أدعو إلى نقد رجال الدين نقداً موضوعياً، ونحن ضد كل

أدعو إلى نقد رجال الدين نقداً موضوعياً، ونحن ضد كل

المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله:

أدعو إلى نقد رجال الدين نقداً موضوعياً، ونحن ضد كل إقطاع ديني

في حلقتها التاسعة، تتابع مجلة "الشراع" حوارها مع سماحة العلامة المرجع الإسلامي، السيد محمد حسين فضل الله، وقد سألته في هذه الحلقة عن نظرة الإسلام إلى دور الفرد في المجتمعات، ودور القيادات الدينية من فقهاء ومراجع في إرشاد المجتمعات وهدايتهم. وفيما يلي نصّ الحوار:

قيمة الفرد في المجتمع
س: قضية الصحافي العراقي، منتظر الزيدي، أثارت نقاشاً وجدلاً حول دور الفرد في مجتمعاتنا التي تعاني ما تعانيه، فما هو تقويمكم لدور الفرد؟
ج: تبرز قيمة الفرد في الأمة عندما يكون شخصيةً طليعيةً تنفتح على قضايا الأمة في آلامها ومآسيها ومشاكلها، لأن ذلك يخلق في داخل شخصيته الكثير من التفاعلات في الخطوط الفكرية والسياسية، فيندفع إلى التعبير عن ذلك بمختلف الوسائل. ثمّ إنّ التحديات التي تصيب الأمة، قد تنتج شخصيةً قياديةً تحاول أن تدفع بالأمة إلى أن تأخذ بأسباب القضايا الكبرى، من خلال ما يملكه هذا القائد من تأثير في حركة المجتمع.
ونحن نتصور أن التاريخ هو تاريخ الأفراد وليس تاريخ الجماعات، لأن الجماعات قد تتحرك من خلال تفاعلها مع فكر الأفراد وحركتهم، وهذا ما نقرأه في تفاصيل حياة الأنبياء، فقد نجد مثلاً أن اليهودية ما تزال تتحرك في انتمائها الديني مع النبي موسى(ع)، بقطع النظر عن طبيعة نظرتها إلى شخصيته وتاريخه. وهكذا عندما نلتقي بالمسيحية، فإننا نجد أن المسيحيين في العالم ما يزالون يتحركون في أجواء السيد المسيح(ع)، وكذلك بالنسبة إلى المسلمين الذين انطلقوا من خلال النبي محمد(ص)، وما يزالون يتحركون في خط الإسلام الذي دعا إليه، وهناك نماذج كثيرة في الغرب والشرق عن تأثير الفرد في حركة المجتمعات، ومن الطبيعي أن هذه المسألة تختلف بين فرد وآخر، وبين فعل وآخر، فربما يقوم فرد بفعل معين له رمزية معينة، فيخلق انفعالاً إيجابياً يدفع باتجاه تحقيق قضايا معينة.

س: هذا على مستوى الأفراد الطليعيين أو القادة، ولكن ماذا عن الأفراد العاديين الذين نرى أن لا قيمة حقيقية لهم في المجتمع، خصوصاً عند القوى السياسية التي تتعامل معهم كمجرد أتباع لا أكثر؟
ج: هذه المسألة ترتبط بالتربية الثقافية الإنسانية للأمة، فنحن نلاحظ مثلاً أن التربية في العالم الثالث بشكل عام، ومنه المشرق العربي والإسلامي، لا تعطي الفرد قيمةً كبرى، وربما يعود السبب في ذلك إلى عدم التركيز على إنسانية الفرد، بينما نجد في بعض النماذج الغربية، وليس كلها، وكذلك عند اليهود في فلسطين، أن للفرد قيمةً كبرى، بحيث إذا أُصيب بأذى، فإن ذلك يشكل كارثةً أو خسارةً كبيرةً في المجتمع، ولعلّ ذلك يعود إلى نقطتين: الأولى: هي الشعور بأنّهم أقلية. والثانية: هي وجود حالٍ من اندماج الفرد في المجتمع واعتباره جزءاً مهماً فيه.

وما نلاحظه في واقعنا الشرقي، ولاسيما في العالم العربي والإسلامي، أن الإنسان لا يُحترم في إنسانيته، ولكن قد يُحترم من خلال بعض الصفات المتمثّلة فيه، أو بعض الأعمال التي يقوم بها. ونحن بحاجة إلى أن نخطط لثقافة تحترم الإنسان في إنسانيته، ولعلّنا نستوحي ذلك من الحديث النبوي الشريف الذي يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها"، وهذا يؤكد أن على الإنسان أن يتقمّص الإنسان الآخر، فيكون هو هو، فإذا أصيب الآخر بشيء فكأنه هو الذي أصيب، وإذا كسب شيئاً فكأنما هو من كسب...

ونلاحظ ذلك أيضاً في مسألة الحدود الشرعية، فالله تعالى يقول: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179] {النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسّنّ بالسّنّ والجروح قصاص} [المائدة:45]، {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} [الإسراء:33]. فالله سبحانه يؤكّد في هذه الآيات، أنّ قتل أيّ إنسانٍ من دون حق يُحمّل القاتل مسؤوليةً، أيّاً كان هذا القاتل، لأنّ التشريع الإسلامي لم يجعل القصاص على أساس طبقي، بل جعل الاقتصاص من القاتل حتى لو كان من الطبقة العليا وكان المقتول من الطبقة السفلى.

والنموذج الأكبر والأعلى في هذه المسألة، هو ما أكّده الإمام علي(ع) في حادثة اغتياله الذي نفّذه عبد الرحمن بن ملجم، عندما جمع أفراد عائلته وأقربائه وأخذ يوصيهم: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتلنَّ بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مِتُّ من ضربتي هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثّلوا بالرجل، فإن رسول الله قال: إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور".
فالإمام(ع) احترم إنسانية قاتله، وطلب ألا يُساء إليه بعد قتله بأن يُمثّل به: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194]، فقد ضُرب الإمام ضربةً واحدةً، فليُضرب القاتل ضربةً واحدةً، ولا يُمثَّل به بعد قتله، لأن الإسلام يحترم في الإنسان إنسانيته، ويرفض أن يُعتدى عليه.

ونقرأ أيضاً في هذا المجال الحديث النبوي: "إنما أهلك من كان من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وأيم الله، لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها".
دور الدين الإرشادي

س: هناك دورٌ إيجابيٌ كبير للدين في ترشيد المجتمع، ولكن ماذا عمّا نراه من دور سلبي في تدجين الناس وتعميم ثقافة الطاعة للفقيه أو المرجع أو السلطان؟
ج: هناك نقطة لا بدّ من تأكيدها، وهي أنّه في الجانب العقيدي في الإسلام، لا مقدَّس إلا الله والأنبياء، ويضاف إليهم عند الشيعة الإمامية الأئمة الإثنا عشر(ع)، أما ما عدا هؤلاء من مرجع أو فقيه أو سلطان أو أب، فلا طاعة مطلقة لأيّ منهم، بل إن الرجوع إلى الفقيه، مثلاً، هو من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم، أو رجوع من لا خبرة له إلى من له الخبرة فيما يتصل بحاجاته، تماماً كما يرجع الإنسان إلى الطبيب فيطيعه في تشخيص المرض والدواء الذي يعطيه إياه للعلاج. ولذلك، إذا اكتشفنا أن الفقيه أخطأ، فعليه هو أولاً أن يصحح الخطأ، كما فعل كثير من الفقهاء والمراجع الذين تراجعوا عندما اكتشفوا أخطاءً في فتاواهم ولو بعد سنوات عدة من عمرهم الفقهي.

فالمرجع الكبير السيد محسن الحكيم(رحمه الله)، كان أفتى بنجاسة أهل الكتاب من اليهود والنصارى وظلّ على هذه الفتوى ما يُقارب الستين سنة، ولكنه اكتشف خطأ المبنى الذي بنى عليه تلك الفتوى، فأفتى في آخر حياته بطهارتهم. فالفقيه إذا كان ممّن يتحمّل المسؤولية، فإن عليه أن يصحح خطأه إذا أخطأ، وإلا كان خائناً لموقعه الفقهي، وإذا كنا ممن يملكون قدرة اكتشاف الخطأ، فإنه لا يجوز لنا أن نأخذ بفتواه الخاطئة.
وهكذا نجد مثلاً أن هناك استحباباً شرعياً في إطاعة الأب، لا من خلال كونه مشرّعاً، لأن المطلوب في الشريعة الإسلامية ليس طاعة الوالدين، بل الإحسان إليهما {وبالوالدين إحساناً} [البقرة:83]. لذلك إذا اكتشف الأبناء خطأ الوالدين في أمرٍ ما، فإنّ لهم أن يرفضوا طاعتهم في هذا الأمر، وأن يكون لهم الخيار في تقدير مصلحتهم إذا كانوا راشدين، فلا يجب طاعة الوالدين هنا، ولكن على الولد أن يُحسن إليهما، بحيث تكون عدم طاعته لهما أمراً حبيّاً، وهذا ما ركّز عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15]، وهذا يدل على أنه ليس هناك طاعة مطلقة ولا قداسة مطلقة لإنسان.

لذلك أنا دائماً أدعو الناس في مداخلاتي الفكرية والسياسية والثقافية إلى نقد رجال الدين نقداً موضوعياً، لا ينطلق من عقدة، سواء كان رجل الدين في أعلى الدرجات أو في أقلها، لأنه لا قداسة لرجل الدين في الإسلام.
مساحات التكليف الشرعي

س: لكن هناك مبدأ أو قاعدة التكليف الشرعي؟
ج: التكليف الشرعي ينطلق من خلال مَنْ يملك موقعاً شرعياً لا بد للناس من أن يحترموه، باعتبار أنه يمثل الحقيقة الشرعية، على الأقل من وجهة نظرهم، ولذلك فإذا أصدر شخص لا عدالة له أو لا اجتهاد له حكماً شرعياً، ورأى الناس أن هذا الحكم على خلاف المصلحة، كما لو اتخذ موقفاً أو رأياً سياسياً، والرأي السياسي لا تقليد فيه، أو اتخذ موقفاً اجتماعياً يحاول أن يُكفّر فيه شخصاً ما أو يرميه بالضلال، فهذا لا تقليد فيه، وللناس أن يرفضوه.

فالتكليف الشرعي هو تماماً كالطب الشرعي، فإذا أمر الطبيب المريض أن يتناول علاجاً معيناً تتوقف عليه حياته، فيجب على المريض أن يلتزم به، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفقيه الذي يملك الخبرة والاستقامة والأمانة والصدق، فللناس أن يتّبعوه لا من خلال شخصه، ولكن من خلال الامتثال للحكم الشرعي، أما إذا لم يكن على ذلك المستوى، كما هو حال الكثيرين ممن يصدرون الفتاوى والأحكام من دون كفاءة، فهؤلاء لا تجوز طاعتهم.

س: لا تقليد في السياسة؟

ج: لا تقليد في السياسة إذا لم يكن الموقف أو الخط السياسي مرتبطاً بالحكم الشرعي.

س: هل هذا ينطبق أيضاً على الانتخابات النيابية؟
ج: في الانتخابات النيابية، يتمّ اختيار هذا الشخص أو ذاك ليكون ممثلاً للشعب، وهذه مسألة يعبِّر عنها الفقهاء بأنها مسألة موضوعية، والمسائل الموضوعية قد يكون المقلّد أو الإنسان العادي أكثر خبرةً فيها من الفقيه، ولذلك فإن مسألة من يجب اختياره من المرشحين في الانتخابات هي مما لا يُرجع فيها إلى رأي الفقيه. ولكن هناك بعض المسائل التي تتحرّك من خلال نظرية ولاية الفقيه، فالفقيه، من خلال هذه النظرية، يملك الولاية على الأمة، باعتبار أنّه يملك السلطة التنفيذية، فإذا رأى مصلحةً في انتخاب شخص معين، فالذين يتبعون نظرية ولاية الفقيه يلتزمون بتوجّهاته لهم.

س: هناك من يقول إن هناك ديناً للخاصة وديناً آخر للعامة...؟
ج: ليس هناك دين للخاصة ودين للعامة، بل هناك دين واحد لكل المسلمين هو الإسلام، ولا فرق في الامتثال له بين صغير وكبير، أو بين غني وفقير، فالدين الذي لا بد من أن يلتزم به أفقر الناس، هو نفسه الدين الذي لا بد من أن يلتزم به أغنى الناس ومن هم في أعلى الطبقات الاجتماعية، فلا طبقية في المسألة الدينية.

س: يؤخذ على التيارات الإسلامية الّتي شهدت صعوداً في الحقبة الأخيرة، غياب الإبداعات عنها في كل مجال، حتى على مستوى الفقه الإسلامي، وهذا ما لم يحصل قبل ذلك حتى في ظلّ الاحتلالات والانتدابات الأجنبية؟
ج: نحن نعتقد أن المبدعين الذين أنتجتهم الأمة العربية في تلك الفترات، لم ينطلقوا من خلال تأثيرات مبادىء القومية أو الماركسية أو غير ذلك، بل كان إبداعهم نتيجة جهدهم الثقافي وقابلياتهم الإبداعية، ونلاحظ الآن أنه ليس هناك أي فرق بين الإسلاميين وغير الإسلاميين في هذا المجال، ولعل السبب في ذلك أنهم شغلوا بالقضايا الأمنية والسياسية والفوضى الاجتماعية والمشاكل الاقتصادية، بحيث إن ظروف الإبداع والاستقلال الفكري والثقافي أصبحت صعبةً لدى الكثيرين من الناس الذين يؤمل منهم أن يكونوا من المبدعين. فالقضية ليست أن الإسلاميين يعيشون حركةً سلبيةً في قضايا الإبداع، وأن غيرهم كان يعيش حركةً إيجابيةً، بل هي مسألة الظروف الضاغطة في هذه المرحلة، مقارنةً بالظروف السابقة التي لم تكن ضاغطةً بهذا القدر، حتى في زمن الاستعمار.
ثقافة الأحكام المسبقة

س: لكن الثقافة الموجودة الآن هي ثقافة الأحكام المسبقة، وهي تشكل قواعد يُرمَى من يتجاوزها بالتكفير...؟!
ج: هذا تخلّف! حتى لو مارست بعض الحركات الإسلامية مثل هذا التوجه، لأن الإسلام يمنح الإنسان حرية أن يبدي رأيه، وهذا ما نلاحظه في القرآن الكريم، إذ إنّه خلّد كل الاتهامات التي وجّهت إلى النبي، ودخل في حوار مع أهل الكتاب ومع المشركين، وعرض وجهة نظرهم بكل أمانة، وردّ عليها بكل موضوعية. ولذلك فإن الإسلام ليس ضد الحريات، ولكن بعض المسلمين لجأوا إلى ذلك بسبب محدودية فهمهم للإسلام، وخوفهم من الفئات الأخرى، فضيّقوا على الناس حرياتهم.

الأنظمة الشمولية في العالم
س: ما ردّك على من يقول إن الإسلام أنشأ بيئةً ملائمةً للأنظمة الشمولية والديكتاتورية؟
ج: لا أعتقد أنّ هذه المسألة مرتبطة بالإسلام، لأن الأنظمة الشمولية موجودة في كل العالم، ونحن عندما ندرس العالم الثالث الذي تتمثل فيه الكثير من التيارات والشعوب غير الإسلامية، حتى في الغرب نفسه قبل الثورة الفرنسية، نجد أن هناك أنظمةً شموليةً وديكتاتوريةً، حتى إنّ العلماء كانوا يُحرَقُون عندما يطلقون آراء تخالف رأي الكنيسة، كما أنّنا نلاحظ أيضاً أنّ البيئة السياسية الغربية للدول الكبرى، استبعدت الشعوب واستعمرتها. فهذا أمر يشترك فيه كل الناس وكل الشعوب، ولا يقتصر على فريق أو على تيار معين.

س: لا كهنوت في الإسلام، لكن اليوم هناك أصوات تتحدث عن ولادة إقطاعات دينية؟
ج: نحن ضد كل إقطاع ديني، فالفقيه هو مجرد إنسان مثقف ثقافةً دينيةً، فإن أحسن السير في خطوطها الصحيحة ومارس حركتها على خط الاستقامة، فعلى الناس أن يقدّروه ويتّبعوه، وإن استغلّ ثقافته في الاتجار بالدين وفي استغلال الناس وظلمهم والانحراف عن الخط المستقيم بإعانة الظالم، فعلى الناس أن يلجموه وأن يقفوا ضده. لذلك لا كهنوت في الإسلام، لأنه ليس هناك مقدس في الإسلام، إلا ما قدّسه الله.

س: ما رأيك في مقولة إنّ الفقيه إذا أخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران؟
ج: يقال، إذا صحّ هذا الحديث، ولا نضمن صحته، أن الفقيه عندما يخطىء، فإن له أجر ما بذله في سبيل الوصول إلى الحقيقة الشرعية، أما إذا أصاب، فإن له أجرين؛ أجراً على الجهد الذي بذله من الناحية العلمية، وأجراً على وصوله إلى الحقيقة وكشفها للناس.

حوار: زين حمود ـ أحمد الموسوي
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 01 محرم 1430 هـ  الموافق: 29/12/2008 م

المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله:

أدعو إلى نقد رجال الدين نقداً موضوعياً، ونحن ضد كل إقطاع ديني

في حلقتها التاسعة، تتابع مجلة "الشراع" حوارها مع سماحة العلامة المرجع الإسلامي، السيد محمد حسين فضل الله، وقد سألته في هذه الحلقة عن نظرة الإسلام إلى دور الفرد في المجتمعات، ودور القيادات الدينية من فقهاء ومراجع في إرشاد المجتمعات وهدايتهم. وفيما يلي نصّ الحوار:

قيمة الفرد في المجتمع
س: قضية الصحافي العراقي، منتظر الزيدي، أثارت نقاشاً وجدلاً حول دور الفرد في مجتمعاتنا التي تعاني ما تعانيه، فما هو تقويمكم لدور الفرد؟
ج: تبرز قيمة الفرد في الأمة عندما يكون شخصيةً طليعيةً تنفتح على قضايا الأمة في آلامها ومآسيها ومشاكلها، لأن ذلك يخلق في داخل شخصيته الكثير من التفاعلات في الخطوط الفكرية والسياسية، فيندفع إلى التعبير عن ذلك بمختلف الوسائل. ثمّ إنّ التحديات التي تصيب الأمة، قد تنتج شخصيةً قياديةً تحاول أن تدفع بالأمة إلى أن تأخذ بأسباب القضايا الكبرى، من خلال ما يملكه هذا القائد من تأثير في حركة المجتمع.
ونحن نتصور أن التاريخ هو تاريخ الأفراد وليس تاريخ الجماعات، لأن الجماعات قد تتحرك من خلال تفاعلها مع فكر الأفراد وحركتهم، وهذا ما نقرأه في تفاصيل حياة الأنبياء، فقد نجد مثلاً أن اليهودية ما تزال تتحرك في انتمائها الديني مع النبي موسى(ع)، بقطع النظر عن طبيعة نظرتها إلى شخصيته وتاريخه. وهكذا عندما نلتقي بالمسيحية، فإننا نجد أن المسيحيين في العالم ما يزالون يتحركون في أجواء السيد المسيح(ع)، وكذلك بالنسبة إلى المسلمين الذين انطلقوا من خلال النبي محمد(ص)، وما يزالون يتحركون في خط الإسلام الذي دعا إليه، وهناك نماذج كثيرة في الغرب والشرق عن تأثير الفرد في حركة المجتمعات، ومن الطبيعي أن هذه المسألة تختلف بين فرد وآخر، وبين فعل وآخر، فربما يقوم فرد بفعل معين له رمزية معينة، فيخلق انفعالاً إيجابياً يدفع باتجاه تحقيق قضايا معينة.

س: هذا على مستوى الأفراد الطليعيين أو القادة، ولكن ماذا عن الأفراد العاديين الذين نرى أن لا قيمة حقيقية لهم في المجتمع، خصوصاً عند القوى السياسية التي تتعامل معهم كمجرد أتباع لا أكثر؟
ج: هذه المسألة ترتبط بالتربية الثقافية الإنسانية للأمة، فنحن نلاحظ مثلاً أن التربية في العالم الثالث بشكل عام، ومنه المشرق العربي والإسلامي، لا تعطي الفرد قيمةً كبرى، وربما يعود السبب في ذلك إلى عدم التركيز على إنسانية الفرد، بينما نجد في بعض النماذج الغربية، وليس كلها، وكذلك عند اليهود في فلسطين، أن للفرد قيمةً كبرى، بحيث إذا أُصيب بأذى، فإن ذلك يشكل كارثةً أو خسارةً كبيرةً في المجتمع، ولعلّ ذلك يعود إلى نقطتين: الأولى: هي الشعور بأنّهم أقلية. والثانية: هي وجود حالٍ من اندماج الفرد في المجتمع واعتباره جزءاً مهماً فيه.

وما نلاحظه في واقعنا الشرقي، ولاسيما في العالم العربي والإسلامي، أن الإنسان لا يُحترم في إنسانيته، ولكن قد يُحترم من خلال بعض الصفات المتمثّلة فيه، أو بعض الأعمال التي يقوم بها. ونحن بحاجة إلى أن نخطط لثقافة تحترم الإنسان في إنسانيته، ولعلّنا نستوحي ذلك من الحديث النبوي الشريف الذي يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها"، وهذا يؤكد أن على الإنسان أن يتقمّص الإنسان الآخر، فيكون هو هو، فإذا أصيب الآخر بشيء فكأنه هو الذي أصيب، وإذا كسب شيئاً فكأنما هو من كسب...

ونلاحظ ذلك أيضاً في مسألة الحدود الشرعية، فالله تعالى يقول: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179] {النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسّنّ بالسّنّ والجروح قصاص} [المائدة:45]، {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} [الإسراء:33]. فالله سبحانه يؤكّد في هذه الآيات، أنّ قتل أيّ إنسانٍ من دون حق يُحمّل القاتل مسؤوليةً، أيّاً كان هذا القاتل، لأنّ التشريع الإسلامي لم يجعل القصاص على أساس طبقي، بل جعل الاقتصاص من القاتل حتى لو كان من الطبقة العليا وكان المقتول من الطبقة السفلى.

والنموذج الأكبر والأعلى في هذه المسألة، هو ما أكّده الإمام علي(ع) في حادثة اغتياله الذي نفّذه عبد الرحمن بن ملجم، عندما جمع أفراد عائلته وأقربائه وأخذ يوصيهم: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتلنَّ بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مِتُّ من ضربتي هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثّلوا بالرجل، فإن رسول الله قال: إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور".
فالإمام(ع) احترم إنسانية قاتله، وطلب ألا يُساء إليه بعد قتله بأن يُمثّل به: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194]، فقد ضُرب الإمام ضربةً واحدةً، فليُضرب القاتل ضربةً واحدةً، ولا يُمثَّل به بعد قتله، لأن الإسلام يحترم في الإنسان إنسانيته، ويرفض أن يُعتدى عليه.

ونقرأ أيضاً في هذا المجال الحديث النبوي: "إنما أهلك من كان من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وأيم الله، لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها".
دور الدين الإرشادي

س: هناك دورٌ إيجابيٌ كبير للدين في ترشيد المجتمع، ولكن ماذا عمّا نراه من دور سلبي في تدجين الناس وتعميم ثقافة الطاعة للفقيه أو المرجع أو السلطان؟
ج: هناك نقطة لا بدّ من تأكيدها، وهي أنّه في الجانب العقيدي في الإسلام، لا مقدَّس إلا الله والأنبياء، ويضاف إليهم عند الشيعة الإمامية الأئمة الإثنا عشر(ع)، أما ما عدا هؤلاء من مرجع أو فقيه أو سلطان أو أب، فلا طاعة مطلقة لأيّ منهم، بل إن الرجوع إلى الفقيه، مثلاً، هو من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم، أو رجوع من لا خبرة له إلى من له الخبرة فيما يتصل بحاجاته، تماماً كما يرجع الإنسان إلى الطبيب فيطيعه في تشخيص المرض والدواء الذي يعطيه إياه للعلاج. ولذلك، إذا اكتشفنا أن الفقيه أخطأ، فعليه هو أولاً أن يصحح الخطأ، كما فعل كثير من الفقهاء والمراجع الذين تراجعوا عندما اكتشفوا أخطاءً في فتاواهم ولو بعد سنوات عدة من عمرهم الفقهي.

فالمرجع الكبير السيد محسن الحكيم(رحمه الله)، كان أفتى بنجاسة أهل الكتاب من اليهود والنصارى وظلّ على هذه الفتوى ما يُقارب الستين سنة، ولكنه اكتشف خطأ المبنى الذي بنى عليه تلك الفتوى، فأفتى في آخر حياته بطهارتهم. فالفقيه إذا كان ممّن يتحمّل المسؤولية، فإن عليه أن يصحح خطأه إذا أخطأ، وإلا كان خائناً لموقعه الفقهي، وإذا كنا ممن يملكون قدرة اكتشاف الخطأ، فإنه لا يجوز لنا أن نأخذ بفتواه الخاطئة.
وهكذا نجد مثلاً أن هناك استحباباً شرعياً في إطاعة الأب، لا من خلال كونه مشرّعاً، لأن المطلوب في الشريعة الإسلامية ليس طاعة الوالدين، بل الإحسان إليهما {وبالوالدين إحساناً} [البقرة:83]. لذلك إذا اكتشف الأبناء خطأ الوالدين في أمرٍ ما، فإنّ لهم أن يرفضوا طاعتهم في هذا الأمر، وأن يكون لهم الخيار في تقدير مصلحتهم إذا كانوا راشدين، فلا يجب طاعة الوالدين هنا، ولكن على الولد أن يُحسن إليهما، بحيث تكون عدم طاعته لهما أمراً حبيّاً، وهذا ما ركّز عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15]، وهذا يدل على أنه ليس هناك طاعة مطلقة ولا قداسة مطلقة لإنسان.

لذلك أنا دائماً أدعو الناس في مداخلاتي الفكرية والسياسية والثقافية إلى نقد رجال الدين نقداً موضوعياً، لا ينطلق من عقدة، سواء كان رجل الدين في أعلى الدرجات أو في أقلها، لأنه لا قداسة لرجل الدين في الإسلام.
مساحات التكليف الشرعي

س: لكن هناك مبدأ أو قاعدة التكليف الشرعي؟
ج: التكليف الشرعي ينطلق من خلال مَنْ يملك موقعاً شرعياً لا بد للناس من أن يحترموه، باعتبار أنه يمثل الحقيقة الشرعية، على الأقل من وجهة نظرهم، ولذلك فإذا أصدر شخص لا عدالة له أو لا اجتهاد له حكماً شرعياً، ورأى الناس أن هذا الحكم على خلاف المصلحة، كما لو اتخذ موقفاً أو رأياً سياسياً، والرأي السياسي لا تقليد فيه، أو اتخذ موقفاً اجتماعياً يحاول أن يُكفّر فيه شخصاً ما أو يرميه بالضلال، فهذا لا تقليد فيه، وللناس أن يرفضوه.

فالتكليف الشرعي هو تماماً كالطب الشرعي، فإذا أمر الطبيب المريض أن يتناول علاجاً معيناً تتوقف عليه حياته، فيجب على المريض أن يلتزم به، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفقيه الذي يملك الخبرة والاستقامة والأمانة والصدق، فللناس أن يتّبعوه لا من خلال شخصه، ولكن من خلال الامتثال للحكم الشرعي، أما إذا لم يكن على ذلك المستوى، كما هو حال الكثيرين ممن يصدرون الفتاوى والأحكام من دون كفاءة، فهؤلاء لا تجوز طاعتهم.

س: لا تقليد في السياسة؟

ج: لا تقليد في السياسة إذا لم يكن الموقف أو الخط السياسي مرتبطاً بالحكم الشرعي.

س: هل هذا ينطبق أيضاً على الانتخابات النيابية؟
ج: في الانتخابات النيابية، يتمّ اختيار هذا الشخص أو ذاك ليكون ممثلاً للشعب، وهذه مسألة يعبِّر عنها الفقهاء بأنها مسألة موضوعية، والمسائل الموضوعية قد يكون المقلّد أو الإنسان العادي أكثر خبرةً فيها من الفقيه، ولذلك فإن مسألة من يجب اختياره من المرشحين في الانتخابات هي مما لا يُرجع فيها إلى رأي الفقيه. ولكن هناك بعض المسائل التي تتحرّك من خلال نظرية ولاية الفقيه، فالفقيه، من خلال هذه النظرية، يملك الولاية على الأمة، باعتبار أنّه يملك السلطة التنفيذية، فإذا رأى مصلحةً في انتخاب شخص معين، فالذين يتبعون نظرية ولاية الفقيه يلتزمون بتوجّهاته لهم.

س: هناك من يقول إن هناك ديناً للخاصة وديناً آخر للعامة...؟
ج: ليس هناك دين للخاصة ودين للعامة، بل هناك دين واحد لكل المسلمين هو الإسلام، ولا فرق في الامتثال له بين صغير وكبير، أو بين غني وفقير، فالدين الذي لا بد من أن يلتزم به أفقر الناس، هو نفسه الدين الذي لا بد من أن يلتزم به أغنى الناس ومن هم في أعلى الطبقات الاجتماعية، فلا طبقية في المسألة الدينية.

س: يؤخذ على التيارات الإسلامية الّتي شهدت صعوداً في الحقبة الأخيرة، غياب الإبداعات عنها في كل مجال، حتى على مستوى الفقه الإسلامي، وهذا ما لم يحصل قبل ذلك حتى في ظلّ الاحتلالات والانتدابات الأجنبية؟
ج: نحن نعتقد أن المبدعين الذين أنتجتهم الأمة العربية في تلك الفترات، لم ينطلقوا من خلال تأثيرات مبادىء القومية أو الماركسية أو غير ذلك، بل كان إبداعهم نتيجة جهدهم الثقافي وقابلياتهم الإبداعية، ونلاحظ الآن أنه ليس هناك أي فرق بين الإسلاميين وغير الإسلاميين في هذا المجال، ولعل السبب في ذلك أنهم شغلوا بالقضايا الأمنية والسياسية والفوضى الاجتماعية والمشاكل الاقتصادية، بحيث إن ظروف الإبداع والاستقلال الفكري والثقافي أصبحت صعبةً لدى الكثيرين من الناس الذين يؤمل منهم أن يكونوا من المبدعين. فالقضية ليست أن الإسلاميين يعيشون حركةً سلبيةً في قضايا الإبداع، وأن غيرهم كان يعيش حركةً إيجابيةً، بل هي مسألة الظروف الضاغطة في هذه المرحلة، مقارنةً بالظروف السابقة التي لم تكن ضاغطةً بهذا القدر، حتى في زمن الاستعمار.
ثقافة الأحكام المسبقة

س: لكن الثقافة الموجودة الآن هي ثقافة الأحكام المسبقة، وهي تشكل قواعد يُرمَى من يتجاوزها بالتكفير...؟!
ج: هذا تخلّف! حتى لو مارست بعض الحركات الإسلامية مثل هذا التوجه، لأن الإسلام يمنح الإنسان حرية أن يبدي رأيه، وهذا ما نلاحظه في القرآن الكريم، إذ إنّه خلّد كل الاتهامات التي وجّهت إلى النبي، ودخل في حوار مع أهل الكتاب ومع المشركين، وعرض وجهة نظرهم بكل أمانة، وردّ عليها بكل موضوعية. ولذلك فإن الإسلام ليس ضد الحريات، ولكن بعض المسلمين لجأوا إلى ذلك بسبب محدودية فهمهم للإسلام، وخوفهم من الفئات الأخرى، فضيّقوا على الناس حرياتهم.

الأنظمة الشمولية في العالم
س: ما ردّك على من يقول إن الإسلام أنشأ بيئةً ملائمةً للأنظمة الشمولية والديكتاتورية؟
ج: لا أعتقد أنّ هذه المسألة مرتبطة بالإسلام، لأن الأنظمة الشمولية موجودة في كل العالم، ونحن عندما ندرس العالم الثالث الذي تتمثل فيه الكثير من التيارات والشعوب غير الإسلامية، حتى في الغرب نفسه قبل الثورة الفرنسية، نجد أن هناك أنظمةً شموليةً وديكتاتوريةً، حتى إنّ العلماء كانوا يُحرَقُون عندما يطلقون آراء تخالف رأي الكنيسة، كما أنّنا نلاحظ أيضاً أنّ البيئة السياسية الغربية للدول الكبرى، استبعدت الشعوب واستعمرتها. فهذا أمر يشترك فيه كل الناس وكل الشعوب، ولا يقتصر على فريق أو على تيار معين.

س: لا كهنوت في الإسلام، لكن اليوم هناك أصوات تتحدث عن ولادة إقطاعات دينية؟
ج: نحن ضد كل إقطاع ديني، فالفقيه هو مجرد إنسان مثقف ثقافةً دينيةً، فإن أحسن السير في خطوطها الصحيحة ومارس حركتها على خط الاستقامة، فعلى الناس أن يقدّروه ويتّبعوه، وإن استغلّ ثقافته في الاتجار بالدين وفي استغلال الناس وظلمهم والانحراف عن الخط المستقيم بإعانة الظالم، فعلى الناس أن يلجموه وأن يقفوا ضده. لذلك لا كهنوت في الإسلام، لأنه ليس هناك مقدس في الإسلام، إلا ما قدّسه الله.

س: ما رأيك في مقولة إنّ الفقيه إذا أخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران؟
ج: يقال، إذا صحّ هذا الحديث، ولا نضمن صحته، أن الفقيه عندما يخطىء، فإن له أجر ما بذله في سبيل الوصول إلى الحقيقة الشرعية، أما إذا أصاب، فإن له أجرين؛ أجراً على الجهد الذي بذله من الناحية العلمية، وأجراً على وصوله إلى الحقيقة وكشفها للناس.

حوار: زين حمود ـ أحمد الموسوي
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 01 محرم 1430 هـ  الموافق: 29/12/2008 م
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير