صوت المرأة ليس عورةً والغناء ليس محرماً

صوت المرأة ليس عورةً والغناء ليس محرماً
 
 

"يعتبر المرجع، السّيد محمد حسين فضل الله، أنّ الأغاني لا تدخل في باب المحرّمات، إذا ما لامست القيم الإنسانيّة والفكرية العميقة في مضمونها، وترافقت مع موسيقى راقية، بينما يحرّم قطعاً تلك الأغاني التي تمجّد الطّغاة والأنظمة الفاسدة، كما يحصل في معظم الدّول العربيّة، حين يلجأ بعض الفنّانين إلى تمجيد زعمائهم خوفاً من طغيانهم، أو ممالقةً لهم. ويحسم السيّد فضل الله في حديث خاص وشامل مع "إيلاف"، مسألة حسّاسة تتعلّق بصوت المرأة، الذي لا يعتبره عورةً، بل يشرّع للمرأة الغناء إذا ما كانت الأغنية تحمل تلك المعاني السّامية، مستشهداً بتجربة الجمهورية الإسلاميّة في إيران في هذا المجال، حيث تبثُّ الإذاعات ومحطّات التلفزيون الأغاني. ويضع السيّد فضل الله خطاً عاماً لتحريم الأغاني وتحليلها، ويترك للمستمع تصنيف الأغاني في هذا الإطار، من دون الدّخول في الأسماء والتفاصيل، وإن كان يحرّم بشدّة موسيقى الجاز التي تدمّر الأعصاب، وتؤثّر سلباً في المستمع".

وفي ما يلي نص الحديث:

 

الغناء للطغاة من المحرّمات

 

س: قد يعتبر البعض أنّ النّقاش في أمور الغناء مسألة سطحيّة، لا تستحق حتّى مجرّد طرحها من النّاحية الدينيّة، علماً بأنّ الأغاني تحيط بنا من كل مكان. ما رأيكم في ذلك؟

ج: الغناء لغوياً، هو ترجيع الصّوت وتمديده، وكل حالة من الحالات التي يردَّد فيها الصوت من خلال تمديده وترجيعه، تسمّى غناءً. والطرب ليس دخيلاً في الغناء، وهناك غناء مطرب وغناء غير مطرب، لذا يمكن إعطاء صفة الغناء لكل طريقة في إطلاق الكلام، سواء كان شعراً أو نثراً، إذا كان بأسلوب التّرجيع والترديد.

س: ماذا عن الغناء بشكله المتعارف عليه جماهيرياً في أيامنا هذه؟

ج: في رأينا، إنّ مسألة الغناء تنطلق من فكرة، وهي طريقة أداء الصّوت، أو طريقة تحريك الكلمة، وهذه تختلف حسب اختلاف الصوت، فالصوت الملحّن أو المنغّم، يعطي للكلمة في نفس السامع التأثير العميق الذي قد يؤدّي إلى بعض النّتائج على مستوى الإحساس الشّعوري في هذا المجال، فعندما يكون الكلام كلام حق، كلام خير مفيد ونافع، فمن الطّبيعي أنّ اللّحن يؤدّي إلى تعميق هذه المعاني في النّفس، بحيث يتفاعل معها الإنسان إيجاباً، أمّا إذا كان هذا الكلام كلاماً سلبياً، بحيث يحمل دعوةً إلى الشر والهدم والحقد وكلّ ما هو حرام عند الله، فهذا أيضاً يترك تأثيراً في النّفس، ولكنّه تأثير سلبيّ، لأنّ النّفس تستوعب كل هذه المعاني، وبالتالي، فإنّ الإنسان يمكن من خلال هذه المؤثّرات أن يندفع لتنفيذ هذه الأمور الكامنة في النّفس من خلال هذه الأغنية.

س: على صعيد العالم العربي، لا يوجد، في الإجمال، أغانٍ تدعو إلى الشّر بعبارات صريحة، كما هو الحال في الغرب...؟!

ج: الغناء في العالم العربي ينطلق في اتّجاه إثارة الغرائز. ونحن نعتبر أن الغناء الذي يثير الغرائز، بحيث يجعل المستمع يعيش في حالة هواجس جنسيّة، من حيث طبيعة اللحن الذي قد يؤدّي إلى ذلك، أو من حيث المضمون الذي يؤدّي إلى إثارة الشّهوات، هو غناء محرّم، وكذلك الغناء الذي يُمتَدَح فيه الطغاة، كالأغاني التي تتضمّن الإشادة بالأنظمة الفاسدة، أو بالأوضاع السيّئة.

س: هناك أغان تصنّف ضمن خانة الأغاني الوطنيّة، في حين أنّها تقوم على تمجيد زعيم ديكتاتوري، كما هي الحال في بعض الدّول العربيّة. فما مدى شرعية هذه الأغاني؟

ج: الأغاني الوطنيّة التي تربط الإنسان بالمعاني الإيجابيّة للوطن، مثل تمجيد الدّفاع عن الوطن، والالتزام بالحريّة والاستقلال، وما إلى ذلك، هذه أغان قطعاً ليست محرّمة. لذلك نقول إنّ الغناء الذي يتضمّن التغزّل بالطّبيعة، والحنين إلى الوطن والأهل وما إلى ذلك، والغناء الذي يرتفع بالرّوح، كالغناء الصّوفي مثلاً، الذي يفتح أفق الإنسان على الله سبحانه وتعالى، وعلى كل الأغاني الرّوحيّة، ليس محرّماً.

أغاني الحبّ العذري ليست محرّمة

س: لماذا التغنّي بالوطن وبالطّبيعة وبالمعاني السّامية ليس محرّماً، بينما التغنّي بالحب محرّم، علماً بأنّ للحب معنىً سامياً أيضاً؟

ج: هناك فارق بين الحب الذي هو قيمة إنسانيّة، وبين الحب الذي يخاطب فيه الرّجل المرأة، وتخاطب فيه المرأة الرّجل، لأنّ الثاني يؤدّي إلى إثارة الغريزة، والإسلام لا يريد للإنسان أن يعيش في حالة إثارة الغريزة، لأنّ هذه الإثارة سوف تتحوّل إلى سلوك سلبي غير أخلاقي في هذا المقام. أمّا الحب بمعانيه الرّوحيّة، فهو ليس محرّماً. هناك نقطة ينبغي أن نعرفها في هذا المجال، وهي أنّ الغناء قد يسلب الإنسان إرادته في الانفعال بالشيء، والله يريد للإنسان أن يعيش إرادته باختياره، فهو قد يستطيع أن يحرّكها سلباً أو إيجاباً، لكن عندما يضغط عليه الجانب الإحساسي والشّعوري في ألحان مثيرة، تثيره وتحرّكه لا شعورياً نحو بعض السّلوكيات غير المقبولة، فإنّه يتجرّد من اختياره.

س: هل ينطبق هذا الأمر على الأغاني الثورية التي تخلق أحياناً ردّات فعل عنيفة؟

ج: ثمّة نقطة يجب إيضاحها، وهي أنّه إذا كان هذا الشيء يمثل الخير للإنسان، فلا مشكلة فيه، لأنّ الإنسان حين يندفع ستكون النّتائج إيجابيّة، أمّا بالنّسبة إلى الجوانب الأخرى التي تدفع إلى السلبيات في حالات انفعال الإرادة، فهي حتماً مرفوضة.

س: إذاً الأمر نسبيّ؟

ج: نعم، الأمر نسبي. حتّى إنّنا نحرّم ألحان الجاز التي تحطّم الأعصاب، وتجعل الإنسان يعيش حالات سلبيّة تخرجه من طوره.

س: تقوّمون الأغاني، إذاً، بحسب تأثيرها على الأشخاص؟

ج: بحسب تأثيرها نوعاً وليس بحسب كل شخص. الخمر مثلاً، قد لا يسكر بعض النّاس، لكنّه محرّم. نحن ننطلق في هذه التحديدات من خلال الأدلّة التي نستدل بها على حرمة الغناء، مثلاً قوله تعالى: {واجتنبوا قول الزّور} (الحجّ:30)، هناك تفسير يقول إنّه القول الباطل الذي ليس فيه حق، وقوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} (الفرقان:72) مفسّرة بالغناء، أو: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} (لقمان:6)، ولهو الحديث هو الذي يؤدِّي إلى إضلال الإنسان عقلياً، أو عقائدياً، أو شرعياً، وما إلى ذلك. فالمسألة من ناحية الفتوى تدور حول هذه العناوين، فما كان ينطبق عليه عنوان الباطل أو عنوان الإضلال عن سبيل الله، فهو محرّم.

الغناء في إيران ليس محرّماً

س: ثمّة إجماع من قبل بعض النقّاد، وحتّى من قبل علماء النّفس، على أنّ بعض الأغاني، كأغاني السيّدة فيروز التي تتحدّث أيضاً عن الحب، من دون أن تحرّك الغرائز بصورة رخيصة، بل تحرّك الجانب الإيجابي في المستمع، هي حتماً أغانٍ تريح الأعصاب، فما هو موقف الدّين من هذه النّوعيّة من الأغاني؟

ج: أنا أجبت عن هذا السّؤال، أنا لم أقل إن كل غناء يعبِّر عن الحبّ هو غناء محرّم، بل قلت إنّ المحرّم منه هو ما يعبِّر عن الحب الغرائزي. فمثلاً هناك التعبير عن الحب للأم والأب، وحتّى حب الرّجل للمرأة، ذلك الحب العذري الذي يرتفع بالنّفس، ويشكّل قيمة روحيّة وإنسانيّة، وليس قيمة غرائزيّة. الآن، عندما ندرس التّجربة التي يعيشها المراهقون في مسألة الأغاني المتداولة، نجد أنّها تخلق نوعاً من الانجذاب اللاشعوري إلى الفنّان، وتجعل الارتباط به ارتباطاً غرائزياً.

س: ولكنَّ هذا ينطبق أيضاً على نجوم التّمثيل، وعلى بعض الزّعماء الذين يعلّق بعض المراهقين صورهم في غرف نومهم؟

ج: تأثير الغناء في النّفس من خلال إثارة المشاعر، يعطي معنىً خاصاً، فليست المسألة مسألة انجذاب وراء الشخص، بل المسألة أنّ الأغاني تترك آثاراً سلبيّة على مستوى الغرائز والشهوات وما إلى ذلك، ممّا لو تركنا له الحريّة، لتحوَّل إلى وضع اجتماعي غير أخلاقي، كما هو الواقع في كل أنحاء العالم. فلماذا الإلحاح على مسألة إثارة الشباب؟ الإسلام لا يريد للإنسان أن يخضع للأمور التي فيها مفسدة، والله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} (البقرة:219)، فكل ما كان ضرره أكثر من نفعه، هو حرام للناس، والأغاني التي تثير الغرائز وتدمِّر الأعصاب، وتشيد بالباطل والطغاة والأنظمة الفاسدة، لا إشكال في أنّ ضررها أكبر من نفعها.

س: لو طُبِّقت الشّريعة الإسلاميّة في لبنان، هل ستلجأون إلى منع الغناء؟

ج: لننظر قليلاً إلى تجربة إيران في هذا المجال، فالغناء فيها ليس محرّماً. فهناك الغناء الذي يغنّي أشعار الفردوسي، وعمر الخيام، وإقبال وغيرهم، وهي أشعار فلسفيّة، وحتّى إنّ الموسيقى التي ترتفع بالروح وتسمو بها، مثل موسيقى شوبان وموزار، ليست محرّمة. ونحن عموماً نقول، إنّ الموسيقى الكلاسيكيّة ليست محرّمة، كذلك الموسيقى التي تهدّىء الأعصاب وترتقي بالرّوح، وتحتوي على عناصر ثقافيّة، بحيث إنها تثقف الرّوح بما توحي به.

س: هل ثمّة آلات موسيقيّة محرّمة؟

ج: لا، نحن نقول إنّه ليس هناك آلات للحرام، فالآلات إذا استعملت في الحلال فهي حلال، وإذا استعملت في الحرام فهي حرام.

س: ثمّة شباب يحبّون الأغاني ولا يستمعون إليها بحجّة أنّها محرّمة، وبالتّالي، يعانون من حرمان أنفسهم منها رغماً عنهم، فماذا تقولون لهم؟

ج: الآن لدينا مثلاً بعض الفرق الموسيقيّة التي يبثّ تلفزيون "المنار" أغانيها، هي ليست محرّمة. وفي التلفزيون والإذاعة الإيرانيّان، تذاع أغان راقية جداً وألحان جميلة. إنَّ الفن، أي فن كان، سواء كان غناءً، أو تمثيلاً، أو رسماً أو شعراً، إنما هو من أجل مصلحة الإنسان، فإذا اقترب ممّا يفسده، بحيث يفسد نفسيّته وسلوكه ومشاعره وأحاسيسه، فإنّه يصبح ضرراً عليه. وإلاّ، لماذا تمنع المخدّرات في العالم؟ أليس لأنّ لها تأثيرات سلبيّة؟ بهذا المعنى، فإنّ كل شيء يؤدّي إلى آثار سلبيّة، بحيث يكون ضرره أكبر من نفعه، هو محرّم.

س: هل ترون أنّ الأغاني التي تبثّ حالياً عبر الإذاعات، تشكّل كل هذا الضّرر للشباب؟

ج: إذا أردنا أن نفكّر في النتائج، علينا أن ندرس كيف نميّز بين النتائج السلبيّة والنتائج الإيجابيّة. مثلاً، لننظر إلى العالم الغربي؛ الحريّة فيه باتت متاحةً إلى أقصى الحدود، بما فيها حريّة العري، وإذا نظر أحدهم إلى هذه الأمور، فقد يقول إنّه ليس ثمّة أمر خاطىء في ذلك، وهذا صحيح، فالأمر ليس خاطئاً نسبة إلى عاداتهم وتقاليدهم، لأنّ السلبيات الأخلاقيّة ليست مشكلة لديهم في هذا المجال. نحن اليوم نعيش الغرب الشكلي في المقام الأول، فنحن نلاحظ المعاكسات التي أصبحت رائجة لدينا من قبل الشّباب للفتيات، والعكس صحيح، والمعاكسات قد تتمّ بأغنية من هنا وأغنية من هناك...

س: قد يقول لها شعراً أيضاً، فالأمر ليس مقتصراً على الغناء...

ج: هذا الواقع موجود، قد لا يعيش البعض تجربته، لكن هذه الأمور تحصل في المناطق غير المحافظة.

س: ولكن حتّى في المناطق المحافظة أصبحت ظاهرة المعاكسات رائجة؟

ج: أن تكون الفتاة محافظة بالحجاب، ليس معناه أنّها محافظة في الجانب السّلوكي. هناك محافظة في الجانب الشّكلي، وهناك محافظة في الجانب المضموني، فليس كل امرأة محجّبة فاطمة الزّهراء أو مريم بنت عمران.

صوت المرأة ليس عورةً

س: لنعد إلى مسألة الغناء، هل يعتبر صوت المرأة عورةً، وبالتالي يحرم عليها غناء ما حلّل في هذا الإطار على مسمع من الرّجل؟

ج: صوت المرأة ليس عورةً، ويمكن للمرأة أن تغنّي أمام الرّجل إذا كانت الأغنية ممّا سبق واتفقنا على أنّها تدخل في إطار الأغاني الراقية والملتزمة، كتجويد القرآن مثلاً وترتيله، وكالغناء الذي يتضمّن مفاهيم سامية، أو ما يكون اللحن فيه غير مثير.

س: أعرف أنّكم لا تحبّون الدّخول في التّفاصيل والأسماء، لكن فقط لتوضيح الفكرة، أود السؤال: إذا ما غنّت الفنّانة فيروز "بحبك يا لبنان"، هل ثمّة حرمة في الأمر؟

ج: أنا شخصياً لا أتحدّث عن الواقع الموجود، بل أعطي خطاً عاماً، وعندما ينطبق هذا الخط على المعاني التي ترتفع بالنفس والفكر والروح، ولا تترك تأثيراً سلبياً، سواء صدرت من الرّجل أو من المرأة، فلا مشكلة في الغناء.

س: الكثير من المتشدّدين، قد يعتبرون أنّ كلامناً متفلّت، وفيه انقلاب على مفاهيم الإسلام؟!

ج: هناك أناس يعارضون تفكيري في هذا المجال، وهذا ليس فقط رأيي، بل هناك الكثير من المراجع الدّينيّة والعلماء الأتقياء جداً، الذين يرون أنّ مشكلة الغناء، إنما هي في المضمون وليس في اللحن فقط.

س: أغاني اليوم من دون شك هابطة، وذات مستوى متدنّ، في حين أن أغاني الماضي كانت تحمل قيمة شعرية وموسيقية...؟

ج: أنا التقيت بعدد من الموسيقيين زاروني هنا، وقالوا لي إنّهم لا يؤمنون بالأغاني الهابطة، وإنّ مضمون الأغاني ينبغي أن يمثّل قيمة فكرية وروحية وثورية وإنسانيّة.

 

 
 
 

"يعتبر المرجع، السّيد محمد حسين فضل الله، أنّ الأغاني لا تدخل في باب المحرّمات، إذا ما لامست القيم الإنسانيّة والفكرية العميقة في مضمونها، وترافقت مع موسيقى راقية، بينما يحرّم قطعاً تلك الأغاني التي تمجّد الطّغاة والأنظمة الفاسدة، كما يحصل في معظم الدّول العربيّة، حين يلجأ بعض الفنّانين إلى تمجيد زعمائهم خوفاً من طغيانهم، أو ممالقةً لهم. ويحسم السيّد فضل الله في حديث خاص وشامل مع "إيلاف"، مسألة حسّاسة تتعلّق بصوت المرأة، الذي لا يعتبره عورةً، بل يشرّع للمرأة الغناء إذا ما كانت الأغنية تحمل تلك المعاني السّامية، مستشهداً بتجربة الجمهورية الإسلاميّة في إيران في هذا المجال، حيث تبثُّ الإذاعات ومحطّات التلفزيون الأغاني. ويضع السيّد فضل الله خطاً عاماً لتحريم الأغاني وتحليلها، ويترك للمستمع تصنيف الأغاني في هذا الإطار، من دون الدّخول في الأسماء والتفاصيل، وإن كان يحرّم بشدّة موسيقى الجاز التي تدمّر الأعصاب، وتؤثّر سلباً في المستمع".

وفي ما يلي نص الحديث:

 

الغناء للطغاة من المحرّمات

 

س: قد يعتبر البعض أنّ النّقاش في أمور الغناء مسألة سطحيّة، لا تستحق حتّى مجرّد طرحها من النّاحية الدينيّة، علماً بأنّ الأغاني تحيط بنا من كل مكان. ما رأيكم في ذلك؟

ج: الغناء لغوياً، هو ترجيع الصّوت وتمديده، وكل حالة من الحالات التي يردَّد فيها الصوت من خلال تمديده وترجيعه، تسمّى غناءً. والطرب ليس دخيلاً في الغناء، وهناك غناء مطرب وغناء غير مطرب، لذا يمكن إعطاء صفة الغناء لكل طريقة في إطلاق الكلام، سواء كان شعراً أو نثراً، إذا كان بأسلوب التّرجيع والترديد.

س: ماذا عن الغناء بشكله المتعارف عليه جماهيرياً في أيامنا هذه؟

ج: في رأينا، إنّ مسألة الغناء تنطلق من فكرة، وهي طريقة أداء الصّوت، أو طريقة تحريك الكلمة، وهذه تختلف حسب اختلاف الصوت، فالصوت الملحّن أو المنغّم، يعطي للكلمة في نفس السامع التأثير العميق الذي قد يؤدّي إلى بعض النّتائج على مستوى الإحساس الشّعوري في هذا المجال، فعندما يكون الكلام كلام حق، كلام خير مفيد ونافع، فمن الطّبيعي أنّ اللّحن يؤدّي إلى تعميق هذه المعاني في النّفس، بحيث يتفاعل معها الإنسان إيجاباً، أمّا إذا كان هذا الكلام كلاماً سلبياً، بحيث يحمل دعوةً إلى الشر والهدم والحقد وكلّ ما هو حرام عند الله، فهذا أيضاً يترك تأثيراً في النّفس، ولكنّه تأثير سلبيّ، لأنّ النّفس تستوعب كل هذه المعاني، وبالتالي، فإنّ الإنسان يمكن من خلال هذه المؤثّرات أن يندفع لتنفيذ هذه الأمور الكامنة في النّفس من خلال هذه الأغنية.

س: على صعيد العالم العربي، لا يوجد، في الإجمال، أغانٍ تدعو إلى الشّر بعبارات صريحة، كما هو الحال في الغرب...؟!

ج: الغناء في العالم العربي ينطلق في اتّجاه إثارة الغرائز. ونحن نعتبر أن الغناء الذي يثير الغرائز، بحيث يجعل المستمع يعيش في حالة هواجس جنسيّة، من حيث طبيعة اللحن الذي قد يؤدّي إلى ذلك، أو من حيث المضمون الذي يؤدّي إلى إثارة الشّهوات، هو غناء محرّم، وكذلك الغناء الذي يُمتَدَح فيه الطغاة، كالأغاني التي تتضمّن الإشادة بالأنظمة الفاسدة، أو بالأوضاع السيّئة.

س: هناك أغان تصنّف ضمن خانة الأغاني الوطنيّة، في حين أنّها تقوم على تمجيد زعيم ديكتاتوري، كما هي الحال في بعض الدّول العربيّة. فما مدى شرعية هذه الأغاني؟

ج: الأغاني الوطنيّة التي تربط الإنسان بالمعاني الإيجابيّة للوطن، مثل تمجيد الدّفاع عن الوطن، والالتزام بالحريّة والاستقلال، وما إلى ذلك، هذه أغان قطعاً ليست محرّمة. لذلك نقول إنّ الغناء الذي يتضمّن التغزّل بالطّبيعة، والحنين إلى الوطن والأهل وما إلى ذلك، والغناء الذي يرتفع بالرّوح، كالغناء الصّوفي مثلاً، الذي يفتح أفق الإنسان على الله سبحانه وتعالى، وعلى كل الأغاني الرّوحيّة، ليس محرّماً.

أغاني الحبّ العذري ليست محرّمة

س: لماذا التغنّي بالوطن وبالطّبيعة وبالمعاني السّامية ليس محرّماً، بينما التغنّي بالحب محرّم، علماً بأنّ للحب معنىً سامياً أيضاً؟

ج: هناك فارق بين الحب الذي هو قيمة إنسانيّة، وبين الحب الذي يخاطب فيه الرّجل المرأة، وتخاطب فيه المرأة الرّجل، لأنّ الثاني يؤدّي إلى إثارة الغريزة، والإسلام لا يريد للإنسان أن يعيش في حالة إثارة الغريزة، لأنّ هذه الإثارة سوف تتحوّل إلى سلوك سلبي غير أخلاقي في هذا المقام. أمّا الحب بمعانيه الرّوحيّة، فهو ليس محرّماً. هناك نقطة ينبغي أن نعرفها في هذا المجال، وهي أنّ الغناء قد يسلب الإنسان إرادته في الانفعال بالشيء، والله يريد للإنسان أن يعيش إرادته باختياره، فهو قد يستطيع أن يحرّكها سلباً أو إيجاباً، لكن عندما يضغط عليه الجانب الإحساسي والشّعوري في ألحان مثيرة، تثيره وتحرّكه لا شعورياً نحو بعض السّلوكيات غير المقبولة، فإنّه يتجرّد من اختياره.

س: هل ينطبق هذا الأمر على الأغاني الثورية التي تخلق أحياناً ردّات فعل عنيفة؟

ج: ثمّة نقطة يجب إيضاحها، وهي أنّه إذا كان هذا الشيء يمثل الخير للإنسان، فلا مشكلة فيه، لأنّ الإنسان حين يندفع ستكون النّتائج إيجابيّة، أمّا بالنّسبة إلى الجوانب الأخرى التي تدفع إلى السلبيات في حالات انفعال الإرادة، فهي حتماً مرفوضة.

س: إذاً الأمر نسبيّ؟

ج: نعم، الأمر نسبي. حتّى إنّنا نحرّم ألحان الجاز التي تحطّم الأعصاب، وتجعل الإنسان يعيش حالات سلبيّة تخرجه من طوره.

س: تقوّمون الأغاني، إذاً، بحسب تأثيرها على الأشخاص؟

ج: بحسب تأثيرها نوعاً وليس بحسب كل شخص. الخمر مثلاً، قد لا يسكر بعض النّاس، لكنّه محرّم. نحن ننطلق في هذه التحديدات من خلال الأدلّة التي نستدل بها على حرمة الغناء، مثلاً قوله تعالى: {واجتنبوا قول الزّور} (الحجّ:30)، هناك تفسير يقول إنّه القول الباطل الذي ليس فيه حق، وقوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} (الفرقان:72) مفسّرة بالغناء، أو: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} (لقمان:6)، ولهو الحديث هو الذي يؤدِّي إلى إضلال الإنسان عقلياً، أو عقائدياً، أو شرعياً، وما إلى ذلك. فالمسألة من ناحية الفتوى تدور حول هذه العناوين، فما كان ينطبق عليه عنوان الباطل أو عنوان الإضلال عن سبيل الله، فهو محرّم.

الغناء في إيران ليس محرّماً

س: ثمّة إجماع من قبل بعض النقّاد، وحتّى من قبل علماء النّفس، على أنّ بعض الأغاني، كأغاني السيّدة فيروز التي تتحدّث أيضاً عن الحب، من دون أن تحرّك الغرائز بصورة رخيصة، بل تحرّك الجانب الإيجابي في المستمع، هي حتماً أغانٍ تريح الأعصاب، فما هو موقف الدّين من هذه النّوعيّة من الأغاني؟

ج: أنا أجبت عن هذا السّؤال، أنا لم أقل إن كل غناء يعبِّر عن الحبّ هو غناء محرّم، بل قلت إنّ المحرّم منه هو ما يعبِّر عن الحب الغرائزي. فمثلاً هناك التعبير عن الحب للأم والأب، وحتّى حب الرّجل للمرأة، ذلك الحب العذري الذي يرتفع بالنّفس، ويشكّل قيمة روحيّة وإنسانيّة، وليس قيمة غرائزيّة. الآن، عندما ندرس التّجربة التي يعيشها المراهقون في مسألة الأغاني المتداولة، نجد أنّها تخلق نوعاً من الانجذاب اللاشعوري إلى الفنّان، وتجعل الارتباط به ارتباطاً غرائزياً.

س: ولكنَّ هذا ينطبق أيضاً على نجوم التّمثيل، وعلى بعض الزّعماء الذين يعلّق بعض المراهقين صورهم في غرف نومهم؟

ج: تأثير الغناء في النّفس من خلال إثارة المشاعر، يعطي معنىً خاصاً، فليست المسألة مسألة انجذاب وراء الشخص، بل المسألة أنّ الأغاني تترك آثاراً سلبيّة على مستوى الغرائز والشهوات وما إلى ذلك، ممّا لو تركنا له الحريّة، لتحوَّل إلى وضع اجتماعي غير أخلاقي، كما هو الواقع في كل أنحاء العالم. فلماذا الإلحاح على مسألة إثارة الشباب؟ الإسلام لا يريد للإنسان أن يخضع للأمور التي فيها مفسدة، والله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} (البقرة:219)، فكل ما كان ضرره أكثر من نفعه، هو حرام للناس، والأغاني التي تثير الغرائز وتدمِّر الأعصاب، وتشيد بالباطل والطغاة والأنظمة الفاسدة، لا إشكال في أنّ ضررها أكبر من نفعها.

س: لو طُبِّقت الشّريعة الإسلاميّة في لبنان، هل ستلجأون إلى منع الغناء؟

ج: لننظر قليلاً إلى تجربة إيران في هذا المجال، فالغناء فيها ليس محرّماً. فهناك الغناء الذي يغنّي أشعار الفردوسي، وعمر الخيام، وإقبال وغيرهم، وهي أشعار فلسفيّة، وحتّى إنّ الموسيقى التي ترتفع بالروح وتسمو بها، مثل موسيقى شوبان وموزار، ليست محرّمة. ونحن عموماً نقول، إنّ الموسيقى الكلاسيكيّة ليست محرّمة، كذلك الموسيقى التي تهدّىء الأعصاب وترتقي بالرّوح، وتحتوي على عناصر ثقافيّة، بحيث إنها تثقف الرّوح بما توحي به.

س: هل ثمّة آلات موسيقيّة محرّمة؟

ج: لا، نحن نقول إنّه ليس هناك آلات للحرام، فالآلات إذا استعملت في الحلال فهي حلال، وإذا استعملت في الحرام فهي حرام.

س: ثمّة شباب يحبّون الأغاني ولا يستمعون إليها بحجّة أنّها محرّمة، وبالتّالي، يعانون من حرمان أنفسهم منها رغماً عنهم، فماذا تقولون لهم؟

ج: الآن لدينا مثلاً بعض الفرق الموسيقيّة التي يبثّ تلفزيون "المنار" أغانيها، هي ليست محرّمة. وفي التلفزيون والإذاعة الإيرانيّان، تذاع أغان راقية جداً وألحان جميلة. إنَّ الفن، أي فن كان، سواء كان غناءً، أو تمثيلاً، أو رسماً أو شعراً، إنما هو من أجل مصلحة الإنسان، فإذا اقترب ممّا يفسده، بحيث يفسد نفسيّته وسلوكه ومشاعره وأحاسيسه، فإنّه يصبح ضرراً عليه. وإلاّ، لماذا تمنع المخدّرات في العالم؟ أليس لأنّ لها تأثيرات سلبيّة؟ بهذا المعنى، فإنّ كل شيء يؤدّي إلى آثار سلبيّة، بحيث يكون ضرره أكبر من نفعه، هو محرّم.

س: هل ترون أنّ الأغاني التي تبثّ حالياً عبر الإذاعات، تشكّل كل هذا الضّرر للشباب؟

ج: إذا أردنا أن نفكّر في النتائج، علينا أن ندرس كيف نميّز بين النتائج السلبيّة والنتائج الإيجابيّة. مثلاً، لننظر إلى العالم الغربي؛ الحريّة فيه باتت متاحةً إلى أقصى الحدود، بما فيها حريّة العري، وإذا نظر أحدهم إلى هذه الأمور، فقد يقول إنّه ليس ثمّة أمر خاطىء في ذلك، وهذا صحيح، فالأمر ليس خاطئاً نسبة إلى عاداتهم وتقاليدهم، لأنّ السلبيات الأخلاقيّة ليست مشكلة لديهم في هذا المجال. نحن اليوم نعيش الغرب الشكلي في المقام الأول، فنحن نلاحظ المعاكسات التي أصبحت رائجة لدينا من قبل الشّباب للفتيات، والعكس صحيح، والمعاكسات قد تتمّ بأغنية من هنا وأغنية من هناك...

س: قد يقول لها شعراً أيضاً، فالأمر ليس مقتصراً على الغناء...

ج: هذا الواقع موجود، قد لا يعيش البعض تجربته، لكن هذه الأمور تحصل في المناطق غير المحافظة.

س: ولكن حتّى في المناطق المحافظة أصبحت ظاهرة المعاكسات رائجة؟

ج: أن تكون الفتاة محافظة بالحجاب، ليس معناه أنّها محافظة في الجانب السّلوكي. هناك محافظة في الجانب الشّكلي، وهناك محافظة في الجانب المضموني، فليس كل امرأة محجّبة فاطمة الزّهراء أو مريم بنت عمران.

صوت المرأة ليس عورةً

س: لنعد إلى مسألة الغناء، هل يعتبر صوت المرأة عورةً، وبالتالي يحرم عليها غناء ما حلّل في هذا الإطار على مسمع من الرّجل؟

ج: صوت المرأة ليس عورةً، ويمكن للمرأة أن تغنّي أمام الرّجل إذا كانت الأغنية ممّا سبق واتفقنا على أنّها تدخل في إطار الأغاني الراقية والملتزمة، كتجويد القرآن مثلاً وترتيله، وكالغناء الذي يتضمّن مفاهيم سامية، أو ما يكون اللحن فيه غير مثير.

س: أعرف أنّكم لا تحبّون الدّخول في التّفاصيل والأسماء، لكن فقط لتوضيح الفكرة، أود السؤال: إذا ما غنّت الفنّانة فيروز "بحبك يا لبنان"، هل ثمّة حرمة في الأمر؟

ج: أنا شخصياً لا أتحدّث عن الواقع الموجود، بل أعطي خطاً عاماً، وعندما ينطبق هذا الخط على المعاني التي ترتفع بالنفس والفكر والروح، ولا تترك تأثيراً سلبياً، سواء صدرت من الرّجل أو من المرأة، فلا مشكلة في الغناء.

س: الكثير من المتشدّدين، قد يعتبرون أنّ كلامناً متفلّت، وفيه انقلاب على مفاهيم الإسلام؟!

ج: هناك أناس يعارضون تفكيري في هذا المجال، وهذا ليس فقط رأيي، بل هناك الكثير من المراجع الدّينيّة والعلماء الأتقياء جداً، الذين يرون أنّ مشكلة الغناء، إنما هي في المضمون وليس في اللحن فقط.

س: أغاني اليوم من دون شك هابطة، وذات مستوى متدنّ، في حين أن أغاني الماضي كانت تحمل قيمة شعرية وموسيقية...؟

ج: أنا التقيت بعدد من الموسيقيين زاروني هنا، وقالوا لي إنّهم لا يؤمنون بالأغاني الهابطة، وإنّ مضمون الأغاني ينبغي أن يمثّل قيمة فكرية وروحية وثورية وإنسانيّة.

 

 
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير