن نعرف حقيقة، وهي أن أية شخصية حتّى لو كانت صديقة، لن تمثِّل هذا التحدي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإني أناقش فكرة أن استقلال لبنان سوف يسقط، لأن لبنان منذ أن استقل كان استقلاله متحركاً في نطاق العلاقات والخطوط الدولية. فقد كان لبنان فرنسياً ثم بريطانياً ثم أميركياً، وفي الدائرة العربية كان ناصرياً من جهة، وغربياً من جهة أخرى في الحرب الباردة. فحتى لو خرجت سوريا من لبنان، فإن تأثير سوريا في لبنان سيبقى بطريقة وبأخرى. ليس الجيش السوري هو الذي يفرض ما يعتقده البعض تعقيدات مسيئة للبنانيين واستقلالهم، بل إن هناك قضايا تتصل بطبيعة النسيج اللبناني، كما تتصل باللعبة الدولية في هذا المجال.

كان علينا أن نعرف أن الاتحاد الأوروبي من جهة، وأميركا من جهة أخرى، وروسيا وغيرها، لها مصالح في سوريا أكثر من مصالحها في لبنان، لأن لبنان بالنسبة إلى الغرب كله يمثل الرئة التي يتنفسون فيها، لأن الغربي أو الروسي لا يجد في المنطقة بلداً يعيش فيها عاداته وتقاليده ولهوه وعبثه غير لبنان، وخصوصاً مع ما يملكه الإنسان اللبناني من ثقافة يستطيع أن يخاطب بها العالم بلغته، بينما لا يملك الآخرون أسلوب الخطاب، حتى مع وجود بعض المثقفين.

لذلك أرى أنه عندما تخرج سوريا من لبنان عسكرياً وأمنياً، فإنّ لبنان لن يطيق الفراغ، وليس للبنان قوة ذاتية بالمعنى العسكري، أو حتى بالمعنى السياسي والاقتصادي، يستطيع أن يحكم فيها نفسه بالمعنى الذي يتحرر فيه من أي ضغط خارجي. فعندما تخرج سوريا من لبنان، فإنه من الممكن جداً أن تطل إسرائيل على لبنان بطريقة وأخرى وبمعاونة أميركا، وهو ما لاحظناه عندما أطلت إسرائيل على العراق بعد سيطرة السياسة الأميركية على العراق في هذا المجال.

ليس هناك بلد يملك الاستقلال الكامل، حيث يستطيع حماية نفسه بنفسه، لذلك لا بد لنا، ولو على المدى الطويل، أن نفكر بطريقة واقعية وتصور مدروس للطريقة العملانية التي يمكننا فيها أن نصوغ علاقات سورية لبنانية بما يحفظ هذه العلاقات بين الشعبين والبلدين، لأني أزعم أن كل الذين يتحدثون عن مسألة ضرورة العلاقات المميزة، ليس لديهم أيّ تصوّر للعلاقات المميزة، إنما هي كلمات تطرح في الهواء الطلق لتسجيل موقف أو للهرب من مأزق معين!.

* الجميع يعترفون بأن لا استقلال مطلقاً في العالم، ويقرون بأن لسوريا نفوذاً في لبنان، حتى الذين هم أعداء لها. وأنا هنا لا أتحدث عن المعارضة التي هي خارج اتفاق الطائف. لكنّ هناك حداً أدنى من الاستقلال. فأميركا تعترف بمصالح مشروعة لسوريا في لبنان، واللبنانيون يعترفون بحاجتهم إلى سوريا التي ساعدتهم مرات عدة بهذه المصالح، إلا أن العلاقة القائمة حالياً بين لبنان وسوريا ليست مميزة كما يفترض استناداً إلى اتفاق الطائف؛ هي علاقة الحاكم (أي سوريا) الذي يدير لبنان، ولن أسمي ذلك احتلالاً بكل تفاصيله. حتى الحكم الذاتي منع على اللبنانيين ولم يتوافر لهم. أشرتم إلى أميركا وكندا. لكن أميركا لا تعين رئيس كندا، ولا تتدخل في تعييناتها السياسية والإدارية والديبلوماسية. هناك حد أدنى من الاستقلال يجب أن يحترم؟

ـ الكلام هذا باعتبار طبيعة تكوين الإنسان الغربي، فهو ليس مستعداً أن يتنازل عن حريته وعن شخصيته الديمقراطية، بينما الشرق لم يدخل الديمقراطية كليةً، فأنت لا تستطيع أن تكون مستقلاً لمجرّد أن يعطيك الآخر الاستقلال بالانسحاب. فعندما ندرس المسألة دون الإساءة إلى أحد، فإن الكثيرين من الذين يتحدَّثون بهذه الطريقة السلبية لو أفسح لهم المجال، لهرعوا إلى سوريا، ونحن نعرف أنه حتى الذين يتحدثون الآن عن الفساد وعن الإهدار تحت غطاء سوري، كانوا ممن صنعوا الفساد ومارسوا الإهدار وهم في أعلى مواقع المعارضة، كذلك بالنسبة إلى الطرف الآخر، فإن الذين يحاولون ممارسة الخضوع المطلق للحصول على بعض المكاسب المعينة في أي موقع من المواقع الصغيرة والكبيرة، مَنْ الذي يمنعهم أن يقولوا "لا"، فهم يخافون أن يسقطوا في الانتخابات، ويخافون أن يوجّه إليهم القضاء تهمة ما.

عندما تعيش حريتك، فإن عليك أن تدفع ثمن هذه الحرية. ولم يدفع أحد حتى الآن ثمن الحرية، حتّى الذين هاجروا من لبنان لم يدفعوا ثمن الحرية، بل انطلقوا من خلال بعض الأوضاع الدولية التي حاصرتهم في هذا المجال. فعندما يصل اللبناني إلى مرحلة يستعد فيها لأن يدفع ثمن الحرية، فلن تستطيع أية دولة أن تفرض عليه رئيساً أو حكماً أو برلماناً، ولكن القضية هي أنه قل لي كيف تعيش حريتك، أقل لك كيف يكون مستقبلك.

جريدة النهار:20 شوّال 1425 الموافق في  03/12/2004



* المشكلة البنيوية والعضوية الحقيقية في البلد هي الطائفية التي صارت مذهبية، لماذا لم تقم سوريا بما توقَّعه منها اللبنانيون لحلّها، بل استعملت الوضع الطائفي اللبناني المعقد للمحافظة على نفسها، وأدارت الصراع بين المجموعات اللبنانية، ولم تبذل الجهد الكافي لقيام الوحدة اللبنانية الحقيقية؟

ـ عندما ندرس المسألة الطائفية التي تولد مع الإنسان اللبناني من خلال طبيعة الثقافة التي أريد له أن يبني شخصيته من خلالها، نجد أنها أساساً كانت مرتبطة ببعض الخطوط الخارجية التي استفادت منذ المسألة الشرقية من الوجود المسيحي الطائفي، رغم أننا نقدّر ونحترم خدمة المثقفين المسيحيين للعروبة ودورهم في مسألة الصراع العربي اليهودي، فكثير من المفكرين اللبنانيين المسيحيين أدّوا هذا الدور الريادي في حركة الصراع ضد الإسرائيلية والصهيونية اليهودية، كميشال شيحا وريمون إده مثلاً. لقد كانت الوظيفة الغربية للوجود المسيحي تخدم الخطوط السياسية الغربية من اجل إسقاط الخلافة العثمانية في ذاك الوقت، ثم دخلت المسألة في تطورات الحرب الباردة بين الشرق والغرب.

هذه هي الصورة التي انطبع فيها الوجود السياسي المسيحي، سواء وافق عليه البعض أو لم يوافق ـ ولا أدعي أن كل المسيحيين يوافقون على ذلك، إنما نجد أن هناك بعض المسيحيين أكثر عروبةً من المسلمين، كفارس الخوري (اللبناني) في سوريا، وريمون اده في مواجهته المسألة الإسرائيلية بكلِّ دقة ـ. لذلك بقيت رواسب هذا الدور تتفاعل بطريقة وأخرى، وخصوصاً عندما وصلنا إلى مسألة عبد الناصر والقومية العربية، ثم بعدها الاحتلال الإسرائيلي وما أحاط بذلك من تجاذبات وأمور. ربما ترك مثل هذا الواقع السياسي بعض الرواسب والخوف؛ خوف المسيحي من الوجود الإسلامي، وخصوصاً عندما دخلت القضية الفلسطينية ودخل الفلسطينيون في حرب السنتين وغيرها. وكان التطور التراجعي في الموقف من سوريا. ونحن نعرف أن المسيحيين، رحبوا بالدخول السوري الذي جاء لإنقاذ المسيحيين، حسب العناوين السياسية آنذاك، ولكن المسألة انقلبت بعد ذلك بطريقة وأخرى.

إنّ مثل هذا عمّق الرواسب المسيحية في الإحساس الطائفي، كما أثار رد فعل في الموقع الإسلامي، ولهذا أصبحت المسألة الطائفية تملك من الحساسية ما يصعب على أي مواطن أن يبتعد بها عن الجانب الطائفي لمصلحة الجانب الوطني.

لذلك نحن لا نتصوَّر أن في لبنان فكرة الوطنية اللبنانية أو المواطن اللبناني. وهذا ما نلاحظه الآن في الوسط السياسي، وخصوصاً المسيحي، عندما تطرح مسألة إلغاء الطائفية السياسية وإبدالها بالمواطنية السياسية، فإن الجميع يصرخون، لأن هذا معناه أن لبنان سيقع تحت الهيمنة الإسلامية، مع أنك لا تطرح ديمقراطية عددية بهذا المعنى، وإنما تطرح المواطنية، والمسلمون يرفضون ذلك، لأنهم يعتبرون أن وجود لبنان مرتبط بالوجود المسيحي، ولكن هناك فرقاً بين وجود الطوائف كشعب متكامل في القيم الإسلامية المسيحية وفي العيش المشترك، وبين أن يكون النظام طائفياً؛ أن آخذ حقوقي السياسية بحجم طائفتي، وأن يأخذ الآخر أيضاً بحجم طائفته. وحتى إننا في هذه الطائفية أدمنّا الطائفية المذهبية التفصيلية. ونحن نعرف أن الشيعة يفكرون في حقوقهم الشيعية في لبنان، وكذلك السنّة والموارنة والدروز والأرثوذكس وغيرهم... فلم يبق هناك شخص يفكر في لبنان، وحتى لو فكر فيه فإنه يفكر فيه في الإطار الطائفي؛ أن يكون لبنان لبنانه.

إني اعتقد أن المسألة تنشأ من شخصية اللبناني، ولو فرضنا أن اللبنانيين عاشوا مواطنيتهم ودرسوا خطوط هذه المواطنية في علاقاتها بالمنطقة، أو علاقاتها الدولية في هذا المجال، فلا أعتقد أن أية دولة قادرة على أن تصادر حريتهم أو استقلالهم أو قضاياهم.

* لا شك أن المسيحيين استُعملوا في الماضي كما قلت لمصلحة مشروع ضرب السلطنة العثمانية. لكن الحرب في لبنان انتهت وخسرها المسيحيون، وتقلص حجمهم الديموغرافي، وتالياً لم يعد هناك مشروع مسيحي للبنان أو فيه. ثم جاء المجتمع الدولي ومعه المجتمع العربي، وفي المقدمة سوريا، ووُضِعَ مشروعٌ وطني للبنان سمِّي اتفاق الطائف. صحيح أن في لبنان طوائف، وصحيح أنّ سوريا أتت إلى لبنان وحمت المسيحيين مثلما حمت الشيعة والسنّة والدروز، لكن الصحيح أيضاً أنها أقامت علاقة مباشرة مع كلِّ من هذه الطوائف، ولم تسع لتنسج هذه الطوائف علاقات فيما بينها، الأمر الذي يؤدي لو حصل إلى عيش مشترك إسلامي ـ مسيحي فعلي تضمنه دمشق..؟

ـ أتصور أن اتفاق الطائف كان اتفاق الضرورة الذي لم يشارك الشعب اللبناني فيه، وإنما كان نتيجة توافق السياسيين الذين دخلوا البرلمان في أوائل السبعينات، ما جعل الشعب اللبناني ينساهم أو لا يرتبط بهم إلا من خلال بعض الجوانب الشخصية، ونحن نعرف أن اتفاق الطائف هو الاتفاق الذي أريد له أن يمنع الحرب من خلال برنامج دولي كنت أعبّر عنه بطريقة النكتة أنه انطلق بتخطيط أميركي، وعقال عربي، وطربوش لبناني. كان اللّبنانيون يريدون وقف الحرب بأيِّ ثمن، وأنا أزعم أن أكثر اللبنانيين لم يقرأوا اتفاق الطائف حتى عندما تحوَّل إلى ميثاق.

لذلك نحن لا نعتبر أن اتفاق الطائف الذي نؤكده لأنه يمنع الحرب، ولأنّه يضع أمام اللبنانيين بعض العناوين التي يمكن أن يحاور بعضهم بعضاً فيها، لا نعتبر أنّه انطلق من إرادة لبنانية شاملة، لأنّ الذين وقّعوه لم ينتخبهم الجيلُ الذي كان في عهد اتفاق الطائف، والجيل الذي كان مخضباً بالدم والأحقاد وبكلِّ الرواسب العفنة. في هذا المجال، كان الدور السوري في ذلك الوقت متداخلاً مع الدور الدولي والإقليمي. ونحن نعرف أن النظام العراقي كان يتدخل في لبنان وكذلك النظام المصري والليبـي... وأن المسألة الفلسطينية كانت في عمق الحرب اللبنانية. فأعتقد أن المسألة لم تتحرك من خلال خطٍّ واضح تمسكه دولة معينة، بل كان مزيجاً من خطوط إقليمية ودولية ربما ابتعد بعضها عن الساحة، ولكن بقيت الخطوط الضخمة في المجال الدولي، ودخلت عليه إسرائيل أيضاً في تحالفها مع أميركا بشكل جعل التعقيدات متحركة بطريقة وبأخرى، ربما تطرح العناوين الكبرى التي قد تضغط هنا وهناك، لكن لم تصل حتى الآن إلى الطريق المسدود في علاقة سوريا بلبنان.

جريدة النهار:21 شوّال 1425 الموافق في  04/12/2004



* اعتبرتم أنّ اتفاق الطائف ضرورة، وأن هدفه كان إنهاء الحرب، فهل عندكم تصوّر أفضل لصيغة معينة تسمح للبنان بالتّعافي؟

ـ أعتقد أن العلاج هو في المواطنية. علينا أن نثقّف الشعب بها وليس بالتوازن بين المسيحيين والمسلمين في مسألة (6و6مكرر) في الوظائف الكبرى والثانوية، وأن يكون المواطن هو اللبناني والكفاية هي الأساس، وأن نأخذ ما أخذ به الآخرون، وخصوصاً أنه ليست هناك أية فكرة في ما كان يتحدّث فيه من قضية الدولة الإسلامية والجمهورية الإسلامية، والتي يعرف حتى الذين كانوا يستهلكون هذا العنوان أنه ليس واقعياً لا في لبنان ولا في المنطقة.

* قلتم إن على اللبنانيين أن يكونوا واقعيين، وإنهم لا يعرفون من العلاقات المميزة مع سوريا إلا الاسم. ما هي في رأيكم الصيغة الفضلى للعلاقة المميزة بين لبنان وسوريا؟

ـ واقعاً لم أضع برنامجاً في هذا المجال، ولكني أعتقد أن على اللبنانيين أن يكفوا عن المواقف السلبية التي تطل برأسها الآن في ما يسمى المعارضة والموالاة ومقاطعة الدولة والرئاسة وما إلى ذلك، وأن يكفّوا أيضاً عن هذا الجدل البيزنطي في تسجيل النقاط. فمن الأمور التي تحدثت عنها ولا أزال، أنه عندما كنا نستمع إلى جلسة الثقة، كنا نستمع إلى المعارضة وهي تتحدث عن الشياطين اللبنانيين الذين صنعوا كل مشكلة لبنان، في الوقت الذي لم تكن هذه الحكومة قامت بشيء بعد، ولا ندري حتى كيف تنتهي، ما يعني أنهم يحاكمون أنفسهم، لأنهم كانوا هم الحاكمين، ولأنهم عندما يتحدثون بلغات العنترية والسباع، فقد كانوا قادرين أن يقولوا "لا" وأن يستقيلوا ويفضحوا كلَّ زعماء الفساد والإهدار، ولكنهم كانوا يتحالفون مع هذا الرمز وذاك الرمز وغير ذلك، إضافةً إلى ما يُقال عنهم أو عن بعضهم إنهم شاركوا في الإهدار عندما كان يأتي وزير منهم بجماعته وغير ذلك، مما قد يكون صدقاً أو كذباً، لأنّ القضية عندنا هي: "كلما دخلت أمّة لعنت أختها".

إنّ هؤلاء اللبنانيين الذين يجتمعون في المآدب والمناسبات والاستقبالات، يمكنهم أن يجلسوا وراء الكواليس ويطرحوا ما هي سلبيات الواقع السوري في لبنان، وما هي البرامج المثلى للعلاقات المميزة بشكل تفصيلي، وكيف يمكن أن نصوغ شخصية اللبناني لتكون شخصية المواطن بدلاً من الشخصية الطائفية، ثم يدعوا سوريا أيضاً وراء الكواليس للحوار، وإذا لم يصلوا إلى نتيجة حاسمة، فقد يصلون إلى نوعٍ من النتائج القريبة مما يمكن أن يطل عليه المستقبل.

* هناك خشية عند جهات لبنانية، وهي ليست مسيحية فقط، أن تكون لسوريا أهداف أخرى في لبنان غير المعلنة رسمياً، لجهة قيام فيدرالية أو كونفديرالية بين لبنان وبينها، وذلك في ظل ميزان القوى الحالي والتجارب في العالم الثالث، وهو ما لا يشجع اللبنانيين، أو قسماً مهماً منهم على قبول علاقات من هذا النوع؟

ـ قلت إن هؤلاء يفكرون في جنس الملائكة وفي الخيال، لأننا نعرف أن لبنان يمثل معادلة دولية. ربما قال بعض المسؤولين الأميركيين أيام الحرب إن هناك بعض الدول التي يمكن أن تزول من الخريطة، ولكنه عرف بعد ذلك أن لبنان ليس من بين هذه الدول. المسألة هي أن لبنان يمثِّل معادلة دولية لن تدخل في فيدرالية ولا وحدة، ولن يستطيع أحد إلغاءها، وخصوصاً أن المرحلة في المستقبل المنظور تمنع تغيير الدول في المنطقة. وعندما يتحدَّث المحلّلون عن تقسيم العراق دولاً، فإن الواعين الذين يمثِّلون العمق السياسي يعتبرون أن قضية "سايكس ـ بيكو" هي من القضايا المتصلة بالعلاقات الدولية بشكل عام . صحيح أن أميركا تملك السيطرة الأقوى، ولكنها لا يمكن أن تعتبر الاتحاد الأوروبي أو روسيا أو الصين عالماً ثالثاً. هناك في الواقع الدولي الموجود في المنطقة، على الأقل في منطقة الشرق الأوسط لا المنطقة العربية، هناك واقع يضمن المصالح الدولية في ترتيبه، ولا يمكن أن يتغير هذا الواقع الدولي إلا إذا حصلت لدينا مرحلة في خطورة المرحلة التي أعقبت سقوط الخلافة العثمانية. ونحن نعرف أن المصالح الأميركية مؤمّنة من هذا الاتفاق "سايكس- بيكو" كما هي المصالح الأوروبية، بصرف النظر عن الصراع الخفي بين المصالح الاقتصادية الأوروبية والأميركية. إن من يفكر بهذه الطريقة، فإنه يبحث عن شيء أي شيء، ولو رجع إلى نفسه فسيرى أنه هباءً.

جريدة النهار:23 شوّال 1425 الموافق في  06/12/

سوريا وأميركا والحاجة المتبادلة

* هل تعتقدون أن الكباش السوري - الأميركي الدائر حالياً سيؤدي إلى تفاهم وتالياً إلى تسوية بين دمشق وواشنطن أم إلى مواجهة؟

ـ في دراستي للعلاقات السورية - الأميركية التاريخية، والتي قد يطلُّ جانبٌ منها على المستقبل، أجد أن هناك مشكلات بين سوريا وأميركا تتصل بمجملها بالقضية الفلسطينية الإسرائيلية (أزمة الشرق الأوسط)، لأن السياسة الأميركية في الحرب على الإرهاب، تتهم سوريا بأنها مأوى للفصائل الفلسطينية التي تعتبرها منظمات إرهابية، وأن "حزب الله" منظمة إرهابية، وأن سوريا تدعم الإرهاب بدعم هؤلاء، حتى بالمستوى الذي لا تستطيع أميركا أن تثبته بشكل دقيق، وكذلك مسألة أن قادة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الموجودين في سوريا يملكون معسكرات للتدريب، وأنهم يتدخّلون في فلسطين، وأن الفلسطينيين الموجودين في سوريا يأتون إلى فلسطين هذا أمر لم تستطع أميركا ولا إسرائيل أن تثبته بطريقة واقعية، لأن المعروف أن هذا الوجود وجود سياسي، وسوريا تملك ضبطاً سياسياً لكل الفئات الموجودة عندها.

أما مسألة "حزب الله" والمقاومة الإسلامية، فإن الجميع يعرفون أنه يملك الانضباط بشكل وبآخر في حركته المقاومة الفعلية المباشرة، والتي يخشى منها على اهتزاز الوضع في المنطقة، لأن هذا الفريق أصبح يملك رشداً سياسياً يعرف فيه قواعد اللعبة، ولكن المسألة تحت تأثير الاقتناع اللبناني، واقتناع اللبناني أن مزارع شبعا لا تزال أرضاً لبنانية محتلة، فأصبحت المسألة تفرض وجود المقاومة مع وجود قسم من الجيش، لأن الجيش اللبناني لا يملك أن يخوض حرباً مع إسرائيل، وإن حاولت إسرائيل الاعتداء على لبنان، لأن العلاقات علاقات عداوة باعتبار عدم حصول صلح.

أما مسألة الأسلحة التي تأتي عبر سوريا، فهي مسألة تفصيلية، لأن خطورة الأسلحة إنما هي في استعمالها، أما إذا كانت لا تستعمل فهذا أمر آخر. وتبقى الخطورة أن أميركا وإسرائيل تفكران في ألا يكون هناك قوة في المنطقة يمكن أن تزعج إسرائيل ولو في المستقبل غير المنظور، لأنهم يريدون لكل المناطق المجاورة لفلسطين أن تشعر بالضعف والخوف، وأن لا تشعر بالقوة ولو بهذا الحجم.

لذلك فإن أميركا تعرف أن ما تتحدث عنه من دعم الإرهاب ليس واقعياً، بل هو ورقة تحركها في الاستهلاك السياسي، وحتى أسلحة الدمار الشامل، فإنها قد تمثل نكتة أميركية في الموقع السوري، لأن سوريا لا تملك القوة الاقتصادية لصناعة أسلحة الدمار الشامل، لأنها لو قدرت على ذلك، لعملت على تسليح نفسها بالأسلحة التقليدية وبشكل تستطيع الموازنة فيه بين موقعها العسكري قبالة موقع إسرائيل. إن أميركا تريد دائماً تسجيل نقطة على سوريا، وتمارس بعض الضغوط عليها، لتليين موقفها في المسألة الفلسطينية. وحتى عندما قدَّمت سوريا عرضاً للتفاوض دون شروط، برزت الشروط الإسرائيلية بغطاء أميركي، تماماً كما هي الشروط الإسرائيلية ضد السلطة الفلسطينية في التصرف بقسوة، وتفكيك الفصائل الفلسطينية و"حزب الله" وطردها.

ونعتقد أن المشكلة بين سوريا وأميركا، إنما هي المسألة الفلسطينية بخطوطها الإسرائيلية! وأنه ليست هناك مشكلة أخرى أميركية ضد سوريا، ونحن نعرف أن سياسة سوريا هي أقرب إلى البراغماتية، وهذا ما لاحظناه في طريقة إدارتها لمسألة العلاقات الأميركية السورية، بما يتصل بالمسألة العراقية، وليست المسألة بالغة التعقيد.

هناك تعقيد ينطلق به فريق إسرائيلي في الكونغرس الأميركي لجهة قانون محاسبة سوريا، الذي لم تتأثر به سوريا بشكل عام فوق العادة، وإن تأثرت به جزئياً. ولكني أتصوّر أن حاجة السياسة الأميركية في المنطقة إلى سوريا، من خلال حركة مصالحها الاستراتيجية سوريا، هو تماماً في حجم حاجة سوريا إلى التوافق مع بعض خطوط السياسة الأميركية في المنطقة. ولا أزال، رغم التطورات الضخمة في العالم، أرى حاجة أميركا إلى إسرائيل في حماية سياستها، وفي حاجة إلى سوريا أيضاً، مع الفارق الكبير بين الحاجتين.

هل سوريا في حاجة إلى أميركا؟

ـ سوريا في حاجة إلى أميركا، باعتبار أنها تمثل في مستقبل سياستها في المنطقة، الدولة الكبرى التي تمد كل أذرعها الأخطبوطية إلى العالم، فمن الطبيعي أنه ما من دولة تستغني عن العلاقة مع أميركا، بصرف النظر عن طبيعة هذه العلاقة.

ألا تخشون على الاستقرار في سوريا؟

ـ لا أتصور ذلك، لأن الاستقرار في سوريا، هو من وجهة نظر أميركا في الحرب ضد الإرهاب، إنما هو بإسقاط النظام القائم، وأميركا تعرف أن البديل سوف يكون نظاماً قد يختفي الآخرون ممن تحاربهم أميركا بعنوان الإرهاب وراءه!.

جريدة النهار:24 شوّال 1425 الموافق في  07/12/2004



"أبو مازن" عاجز عن "التنازل"!

* كيف ترون مستقبل الساحة الفلسطينية بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، الذي اعتبره كثيرون عقبةً أمام إحياء عملية السلام، ولا سيما في موضوعات وقف النار والهدنة واحتمالات الحرب الأهلية ومصير الانتفاضة وإصلاح السلطة ومؤسساتها؟

ـ في تصوّري أن هذا الموضوع يحتاج إلى فهرسة. أما موضوع الفصائل في التوقف عن عسكرة الانتفاضة أو الاستمرار فيها، فإن هذا يتوقف على أن تكفّ إسرائيل عن سياستها في الاغتيالات والاجتياحات والاعتقالات، ما يعيدنا إلى الهدنة التي طرحت في وقت سابق أيام عرفات، ولكن إسرائيل لم تلتزمها، وكانت تعمل على إثارة الشارع الفلسطيني وإعطاء الحجّة للفصائل للاستمرار في المقاومة. لهذا فالمسألة هي أن هذا الحوار الدائر بين خلفاء عرفات، إن صحّ التعبير، وبين الفصائل، سواء بمعاونة مصر أو الاتحاد الأوروبي، هل سيصل إلى نتيجة تفرِض على إسرائيل هدنةً في مقابل هدنة، حتى لو كانت هذه الهدنة غير معلنة وغير موقّعة، لحفظ ماء وجه الحكومة الإسرائيلية، أم أن إسرائيل ستستمر في اغتيال القيادات الفلسطينية من الانتفاضة بما في ذلك قيادات "شهداء الأقصى"، وبذلك تُحرِجُ خلفاء عرفات وتمنعُ أي نوع من أنواع الاتفاق بينهم وبين فصائل الانتفاضة؟ أتصور أن التطورات التي حصلت في الشارع الفلسطيني بشكل عام، مقارنةً بالوضع الدولي والإقليمي ومتغيّراته، جعلت هناك خطوطاً للتفكير في إدارة المسألة السياسيّة والأمنيّة الفلسطينية، وخصوصاً بعد غياب عرفات، بطريقة أكثر واقعية مما سبق.

لذلك، فإن هناك استعداداً لموقف سلمي في مقابل موقف سلمي آخر من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ الانتخابات لو حصلت، سواء الرئاسية أو المحليّة البلديّة أو التشريعيّة، فالكلام في ما يتعلّق برئيس السلطة الجديد ـ وقد يغلبُ أنه "أبو مازن" ومعه فريقه ـ هو: هل يصر على الثوابت ومنها عودة اللاجئين ومسألة القدس، أم أنه يتنازل عنها وهو لا يستطيع ذلك، لأنها دخلت في مفاصل الشعب الفلسطيني وخصوصاً بالنسبة إلى فلسطينيي الشتات الذين لا يوافقون على مصادرة حقهم في الرجوع إلى فلسطين؟ وهكذا بالنسبة إلى القدس، حيث تتحدث إسرائيل وتضغط على فرنسا ليغيّروا شهادة وفاة عرفات على أساس أنه ولِدَ في القاهرة وليس في القدس، حتى لا يكون له شخصية المقدسي. إن من الصعب جداً أن يتنازل هؤلاء، ولا سيما أن "أبو مازن" قد تلاحقه الآن في الشارع الفلسطيني الاتهامات التي كانت في اجتماع شرم الشيخ مع بوش وشارون، وبعض تصريحاته المثيرة للجدل. ولا أتصور أنه قادر على التنازل، خصوصاً من خلال تصريحاته الأخيرة. والسؤال: هل إن الرئيس بوش في ولايته الجديدة، يملك الضغط على الإسرائيليين ليقبلوا كل الشيء أو نصف الشيء من الأمور الحيوية، ولو على طريقة كلينتون في محادثات "كمب ديفيد"، أم أنه لا يملك ذلك؟ وهل "الليكود" وحتى "العمل" مستعدون لإعطاء الفلسطينيين دولة قابلة للحياة دون أن يقتطعوا منها أكثر أراضي الضفّة الغربيّة والقدس؟

هذا هو السؤال الكبير الذي يتوقف عليه مستقبل المسألة الفلسطينية.

* هل تعتقدون أن الاتفاق النووي، إذا جاز التعبير على هذا النحو، الذي أبرمته الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كان نتيجة براغماتية إيرانية، أم نتيجة ميزان قوى ترى هذه الجمهورية أنه لم يعد في مصلحتها؟

ـ الأمران معاً، فإيران تعرف أن الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية قد تغيّرت في هذه المرحلة، ولا سيما عندما دخل الاتحاد الأوروبي طرفاً في مسألة الضغط، باعتبار أن المسألة النووية ليست مجرد مسألة أميركية مرفوضة أميركياً، بل هي مرفوضة دولياً، ولا سيما من الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً مع التهويلات التي تتحدث عن أن إيران يمكن أن تشكّل خطراً على السياسة والأمن في أوروبا الغربية، باعتبار إيران دولة غير منضبطة، ويمكن أن يسيطر عليها المتطرفون والمحافظون الذين لا يلتزمون الخطوط الدوليّة والأمن الدولي في ما يملكون من سلاح، وخصوصاً أن المسألة الإسرائيلية والأمن الإسرائيلي هو محلُّ اهتمام أوروبي وأميركي وحتى روسي كما نعرف في هذا المجال، وهو يصل إلى الصين التي تملك علاقات عسكرية مميزة مع إسرائيل.

إن دخول الاتحاد الأوروبي على الخط، يعني أن الواقع الدولي بأجمعه، مع بعض التحفظات الروسية التي لا تثبت أمام ضغط دولي، وهو ما لاحظناه في بعض قرارات مجلس الأمن، لم يعد ملائماً لإيران، وعليها الدخول لمتابعة اللعبة في عملية المناورة، بحيث تقف موقفاً قوياً لتتحرك من خلال هذا الموقف القوي في عملية تكتيكية براغماتية للتفاصيل، كما إنها تحاول أن توازن المسألة بين عملية البقاء في دائرة العنفوان الإسلامي والقومي، ودائرة الواقعية السياسية. وأعتقد أنها نجحت في ذلك.

وإيران سوف تراهن على الزمن، وتحاول أن تجد ثغرةً هنا وثغرةً هناك، وخصوصاً أنها أعلنت من وجهة شرعية أنها لن تصنع القنبلة النووية، ولكنها تراهن على المستقبل، وخصوصاً أن الطريقة التي يدار بها الواقع السياسي الإيراني هي طريقة مميزة، لأننا نجد أن الإصلاحيين والمحافظين يمثلون الخلاف في مرحلة، ليفسحوا المجال لإيران لتسير بهذا الخلاف حتى يتقدم منطق الاعتدال على التطرف، وربما أنهم عملياً عندما تحصل الاتفاقات فإنهم يقفون معاً. إن إيران بلغت الرشد السياسي في العملية السياسية، وهي حتى الآن استطاعت الحصول على شروط جيدة من الاتحاد الأوروبي الذي حاول منحها بعض المطلوب لمساعدتها في برنامجها السلمي في المشروع النووي في هذا المجال.

جريدة النهار:25 شوّال 1425 الموافق في  08/12/2004



العلاقة بين طهران وواشنطن

* هل يمكن أن تؤدّي البراغماتية التي أظهرها الإيرانيون في الموضوع النووي إلى براغماتية أخرى على صعيد العلاقة بين طهران وواشنطن؟

ـ أرى أن إيران من جهتها لا ترفض العلاقات مع أميركا، ولكن هناك بعض التعقيدات في السياسة الأميركية وفي السياسة الإيرانية مع أميركا، وربما عندما نستحضر بعض المفردات، فإن إيران من خلال مصالحها استطاعت أن تعطي للحضور الأميركي والدولي في أفغانستان الكثير من الإيجابيات، وهكذا عندما نلاحظ الموقف السياسي الإيراني في دعم مجلس الحكم الانتقالي والحكومة العراقية المؤقتة، وهي كسابقتها مشروع أميركي، وفي استقبالها لكل الفرقاء الذين يأتون سواء من هذا الجانب أو ذاك، بمن فيهم الأكراد من الحزبين.

ونلاحظ في المدة الأخيرة كيف أن إيران قامت، حسب الإعلام، بضبط حدودها بشكل دقيق جداً مع العراق، تماماً كما هي المسألة مع سوريا. نحن نعرف أن من الطبيعي جداً أن تعمل إيران على إيجاد قاعدة للعلاقات مع أميركا، ومن الطبيعي أن هذه العلاقات بلغت من التعقيد، سواء من طرف أميركا أو من طرف إيران، حدّاً يحتاج إلى كثير من المفاوضات السرية والعلنية وتقديم التنازلات في هذا المجال أو ذاك. وأذكر أنني قلت لبعض المسؤولين الإيرانيين، إن أميركا تضع إيران في قلب استراتيجيتها بقطع النظر عن النظام الذي يحكمها، وخصوصاً أن أميركا ليست مستعدة لأن تجعل إيران لقمة سائغة للاتحاد الأوروبي.

* في الموضوع العراقي كان هناك رهان أن أميركا ستُهزم في العراق، ثم كان هناك رهان آخر هو أنها ستتعثر فيه. الآن، نلاحظ أن الخسائر الأميركية خفت عمّا في السابق، وأن عمليات "المقاومة" صارت تستهدف العراقيين لمنع تكون مؤسسات الدولة، وأن قوات التحالف بالتعاون مع القوات العراقية صارت أكثر جرأةً على القيام بعمليات واسعة (الفلوجة مثلاً). وهناك الآن إجماع أو شبه إجماع عراقي على إجراء الانتخابات (الشيعة والأكراد والتركمان وبعض السنة). في ضوء ذلك كله، ما هو مصير الأميركيين في العراق في رأيكم؟ وإلى أين يسير العراق؟

ـ أتصوّر أنه من الصعب الرهان على الاستقرار الأميركي في العراق في وقت قريب، لأن المسألة الأميركية عراقياً لا تزال تواجه بعض التعقيدات الأمنية من جهة، والسياسية من جهة أخرى. أما في المسألة الأمنية، فعلينا حين نتحدث عن العنف ضد أميركا، أن نلاحظ أن الذين يمارسون العنف، ينتمون في بعض خلفياتهم إلى الجيش العراقي الذي صودر وسُرّح بتمامه وجعل ضباطه وقياداته يعيشون البطالة في العمل، كما أن هناك جماعة صدام الذين يخلصون له، وهناك بعض الناس الذين يعلنون أنفسهم جيش المسلمين. هذا بالإضافة إلى ما يسمى الإرهاب، سواءً القاعدة أو جماعة الزرقاوي وغيرهما، هؤلاء لا يزالون يتحركون ضد الوجود الأميركي. وإذا كانت الخسائر الأميركية أقل مما كانت في السابق، ولكن الهجوم على الحرس الوطني والشرطة والذين يرتبطون بالحكومة المؤقتة هو هجوم على المشروع الأميركي، لأن أميركا لا تستطيع بعد انتخابات عام 2005 أن تقدم جيشاً عراقياً، وقوى أمن داخلي ومخابرات وغير ذلك بالمستوى الذي يمكن أن يحفظ الأمن في العراق، ويخرج أميركا من هذا الاستهلاك اليومي للانتقال من منطقة أمنية إلى منطقة أمنية أخرى.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن التكتيك الذي يتّبعه هؤلاء لا يزال يمثل تكتيكاً متحركاً على طريقة حرب العصابات أو الانتقال من موقع إلى موقع، في الوقت نفسه، علينا ألاّ نعتبر أن هذه الإيجابيات من بعض الدول المجاورة للعراق يمكن أن تحقق الهدوء من خلال مناطقها تماماً، لأن الوجود الأميركي لا يزال يمثل قلقاً وخوفاً على هذه الدول، لا سيما بعدما أعلن المسؤولون الأميركيون أنهم يدخلون العراق من أجل تغيير المنطقة وتحريك مصالحهم، وخصوصاً عندما طرحوا مشروع الشرق الأوسط الكبير ونحن نتابع الفتاوى التي يطلقها العلماء السعوديون بالصوت العالي في وجوب قتال المحتل الأميركي في العراق، حتى إن خطيب المسجد الحرام يتحدث عن مواجهة الأميركيين وذروة قتالهم في الفلوجة.

نستوحي من ذلك أنه حتى في الدول التي تملك علاقات مع أميركا، سواء رغبةً أو رهبة، لا تزال تفكر على أساس قاعدتها، وخصوصاً الدينية، في وجوب قتال أميركا على مستوى الجهاد. ونعرف أن الكثيرين من الذين يُقاتلون أميركا هم من الخليجيين، سواء من الكويت أو السعودية أو اليمن أو غيرها، كما أنّ تركيا تعيش القلق في هذا المجال، حتى لو لم تتحول كردستان العراق دولة مستقلة، لأن هذا سوف يشجِّع كردستان التركية على طلب الحكم الذاتي على الأقل، كما أن التدخل الإسرائيلي في شمال العراق من خلال كردستان، والذي يمتد إلى آماد تاريخية منذ الأربعينات والخمسينات، يثير قلق تركيا وإيران من جهة، والقلق السوري من جهة أخرى. لذلك لا نستطيع الحديث من خلال الضغوط التي تمارسها أميركا على هذه الدولة أو تلك عن هدوء الحدود المحيطة بأميركا باعتبار إحاطتها بالعراق، لأن المسألة تتصل بمخاوف هذه الدول، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، لأن علينا معرفة حقيقة أن وجود علاقة بين دولة إقليمية صغرى ودولة كبرى، لا يعني أن الدولة الصغيرة تسلم كل مفاتيحها لهذه الدولة الكبرى، بل تبقى هناك بعض الثغر التي يمكن أن ينفذ منها هؤلاء أو أولئك. لهذا أتصور أنه حتى الانتخابات لا تزال على رغم وجود الأكثرية معها، تعيش نوعاً من أنواع الجدل حول طبيعتها والنتائج التي تنتج عن وصول المجلس الوطني الذي سوف يتكوّن. لذلك فإن أميركا لم تستطع حتى الآن أن تنام على حرير ناعم.

* تحدثتم عن الدول المحيطة بالعراق، ماذا عن العراقيين أنفسهم؟

ـ من الطبيعي أن مشكلة أميركا انعكست على جميع مفاصل العراق، ولا سيما أن هناك مناطق أكثر هدوءاً من أخرى كما في مناطق الجنوب، ولكن المسألة تبرز بين وقت وآخر لتطل برأسها على وضع أمني صعب هنا، أو على إثارة للمسألة الطائفية التي يبشّر بها بعض الأميركيين على أساس أنها تنتج حرباً أهلية، لأن بعض الطائفيين يعملون على اغتيالات عشوائية من الطوائف الأخرى.

* بعد تسوية مسألة السيد مقتدى الصدر، ومبادرة الجو الشيعي العام في العراق إلى تسهيل التوصّل إلى حلول، وفي ظلّ الموقف الإيجابي من الانتخابات، هل تعتقدون أن شيعة العراق قد يعودون عن موقفهم الإيجابي هذا؟

ـ من الصعب جداً في الأوضاع العراقية الحاضرة أن ننتظر بروز ظروف موضوعية لموقف عسكري في الطائفة الشيعية، لأن ظروف الوضع العسكري والعنف العسكري ليست مهيأة لا من خلال الوضع التاريخي الذي عاشه الشيعة في العراق، ومن خلال فقدان الامتداد الجغرافي والسياسي للوضع الشيعي. لأننا نتصور أن بعض الدول المحيطة بالعراق قد لا توافق على انطلاق ثورة عنف شيعية ضد الاحتلال، لأن ذلك ربما يخلط الأوراق لدى بعض الذين يفكرون طائفياً من خلال العقدة ضد الشيعة أو ضد إيران التي يعتبرونها مسؤولة عن ذلك لدى بعض دول الجوار.

جريدة النهار:26 شوّال 1425 الموافق في  09/12/2004


 

أجرى الأستاذ سركيس نعوم من جريدة النهار اللبنانية حوارا مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله تناول فيه خلفيات القرار 1559، وآفاق العلاقة الأمريكية- السورية وفلسطين ما بعد عرفات
 

الحلقة

العنوان

 18 شوّال 1425هـ الموافق 1 -12-2004

التظاهرات لن تغيِّر شيئاً

 19 شوّال 1425هـ الموافق 2 -12-2004

المشكلة خارجية... لا داخلية

 20 شوّال 1425هـ الموافق 3 -12-2004

عليك أن تدفع ثمن الحرية

 21 شوّال 1425هـ الموافق 4 -12-2004

ليس من لبناني يفكر في لبنان

 23 شوّال 1425هـ الموافق 6 -12-2004

لبنان معادلة دولية لا إلغاء لها

 24 شوّال 1425هـ الموافق 7 -12-2004

سوريا وأميركا والحاجة المتبادلة

 25 شوّال 1425هـ الموافق 8 -12-2004

"أبو مازن" عاجز عن "التنازل"!

 26 شوّال 1425هـ الموافق 9 -12-2004

العلاقة بين طهران وواشنطن


لم يصبح التمديد لرئيس الجمهورية العماد إميل لحود ثلاث سنوات وراء كل اللبنانيين، كما يتمنى مؤيّدوه وراعيه الإقليمي. وبدلاً من أن يكون نقطة انطلاق لمرحلة جديدة عنوانها الأساسي مكافحة الفساد وإصلاح الأوضاع الاقتصادية وتحصين الوضع السياسي الداخلي، بل الوطني في المواجهة التي يخوضها لبنان وسوريا راعي "مسيرة السلم الأهلي" فيه كما تمنى المستفيد منه ومقرره، صار نقطة انطلاق لمعركة حقيقية داخلية عنوانها الرسمي: رفض التدخّلات الأجنبية في الشؤون اللبنانية الداخلية، وعنوانها العملي: دور سوريا في لبنان وحدوده ووجودها العسكري على أرضه، والأهداف التي ترمي إلى تحقيقها من هذا الوجود، وتأثيرها، أو بالأحرى مسها سيادته واستقلاله و"لعبها" بتوازناته الداخلية وتركيبته الطائفية والمذهبية المعقّدة حفاظاً على مصالحها، وتمهيداً لتحقيق غاياتها النهائية فيه. وقد أثارت هذه المعركة التي لم تبدأ رسمياً إلا منذ أسابيع، مخاوف من تطوّرها وتحوّلها انفجاراً يثبت مقولة إن الحرب في لبنان لم تنته بل توقفت حتى إشعار آخر، وإن الخارج العربي والإقليمي والدولي يستطيع إشعالها متى أراد، تماماً مثلما أوقفها قبل نحو أربعة عشر عاماً.

هذه الأمور كلّها أخذناها إلى المرجع الديني الأبرز في التيارات الإسلامية الشيعية الأصولية اللبنانية، وخضنا معه فيها، انطلاقاً من اقتناع عندنا وعند جهات لبنانية متنوعة برجاحة عقله، وسعة اطّلاعه، وحكمته وقدرته على تحليل الحاضر واستشراف المستقبل. كما تطرّقنا معه إلى قضايا إقليمية أخرى، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والعلاقة الأميركية الإيرانية، والوضع في العراق. أثرنا معه في البداية جو التظاهرات والتظاهرات المضادة السائد في البلاد.

* هل هذا الجو تعبير حقيقي عن انقسام اللبنانيين حول خيارات أساسية ارتضاها معظمهم في اتفاق الطائف؟ أم هو تعبير عن استمرار الانقسامات في ما بينهم بعدما ظنوا أن الاتفاق المذكور أزالها مثل الطائفية ثم المذهبية؟ وهل هذا الجو مؤشر لمرحلة معينة وخطيرة مقبلة؟

ـ لا اعتقد أن التظاهرات، سواء كانت في هذا الجانب أو ذاك تمثّل أي لون من ألوان الخطر، لأن التطوّرات السياسية المقبلة من الخارج، أو التي تتحرك بشكل محدود في الداخل، لم تكن منطلقةً من قرار يعرف حركة الواقع في ما يريد أن يحتج عليه، أو في ما يريد أن يصير إليه، لأن المسألة التي قد تحكم كلَّ هذا النوع من "الحوار الصارخ"، إن صح التعبير، بين الفرقاء الذين قد يأخذ بعضهم صفة طائفية هنا وأخرى طائفية هناك، لا ينطلق من خلال جمهور يلتزم القضية التي يتظاهر من أجلها أو يهتف لها بالمعنى الأساسي الدقيق للمسألة. فالواقع الحزبي، سواء أكان تياراً أم تنظيماً، لم ينطلق من خلال تثقيف قاعدته الجماهيرية، بحيث تستوعب الجماهير الفكرة وتناقشها لتتخذ موقفاً ايجابياً أو سلبياً منها. إن المسألة غالباً في هذا الجو الجماهيري العاصف من هنا وهناك، تنطلق من خلال السطح، وخلفيات عميقة تختزن الطائفية، ما يجعل شعارات هذا الفريق، حتى لو كانت بلغة وطنية، تحسب على موقع أو طائفة معينة أو وضع إقليمي أو وضع دولي حتى لو كانت لا تريد ذلك، لأن مسألة الإحساس الطائفي تحوّلت إلى حالة مرضية، بحيث يصعب على الإنسان أن يجرّد نفسه منها، ولذلك نجد هذا الفريق أو ذاك الفريق يرجع إلى قواعده الطائفية سالماً عندما تتأزّم الخطوط السياسية هنا وهناك.

لذلك أتصوّر أن التظاهرات، سواء أكانت من هذا الجانب أم من ذاك الجانب، لم تستطع في الماضي أن تغيّر شيئاً، ولن تستطيع أن تغير شيئاًٍ. نحن عندما ندرس التظاهرات في تاريخ لبنان، والتظاهرات التي حصلت في جورجيا أو التظاهرات التي تحصل الآن في أوكرانيا، نجد أن هناك شعباً يعيش قضية ربما بدرجات متفاوتة، ولكنه يتابع المسيرة بالطريقة التي يحاول فيها أن يحاصر المشكلة، بصرف النظر عن النتائج، وليس هذا محصوراً في فريق معين، وهناك فريق آخر قد يُشار إليه أنه فريق مؤيد لروسيا إلى جانب الفريق الذي يؤيد الغرب. ولكنك تجد هناك في الحالتين شعباً يتحرك من أجل التغيير الحقيقي، بحيث يمارسه بشكل سلمي لم يصل حتى الآن لا في جورجيا ولا في أوكرانيا إلى مستوى العنف، وخصوصاً أن علينا أن نعرف أن هذه المنطقة، الاتحاد السوفياتي سابقاً، ليست غربية ليقال إن تطور الواقع السياسي الغربي، سواء على مستوى الأحزاب أو الجماهير قد وصل إلى مرحلة الوعي، بحيث يفسح المجال لمثل هذه النتائج، بل إنها عاشت تحت تأثير المناخ الشرقي الذي عشناه بطريقة وبأخرى، لأن هذه الجماهير عاشت الأساليب الماركسية وأساليب الحزب الشيوعي الخاضع للاستخبارات.

ولكنها استطاعت أن تتحرر في وقت قصير من سيطرة الاستخبارات. ومن هنا، أتصور أن الوضع الموجود لدينا في لبنان، وربما في المنطقة، ولا أتحدث هنا عن شمولية ساحقة، أن هذا الوضع يمثل نوعاً من أنواع الظاهرة الصوتية التي تحب أن تسمع الصوت وإن كانت لا تفكر في مضمونه السياسي أو الوطني أو ما أشبه ذلك. نحن عندما نواجه كل واقع هذا التظاهر الذي يخشى الجميع أن يتحول إلى حالة أمنية سلبية، كما حصل في "حي السلم" خلال تظاهرة العمال، نرى أنه ينطلق من حالة صوتية قد تبلغ حد الصراخ هنا وهناك، ولكن الجو سوف يرجع إلى حالته الطبيعية، ليفسح المجال للتحليلات والتصريحات التي لا تعني شيئاً".

جريدة النهار:18 شوّال 1425 الموافق في  01/12/2004



* هناك تظاهرات جرت قبل عيد الاستقلال بأيام محدودة. والآن نجد أن هناك من يدعو إلى تظاهرة حاشدة أو مليونية (السلطة والأحزاب وكل الفريق الداعم لها). هل تعني هذه الدعوة أن كل من يشترك فيها هو مع التدخل السوري في الشأن اللبناني؟ وهل هم مع إدارة سوريا مباشرة للملف اللبناني؟ هل هم مع استمرار سوريا في لبنان إلى الأبد؟ أم هم مع تصويب العلاقة اللبنانية السورية ومع إقامة تكامل فعلي ومتنوع معها يجعل مقاومة إسرائيل بفاعلية ممكنة ويعيد اللحمة الحقيقية إلى الوضع الداخلي في لبنان؟

ـ لقد أشرت في الإجابة عن السؤال الأول، إلى أن الجماهير لا تملك ثقافة الخطوط التفصيلية لما تنادي به، بل ربما تنطلق من موقف وخطّ عريض في العناوين الخارجية الكبرى، فهناك العنوان الإسرائيلي الذي أدمنت الجماهير المعيّنة رفضه من خلال التجربة القاسية التي خاضتها معه، منفتحاً على العنوان الأميركي، والذي اختزنته الجماهير من خلال المواقف الأميركية من جهة، والتصريحات الأميركية التي تحدثت عن إسرائيل بما يشبه الدعم المطلق من جهة أخرى. فالجماهير اللبنانية في دائرة معيّنة هي امتداد للجماهير العربية بشكل عام، مع ملاحظة بعض التعقيدات التي بدأت تهوّن من المسألة الإسرائيلية نتيجة المشاكل المحلية التي استغرقت فيها، وأصبحت لا تطيق أي انفتاح على مشاكل أخرى تضيف إليها مشكلة. إن هذه الجماهير تنطلق من الرفض للمسألة الإسرائيلية المتحالفة مع المسألة الأميركية، ليكون هتافها في هذا الاتجاه بعيداً عن التفاصيل.

وطبيعي أن لدى كل الناس تحفّظات عن سلوك هنا وتدخلات هناك، لأن الناس تحب الحرية في هذا المجال، ولكن القضية تتصل بالمسألة الكبرى، وهي مسألة أن ما يصدر من أميركا من مواقف، وخصوصاً القرار 1559، هو قرار لمصلحة إسرائيل. ولذلك لاحظنا التأكيد على هذا جانب في التصريحات الإسرائيلية التي رحبت بهذا القرار. لقد كانت المسألة تمثّل استغراقاً في القضية الإسرائيلية والأميركية، وربما دخلت فرنسا على الخط نتيجة بعض التحليلات والتفسيرات التي قد يفسّرها البعض بالتزام فرنسا بلبنان الحرّ، أو بحرية لبنان، أو ببعض العقد الاقتصادية التي حصلت بين فرنسا وسوريا، أو بمحاولة فرنسا الاقتراب من السياسة الأميركية في المنطقة.

إن الهتافات والتظاهرات تنطلق من المسألة القومية أكثر مما تنطلق من خصوصيات المسألة المحلية. كما أن هناك تحليلاً وتفسيراً للفريق الآخر بأنه يستغرق في المسألة السورية في بعض سلبياتها، ولكنه لا يستغرق مثلاً في المسألة الأميركية أو الإسرائيلية بالقوة نفسها، حتى إن بعض التحليلات قد توحي أنّ ترحيب فريق بقرار مجلس الأمن، إنّما ينطلق من بعض الخطوط والمفردات التي تنسجم مع الخط السياسي الذي يتحرك فيه هذا الفريق وطنياً أو طائفياً أو ما إلى ذلك ـ حسب حسن الظن أو سوء الظن في هذا المجال ـ ما يجعل هناك كثيراً من الفهم الضبابي لهذا الفريق من أنه ينطلق من حالة طائفية مسيحية ضد الخط الإسلامي الذي يتمثل في سوريا، وربما يفسّر البعض الموقف المسيحي بأنه موقف وموقع مسيحي ضد موقع إسلامي، علماً أن سوريا لا تتحرك إسلامياً لأنها دولة علمانية، وربما يشعر المسيحيون في سوريا من الناحية الطائفية برحابة الدولة السورية في الساحة، كما كان يشعر اليهود المقيمون في سوريا في هذا المجال.

هناك خلطٌ في حركةِ التصوّرات، والجميع لا يتعمّقون في المسألة السياسية بشكل دقيق، وربما يتحدث البعض في مجال التحليل، أن اللبنانيين ليسوا واقعيين في هذه المسألة، لأنه من المعلوم، سواء على مستوى الواقع التاريخي لمسألة قوات الردع العربية، أو مسألة طبيعة العلاقات السورية اللبنانية قبل الاستقلال وبعده، أن كل المشكلات الموجودة في لبنان ليست مشكلات داخلية، لأن كلّ المشاكل المتصلة بالعلاقات السورية اللبنانية في خطوطها السلبية، من خلال التفاصيل التي قد يتحدث البعض عنها، هي مشكلة العلاقات الأمنية وليست السياسية، ولو كانت المسألة سياسية لما وصلت إلى هذه التعقيدات، لأنه من الطبيعي أن يكون هناك تداخل بين بلدين متجاورين أو متداخلين على مستوى العلاقات الشعبية أو في الجانب القومي، وأن المسألة الأمنية تأكل المسألة السياسية، وإلا فنحن نعرف دولاً متجاورة (كبرى وصغرى)، لا بد أن تخضع الدولة الصغرى لبعض ضغوط وعناوين الخطوط للدولة الكبرى، كما في أميركا وكندا والمكسيك، وهو أمرٌ معروف في السياسة الدولية. ولهذا نتصوّر أن المشكلة خارجية وليست داخلية، حتى إن هناك من يفسّر القرار 1559 أنه ليس موجهاً إلى لبنان، إنما إلى سوريا بالنسبة إلى المسألة العراقية من جهة الاتفاق على ضبط الحدود العراقية السورية، لأن أميركا تتهم سوريا بأنها تشارك في تشجيع المقاومة.

ولقد رأينا المبعوث الأميركي بيرنز الذي جاء إلى سوريا، أنه تحدث في المقابلة بنسبة9 في المئة عن العلاقات السورية الأميركية بالنسبة إلى القضية العراقية، وأما حديثه عن لبنان فكان عند الوداع... ما يدل على أن المسألة متصلة بالضغط على سوريا من ناحية لبنان، وهو ما لاحظناه من أن الدول لم تقاطع بعد التمديد (ولا سيّما فرنسا وأميركا) رئيس الجمهورية في هذا المجال، بل قرأنا بعض التصريحات التي تهوّن من هذا الموضوع من الناحية الديبلوماسية، وتدعو إلى عدم تحميل المسألة أكثر مما تحمل، لأن الكثير من الدول قد تعيش مثل هذه التجربة وتبقى الدولة وتبقى المعارضة. حتى إن بعض الديبلوماسيين الذين شاركوا في هذا القرار الدولي، كانوا يقولون إننا لم نطالب أن يكون الانسحاب السوري بين ليلة وضحاها، بل قد يحتاج ذلك إلى زمن. ولا أتصوّر أن هناك ضغطاً بالمعنى الحاد في نطاق المصالح الدولية في هذا المجال على الموقف السوري، وبالتالي على الموقف اللبناني.

إن القرار 1559 هو قرار دولي يتحرك في دائرة العلاقات الأميركية السورية، ويبقى للبنان دور الخط السياسي الذي يراد فيه إزعاج الآخرين، لأن لبنان لم يصل إلى مرحلة يمكن أن تفاضل فيه أميركا بينه وبين سوريا، أو بين الواقع فيه والقضية العراقية، كما أن أميركا ليست هي الدولة التي تلاحق قضايا الحرية للشعوب بعيداً عن مصالحها الاستراتيجية.

جريدة النهار:19 شوّال 1425 الموافق في  02/12/2004



* ألم تعط سوريا أميركا حجة أساسية للتدخل والضغط، عندما فرضت التمديد للرئيس إميل لحود أو قررته، علماً أنها لا تحتاج إلى ذرائع للتدخل؟

ـ ربما يدرس البعض هذه المسألة بطريقة أخرى، وذلك أن الوضع بين سوريا وأميركا في علاقتهما المتشنجة، وصل إلى مرحلة تحتاج فيها سوريا إلى ورقة ضغط تؤكد فيها موقعها وموقفها، ولا سيما أن بعض المعلومات ـ ولا أدعي دقتها ـ إن الموقف الأميركي كانت له خلفية إسرائيلية، كأيِّ موقف أميركي يتصل بسوريا أو يتصل بالمنطقة العربية، فالموقف السوري كان يدخل في عملية ضغط يؤكد فيها أننا لن نسقط تحت تأثير هذا الضغط الأميركي، لأن المسألة كانت، وبقطع النظر عن المسألة السلبية، في هذا الكباش الأميركي السوري، في حاجة إلى ورقة ضغط سورية توحي إلى أميركا أن هناك نافذة للعالم لا بد فيها من الحوار، لأن هناك حاجة أميركية لدى سوريا من خلال القضية العراقية، لتكون هناك ورقة ضغط سورية على أميركا من خلال الورقة اللبنانية، لأن أميركا يمكن أن تتدخل مع سوريا من خلال الورقة اللبنانية للمقايضة مع الورقة العراقية، وهذا ما لاحظناه عندما لم نجد هناك حالة حادة أميركية ضد سوريا.

وربما بدأنا نسمع ـ والكلّ يقرأ ـ أن هناك انفتاحاً على الطريقة السورية في إدارة المسألة العراقية، بين مرحِّب مع بعض التحفّظات، وبين مرحب آخر بدون تحفظات، وقد بدأت ذلك بورقة ضغط، ليكون ذلك وسيلة من وسائل إدارة الحوار، وهو ما حصل في هذا الموضوع.

إن البعض ينظر إلى بعض السلبيات التي واجهت سوريا، أو الذين يُعتبرون فريق سوريا في لبنان، من خلال مسألة التمديد، ولكن المسألة أعمق من ذلك، والنتائج التي واجهناها تدل على ذلك، لأنّ لبنان هو الساحة الوحيدة التي تستطيع سوريا بواسطتها تحصين وضعها في المواجهة الشرسة التي تخوضها.

* أيهما كان أفضل لإنجاز هذا التحصين: التمديد للرئيس لحود، أم اختيار رئيس جمهورية جديد له من حلفائها اللبنانيين؟ علماً أنه في سبيل القضية القومية والمواجهة، بذل لبنان تضحيات كثيرة وطلبت ولا تزال تطلب منه تضحيات كبيرة، فكلّما تحدّث أحدٌ عن تصحيح الأمور والعلاقة، يقال له إن الأولوية للقضية الكبرى، علماً أن هذه القضية راحت، وقريباً سيروح استقلال البلاد، وربّما البلاد كلها..؟

ـ علينا ألاّ نعالج هذا الأفق الواسع الذي يطلُّ على المسألة الدولية في الورطة التي تعيشها أميركا في العراق. وعلينا أن نعرف حقيقة، وهي أن أية شخصية حتّى لو كانت صديقة، لن تمثِّل هذا التحدي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإني أناقش فكرة أن استقلال لبنان سوف يسقط، لأن لبنان منذ أن استقل كان استقلاله متحركاً في نطاق العلاقات والخطوط الدولية. فقد كان لبنان فرنسياً ثم بريطانياً ثم أميركياً، وفي الدائرة العربية كان ناصرياً من جهة، وغربياً من جهة أخرى في الحرب الباردة. فحتى لو خرجت سوريا من لبنان، فإن تأثير سوريا في لبنان سيبقى بطريقة وبأخرى. ليس الجيش السوري هو الذي يفرض ما يعتقده البعض تعقيدات مسيئة للبنانيين واستقلالهم، بل إن هناك قضايا تتصل بطبيعة النسيج اللبناني، كما تتصل باللعبة الدولية في هذا المجال.

كان علينا أن نعرف أن الاتحاد الأوروبي من جهة، وأميركا من جهة أخرى، وروسيا وغيرها، لها مصالح في سوريا أكثر من مصالحها في لبنان، لأن لبنان بالنسبة إلى الغرب كله يمثل الرئة التي يتنفسون فيها، لأن الغربي أو الروسي لا يجد في المنطقة بلداً يعيش فيها عاداته وتقاليده ولهوه وعبثه غير لبنان، وخصوصاً مع ما يملكه الإنسان اللبناني من ثقافة يستطيع أن يخاطب بها العالم بلغته، بينما لا يملك الآخرون أسلوب الخطاب، حتى مع وجود بعض المثقفين.

لذلك أرى أنه عندما تخرج سوريا من لبنان عسكرياً وأمنياً، فإنّ لبنان لن يطيق الفراغ، وليس للبنان قوة ذاتية بالمعنى العسكري، أو حتى بالمعنى السياسي والاقتصادي، يستطيع أن يحكم فيها نفسه بالمعنى الذي يتحرر فيه من أي ضغط خارجي. فعندما تخرج سوريا من لبنان، فإنه من الممكن جداً أن تطل إسرائيل على لبنان بطريقة وأخرى وبمعاونة أميركا، وهو ما لاحظناه عندما أطلت إسرائيل على العراق بعد سيطرة السياسة الأميركية على العراق في هذا المجال.

ليس هناك بلد يملك الاستقلال الكامل، حيث يستطيع حماية نفسه بنفسه، لذلك لا بد لنا، ولو على المدى الطويل، أن نفكر بطريقة واقعية وتصور مدروس للطريقة العملانية التي يمكننا فيها أن نصوغ علاقات سورية لبنانية بما يحفظ هذه العلاقات بين الشعبين والبلدين، لأني أزعم أن كل الذين يتحدثون عن مسألة ضرورة العلاقات المميزة، ليس لديهم أيّ تصوّر للعلاقات المميزة، إنما هي كلمات تطرح في الهواء الطلق لتسجيل موقف أو للهرب من مأزق معين!.

* الجميع يعترفون بأن لا استقلال مطلقاً في العالم، ويقرون بأن لسوريا نفوذاً في لبنان، حتى الذين هم أعداء لها. وأنا هنا لا أتحدث عن المعارضة التي هي خارج اتفاق الطائف. لكنّ هناك حداً أدنى من الاستقلال. فأميركا تعترف بمصالح مشروعة لسوريا في لبنان، واللبنانيون يعترفون بحاجتهم إلى سوريا التي ساعدتهم مرات عدة بهذه المصالح، إلا أن العلاقة القائمة حالياً بين لبنان وسوريا ليست مميزة كما يفترض استناداً إلى اتفاق الطائف؛ هي علاقة الحاكم (أي سوريا) الذي يدير لبنان، ولن أسمي ذلك احتلالاً بكل تفاصيله. حتى الحكم الذاتي منع على اللبنانيين ولم يتوافر لهم. أشرتم إلى أميركا وكندا. لكن أميركا لا تعين رئيس كندا، ولا تتدخل في تعييناتها السياسية والإدارية والديبلوماسية. هناك حد أدنى من الاستقلال يجب أن يحترم؟

ـ الكلام هذا باعتبار طبيعة تكوين الإنسان الغربي، فهو ليس مستعداً أن يتنازل عن حريته وعن شخصيته الديمقراطية، بينما الشرق لم يدخل الديمقراطية كليةً، فأنت لا تستطيع أن تكون مستقلاً لمجرّد أن يعطيك الآخر الاستقلال بالانسحاب. فعندما ندرس المسألة دون الإساءة إلى أحد، فإن الكثيرين من الذين يتحدَّثون بهذه الطريقة السلبية لو أفسح لهم المجال، لهرعوا إلى سوريا، ونحن نعرف أنه حتى الذين يتحدثون الآن عن الفساد وعن الإهدار تحت غطاء سوري، كانوا ممن صنعوا الفساد ومارسوا الإهدار وهم في أعلى مواقع المعارضة، كذلك بالنسبة إلى الطرف الآخر، فإن الذين يحاولون ممارسة الخضوع المطلق للحصول على بعض المكاسب المعينة في أي موقع من المواقع الصغيرة والكبيرة، مَنْ الذي يمنعهم أن يقولوا "لا"، فهم يخافون أن يسقطوا في الانتخابات، ويخافون أن يوجّه إليهم القضاء تهمة ما.

عندما تعيش حريتك، فإن عليك أن تدفع ثمن هذه الحرية. ولم يدفع أحد حتى الآن ثمن الحرية، حتّى الذين هاجروا من لبنان لم يدفعوا ثمن الحرية، بل انطلقوا من خلال بعض الأوضاع الدولية التي حاصرتهم في هذا المجال. فعندما يصل اللبناني إلى مرحلة يستعد فيها لأن يدفع ثمن الحرية، فلن تستطيع أية دولة أن تفرض عليه رئيساً أو حكماً أو برلماناً، ولكن القضية هي أنه قل لي كيف تعيش حريتك، أقل لك كيف يكون مستقبلك.

جريدة النهار:20 شوّال 1425 الموافق في  03/12/2004



* المشكلة البنيوية والعضوية الحقيقية في البلد هي الطائفية التي صارت مذهبية، لماذا لم تقم سوريا بما توقَّعه منها اللبنانيون لحلّها، بل استعملت الوضع الطائفي اللبناني المعقد للمحافظة على نفسها، وأدارت الصراع بين المجموعات اللبنانية، ولم تبذل الجهد الكافي لقيام الوحدة اللبنانية الحقيقية؟

ـ عندما ندرس المسألة الطائفية التي تولد مع الإنسان اللبناني من خلال طبيعة الثقافة التي أريد له أن يبني شخصيته من خلالها، نجد أنها أساساً كانت مرتبطة ببعض الخطوط الخارجية التي استفادت منذ المسألة الشرقية من الوجود المسيحي الطائفي، رغم أننا نقدّر ونحترم خدمة المثقفين المسيحيين للعروبة ودورهم في مسألة الصراع العربي اليهودي، فكثير من المفكرين اللبنانيين المسيحيين أدّوا هذا الدور الريادي في حركة الصراع ضد الإسرائيلية والصهيونية اليهودية، كميشال شيحا وريمون إده مثلاً. لقد كانت الوظيفة الغربية للوجود المسيحي تخدم الخطوط السياسية الغربية من اجل إسقاط الخلافة العثمانية في ذاك الوقت، ثم دخلت المسألة في تطورات الحرب الباردة بين الشرق والغرب.

هذه هي الصورة التي انطبع فيها الوجود السياسي المسيحي، سواء وافق عليه البعض أو لم يوافق ـ ولا أدعي أن كل المسيحيين يوافقون على ذلك، إنما نجد أن هناك بعض المسيحيين أكثر عروبةً من المسلمين، كفارس الخوري (اللبناني) في سوريا، وريمون اده في مواجهته المسألة الإسرائيلية بكلِّ دقة ـ. لذلك بقيت رواسب هذا الدور تتفاعل بطريقة وأخرى، وخصوصاً عندما وصلنا إلى مسألة عبد الناصر والقومية العربية، ثم بعدها الاحتلال الإسرائيلي وما أحاط بذلك من تجاذبات وأمور. ربما ترك مثل هذا الواقع السياسي بعض الرواسب والخوف؛ خوف المسيحي من الوجود الإسلامي، وخصوصاً عندما دخلت القضية الفلسطينية ودخل الفلسطينيون في حرب السنتين وغيرها. وكان التطور التراجعي في الموقف من سوريا. ونحن نعرف أن المسيحيين، رحبوا بالدخول السوري الذي جاء لإنقاذ المسيحيين، حسب العناوين السياسية آنذاك، ولكن المسألة انقلبت بعد ذلك بطريقة وأخرى.

إنّ مثل هذا عمّق الرواسب المسيحية في الإحساس الطائفي، كما أثار رد فعل في الموقع الإسلامي، ولهذا أصبحت المسألة الطائفية تملك من الحساسية ما يصعب على أي مواطن أن يبتعد بها عن الجانب الطائفي لمصلحة الجانب الوطني.

لذلك نحن لا نتصوَّر أن في لبنان فكرة الوطنية اللبنانية أو المواطن اللبناني. وهذا ما نلاحظه الآن في الوسط السياسي، وخصوصاً المسيحي، عندما تطرح مسألة إلغاء الطائفية السياسية وإبدالها بالمواطنية السياسية، فإن الجميع يصرخون، لأن هذا معناه أن لبنان سيقع تحت الهيمنة الإسلامية، مع أنك لا تطرح ديمقراطية عددية بهذا المعنى، وإنما تطرح المواطنية، والمسلمون يرفضون ذلك، لأنهم يعتبرون أن وجود لبنان مرتبط بالوجود المسيحي، ولكن هناك فرقاً بين وجود الطوائف كشعب متكامل في القيم الإسلامية المسيحية وفي العيش المشترك، وبين أن يكون النظام طائفياً؛ أن آخذ حقوقي السياسية بحجم طائفتي، وأن يأخذ الآخر أيضاً بحجم طائفته. وحتى إننا في هذه الطائفية أدمنّا الطائفية المذهبية التفصيلية. ونحن نعرف أن الشيعة يفكرون في حقوقهم الشيعية في لبنان، وكذلك السنّة والموارنة والدروز والأرثوذكس وغيرهم... فلم يبق هناك شخص يفكر في لبنان، وحتى لو فكر فيه فإنه يفكر فيه في الإطار الطائفي؛ أن يكون لبنان لبنانه.

إني اعتقد أن المسألة تنشأ من شخصية اللبناني، ولو فرضنا أن اللبنانيين عاشوا مواطنيتهم ودرسوا خطوط هذه المواطنية في علاقاتها بالمنطقة، أو علاقاتها الدولية في هذا المجال، فلا أعتقد أن أية دولة قادرة على أن تصادر حريتهم أو استقلالهم أو قضاياهم.

* لا شك أن المسيحيين استُعملوا في الماضي كما قلت لمصلحة مشروع ضرب السلطنة العثمانية. لكن الحرب في لبنان انتهت وخسرها المسيحيون، وتقلص حجمهم الديموغرافي، وتالياً لم يعد هناك مشروع مسيحي للبنان أو فيه. ثم جاء المجتمع الدولي ومعه المجتمع العربي، وفي المقدمة سوريا، ووُضِعَ مشروعٌ وطني للبنان سمِّي اتفاق الطائف. صحيح أن في لبنان طوائف، وصحيح أنّ سوريا أتت إلى لبنان وحمت المسيحيين مثلما حمت الشيعة والسنّة والدروز، لكن الصحيح أيضاً أنها أقامت علاقة مباشرة مع كلِّ من هذه الطوائف، ولم تسع لتنسج هذه الطوائف علاقات فيما بينها، الأمر الذي يؤدي لو حصل إلى عيش مشترك إسلامي ـ مسيحي فعلي تضمنه دمشق..؟

ـ أتصور أن اتفاق الطائف كان اتفاق الضرورة الذي لم يشارك الشعب اللبناني فيه، وإنما كان نتيجة توافق السياسيين الذين دخلوا البرلمان في أوائل السبعينات، ما جعل الشعب اللبناني ينساهم أو لا يرتبط بهم إلا من خلال بعض الجوانب الشخصية، ونحن نعرف أن اتفاق الطائف هو الاتفاق الذي أريد له أن يمنع الحرب من خلال برنامج دولي كنت أعبّر عنه بطريقة النكتة أنه انطلق بتخطيط أميركي، وعقال عربي، وطربوش لبناني. كان اللّبنانيون يريدون وقف الحرب بأيِّ ثمن، وأنا أزعم أن أكثر اللبنانيين لم يقرأوا اتفاق الطائف حتى عندما تحوَّل إلى ميثاق.

لذلك نحن لا نعتبر أن اتفاق الطائف الذي نؤكده لأنه يمنع الحرب، ولأنّه يضع أمام اللبنانيين بعض العناوين التي يمكن أن يحاور بعضهم بعضاً فيها، لا نعتبر أنّه انطلق من إرادة لبنانية شاملة، لأنّ الذين وقّعوه لم ينتخبهم الجيلُ الذي كان في عهد اتفاق الطائف، والجيل الذي كان مخضباً بالدم والأحقاد وبكلِّ الرواسب العفنة. في هذا المجال، كان الدور السوري في ذلك الوقت متداخلاً مع الدور الدولي والإقليمي. ونحن نعرف أن النظام العراقي كان يتدخل في لبنان وكذلك النظام المصري والليبـي... وأن المسألة الفلسطينية كانت في عمق الحرب اللبنانية. فأعتقد أن المسألة لم تتحرك من خلال خطٍّ واضح تمسكه دولة معينة، بل كان مزيجاً من خطوط إقليمية ودولية ربما ابتعد بعضها عن الساحة، ولكن بقيت الخطوط الضخمة في المجال الدولي، ودخلت عليه إسرائيل أيضاً في تحالفها مع أميركا بشكل جعل التعقيدات متحركة بطريقة وبأخرى، ربما تطرح العناوين الكبرى التي قد تضغط هنا وهناك، لكن لم تصل حتى الآن إلى الطريق المسدود في علاقة سوريا بلبنان.

جريدة النهار:21 شوّال 1425 الموافق في  04/12/2004



* اعتبرتم أنّ اتفاق الطائف ضرورة، وأن هدفه كان إنهاء الحرب، فهل عندكم تصوّر أفضل لصيغة معينة تسمح للبنان بالتّعافي؟

ـ أعتقد أن العلاج هو في المواطنية. علينا أن نثقّف الشعب بها وليس بالتوازن بين المسيحيين والمسلمين في مسألة (6و6مكرر) في الوظائف الكبرى والثانوية، وأن يكون المواطن هو اللبناني والكفاية هي الأساس، وأن نأخذ ما أخذ به الآخرون، وخصوصاً أنه ليست هناك أية فكرة في ما كان يتحدّث فيه من قضية الدولة الإسلامية والجمهورية الإسلامية، والتي يعرف حتى الذين كانوا يستهلكون هذا العنوان أنه ليس واقعياً لا في لبنان ولا في المنطقة.

* قلتم إن على اللبنانيين أن يكونوا واقعيين، وإنهم لا يعرفون من العلاقات المميزة مع سوريا إلا الاسم. ما هي في رأيكم الصيغة الفضلى للعلاقة المميزة بين لبنان وسوريا؟

ـ واقعاً لم أضع برنامجاً في هذا المجال، ولكني أعتقد أن على اللبنانيين أن يكفوا عن المواقف السلبية التي تطل برأسها الآن في ما يسمى المعارضة والموالاة ومقاطعة الدولة والرئاسة وما إلى ذلك، وأن يكفّوا أيضاً عن هذا الجدل البيزنطي في تسجيل النقاط. فمن الأمور التي تحدثت عنها ولا أزال، أنه عندما كنا نستمع إلى جلسة الثقة، كنا نستمع إلى المعارضة وهي تتحدث عن الشياطين اللبنانيين الذين صنعوا كل مشكلة لبنان، في الوقت الذي لم تكن هذه الحكومة قامت بشيء بعد، ولا ندري حتى كيف تنتهي، ما يعني أنهم يحاكمون أنفسهم، لأنهم كانوا هم الحاكمين، ولأنهم عندما يتحدثون بلغات العنترية والسباع، فقد كانوا قادرين أن يقولوا "لا" وأن يستقيلوا ويفضحوا كلَّ زعماء الفساد والإهدار، ولكنهم كانوا يتحالفون مع هذا الرمز وذاك الرمز وغير ذلك، إضافةً إلى ما يُقال عنهم أو عن بعضهم إنهم شاركوا في الإهدار عندما كان يأتي وزير منهم بجماعته وغير ذلك، مما قد يكون صدقاً أو كذباً، لأنّ القضية عندنا هي: "كلما دخلت أمّة لعنت أختها".

إنّ هؤلاء اللبنانيين الذين يجتمعون في المآدب والمناسبات والاستقبالات، يمكنهم أن يجلسوا وراء الكواليس ويطرحوا ما هي سلبيات الواقع السوري في لبنان، وما هي البرامج المثلى للعلاقات المميزة بشكل تفصيلي، وكيف يمكن أن نصوغ شخصية اللبناني لتكون شخصية المواطن بدلاً من الشخصية الطائفية، ثم يدعوا سوريا أيضاً وراء الكواليس للحوار، وإذا لم يصلوا إلى نتيجة حاسمة، فقد يصلون إلى نوعٍ من النتائج القريبة مما يمكن أن يطل عليه المستقبل.

* هناك خشية عند جهات لبنانية، وهي ليست مسيحية فقط، أن تكون لسوريا أهداف أخرى في لبنان غير المعلنة رسمياً، لجهة قيام فيدرالية أو كونفديرالية بين لبنان وبينها، وذلك في ظل ميزان القوى الحالي والتجارب في العالم الثالث، وهو ما لا يشجع اللبنانيين، أو قسماً مهماً منهم على قبول علاقات من هذا النوع؟

ـ قلت إن هؤلاء يفكرون في جنس الملائكة وفي الخيال، لأننا نعرف أن لبنان يمثل معادلة دولية. ربما قال بعض المسؤولين الأميركيين أيام الحرب إن هناك بعض الدول التي يمكن أن تزول من الخريطة، ولكنه عرف بعد ذلك أن لبنان ليس من بين هذه الدول. المسألة هي أن لبنان يمثِّل معادلة دولية لن تدخل في فيدرالية ولا وحدة، ولن يستطيع أحد إلغاءها، وخصوصاً أن المرحلة في المستقبل المنظور تمنع تغيير الدول في المنطقة. وعندما يتحدَّث المحلّلون عن تقسيم العراق دولاً، فإن الواعين الذين يمثِّلون العمق السياسي يعتبرون أن قضية "سايكس ـ بيكو" هي من القضايا المتصلة بالعلاقات الدولية بشكل عام . صحيح أن أميركا تملك السيطرة الأقوى، ولكنها لا يمكن أن تعتبر الاتحاد الأوروبي أو روسيا أو الصين عالماً ثالثاً. هناك في الواقع الدولي الموجود في المنطقة، على الأقل في منطقة الشرق الأوسط لا المنطقة العربية، هناك واقع يضمن المصالح الدولية في ترتيبه، ولا يمكن أن يتغير هذا الواقع الدولي إلا إذا حصلت لدينا مرحلة في خطورة المرحلة التي أعقبت سقوط الخلافة العثمانية. ونحن نعرف أن المصالح الأميركية مؤمّنة من هذا الاتفاق "سايكس- بيكو" كما هي المصالح الأوروبية، بصرف النظر عن الصراع الخفي بين المصالح الاقتصادية الأوروبية والأميركية. إن من يفكر بهذه الطريقة، فإنه يبحث عن شيء أي شيء، ولو رجع إلى نفسه فسيرى أنه هباءً.

جريدة النهار:23 شوّال 1425 الموافق في  06/12/

سوريا وأميركا والحاجة المتبادلة

* هل تعتقدون أن الكباش السوري - الأميركي الدائر حالياً سيؤدي إلى تفاهم وتالياً إلى تسوية بين دمشق وواشنطن أم إلى مواجهة؟

ـ في دراستي للعلاقات السورية - الأميركية التاريخية، والتي قد يطلُّ جانبٌ منها على المستقبل، أجد أن هناك مشكلات بين سوريا وأميركا تتصل بمجملها بالقضية الفلسطينية الإسرائيلية (أزمة الشرق الأوسط)، لأن السياسة الأميركية في الحرب على الإرهاب، تتهم سوريا بأنها مأوى للفصائل الفلسطينية التي تعتبرها منظمات إرهابية، وأن "حزب الله" منظمة إرهابية، وأن سوريا تدعم الإرهاب بدعم هؤلاء، حتى بالمستوى الذي لا تستطيع أميركا أن تثبته بشكل دقيق، وكذلك مسألة أن قادة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الموجودين في سوريا يملكون معسكرات للتدريب، وأنهم يتدخّلون في فلسطين، وأن الفلسطينيين الموجودين في سوريا يأتون إلى فلسطين هذا أمر لم تستطع أميركا ولا إسرائيل أن تثبته بطريقة واقعية، لأن المعروف أن هذا الوجود وجود سياسي، وسوريا تملك ضبطاً سياسياً لكل الفئات الموجودة عندها.

أما مسألة "حزب الله" والمقاومة الإسلامية، فإن الجميع يعرفون أنه يملك الانضباط بشكل وبآخر في حركته المقاومة الفعلية المباشرة، والتي يخشى منها على اهتزاز الوضع في المنطقة، لأن هذا الفريق أصبح يملك رشداً سياسياً يعرف فيه قواعد اللعبة، ولكن المسألة تحت تأثير الاقتناع اللبناني، واقتناع اللبناني أن مزارع شبعا لا تزال أرضاً لبنانية محتلة، فأصبحت المسألة تفرض وجود المقاومة مع وجود قسم من الجيش، لأن الجيش اللبناني لا يملك أن يخوض حرباً مع إسرائيل، وإن حاولت إسرائيل الاعتداء على لبنان، لأن العلاقات علاقات عداوة باعتبار عدم حصول صلح.

أما مسألة الأسلحة التي تأتي عبر سوريا، فهي مسألة تفصيلية، لأن خطورة الأسلحة إنما هي في استعمالها، أما إذا كانت لا تستعمل فهذا أمر آخر. وتبقى الخطورة أن أميركا وإسرائيل تفكران في ألا يكون هناك قوة في المنطقة يمكن أن تزعج إسرائيل ولو في المستقبل غير المنظور، لأنهم يريدون لكل المناطق المجاورة لفلسطين أن تشعر بالضعف والخوف، وأن لا تشعر بالقوة ولو بهذا الحجم.

لذلك فإن أميركا تعرف أن ما تتحدث عنه من دعم الإرهاب ليس واقعياً، بل هو ورقة تحركها في الاستهلاك السياسي، وحتى أسلحة الدمار الشامل، فإنها قد تمثل نكتة أميركية في الموقع السوري، لأن سوريا لا تملك القوة الاقتصادية لصناعة أسلحة الدمار الشامل، لأنها لو قدرت على ذلك، لعملت على تسليح نفسها بالأسلحة التقليدية وبشكل تستطيع الموازنة فيه بين موقعها العسكري قبالة موقع إسرائيل. إن أميركا تريد دائماً تسجيل نقطة على سوريا، وتمارس بعض الضغوط عليها، لتليين موقفها في المسألة الفلسطينية. وحتى عندما قدَّمت سوريا عرضاً للتفاوض دون شروط، برزت الشروط الإسرائيلية بغطاء أميركي، تماماً كما هي الشروط الإسرائيلية ضد السلطة الفلسطينية في التصرف بقسوة، وتفكيك الفصائل الفلسطينية و"حزب الله" وطردها.

ونعتقد أن المشكلة بين سوريا وأميركا، إنما هي المسألة الفلسطينية بخطوطها الإسرائيلية! وأنه ليست هناك مشكلة أخرى أميركية ضد سوريا، ونحن نعرف أن سياسة سوريا هي أقرب إلى البراغماتية، وهذا ما لاحظناه في طريقة إدارتها لمسألة العلاقات الأميركية السورية، بما يتصل بالمسألة العراقية، وليست المسألة بالغة التعقيد.

هناك تعقيد ينطلق به فريق إسرائيلي في الكونغرس الأميركي لجهة قانون محاسبة سوريا، الذي لم تتأثر به سوريا بشكل عام فوق العادة، وإن تأثرت به جزئياً. ولكني أتصوّر أن حاجة السياسة الأميركية في المنطقة إلى سوريا، من خلال حركة مصالحها الاستراتيجية سوريا، هو تماماً في حجم حاجة سوريا إلى التوافق مع بعض خطوط السياسة الأميركية في المنطقة. ولا أزال، رغم التطورات الضخمة في العالم، أرى حاجة أميركا إلى إسرائيل في حماية سياستها، وفي حاجة إلى سوريا أيضاً، مع الفارق الكبير بين الحاجتين.

هل سوريا في حاجة إلى أميركا؟

ـ سوريا في حاجة إلى أميركا، باعتبار أنها تمثل في مستقبل سياستها في المنطقة، الدولة الكبرى التي تمد كل أذرعها الأخطبوطية إلى العالم، فمن الطبيعي أنه ما من دولة تستغني عن العلاقة مع أميركا، بصرف النظر عن طبيعة هذه العلاقة.

ألا تخشون على الاستقرار في سوريا؟

ـ لا أتصور ذلك، لأن الاستقرار في سوريا، هو من وجهة نظر أميركا في الحرب ضد الإرهاب، إنما هو بإسقاط النظام القائم، وأميركا تعرف أن البديل سوف يكون نظاماً قد يختفي الآخرون ممن تحاربهم أميركا بعنوان الإرهاب وراءه!.

جريدة النهار:24 شوّال 1425 الموافق في  07/12/2004



"أبو مازن" عاجز عن "التنازل"!

* كيف ترون مستقبل الساحة الفلسطينية بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، الذي اعتبره كثيرون عقبةً أمام إحياء عملية السلام، ولا سيما في موضوعات وقف النار والهدنة واحتمالات الحرب الأهلية ومصير الانتفاضة وإصلاح السلطة ومؤسساتها؟

ـ في تصوّري أن هذا الموضوع يحتاج إلى فهرسة. أما موضوع الفصائل في التوقف عن عسكرة الانتفاضة أو الاستمرار فيها، فإن هذا يتوقف على أن تكفّ إسرائيل عن سياستها في الاغتيالات والاجتياحات والاعتقالات، ما يعيدنا إلى الهدنة التي طرحت في وقت سابق أيام عرفات، ولكن إسرائيل لم تلتزمها، وكانت تعمل على إثارة الشارع الفلسطيني وإعطاء الحجّة للفصائل للاستمرار في المقاومة. لهذا فالمسألة هي أن هذا الحوار الدائر بين خلفاء عرفات، إن صحّ التعبير، وبين الفصائل، سواء بمعاونة مصر أو الاتحاد الأوروبي، هل سيصل إلى نتيجة تفرِض على إسرائيل هدنةً في مقابل هدنة، حتى لو كانت هذه الهدنة غير معلنة وغير موقّعة، لحفظ ماء وجه الحكومة الإسرائيلية، أم أن إسرائيل ستستمر في اغتيال القيادات الفلسطينية من الانتفاضة بما في ذلك قيادات "شهداء الأقصى"، وبذلك تُحرِجُ خلفاء عرفات وتمنعُ أي نوع من أنواع الاتفاق بينهم وبين فصائل الانتفاضة؟ أتصور أن التطورات التي حصلت في الشارع الفلسطيني بشكل عام، مقارنةً بالوضع الدولي والإقليمي ومتغيّراته، جعلت هناك خطوطاً للتفكير في إدارة المسألة السياسيّة والأمنيّة الفلسطينية، وخصوصاً بعد غياب عرفات، بطريقة أكثر واقعية مما سبق.

لذلك، فإن هناك استعداداً لموقف سلمي في مقابل موقف سلمي آخر من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ الانتخابات لو حصلت، سواء الرئاسية أو المحليّة البلديّة أو التشريعيّة، فالكلام في ما يتعلّق برئيس السلطة الجديد ـ وقد يغلبُ أنه "أبو مازن" ومعه فريقه ـ هو: هل يصر على الثوابت ومنها عودة اللاجئين ومسألة القدس، أم أنه يتنازل عنها وهو لا يستطيع ذلك، لأنها دخلت في مفاصل الشعب الفلسطيني وخصوصاً بالنسبة إلى فلسطينيي الشتات الذين لا يوافقون على مصادرة حقهم في الرجوع إلى فلسطين؟ وهكذا بالنسبة إلى القدس، حيث تتحدث إسرائيل وتضغط على فرنسا ليغيّروا شهادة وفاة عرفات على أساس أنه ولِدَ في القاهرة وليس في القدس، حتى لا يكون له شخصية المقدسي. إن من الصعب جداً أن يتنازل هؤلاء، ولا سيما أن "أبو مازن" قد تلاحقه الآن في الشارع الفلسطيني الاتهامات التي كانت في اجتماع شرم الشيخ مع بوش وشارون، وبعض تصريحاته المثيرة للجدل. ولا أتصور أنه قادر على التنازل، خصوصاً من خلال تصريحاته الأخيرة. والسؤال: هل إن الرئيس بوش في ولايته الجديدة، يملك الضغط على الإسرائيليين ليقبلوا كل الشيء أو نصف الشيء من الأمور الحيوية، ولو على طريقة كلينتون في محادثات "كمب ديفيد"، أم أنه لا يملك ذلك؟ وهل "الليكود" وحتى "العمل" مستعدون لإعطاء الفلسطينيين دولة قابلة للحياة دون أن يقتطعوا منها أكثر أراضي الضفّة الغربيّة والقدس؟

هذا هو السؤال الكبير الذي يتوقف عليه مستقبل المسألة الفلسطينية.

* هل تعتقدون أن الاتفاق النووي، إذا جاز التعبير على هذا النحو، الذي أبرمته الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كان نتيجة براغماتية إيرانية، أم نتيجة ميزان قوى ترى هذه الجمهورية أنه لم يعد في مصلحتها؟

ـ الأمران معاً، فإيران تعرف أن الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية قد تغيّرت في هذه المرحلة، ولا سيما عندما دخل الاتحاد الأوروبي طرفاً في مسألة الضغط، باعتبار أن المسألة النووية ليست مجرد مسألة أميركية مرفوضة أميركياً، بل هي مرفوضة دولياً، ولا سيما من الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً مع التهويلات التي تتحدث عن أن إيران يمكن أن تشكّل خطراً على السياسة والأمن في أوروبا الغربية، باعتبار إيران دولة غير منضبطة، ويمكن أن يسيطر عليها المتطرفون والمحافظون الذين لا يلتزمون الخطوط الدوليّة والأمن الدولي في ما يملكون من سلاح، وخصوصاً أن المسألة الإسرائيلية والأمن الإسرائيلي هو محلُّ اهتمام أوروبي وأميركي وحتى روسي كما نعرف في هذا المجال، وهو يصل إلى الصين التي تملك علاقات عسكرية مميزة مع إسرائيل.

إن دخول الاتحاد الأوروبي على الخط، يعني أن الواقع الدولي بأجمعه، مع بعض التحفظات الروسية التي لا تثبت أمام ضغط دولي، وهو ما لاحظناه في بعض قرارات مجلس الأمن، لم يعد ملائماً لإيران، وعليها الدخول لمتابعة اللعبة في عملية المناورة، بحيث تقف موقفاً قوياً لتتحرك من خلال هذا الموقف القوي في عملية تكتيكية براغماتية للتفاصيل، كما إنها تحاول أن توازن المسألة بين عملية البقاء في دائرة العنفوان الإسلامي والقومي، ودائرة الواقعية السياسية. وأعتقد أنها نجحت في ذلك.

وإيران سوف تراهن على الزمن، وتحاول أن تجد ثغرةً هنا وثغرةً هناك، وخصوصاً أنها أعلنت من وجهة شرعية أنها لن تصنع القنبلة النووية، ولكنها تراهن على المستقبل، وخصوصاً أن الطريقة التي يدار بها الواقع السياسي الإيراني هي طريقة مميزة، لأننا نجد أن الإصلاحيين والمحافظين يمثلون الخلاف في مرحلة، ليفسحوا المجال لإيران لتسير بهذا الخلاف حتى يتقدم منطق الاعتدال على التطرف، وربما أنهم عملياً عندما تحصل الاتفاقات فإنهم يقفون معاً. إن إيران بلغت الرشد السياسي في العملية السياسية، وهي حتى الآن استطاعت الحصول على شروط جيدة من الاتحاد الأوروبي الذي حاول منحها بعض المطلوب لمساعدتها في برنامجها السلمي في المشروع النووي في هذا المجال.

جريدة النهار:25 شوّال 1425 الموافق في  08/12/2004



العلاقة بين طهران وواشنطن

* هل يمكن أن تؤدّي البراغماتية التي أظهرها الإيرانيون في الموضوع النووي إلى براغماتية أخرى على صعيد العلاقة بين طهران وواشنطن؟

ـ أرى أن إيران من جهتها لا ترفض العلاقات مع أميركا، ولكن هناك بعض التعقيدات في السياسة الأميركية وفي السياسة الإيرانية مع أميركا، وربما عندما نستحضر بعض المفردات، فإن إيران من خلال مصالحها استطاعت أن تعطي للحضور الأميركي والدولي في أفغانستان الكثير من الإيجابيات، وهكذا عندما نلاحظ الموقف السياسي الإيراني في دعم مجلس الحكم الانتقالي والحكومة العراقية المؤقتة، وهي كسابقتها مشروع أميركي، وفي استقبالها لكل الفرقاء الذين يأتون سواء من هذا الجانب أو ذاك، بمن فيهم الأكراد من الحزبين.

ونلاحظ في المدة الأخيرة كيف أن إيران قامت، حسب الإعلام، بضبط حدودها بشكل دقيق جداً مع العراق، تماماً كما هي المسألة مع سوريا. نحن نعرف أن من الطبيعي جداً أن تعمل إيران على إيجاد قاعدة للعلاقات مع أميركا، ومن الطبيعي أن هذه العلاقات بلغت من التعقيد، سواء من طرف أميركا أو من طرف إيران، حدّاً يحتاج إلى كثير من المفاوضات السرية والعلنية وتقديم التنازلات في هذا المجال أو ذاك. وأذكر أنني قلت لبعض المسؤولين الإيرانيين، إن أميركا تضع إيران في قلب استراتيجيتها بقطع النظر عن النظام الذي يحكمها، وخصوصاً أن أميركا ليست مستعدة لأن تجعل إيران لقمة سائغة للاتحاد الأوروبي.

* في الموضوع العراقي كان هناك رهان أن أميركا ستُهزم في العراق، ثم كان هناك رهان آخر هو أنها ستتعثر فيه. الآن، نلاحظ أن الخسائر الأميركية خفت عمّا في السابق، وأن عمليات "المقاومة" صارت تستهدف العراقيين لمنع تكون مؤسسات الدولة، وأن قوات التحالف بالتعاون مع القوات العراقية صارت أكثر جرأةً على القيام بعمليات واسعة (الفلوجة مثلاً). وهناك الآن إجماع أو شبه إجماع عراقي على إجراء الانتخابات (الشيعة والأكراد والتركمان وبعض السنة). في ضوء ذلك كله، ما هو مصير الأميركيين في العراق في رأيكم؟ وإلى أين يسير العراق؟

ـ أتصوّر أنه من الصعب الرهان على الاستقرار الأميركي في العراق في وقت قريب، لأن المسألة الأميركية عراقياً لا تزال تواجه بعض التعقيدات الأمنية من جهة، والسياسية من جهة أخرى. أما في المسألة الأمنية، فعلينا حين نتحدث عن العنف ضد أميركا، أن نلاحظ أن الذين يمارسون العنف، ينتمون في بعض خلفياتهم إلى الجيش العراقي الذي صودر وسُرّح بتمامه وجعل ضباطه وقياداته يعيشون البطالة في العمل، كما أن هناك جماعة صدام الذين يخلصون له، وهناك بعض الناس الذين يعلنون أنفسهم جيش المسلمين. هذا بالإضافة إلى ما يسمى الإرهاب، سواءً القاعدة أو جماعة الزرقاوي وغيرهما، هؤلاء لا يزالون يتحركون ضد الوجود الأميركي. وإذا كانت الخسائر الأميركية أقل مما كانت في السابق، ولكن الهجوم على الحرس الوطني والشرطة والذين يرتبطون بالحكومة المؤقتة هو هجوم على المشروع الأميركي، لأن أميركا لا تستطيع بعد انتخابات عام 2005 أن تقدم جيشاً عراقياً، وقوى أمن داخلي ومخابرات وغير ذلك بالمستوى الذي يمكن أن يحفظ الأمن في العراق، ويخرج أميركا من هذا الاستهلاك اليومي للانتقال من منطقة أمنية إلى منطقة أمنية أخرى.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن التكتيك الذي يتّبعه هؤلاء لا يزال يمثل تكتيكاً متحركاً على طريقة حرب العصابات أو الانتقال من موقع إلى موقع، في الوقت نفسه، علينا ألاّ نعتبر أن هذه الإيجابيات من بعض الدول المجاورة للعراق يمكن أن تحقق الهدوء من خلال مناطقها تماماً، لأن الوجود الأميركي لا يزال يمثل قلقاً وخوفاً على هذه الدول، لا سيما بعدما أعلن المسؤولون الأميركيون أنهم يدخلون العراق من أجل تغيير المنطقة وتحريك مصالحهم، وخصوصاً عندما طرحوا مشروع الشرق الأوسط الكبير ونحن نتابع الفتاوى التي يطلقها العلماء السعوديون بالصوت العالي في وجوب قتال المحتل الأميركي في العراق، حتى إن خطيب المسجد الحرام يتحدث عن مواجهة الأميركيين وذروة قتالهم في الفلوجة.

نستوحي من ذلك أنه حتى في الدول التي تملك علاقات مع أميركا، سواء رغبةً أو رهبة، لا تزال تفكر على أساس قاعدتها، وخصوصاً الدينية، في وجوب قتال أميركا على مستوى الجهاد. ونعرف أن الكثيرين من الذين يُقاتلون أميركا هم من الخليجيين، سواء من الكويت أو السعودية أو اليمن أو غيرها، كما أنّ تركيا تعيش القلق في هذا المجال، حتى لو لم تتحول كردستان العراق دولة مستقلة، لأن هذا سوف يشجِّع كردستان التركية على طلب الحكم الذاتي على الأقل، كما أن التدخل الإسرائيلي في شمال العراق من خلال كردستان، والذي يمتد إلى آماد تاريخية منذ الأربعينات والخمسينات، يثير قلق تركيا وإيران من جهة، والقلق السوري من جهة أخرى. لذلك لا نستطيع الحديث من خلال الضغوط التي تمارسها أميركا على هذه الدولة أو تلك عن هدوء الحدود المحيطة بأميركا باعتبار إحاطتها بالعراق، لأن المسألة تتصل بمخاوف هذه الدول، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، لأن علينا معرفة حقيقة أن وجود علاقة بين دولة إقليمية صغرى ودولة كبرى، لا يعني أن الدولة الصغيرة تسلم كل مفاتيحها لهذه الدولة الكبرى، بل تبقى هناك بعض الثغر التي يمكن أن ينفذ منها هؤلاء أو أولئك. لهذا أتصور أنه حتى الانتخابات لا تزال على رغم وجود الأكثرية معها، تعيش نوعاً من أنواع الجدل حول طبيعتها والنتائج التي تنتج عن وصول المجلس الوطني الذي سوف يتكوّن. لذلك فإن أميركا لم تستطع حتى الآن أن تنام على حرير ناعم.

* تحدثتم عن الدول المحيطة بالعراق، ماذا عن العراقيين أنفسهم؟

ـ من الطبيعي أن مشكلة أميركا انعكست على جميع مفاصل العراق، ولا سيما أن هناك مناطق أكثر هدوءاً من أخرى كما في مناطق الجنوب، ولكن المسألة تبرز بين وقت وآخر لتطل برأسها على وضع أمني صعب هنا، أو على إثارة للمسألة الطائفية التي يبشّر بها بعض الأميركيين على أساس أنها تنتج حرباً أهلية، لأن بعض الطائفيين يعملون على اغتيالات عشوائية من الطوائف الأخرى.

* بعد تسوية مسألة السيد مقتدى الصدر، ومبادرة الجو الشيعي العام في العراق إلى تسهيل التوصّل إلى حلول، وفي ظلّ الموقف الإيجابي من الانتخابات، هل تعتقدون أن شيعة العراق قد يعودون عن موقفهم الإيجابي هذا؟

ـ من الصعب جداً في الأوضاع العراقية الحاضرة أن ننتظر بروز ظروف موضوعية لموقف عسكري في الطائفة الشيعية، لأن ظروف الوضع العسكري والعنف العسكري ليست مهيأة لا من خلال الوضع التاريخي الذي عاشه الشيعة في العراق، ومن خلال فقدان الامتداد الجغرافي والسياسي للوضع الشيعي. لأننا نتصور أن بعض الدول المحيطة بالعراق قد لا توافق على انطلاق ثورة عنف شيعية ضد الاحتلال، لأن ذلك ربما يخلط الأوراق لدى بعض الذين يفكرون طائفياً من خلال العقدة ضد الشيعة أو ضد إيران التي يعتبرونها مسؤولة عن ذلك لدى بعض دول الجوار.

جريدة النهار:26 شوّال 1425 الموافق في  09/12/2004


 

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير