قتل المدنيين نتيجة الضرورة في الحرب، أمر مبرَّر حضارياً

قتل المدنيين نتيجة الضرورة في الحرب، أمر مبرَّر حضارياً
 

يصعب وأنت تجالس "السيد" ألاّ تأخذك الأفكار بعيداً... وتجري عملية مقارنة واسعة، لكنها سريعة، فاعلة وحاسمة.

في حضرة هذا الرجل، تستعيد جمال الحديث ومتعته وعمقه ومعانيه الآسرة ومراميه البعيدة عن «الخطابة» و«الحماس» وطغيان الصوت المرتفع على المعنى والهدف والغرض. علم «الكلام»، لـ «الكلام» كان وما زال معضلة المعضلات.

معه، الحرارة صادقة غير متكلفة في الاستقبال. ذاكرة حاضرة أبداً. لا ينسى الأصدقاء والمعارف. هدوء في الجلوس، هدوء في النظرات وتعمق في الآخر، هدوء في النبرة، وسعي لا تكلف فيه لإيصال الفكرة كاملة غير منقوصة، ولا قابلة للتأويل.

صناعة الكلمة عنده بعض فعل العقل المتفاعل لا المجرد. دور العقل عنده لا مجرد التلقي... والموقف الذي يريد إيصاله ثمرة لذاك التفاعل.

و«المرجعية» عنده ليست مظاهر ولا «صف كلمات» تتماهى بجمالها وأناقتها وفرادتها وألغازها وغموضها ومرونتها القابلة «للمطّ» و«المد» و«الجزر». إنها ليست زجاجات معبَّأة أو علب كرتونية لحين الطلب. إنها مسؤولية أمام الله وأمام الإنسان... إنها جزء من التكليف الرباني، تأبى تأجير المواقع وبيع الفتاوى للمقتدرين و«أولي الأمر»، وما أكثرهم.

التاريخ الديني عموماً، والإسلامي على وجه الخصوص، مليء بقصص وروايات وحكايات عن فتاوى استحضرت خصيصاً لتلبية طلب السلطات، ما «أنزل الله بها من سلطان». مع «السيد»، يقيناً أنت تراه على ربوة منـزَّهة.

«رجل دين»؟! لست أدري ما إذا كان يستسيغ هذا اللقب اليوم لكثرة ما أحاط بهذا اللقب تاريخياً.

«مرجع»؟! أي والله. بل يقيناً.

الناس الذين يقصدونه يعرفون سلفاً أن حاجتهم ملبَّاة في حدود القدرة والاستطاعة المتوفرة. هم بالعشرات يومياً؛ أفراداً ومؤسساتٍ اجتماعية وتربوية وصحية وإنسانية.

تغبطه على سعة صدره وابتسامته العميقة، والهدوء والإيحاء، ودوام استعداده للإصغاء من غير تبرّم. هناك من يتولى عنه ضبط إيقاع الوقت المحدَّد.

أوسع من «رجل دين»، وإن كان هكذا هو، وأبعد أثراً من طائفة أو مذهب أو كيان. لكنه في صلب كل ذلك.

إنه أحد قيادات الأمة. العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله.

في منـزله في حارة حريك كان اللقاء... كثرة المراجعين والالتزامات أربكت الموعد من غير قصد. الدقائق التي تطمح إليها لإنجاز الحديث _ الحوار، الذي لا ينتهي طبعاً، تكاد تصبح عملة نادرة، الأمر الذي يفرض عليك اللجوء إلى تسوية «لا يعترض عليها».

هنا الجزء الأول من الحديث، أما الجزء الثاني، فسيكون بعد إنجاز اللقاء مع السيد فضل الله مطلع الأسبوع التالي.

حال الواقع العربي والإسلامي

* سماحة السيّد، كيف تقوّم الوضع العربي والإسلامي؟ هل نحن أمام صحوة فكرية حقيقية، هل نحن أمام اختلاجات هجينة وفاشلة؟ وكيف السبيل إلى الخروج مما نحن فيه من تخبّط؟

- عندما نريد أن ندرس الأفق السياسي في الواقع العربي والإسلامي، نلاحظ أنه يعيش على مستوى الأنظمة، في شكل عام، حال سقوط فظيع، ربما لم يعرفه في أية مرحلة من مراحل تاريخه، لأنّ هناك خضوعاً شبه مطلق من أكثر الأنظمة العربية والإسلامية للسياسة الأميركية في كلِّ خطوطها، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني، إلى حدّ أنّ الإنسان عندما يتابع خطوط هذا الواقع، يجد أن هنالك حال رعب في حركية الذين يشرفون على الواقع الرسمي في العالمين العربي والإسلامي، ولا نجد هناك أية حال استقلالية يشعر فيها الحاكم، هنا وهناك، بأنه يمثل تطلّعات شعبه في القرارات الأمنية والسياسية والاقتصادية.

وهذا ما نلاحظه في مؤتمرات القمم العربية، وفي مؤتمرات وزراء الخارجية في الواقع العربي، أو على مستوى منظَّمات المؤتمر الإسلامي... هناك ما يشبه حالة انعدام الوزن، في الوقت الذي نجد حركة صحوة عربية أو إسلامية لدى الشعوب العربية والإسلامية، لكنّنا نلاحظ، مع ذلك، أن هناك خطة لقمع هذه الصحوة وإسقاطها، بمحاصرتها بمسألة الحرب ضد الإرهاب من قبل الجهة التي تقودها أميركا، لتراقب كل حركة سياسية معارضة لسياسة الإدارة الأميركية، أو لتتابع كل العمل الخيري التعاوني الذي ينطلق من أجل سد الثغرات التي يعيشها الإنسان العربي والمسلم في واقع الحرمان أو ما أشبه ذلك، لنجد أن هناك محاولة لمحاصرة كل إدارات العمل الخيري بتهمة دعم الإرهاب من هنا أو هناك، إلى درجة أن وزير الخزانة الأميركية استطاع، بالتعاون مع الأنظمة العربية والإسلامية، وبالتعاون مع الجهات في أميركا وأوروبا، إغلاق أغلب الصناديق العربية والإسلامية الخيرية.

وهكذا نلاحظ كيف تتحرك الولايات المتحدة الأميركية، تحت تأثير عناوين الإصلاح، والدمقرطة، والحرب ضد الإرهاب، لتحتل بلداً هنا وبلداً هناك. فهي احتلت العراق بتهمة أسلحة الدمار الشامل، ثم اكتشفت الإدارة الأميركية ومخابراتها أن هذه التهمة كذبة كبرى، لم تستطع أن تؤكدها حتى على مستوى مخابراتها الواسعة في هذا المجال. وهكذا رأينا كيف انقلبت حجّة احتلال العراق من وجود أسلحة الدمار الشامل إلى مسألة الإرهاب، مع أننا نعرف أن النظام الطاغي في العراق، والذي رعته أميركا منذ ولادته حتى سقوطه، لم يكن ساحةً للإرهاب بالمعنى الاصطلاحي له، وذلك باعتراف الإعلام الأميركي والإدارة الأميركية سابقاً، وهذا أيضاً ما لاحظناه في الحرب الأميركية على أفغانستان، فهي لم تحقِّق السَّلام للشعب الأفغاني، كما أنها أغرقت الساحة العراقية بالدماء وما تزال.

إننا عندما ندرس هذا الواقع كله، سوف نجد أن هذه المرحلة، هي المرحلة الظلامية للواقع الرسمي العربي والإسلامي، وواقع الحصار السياسي للطلائع العربية والإسلامية الشبابية من الأجيال الجديدة، حيث تحوَّلت الساحات العربية والإسلامية إلى سجن كبير، من خلال قوانين الطوارئ، ومن خلال أجهزة المخابرات، حتى أصبح الإنسان العربي والمسلم يخاف من أن يضبط متلبساً بأنه يفكر بالحرية... لذلك فإننا نعتقد بأن من الضروري جداً أن تبدأ خطة شعبوية تستطيع أن تحرر الواقع العربي والإسلامي من السيطرة الأميركية، ومن الذين وظفتهم المخابرات الأميركية ليكونوا ملوكاً أو رؤساء أو وزراء أو ما أشبه ذلك.

تكفير وتفكك مذهبي وإثني

* يعيش العالمان العربي والإسلامي حالاً لا يمكن الاتفاق على وصفها بدقّة. ففي حين يرى البعض أنها بداية صحوة كاملة، يرى البعض الآخر أنها ذروةٌ في التخلّف والابتعاد عن الواقع، حيث نرى انهياراً في الوعي القومي والوطني العام، يقابله تصاعد في أداء الحركات التكفيرية، وتفكك داخلي بين طوائف ومذاهب وإثنيات لم تشهد البلاد مثيلاً له في التاريخ.

كيف تنظرون إلى هذا الواقع، وكيف تقيّمونه؟

- العالمان العربي والإسلامي معاً، لا يعيشان في غرفة مغلقة الأبواب والنوافذ، ولكنهما يعيشان في ساحة، لا سقف لها ولا حيطان، تخضع لكل الرياح القادمة من بعيد، سواء كانت هذه الرياح تتصل بالجانب الفكري، في خطوط الفكر المعتدل أو المتطرِّف، وفي خطوط التخلّف الثقافي والفوضى الروحية، أو بالأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تحاصر إنسان هذا الواقع أو ذاك، لتشغله عن كل قضاياه الكبرى، بلقمة العيش اليومية، وبمشاكل الحاجات الضرورية الحيوية التي تعيش في أوضاعه الذاتية، وفي هذا المناخ المتنوّع، الذي قد يصل إلى حد الفوضى في تشابك الخطوط أو تداخلها، أو انفتاحها على أزمة هنا أو أزمة هناك.

لذلك، فإنَّنا نجد أن هناك نماذج لصحوة إسلامية منفتحة على ثقافة تحاول أن تخرج الإسلام من دائرة التخلّف في التصوّر والحركة والأسلوب، باعتبار أنها ترصد المشاكل التي يعيشها الإنسان المسلم والعربي لترفعه إلى درجات عليا.

ومن الطبيعي أن هذه الصحوة، تصطدم من وقت لآخر بسقوط ثقافي فكري، ينطلق من خلال الفوضى الروحية التي قد تتمثَّل في بعض مظاهر التصوّف غير المركّز، والذي تحوّل إلى حالة شكلية، أو إلى نوعٍ من أنواع الغلوّ الذي قد يصل إلى حدِّ الخرافة، أو الخرافة التي قد تصل إلى حدّ الابتعاد عن فهم الواقع كما هو، لنجد أن كثيراً من الناس يبتعدون عن تفسير الواقع الكوني والنظام الإنساني الذي أودعه الله في الكون بأسبابه الطبيعية من خلال السنن الكونية والسنن التاريخية التي خلقها الله كأسباب لكل الظواهر العامة، ليفسروها بطريقة غيبية، غير واقعية، ليغرق الإنسان بالغيب ويبتعد عن حالة الشمول وعن حالة الحضور الواقعي.

إننا كمسلمين نؤمن بالغيب، لكنّنا نعرف أن الله سبحانه وتعالى لم يركّز الكون على أساس الغيب، فالله يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر/49) {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}(الطّلاق/3) ولكن هناك أناساً يعطِّلون تفسير النظام الكوني أو تفسير النظام الإنساني بالسنن التي أودعها الله في الكون، ليختصروا ذلك بكلمة غيبية: «إن الله أراد هذا»، ولكنهم لا يتحدثون عن أن الله أراد الأشياء بأسبابها، وأنّه جعل لكل شيء سبباً.

وهكذا نجد أن هذه التفسيرات المتخلّفة للدِّين، قد استطاعت أن تفسح من المجال لحال من العصبية المنغلقة التي تعزل الإنسان، عن الإنسان وتمنعه من الانفتاح عليه، وعن الحوار معه في ما يختلف فيه الناس، وعلى الرغم من أن القرآن كان كتاب الحوار مع كلِّ الناس، حتى إنَّنا نقول، ولو على سبيل النكتة، إنه في البدء كان الحوار، فالله حاور إبليس، وحاور الملائكة في هذا المجال.

ولقد تحول هذا (الانغلاق) إلى حركة عنف يواجه به الإنسان الآخر المختلف عنه، بحيث لا يطيق وجود اختلاف بينه وبين إنسان آخر، بل يحاول أن يبتدع الاتهامات بالتكفير والتضليل وما إلى ذلك، ما يفسح في المجال لحالة عنف يستحلُّ فيه المسلم دم المسلم، أو دم غير المسلم من الأشخاص الأبرياء في حياتهم العامة والخاصة. لذلك، فإن هذا الجو الذي يعيش فيه الإنسان حالة فوضوية تنفتح على عنف مدمر لا يطيق أيِّ نوع من أنواع اللقاء والوقوف على الكلمة السواء، وما إلى ذلك؛ إن هذا جعل العالمين العربي والإسلامي يعيشان في مناخ تتقاذفه الاتجاهات والتيارات المتناقضة، ما يمنع من وجود حالة من الاستقرار الثقافي والروحي والديني والسياسي والواقعي، لنعيش في حالة من الاهتزاز التي قد تفضي إلى سقوط الهيكل على رؤوس الجميع.

لست متشائماً في تصوير هذا الواقع، ولكنّنا نتصوّر أن الواقع الذي نعيش فيه، هو واقع لا يوحي بمرحلة يمكن للناس فيها أن يتعرفوا مواقع خطواتهم في الطريق إلى المستقبل. إننا لا نمانع وجود حركات طليعية تحاول أن تخطط، ولكنها قد تعيش الإرباك أمام الأوضاع الدولية والإقليمية التي لا تريد للعالمين العربي والإسلامي أن يجد نفسه في موقع يملك فيه أن يقرر مصيره بنفسه، وأن ينتج اقتصاده بإرادته، وأن يتابع مسيرته في عملية التخطيط والتنفيذ بشكل أو بآخر.

إننا نعيش الكثير من الفوضى الثقافية التي تحوَّلت إلى فوضى واقعية، باعتبار أن تغيير الواقع ينطلق من تغيير الذهنية، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرّعد/11).

الانشغال عن المسؤولية

* ما تفضَّلت به في بداية وما تلاه، حديثك وتليته يوحي بأنك تلقي التهمة والمسؤولية على الأنظمة وحدها. ويحضرني هنا القول إنه فيما العالم يخرق السموات والأرض، نجد أننا نحن في العالمين العربي والإسلامي، ما زلنا متخلفين عن ذلك، منشغلين عن التطوّر والمسؤولية بهوامش من مثل هل ندخل الحمام بالرجل اليمنى أم بالرجل اليسرى... ونجعلها مسألة عقائدية _ خلافية، تدور حولها مناقشتنا، وتستهلك معظم كتاباتنا، فيما العدوّ يطرق الأبواب، بل هو في عقر دارنا، ولا نعد لهذا العدو أية عدة سوى الكلام وعلم الكلام والغلوّ فيه؟

- إنَّني عندما أتحدَّث عن الأنظمة، فباعتبار أنها العنصر الرئيسي الذي وظّف من أجل حراسة التخلف، ولا أنكر أنّ التخلّف الذي نعيشه، استطاع أن يمتد في أكثر من جانب من جوانب حياتنا، على مستوى التصوّرات الخاطئة المتخلّفة والممارسات والعلاقات، لأنّنا عشنا في امتدادات تاريخية استطاعت أن تفرض الكثير من التخلف في الواقعين العربي والإسلامي، فدخلت في الدوائر الكلامية، حيث أنتجت الكثير من الخلافات والنـزاعات في الأمور التجريدية التي لا علاقة لها بالواقع، وجعلت الإنسان يفكر في الجزئيات بعيداً عن الكليات، وبعيداً عن التّركيز على الأولويات فيما هو الأهمّ والمهم، وجعلتنا نبتعد عن الانفتاح على معطيات العلم، بالشكل الذي يمكن أن تبدع فيه الطاقات لتنتج علماً يستطيع أن يفسر الكون، ويستنتج من خلال تفسيره الكون، تحديث الكثير من مظاهره ومن أوضاعه في هذا المجال أو ذاك المجال.

إن المسألة لا تتصل بالشخصية العربية أو الشخصية الإسلامية، ولكن مشكلة هذه الشخصية _ الواعدة في حجم طاقاتها الإبداعية على مستوى القابليات _ أن الأنظمة لم تهيئ لها الأرضية الصالحة لتفجير هذه الطاقات في ما يمكن أن يحقق التقدم على جميع المستويات، والدليل على ذلك، هو أن الكثيرين من شباب العرب والمسلمين الذين ذهبوا إلى الخارج، استطاعوا أن يصلوا إلى المراكز العليا، حتى في أبحاث الفضاء وفي أبحاث الذرَّة والفيزياء والكيمياء وما إلى ذلك، بحيث إنهم أثبتوا أن عقولهم ليست من فضة لتكون عقول الغربيين من ذهب، بل ربما تفوّقوا على الكثيرين من الغربيين. إن المشكلة عندنا في هذا الشرق، هي أن القائمين على شؤونه لا يخطّطون للاهتمام بالطاقات الواعدة من شبابنا، ليهيئوا لها الظروف الطبيعية للنموّ والتقدم وما إلى ذلك.

إنني أعرف كثيراً من الشباب الذين بلغوا درجات عليا في التقدم العلمي، لا يجد أحدهم في بلاده فرصةً حتى في أن يكون مدرِّساً ثانوياً، لأن القضية مربوطة بالشخصيات الطائفية في بلد الطوائف، أو بالشخصيات السياسية المرتبطة بسياسات خارجية في بلد الخضوع لهذه السياسة أو تلك. نحن نعرف أن الكفاءات لا تحترم كظاهرة، ولا أتحدث عن شمولية في عالمنا العربي والإسلامي... لذلك، فإنَّني أتصوَّر أنَّ هذا العالم العربي أو الإسلامي، يختزن في داخله الكثير من إمكانات التقدم المستقبلي، ولكن المسألة هي كيف نخرجه من هذا السجن الكبير الذي وُظِّف فيه الحكام من قبل الدول التي تخاف من حركة التقدم العلمي وحركة التقدم الاقتصادي، الذي يسمح لهذا العالم أو ذاك، أن يحقق سياسة الاكتفاء الذاتي، وأن يقرر مصيره بنفسه.

الحرب العدوانية على المنطقة

* في العراق، حرب عدوانية ظالمة.... وفي فلسطين، يستمر قتل شعب كامل، والحصار يمتدُّ ويشتدُّ على العديد من دولنا، فيما يقف العرب والمسلمون من ذلك موقف المتفرِّج أو المتواطئ. برأيكم ما طبيعة هذه الحرب؟ وكيف السَّبيل إلى مواجهتها؟

- إنَّ هذه الحرب العدوانية التي فُرضت على الشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور وحتى الآن، خُطِّط لها من أجل إيجاد عازل أو حاجز في داخل الواقع العربي، ليفصل البلاد العربية بعضها عن بعض بواسطة الكيان الإسرائيلي، ثم لإشغال العالم العربي عن القضايا التي بدأت تنفتح على عالم جديد، من خلال بدايات التحرر من الاستعمار الذي كان يطبق عليه، ويحاصر كل أوضاعه، ويحوّله إلى هامش من هوامش الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية، في عملية إطباق أجهزة المخابرات عليه، والتي توظف الكثير من طاقاته لخدمة اقتصادها، لأنهم يعتبرون أن الثروات الطبيعية المخزونة في العالم العربي، هي ثروات يتوقف عليها الاقتصاد العالمي، ولذلك لا بد من احتوائها واستغلالها، ومحاصرته على مستوى الإنتاج أو على مستوى التسويق.

ولذلك، كانت كلُّ خطط الغرب، بشكل عام، بريطانياً، فرنسياً، ثم أميركياً، ثم مع هذا التحالف الأوروبي _ الأميركي، لمنع العالمين العربي والإسلامي من التقدم.

لذلك كانت المسألة الفلسطينية التي أريد لها أن تكون حلاً للوضع اليهودي في العالم، والتخفيف من العقدة التي حملتها أوروبا نتيجة اضطهاد اليهود من قبل العالم الغربي بشكل متحرك، أو على مستوى ما يسمى «بالمحرقة»، التي أخذ الإعلام اليهودي حريته في تحويلها إلى أسطورة، بطريقة وبأخرى، لأن الذين أحرقهم هتلر _ إن كان هناك محرقة _ أو الذين قتلهم من غير اليهود، أكثر بكثير من الذين قتلهم من اليهود.

وهكذا كانت مسألة استغلال ما حدث في 11 أيلول تبريراً لاحتلال أفغانستان، ولشنّ الحرب على كل العالم العربي والإسلامي، تحت عنوان «الحرب على الإرهاب»، ثم احتلال العراق الذي أريد له أن يكون جسراً تعبر منه أميركا إلى المنطقة، وأريد له أن يكون البقرة الحلوب من خلال ثرواته الطبيعية التي أرادت أميركا أن تستغلّها، ولا سيّما البترول، الذي عملت أميركا في القرن الماضي امتداداً إلى هذا القرن للسيطرة عليه وعلى كلِّ بترول العالم، لتحاصر به الصين واليابان وأوروبا، ولتمسك بأعناقها لمنعها من أن تتحول إلى قوة كبيرة.

لذلك نحن نعيش أمام هذه الخطة الغربية، والتي تمثلت في الدول الثماني الغنية، من أجل رسم خطة تمنع عالمنا من التقدم والتطور، ومن الدخول إلى مستوى التصنيع، ومسألة المكننة الزراعية، ومسألة التخطيط الاقتصادي وما إلى ذلك...

إن المسألة تحتاج إلى عقلنة الحركة التحررية ودراستها دراسةً دقيقة أمام الخطط الخبيثة العميقة الدقيقة التي يخطِّط لها الغرب، كل الغرب، ولا نفرّق بين أميركا وأوروبا في المبدأ، وإنما التفرقة تكون في الحجم، في حجم ما تملكه أميركا من عناصر القوة مقارنة بما تملكه أوروبا من هذه العناصر. لذلك نحتاج فعلاً إلى أن ننتج إنساننا، ونعمل على أساس إيجاد حالة من التكامل والتواصل والاعتراف بالآخر، وتجميد كل القضايا الخلافية، سواء كانت على المستوى الديني أو المذهبي أو السياسي، لأن القضية تحوَّلت الآن إلى قضية أن نكون أو لا نكون.

إن أميركا تعطي العرب الذين يلهثون وراءها الكلمات المعسولة التي يعيشون فيها أحلامهم السعيدة أو غير السعيدة، ولكنها في المقابل تعطي إسرائيل كل الدعم، وعلى جميع المستويات، وهي تلتزم أمنها في المنطقة. وهكذا عندما ندرس الوضع في العراق الآن، فإننا نجد أن مسألة المقاومة اختلطت مع مسألة الجريمة، فهناك أناس باسم المقاومة يقومون بقتل العراقيين أكثر مما يقتلون من الأميركيين، حتى العراقيين الأبرياء، الذين لا علاقة لهم بالسياسة، وهذا ما نلاحظه في المجازر التي تقع بين وقت وآخر، وهذا أيضاً ما نلاحظه في أفغانستان، ونلاحظه في الفوضى التي تعيش في أكثر من بلد عربي. لذلك فإننا نحتاج إلى خطة جديدة لصناعة المستقبل؛ خطة للمقاومة، للتواصل مع المقاومة في كل العالم العربي، وخطة للتحرير، وخطة لتغيير الإنسان من الداخل والخارج.

العمليّات الاستشهاديّة والموقف الفقهي منها:

* هناك قراءات فكرية وفقهية متعددة لطبيعة هذه الحرب، واجتهادات متناقضة في الموقف من بعض وسائل المواجهة، ولا سيما «العمليات الاستشهادية»، حيث يذهب العديد من الأطفال والأبرياء... ما هو موقفكم الفقهي في ذلك، ولا سيما أنّ هناك من يبررها دينياً؟

- الأصل في الإسلام من النَّاحية الشرعية، هو حرمة قتل الإنسان المسلم، انطلاقاً من حالة اليأس الذاتي، أو من خلال المشاكل الحادَّة التي تواجه الإنسان على مستوى حياته الخاصة. ولكن عندما تتَّصل المسألة بالقضايا الكبرى للإنسان على المستوى الإسلامي، ولا سيّما أنّنا نتحدث عن الخط الإسلامي، فإنّه قد تتولِّد بعض الأساليب في المواجهة التي يتوقف عليها الانتصار. فنحن نعرف مثلاً أنَّ الجهاد في دائرته المشروعة، هو في خطِّ المواجهة، أي الجهاد في سبيل الله من أجل حماية الأمة من العدوان، ومن أجل تحريرها من سلطة الآخرين، أو تحرير أرضها وإنسانها واقتصادها وما إلى ذلك، عندما يفرض الآخرون سلطتهم أو سيطرتهم عليها بطريقة عدوانية. لهذا شرّع الإسلام الجهاد كحالة دفاعية لحماية الإنسان والوطن.

ولكن ربما تدعو الحاجة إلى أن يتقدَّم المجاهدون ليتحوَّلوا إلى قنابل تتفجر في الأعداء، كما يحدث في فلسطين الآن، فإنَّ العمليات الاستشهادية في فلسطين، عندما ندرسها في دائرتها التجريدية خارج الظروف الموضوعية لمحيط الحكم، فقد تبدو حالة لاإنسانية، لأنها قد تجتاح الأطفال والنساء والشيوخ الذين قد يقال إنّه لا علاقة لهم بالسياسة الإسرائيلية، من الناحية الحركية، وإن كان هذا ليس دقيقاً، ما داموا استوطنوا بيوت الفلسطينيين وسيطروا عليها...

التساوي في المواجهة:

* وهل هي حالة عدوانية؟

- نحن لا نريد هنا أن نركِّز على هذه الحالة، لأنّها ليست مقبولة، خصوصاً بالنسبة إلى الأطفال، أمام الرأي العام العالمي، لكنَّنا إذا وضعناها في إطارها الطبيعي، نرى أنَّ الساحة بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي ساحة حرب، وأنّ إسرائيل تملك أقوى الأسلحة التي تستعمل في الحروب الكبرى، مثل طائرات إف/16 و18، والتي تستخدمها في حربها ضدّ الفلسطينيين _ حتى على مستوى المدنيين _ عندما تستهدف سيارة للمقاومة في شارع ممتلئ بالناس، أو ما أشبه ذلك، ثم نجد أنها تستخدم كل شيء لتدمير البنية التحتية للفلسطينيين، لتحاصرهم اقتصادياً في جرف المزارع، وتدمير البيوت، وملاحقة القيادات السياسية، واعتقال الشباب وما إلى ذلك. فهناك حركة يهودية _ صهيونية لقتل الأمن الفلسطيني، والفلسطينيون لا يملكون الأسلحة التي يستطيعون من خلالها أن يتوازنوا في صراعهم العسكري مع اليهود. ولذلك، كيف يمكن للفلسطينيين أن يدافعوا عن أنفسهم؟ كيف يمكن للفلسطينيين أن يثيروا الرأي العام اليهودي ليطالبوا حكومتهم برفع اليد عن تدمير الأمن الفلسطيني والإنسان الفلسطيني؟ ليس هناك إلا أن يتحول كل فلسطيني إلى قنبلة تتفجر في وجه الإسرائيليين. ونحن نعرف أن مسألة قتل المدنيين نتيجة الضرورة في الحرب أمر مبرر حضارياً، وإلاّ كيف تفسر أميركا إطلاقها القنبلة الذرية على هيروشيما ونكازاكي التي قتلت فيها ما يقارب الـ 200 ألف مدني في هذا المجال.

لذلك نحن نقول، إن هناك صراعاً بين الأمن الفلسطيني والأمن الإسرائيلي... وإذا كانت إسرائيل قد قتلت الأمن الفلسطيني، فمن حق الأمن الفلسطيني أن يقتل الأمن الإسرائيلي. هذا ما تفرضه ظروف الحرب.

أما في الحالات الطبيعية، فنحن لا نبرر قتل المدنيين في العمليات الاستشهادية أو في غيرها. ولذلك قلنا في أحداث 11 أيلول، إنّنا لا نعتبر هذه العمليات عمليات استشهادية، لأنّه لا يجوز لنا أن نعارض السياسة الأميركية بقتل الشعب الأميركي الذي يشتمل على مسلمين وغير مسلمين. وقلنا أيضاً إنّ هذه أحداث لا يقبلها عقل ولا شرع ولا دين. وهكذا أنكرنا وشجبنا ما حدث في مدريد، وما حدث في الدار البيضاء، وما حدث في السعودية، وما حدث مؤخراً في لندن... وما يحدث الآن في العراق أيضاً.

لذلك نحن لا نبرر العمليات الاستشهادية، إلاّ إذا كانت من أجل قضية كبرى تفرض الضرورة الدفاع عنها بهذه الطريقة.

المشروع الشيعي الإقليمي:

* مع مباشرة الحرب على العراق، وكذلك قبل مدة من الزمن، صدرت دعوات عن فئات وجماعات شيعية لقيام كيان شيعي سياسي في العراق، ما يؤدي إلى تقسيم العراق على أساس مذهبي... وكان ملك الأردن عبد الله الثاني، قد تحدث في وقت سابق عن هلال شيعي يمتدُّ من إيران إلى لبنان. ما موقفكم من هذا؟ وكيف تنظرون إلى هذا المشروع؟ وأين وحدة العراق في تصوركم كضرورة في مواجهة العدوان وتحقيق مصالح الأمة في الاستقلال والحرية والثروات؟

- لنبدأ أولاً بالسؤال: هل هناك فعلاً دعوة شيعية في العراق لتقسيم العراق على أساس مذهبي؟ إننا نرفض ذلك من حيث الخطة التي يتداولها هذا الفريق أو ذاك. ولكن، هناك مشكلة في العراق بدأت بمطالبة الأكراد بدولة عراقية فيدرالية تعطي للأكراد استقلالاً داخلياً في منطقة كردستان قد لا تصل في طرحهم المرحلي، كما نعتقد، إلى المطالبة بدولة، ولكنها تأخذ الكثير من عناوين الدولة. وقد وافقت المعارضة في مراحل التداول قبل سقوط النظام الطاغي، على الفيدرالية، ولكن من دون أي تخطيط لهذه الفيدرالية، بل إنها اكتفت بالحديث عن الفيدرالية بالنسبة إلى الأكراد. ولكن ما حدث في التداولات التي انطلقت أخيراً من بداية الاحتلال وقضية مجلس الحكم وما إلى ذلك، أعطت مسألة الفيدرالية حالاً ضبابية. فمن حق المحافظات الثلاث أن تعطي حق الفيتو على بعض القرارات أو ما إلى ذلك... هنا بدأ الحديث عن شمول الفيدرالية للمناطق، لا على أساس مذهبي، بل على أساس مناطقي. فالجنوب ليس منطقة تختصُّ بالشيعة حكماً، فهناك الكثير من السنة في الجنوب، وكذلك بالنسبة إلى بغداد التي فيها من كل الأطياف العراقية، وهكذا في كل المناطق الأخرى. لذلك لم تكن المسألة مسألة تقسيم العراق على أساس مذهبي، ولكنه تخطيط على مستوى الجدل السياسي لفيدرالية تشمل كلِّ مناطق العراق. ونحن رفضنا ذلك، لأنها قد تصل في نهاية المطاف إلى إفقار العراق، وأيضاً قد تلتقي بالعصبيات المذهبية، وقد تنعكس سلباً على واقع المنطقة، وإن كنّا نعتقد أن الوضع الدولي حتى الآن، لا يسمح بإسقاط التقسيم الموجود الآن على طريقة سايكس _ بيكو.

أما مسألة ما أثاره الملك عبد الله، فقد قلنا إنها مسألة تتصل بالوهم، فليست هناك أية واقعية ولو بنسبة واحد في المائة في هذا الاندماج المفترض بين إيران والعراق وسورية. قد يكون هناك تلاقٍ على مستوى العلاقات السياسية بين دولة ودولة، ولكن ليست هناك أية فكرة اندماجية، لا لدى العراقيين، ولا السوريين ولا الإيرانيين، وليست هناك أية واقعية لذلك، مع اختلاف القوميات واختلاف المصالح، ومن ثم امتداداً للواقع الدولي الذي تتصل مصالحه بهذه المسائل. لذلك قلنا، إن ما يتحدث عنه الملك عبد الله يمثل حالة أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع. ولقد تلقيت من الملك عبد الله رسالة يعتذر فيها عن هذا، ويقول إنه لم يقصد ذلك في كلامه...

المصدر: جريدة الشرق
التاريخ: 16-6-1426هـ / 23-7-

 

يصعب وأنت تجالس "السيد" ألاّ تأخذك الأفكار بعيداً... وتجري عملية مقارنة واسعة، لكنها سريعة، فاعلة وحاسمة.

في حضرة هذا الرجل، تستعيد جمال الحديث ومتعته وعمقه ومعانيه الآسرة ومراميه البعيدة عن «الخطابة» و«الحماس» وطغيان الصوت المرتفع على المعنى والهدف والغرض. علم «الكلام»، لـ «الكلام» كان وما زال معضلة المعضلات.

معه، الحرارة صادقة غير متكلفة في الاستقبال. ذاكرة حاضرة أبداً. لا ينسى الأصدقاء والمعارف. هدوء في الجلوس، هدوء في النظرات وتعمق في الآخر، هدوء في النبرة، وسعي لا تكلف فيه لإيصال الفكرة كاملة غير منقوصة، ولا قابلة للتأويل.

صناعة الكلمة عنده بعض فعل العقل المتفاعل لا المجرد. دور العقل عنده لا مجرد التلقي... والموقف الذي يريد إيصاله ثمرة لذاك التفاعل.

و«المرجعية» عنده ليست مظاهر ولا «صف كلمات» تتماهى بجمالها وأناقتها وفرادتها وألغازها وغموضها ومرونتها القابلة «للمطّ» و«المد» و«الجزر». إنها ليست زجاجات معبَّأة أو علب كرتونية لحين الطلب. إنها مسؤولية أمام الله وأمام الإنسان... إنها جزء من التكليف الرباني، تأبى تأجير المواقع وبيع الفتاوى للمقتدرين و«أولي الأمر»، وما أكثرهم.

التاريخ الديني عموماً، والإسلامي على وجه الخصوص، مليء بقصص وروايات وحكايات عن فتاوى استحضرت خصيصاً لتلبية طلب السلطات، ما «أنزل الله بها من سلطان». مع «السيد»، يقيناً أنت تراه على ربوة منـزَّهة.

«رجل دين»؟! لست أدري ما إذا كان يستسيغ هذا اللقب اليوم لكثرة ما أحاط بهذا اللقب تاريخياً.

«مرجع»؟! أي والله. بل يقيناً.

الناس الذين يقصدونه يعرفون سلفاً أن حاجتهم ملبَّاة في حدود القدرة والاستطاعة المتوفرة. هم بالعشرات يومياً؛ أفراداً ومؤسساتٍ اجتماعية وتربوية وصحية وإنسانية.

تغبطه على سعة صدره وابتسامته العميقة، والهدوء والإيحاء، ودوام استعداده للإصغاء من غير تبرّم. هناك من يتولى عنه ضبط إيقاع الوقت المحدَّد.

أوسع من «رجل دين»، وإن كان هكذا هو، وأبعد أثراً من طائفة أو مذهب أو كيان. لكنه في صلب كل ذلك.

إنه أحد قيادات الأمة. العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله.

في منـزله في حارة حريك كان اللقاء... كثرة المراجعين والالتزامات أربكت الموعد من غير قصد. الدقائق التي تطمح إليها لإنجاز الحديث _ الحوار، الذي لا ينتهي طبعاً، تكاد تصبح عملة نادرة، الأمر الذي يفرض عليك اللجوء إلى تسوية «لا يعترض عليها».

هنا الجزء الأول من الحديث، أما الجزء الثاني، فسيكون بعد إنجاز اللقاء مع السيد فضل الله مطلع الأسبوع التالي.

حال الواقع العربي والإسلامي

* سماحة السيّد، كيف تقوّم الوضع العربي والإسلامي؟ هل نحن أمام صحوة فكرية حقيقية، هل نحن أمام اختلاجات هجينة وفاشلة؟ وكيف السبيل إلى الخروج مما نحن فيه من تخبّط؟

- عندما نريد أن ندرس الأفق السياسي في الواقع العربي والإسلامي، نلاحظ أنه يعيش على مستوى الأنظمة، في شكل عام، حال سقوط فظيع، ربما لم يعرفه في أية مرحلة من مراحل تاريخه، لأنّ هناك خضوعاً شبه مطلق من أكثر الأنظمة العربية والإسلامية للسياسة الأميركية في كلِّ خطوطها، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني، إلى حدّ أنّ الإنسان عندما يتابع خطوط هذا الواقع، يجد أن هنالك حال رعب في حركية الذين يشرفون على الواقع الرسمي في العالمين العربي والإسلامي، ولا نجد هناك أية حال استقلالية يشعر فيها الحاكم، هنا وهناك، بأنه يمثل تطلّعات شعبه في القرارات الأمنية والسياسية والاقتصادية.

وهذا ما نلاحظه في مؤتمرات القمم العربية، وفي مؤتمرات وزراء الخارجية في الواقع العربي، أو على مستوى منظَّمات المؤتمر الإسلامي... هناك ما يشبه حالة انعدام الوزن، في الوقت الذي نجد حركة صحوة عربية أو إسلامية لدى الشعوب العربية والإسلامية، لكنّنا نلاحظ، مع ذلك، أن هناك خطة لقمع هذه الصحوة وإسقاطها، بمحاصرتها بمسألة الحرب ضد الإرهاب من قبل الجهة التي تقودها أميركا، لتراقب كل حركة سياسية معارضة لسياسة الإدارة الأميركية، أو لتتابع كل العمل الخيري التعاوني الذي ينطلق من أجل سد الثغرات التي يعيشها الإنسان العربي والمسلم في واقع الحرمان أو ما أشبه ذلك، لنجد أن هناك محاولة لمحاصرة كل إدارات العمل الخيري بتهمة دعم الإرهاب من هنا أو هناك، إلى درجة أن وزير الخزانة الأميركية استطاع، بالتعاون مع الأنظمة العربية والإسلامية، وبالتعاون مع الجهات في أميركا وأوروبا، إغلاق أغلب الصناديق العربية والإسلامية الخيرية.

وهكذا نلاحظ كيف تتحرك الولايات المتحدة الأميركية، تحت تأثير عناوين الإصلاح، والدمقرطة، والحرب ضد الإرهاب، لتحتل بلداً هنا وبلداً هناك. فهي احتلت العراق بتهمة أسلحة الدمار الشامل، ثم اكتشفت الإدارة الأميركية ومخابراتها أن هذه التهمة كذبة كبرى، لم تستطع أن تؤكدها حتى على مستوى مخابراتها الواسعة في هذا المجال. وهكذا رأينا كيف انقلبت حجّة احتلال العراق من وجود أسلحة الدمار الشامل إلى مسألة الإرهاب، مع أننا نعرف أن النظام الطاغي في العراق، والذي رعته أميركا منذ ولادته حتى سقوطه، لم يكن ساحةً للإرهاب بالمعنى الاصطلاحي له، وذلك باعتراف الإعلام الأميركي والإدارة الأميركية سابقاً، وهذا أيضاً ما لاحظناه في الحرب الأميركية على أفغانستان، فهي لم تحقِّق السَّلام للشعب الأفغاني، كما أنها أغرقت الساحة العراقية بالدماء وما تزال.

إننا عندما ندرس هذا الواقع كله، سوف نجد أن هذه المرحلة، هي المرحلة الظلامية للواقع الرسمي العربي والإسلامي، وواقع الحصار السياسي للطلائع العربية والإسلامية الشبابية من الأجيال الجديدة، حيث تحوَّلت الساحات العربية والإسلامية إلى سجن كبير، من خلال قوانين الطوارئ، ومن خلال أجهزة المخابرات، حتى أصبح الإنسان العربي والمسلم يخاف من أن يضبط متلبساً بأنه يفكر بالحرية... لذلك فإننا نعتقد بأن من الضروري جداً أن تبدأ خطة شعبوية تستطيع أن تحرر الواقع العربي والإسلامي من السيطرة الأميركية، ومن الذين وظفتهم المخابرات الأميركية ليكونوا ملوكاً أو رؤساء أو وزراء أو ما أشبه ذلك.

تكفير وتفكك مذهبي وإثني

* يعيش العالمان العربي والإسلامي حالاً لا يمكن الاتفاق على وصفها بدقّة. ففي حين يرى البعض أنها بداية صحوة كاملة، يرى البعض الآخر أنها ذروةٌ في التخلّف والابتعاد عن الواقع، حيث نرى انهياراً في الوعي القومي والوطني العام، يقابله تصاعد في أداء الحركات التكفيرية، وتفكك داخلي بين طوائف ومذاهب وإثنيات لم تشهد البلاد مثيلاً له في التاريخ.

كيف تنظرون إلى هذا الواقع، وكيف تقيّمونه؟

- العالمان العربي والإسلامي معاً، لا يعيشان في غرفة مغلقة الأبواب والنوافذ، ولكنهما يعيشان في ساحة، لا سقف لها ولا حيطان، تخضع لكل الرياح القادمة من بعيد، سواء كانت هذه الرياح تتصل بالجانب الفكري، في خطوط الفكر المعتدل أو المتطرِّف، وفي خطوط التخلّف الثقافي والفوضى الروحية، أو بالأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تحاصر إنسان هذا الواقع أو ذاك، لتشغله عن كل قضاياه الكبرى، بلقمة العيش اليومية، وبمشاكل الحاجات الضرورية الحيوية التي تعيش في أوضاعه الذاتية، وفي هذا المناخ المتنوّع، الذي قد يصل إلى حد الفوضى في تشابك الخطوط أو تداخلها، أو انفتاحها على أزمة هنا أو أزمة هناك.

لذلك، فإنَّنا نجد أن هناك نماذج لصحوة إسلامية منفتحة على ثقافة تحاول أن تخرج الإسلام من دائرة التخلّف في التصوّر والحركة والأسلوب، باعتبار أنها ترصد المشاكل التي يعيشها الإنسان المسلم والعربي لترفعه إلى درجات عليا.

ومن الطبيعي أن هذه الصحوة، تصطدم من وقت لآخر بسقوط ثقافي فكري، ينطلق من خلال الفوضى الروحية التي قد تتمثَّل في بعض مظاهر التصوّف غير المركّز، والذي تحوّل إلى حالة شكلية، أو إلى نوعٍ من أنواع الغلوّ الذي قد يصل إلى حدِّ الخرافة، أو الخرافة التي قد تصل إلى حدّ الابتعاد عن فهم الواقع كما هو، لنجد أن كثيراً من الناس يبتعدون عن تفسير الواقع الكوني والنظام الإنساني الذي أودعه الله في الكون بأسبابه الطبيعية من خلال السنن الكونية والسنن التاريخية التي خلقها الله كأسباب لكل الظواهر العامة، ليفسروها بطريقة غيبية، غير واقعية، ليغرق الإنسان بالغيب ويبتعد عن حالة الشمول وعن حالة الحضور الواقعي.

إننا كمسلمين نؤمن بالغيب، لكنّنا نعرف أن الله سبحانه وتعالى لم يركّز الكون على أساس الغيب، فالله يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر/49) {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}(الطّلاق/3) ولكن هناك أناساً يعطِّلون تفسير النظام الكوني أو تفسير النظام الإنساني بالسنن التي أودعها الله في الكون، ليختصروا ذلك بكلمة غيبية: «إن الله أراد هذا»، ولكنهم لا يتحدثون عن أن الله أراد الأشياء بأسبابها، وأنّه جعل لكل شيء سبباً.

وهكذا نجد أن هذه التفسيرات المتخلّفة للدِّين، قد استطاعت أن تفسح من المجال لحال من العصبية المنغلقة التي تعزل الإنسان، عن الإنسان وتمنعه من الانفتاح عليه، وعن الحوار معه في ما يختلف فيه الناس، وعلى الرغم من أن القرآن كان كتاب الحوار مع كلِّ الناس، حتى إنَّنا نقول، ولو على سبيل النكتة، إنه في البدء كان الحوار، فالله حاور إبليس، وحاور الملائكة في هذا المجال.

ولقد تحول هذا (الانغلاق) إلى حركة عنف يواجه به الإنسان الآخر المختلف عنه، بحيث لا يطيق وجود اختلاف بينه وبين إنسان آخر، بل يحاول أن يبتدع الاتهامات بالتكفير والتضليل وما إلى ذلك، ما يفسح في المجال لحالة عنف يستحلُّ فيه المسلم دم المسلم، أو دم غير المسلم من الأشخاص الأبرياء في حياتهم العامة والخاصة. لذلك، فإن هذا الجو الذي يعيش فيه الإنسان حالة فوضوية تنفتح على عنف مدمر لا يطيق أيِّ نوع من أنواع اللقاء والوقوف على الكلمة السواء، وما إلى ذلك؛ إن هذا جعل العالمين العربي والإسلامي يعيشان في مناخ تتقاذفه الاتجاهات والتيارات المتناقضة، ما يمنع من وجود حالة من الاستقرار الثقافي والروحي والديني والسياسي والواقعي، لنعيش في حالة من الاهتزاز التي قد تفضي إلى سقوط الهيكل على رؤوس الجميع.

لست متشائماً في تصوير هذا الواقع، ولكنّنا نتصوّر أن الواقع الذي نعيش فيه، هو واقع لا يوحي بمرحلة يمكن للناس فيها أن يتعرفوا مواقع خطواتهم في الطريق إلى المستقبل. إننا لا نمانع وجود حركات طليعية تحاول أن تخطط، ولكنها قد تعيش الإرباك أمام الأوضاع الدولية والإقليمية التي لا تريد للعالمين العربي والإسلامي أن يجد نفسه في موقع يملك فيه أن يقرر مصيره بنفسه، وأن ينتج اقتصاده بإرادته، وأن يتابع مسيرته في عملية التخطيط والتنفيذ بشكل أو بآخر.

إننا نعيش الكثير من الفوضى الثقافية التي تحوَّلت إلى فوضى واقعية، باعتبار أن تغيير الواقع ينطلق من تغيير الذهنية، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرّعد/11).

الانشغال عن المسؤولية

* ما تفضَّلت به في بداية وما تلاه، حديثك وتليته يوحي بأنك تلقي التهمة والمسؤولية على الأنظمة وحدها. ويحضرني هنا القول إنه فيما العالم يخرق السموات والأرض، نجد أننا نحن في العالمين العربي والإسلامي، ما زلنا متخلفين عن ذلك، منشغلين عن التطوّر والمسؤولية بهوامش من مثل هل ندخل الحمام بالرجل اليمنى أم بالرجل اليسرى... ونجعلها مسألة عقائدية _ خلافية، تدور حولها مناقشتنا، وتستهلك معظم كتاباتنا، فيما العدوّ يطرق الأبواب، بل هو في عقر دارنا، ولا نعد لهذا العدو أية عدة سوى الكلام وعلم الكلام والغلوّ فيه؟

- إنَّني عندما أتحدَّث عن الأنظمة، فباعتبار أنها العنصر الرئيسي الذي وظّف من أجل حراسة التخلف، ولا أنكر أنّ التخلّف الذي نعيشه، استطاع أن يمتد في أكثر من جانب من جوانب حياتنا، على مستوى التصوّرات الخاطئة المتخلّفة والممارسات والعلاقات، لأنّنا عشنا في امتدادات تاريخية استطاعت أن تفرض الكثير من التخلف في الواقعين العربي والإسلامي، فدخلت في الدوائر الكلامية، حيث أنتجت الكثير من الخلافات والنـزاعات في الأمور التجريدية التي لا علاقة لها بالواقع، وجعلت الإنسان يفكر في الجزئيات بعيداً عن الكليات، وبعيداً عن التّركيز على الأولويات فيما هو الأهمّ والمهم، وجعلتنا نبتعد عن الانفتاح على معطيات العلم، بالشكل الذي يمكن أن تبدع فيه الطاقات لتنتج علماً يستطيع أن يفسر الكون، ويستنتج من خلال تفسيره الكون، تحديث الكثير من مظاهره ومن أوضاعه في هذا المجال أو ذاك المجال.

إن المسألة لا تتصل بالشخصية العربية أو الشخصية الإسلامية، ولكن مشكلة هذه الشخصية _ الواعدة في حجم طاقاتها الإبداعية على مستوى القابليات _ أن الأنظمة لم تهيئ لها الأرضية الصالحة لتفجير هذه الطاقات في ما يمكن أن يحقق التقدم على جميع المستويات، والدليل على ذلك، هو أن الكثيرين من شباب العرب والمسلمين الذين ذهبوا إلى الخارج، استطاعوا أن يصلوا إلى المراكز العليا، حتى في أبحاث الفضاء وفي أبحاث الذرَّة والفيزياء والكيمياء وما إلى ذلك، بحيث إنهم أثبتوا أن عقولهم ليست من فضة لتكون عقول الغربيين من ذهب، بل ربما تفوّقوا على الكثيرين من الغربيين. إن المشكلة عندنا في هذا الشرق، هي أن القائمين على شؤونه لا يخطّطون للاهتمام بالطاقات الواعدة من شبابنا، ليهيئوا لها الظروف الطبيعية للنموّ والتقدم وما إلى ذلك.

إنني أعرف كثيراً من الشباب الذين بلغوا درجات عليا في التقدم العلمي، لا يجد أحدهم في بلاده فرصةً حتى في أن يكون مدرِّساً ثانوياً، لأن القضية مربوطة بالشخصيات الطائفية في بلد الطوائف، أو بالشخصيات السياسية المرتبطة بسياسات خارجية في بلد الخضوع لهذه السياسة أو تلك. نحن نعرف أن الكفاءات لا تحترم كظاهرة، ولا أتحدث عن شمولية في عالمنا العربي والإسلامي... لذلك، فإنَّني أتصوَّر أنَّ هذا العالم العربي أو الإسلامي، يختزن في داخله الكثير من إمكانات التقدم المستقبلي، ولكن المسألة هي كيف نخرجه من هذا السجن الكبير الذي وُظِّف فيه الحكام من قبل الدول التي تخاف من حركة التقدم العلمي وحركة التقدم الاقتصادي، الذي يسمح لهذا العالم أو ذاك، أن يحقق سياسة الاكتفاء الذاتي، وأن يقرر مصيره بنفسه.

الحرب العدوانية على المنطقة

* في العراق، حرب عدوانية ظالمة.... وفي فلسطين، يستمر قتل شعب كامل، والحصار يمتدُّ ويشتدُّ على العديد من دولنا، فيما يقف العرب والمسلمون من ذلك موقف المتفرِّج أو المتواطئ. برأيكم ما طبيعة هذه الحرب؟ وكيف السَّبيل إلى مواجهتها؟

- إنَّ هذه الحرب العدوانية التي فُرضت على الشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور وحتى الآن، خُطِّط لها من أجل إيجاد عازل أو حاجز في داخل الواقع العربي، ليفصل البلاد العربية بعضها عن بعض بواسطة الكيان الإسرائيلي، ثم لإشغال العالم العربي عن القضايا التي بدأت تنفتح على عالم جديد، من خلال بدايات التحرر من الاستعمار الذي كان يطبق عليه، ويحاصر كل أوضاعه، ويحوّله إلى هامش من هوامش الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية، في عملية إطباق أجهزة المخابرات عليه، والتي توظف الكثير من طاقاته لخدمة اقتصادها، لأنهم يعتبرون أن الثروات الطبيعية المخزونة في العالم العربي، هي ثروات يتوقف عليها الاقتصاد العالمي، ولذلك لا بد من احتوائها واستغلالها، ومحاصرته على مستوى الإنتاج أو على مستوى التسويق.

ولذلك، كانت كلُّ خطط الغرب، بشكل عام، بريطانياً، فرنسياً، ثم أميركياً، ثم مع هذا التحالف الأوروبي _ الأميركي، لمنع العالمين العربي والإسلامي من التقدم.

لذلك كانت المسألة الفلسطينية التي أريد لها أن تكون حلاً للوضع اليهودي في العالم، والتخفيف من العقدة التي حملتها أوروبا نتيجة اضطهاد اليهود من قبل العالم الغربي بشكل متحرك، أو على مستوى ما يسمى «بالمحرقة»، التي أخذ الإعلام اليهودي حريته في تحويلها إلى أسطورة، بطريقة وبأخرى، لأن الذين أحرقهم هتلر _ إن كان هناك محرقة _ أو الذين قتلهم من غير اليهود، أكثر بكثير من الذين قتلهم من اليهود.

وهكذا كانت مسألة استغلال ما حدث في 11 أيلول تبريراً لاحتلال أفغانستان، ولشنّ الحرب على كل العالم العربي والإسلامي، تحت عنوان «الحرب على الإرهاب»، ثم احتلال العراق الذي أريد له أن يكون جسراً تعبر منه أميركا إلى المنطقة، وأريد له أن يكون البقرة الحلوب من خلال ثرواته الطبيعية التي أرادت أميركا أن تستغلّها، ولا سيّما البترول، الذي عملت أميركا في القرن الماضي امتداداً إلى هذا القرن للسيطرة عليه وعلى كلِّ بترول العالم، لتحاصر به الصين واليابان وأوروبا، ولتمسك بأعناقها لمنعها من أن تتحول إلى قوة كبيرة.

لذلك نحن نعيش أمام هذه الخطة الغربية، والتي تمثلت في الدول الثماني الغنية، من أجل رسم خطة تمنع عالمنا من التقدم والتطور، ومن الدخول إلى مستوى التصنيع، ومسألة المكننة الزراعية، ومسألة التخطيط الاقتصادي وما إلى ذلك...

إن المسألة تحتاج إلى عقلنة الحركة التحررية ودراستها دراسةً دقيقة أمام الخطط الخبيثة العميقة الدقيقة التي يخطِّط لها الغرب، كل الغرب، ولا نفرّق بين أميركا وأوروبا في المبدأ، وإنما التفرقة تكون في الحجم، في حجم ما تملكه أميركا من عناصر القوة مقارنة بما تملكه أوروبا من هذه العناصر. لذلك نحتاج فعلاً إلى أن ننتج إنساننا، ونعمل على أساس إيجاد حالة من التكامل والتواصل والاعتراف بالآخر، وتجميد كل القضايا الخلافية، سواء كانت على المستوى الديني أو المذهبي أو السياسي، لأن القضية تحوَّلت الآن إلى قضية أن نكون أو لا نكون.

إن أميركا تعطي العرب الذين يلهثون وراءها الكلمات المعسولة التي يعيشون فيها أحلامهم السعيدة أو غير السعيدة، ولكنها في المقابل تعطي إسرائيل كل الدعم، وعلى جميع المستويات، وهي تلتزم أمنها في المنطقة. وهكذا عندما ندرس الوضع في العراق الآن، فإننا نجد أن مسألة المقاومة اختلطت مع مسألة الجريمة، فهناك أناس باسم المقاومة يقومون بقتل العراقيين أكثر مما يقتلون من الأميركيين، حتى العراقيين الأبرياء، الذين لا علاقة لهم بالسياسة، وهذا ما نلاحظه في المجازر التي تقع بين وقت وآخر، وهذا أيضاً ما نلاحظه في أفغانستان، ونلاحظه في الفوضى التي تعيش في أكثر من بلد عربي. لذلك فإننا نحتاج إلى خطة جديدة لصناعة المستقبل؛ خطة للمقاومة، للتواصل مع المقاومة في كل العالم العربي، وخطة للتحرير، وخطة لتغيير الإنسان من الداخل والخارج.

العمليّات الاستشهاديّة والموقف الفقهي منها:

* هناك قراءات فكرية وفقهية متعددة لطبيعة هذه الحرب، واجتهادات متناقضة في الموقف من بعض وسائل المواجهة، ولا سيما «العمليات الاستشهادية»، حيث يذهب العديد من الأطفال والأبرياء... ما هو موقفكم الفقهي في ذلك، ولا سيما أنّ هناك من يبررها دينياً؟

- الأصل في الإسلام من النَّاحية الشرعية، هو حرمة قتل الإنسان المسلم، انطلاقاً من حالة اليأس الذاتي، أو من خلال المشاكل الحادَّة التي تواجه الإنسان على مستوى حياته الخاصة. ولكن عندما تتَّصل المسألة بالقضايا الكبرى للإنسان على المستوى الإسلامي، ولا سيّما أنّنا نتحدث عن الخط الإسلامي، فإنّه قد تتولِّد بعض الأساليب في المواجهة التي يتوقف عليها الانتصار. فنحن نعرف مثلاً أنَّ الجهاد في دائرته المشروعة، هو في خطِّ المواجهة، أي الجهاد في سبيل الله من أجل حماية الأمة من العدوان، ومن أجل تحريرها من سلطة الآخرين، أو تحرير أرضها وإنسانها واقتصادها وما إلى ذلك، عندما يفرض الآخرون سلطتهم أو سيطرتهم عليها بطريقة عدوانية. لهذا شرّع الإسلام الجهاد كحالة دفاعية لحماية الإنسان والوطن.

ولكن ربما تدعو الحاجة إلى أن يتقدَّم المجاهدون ليتحوَّلوا إلى قنابل تتفجر في الأعداء، كما يحدث في فلسطين الآن، فإنَّ العمليات الاستشهادية في فلسطين، عندما ندرسها في دائرتها التجريدية خارج الظروف الموضوعية لمحيط الحكم، فقد تبدو حالة لاإنسانية، لأنها قد تجتاح الأطفال والنساء والشيوخ الذين قد يقال إنّه لا علاقة لهم بالسياسة الإسرائيلية، من الناحية الحركية، وإن كان هذا ليس دقيقاً، ما داموا استوطنوا بيوت الفلسطينيين وسيطروا عليها...

التساوي في المواجهة:

* وهل هي حالة عدوانية؟

- نحن لا نريد هنا أن نركِّز على هذه الحالة، لأنّها ليست مقبولة، خصوصاً بالنسبة إلى الأطفال، أمام الرأي العام العالمي، لكنَّنا إذا وضعناها في إطارها الطبيعي، نرى أنَّ الساحة بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي ساحة حرب، وأنّ إسرائيل تملك أقوى الأسلحة التي تستعمل في الحروب الكبرى، مثل طائرات إف/16 و18، والتي تستخدمها في حربها ضدّ الفلسطينيين _ حتى على مستوى المدنيين _ عندما تستهدف سيارة للمقاومة في شارع ممتلئ بالناس، أو ما أشبه ذلك، ثم نجد أنها تستخدم كل شيء لتدمير البنية التحتية للفلسطينيين، لتحاصرهم اقتصادياً في جرف المزارع، وتدمير البيوت، وملاحقة القيادات السياسية، واعتقال الشباب وما إلى ذلك. فهناك حركة يهودية _ صهيونية لقتل الأمن الفلسطيني، والفلسطينيون لا يملكون الأسلحة التي يستطيعون من خلالها أن يتوازنوا في صراعهم العسكري مع اليهود. ولذلك، كيف يمكن للفلسطينيين أن يدافعوا عن أنفسهم؟ كيف يمكن للفلسطينيين أن يثيروا الرأي العام اليهودي ليطالبوا حكومتهم برفع اليد عن تدمير الأمن الفلسطيني والإنسان الفلسطيني؟ ليس هناك إلا أن يتحول كل فلسطيني إلى قنبلة تتفجر في وجه الإسرائيليين. ونحن نعرف أن مسألة قتل المدنيين نتيجة الضرورة في الحرب أمر مبرر حضارياً، وإلاّ كيف تفسر أميركا إطلاقها القنبلة الذرية على هيروشيما ونكازاكي التي قتلت فيها ما يقارب الـ 200 ألف مدني في هذا المجال.

لذلك نحن نقول، إن هناك صراعاً بين الأمن الفلسطيني والأمن الإسرائيلي... وإذا كانت إسرائيل قد قتلت الأمن الفلسطيني، فمن حق الأمن الفلسطيني أن يقتل الأمن الإسرائيلي. هذا ما تفرضه ظروف الحرب.

أما في الحالات الطبيعية، فنحن لا نبرر قتل المدنيين في العمليات الاستشهادية أو في غيرها. ولذلك قلنا في أحداث 11 أيلول، إنّنا لا نعتبر هذه العمليات عمليات استشهادية، لأنّه لا يجوز لنا أن نعارض السياسة الأميركية بقتل الشعب الأميركي الذي يشتمل على مسلمين وغير مسلمين. وقلنا أيضاً إنّ هذه أحداث لا يقبلها عقل ولا شرع ولا دين. وهكذا أنكرنا وشجبنا ما حدث في مدريد، وما حدث في الدار البيضاء، وما حدث في السعودية، وما حدث مؤخراً في لندن... وما يحدث الآن في العراق أيضاً.

لذلك نحن لا نبرر العمليات الاستشهادية، إلاّ إذا كانت من أجل قضية كبرى تفرض الضرورة الدفاع عنها بهذه الطريقة.

المشروع الشيعي الإقليمي:

* مع مباشرة الحرب على العراق، وكذلك قبل مدة من الزمن، صدرت دعوات عن فئات وجماعات شيعية لقيام كيان شيعي سياسي في العراق، ما يؤدي إلى تقسيم العراق على أساس مذهبي... وكان ملك الأردن عبد الله الثاني، قد تحدث في وقت سابق عن هلال شيعي يمتدُّ من إيران إلى لبنان. ما موقفكم من هذا؟ وكيف تنظرون إلى هذا المشروع؟ وأين وحدة العراق في تصوركم كضرورة في مواجهة العدوان وتحقيق مصالح الأمة في الاستقلال والحرية والثروات؟

- لنبدأ أولاً بالسؤال: هل هناك فعلاً دعوة شيعية في العراق لتقسيم العراق على أساس مذهبي؟ إننا نرفض ذلك من حيث الخطة التي يتداولها هذا الفريق أو ذاك. ولكن، هناك مشكلة في العراق بدأت بمطالبة الأكراد بدولة عراقية فيدرالية تعطي للأكراد استقلالاً داخلياً في منطقة كردستان قد لا تصل في طرحهم المرحلي، كما نعتقد، إلى المطالبة بدولة، ولكنها تأخذ الكثير من عناوين الدولة. وقد وافقت المعارضة في مراحل التداول قبل سقوط النظام الطاغي، على الفيدرالية، ولكن من دون أي تخطيط لهذه الفيدرالية، بل إنها اكتفت بالحديث عن الفيدرالية بالنسبة إلى الأكراد. ولكن ما حدث في التداولات التي انطلقت أخيراً من بداية الاحتلال وقضية مجلس الحكم وما إلى ذلك، أعطت مسألة الفيدرالية حالاً ضبابية. فمن حق المحافظات الثلاث أن تعطي حق الفيتو على بعض القرارات أو ما إلى ذلك... هنا بدأ الحديث عن شمول الفيدرالية للمناطق، لا على أساس مذهبي، بل على أساس مناطقي. فالجنوب ليس منطقة تختصُّ بالشيعة حكماً، فهناك الكثير من السنة في الجنوب، وكذلك بالنسبة إلى بغداد التي فيها من كل الأطياف العراقية، وهكذا في كل المناطق الأخرى. لذلك لم تكن المسألة مسألة تقسيم العراق على أساس مذهبي، ولكنه تخطيط على مستوى الجدل السياسي لفيدرالية تشمل كلِّ مناطق العراق. ونحن رفضنا ذلك، لأنها قد تصل في نهاية المطاف إلى إفقار العراق، وأيضاً قد تلتقي بالعصبيات المذهبية، وقد تنعكس سلباً على واقع المنطقة، وإن كنّا نعتقد أن الوضع الدولي حتى الآن، لا يسمح بإسقاط التقسيم الموجود الآن على طريقة سايكس _ بيكو.

أما مسألة ما أثاره الملك عبد الله، فقد قلنا إنها مسألة تتصل بالوهم، فليست هناك أية واقعية ولو بنسبة واحد في المائة في هذا الاندماج المفترض بين إيران والعراق وسورية. قد يكون هناك تلاقٍ على مستوى العلاقات السياسية بين دولة ودولة، ولكن ليست هناك أية فكرة اندماجية، لا لدى العراقيين، ولا السوريين ولا الإيرانيين، وليست هناك أية واقعية لذلك، مع اختلاف القوميات واختلاف المصالح، ومن ثم امتداداً للواقع الدولي الذي تتصل مصالحه بهذه المسائل. لذلك قلنا، إن ما يتحدث عنه الملك عبد الله يمثل حالة أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع. ولقد تلقيت من الملك عبد الله رسالة يعتذر فيها عن هذا، ويقول إنه لم يقصد ذلك في كلامه...

المصدر: جريدة الشرق
التاريخ: 16-6-1426هـ / 23-7-

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير