فضل الله لـ «السّفير» حول أزمة عزّ الدّين وقضايا الإفلاس: ما يجري تحت عنوان عقود المضاربة ليس واقعيّاً وغير شرعيّ

فضل الله لـ «السّفير» حول أزمة عزّ الدّين وقضايا الإفلاس:  ما يجري تحت عنوان عقود المضاربة ليس واقعيّاً وغير شرعيّ

فضل الله لـ «السّفير» حول أزمة عزّ الدّين وقضايا الإفلاس:

 ما يجري تحت عنوان عقود المضاربة ليس واقعيّاً وغير شرعيّ


هو ذاك الوجه المشرق الذي لا يتغيّر، بالرّغم من ضغط السّنين وقهر المسؤوليّات. هو تلك الصفحة المنيرة في كتاب الدين.

يعود المرجع الديني، السيّد محمّد حسين فضل الله، ليتحدّث بطريقته الشّغوفة بالمعرفة، وبأسلوبه المدرار بالكلام، مستعيداً صحّته التي كانت أُنهكت خلال «عدوان تموز» وبعيده، فيسترجع بعضاً من حيويّته، فيما لا تفارقه ابتسامته الودودة ونزعته الصادقة للتّرحيب بالضيف.

يتابع السيد فضل الله معظم القضايا المثارة في البلد؛ يقرأ عنها غالباً ويعلّق عليها أحياناً. وهو إذ تكثّفت «أجندته» خلال الشّهر الكريم، جرّاء تزايد النشاطات والمحاضرات الدينية، إلا أنّ ذلك لا يمنعه من فتح الباب أمام أيّ سؤالٍ حول أيّ موضوعٍ يحتاج إلى إضاءةٍ من كوّة الدين.

قضية رجل الأعمال صلاح عزّ الدّين كانت محور الحديث الذي أجرته معه صحيفة السفير، حيث قدّم وجهة نظر الشّرع الإسلاميّ في كلّ ما يتّصل بها من عقودٍ تجاريّةٍ ومفاعيل اقتصاديّة.

وهذا نصّ الحوار:


س: من وجهة نظركم، كيف تفسّرون ظاهرة إفلاس رجال الأعمال في لبنان، ممن يستثمرون أموال النّاس ويضيّعونها، والتي كانت آخر ظواهرها اليوم، قضيّة صلاح عزّ الدّين؟

ج: ينطلق تفسيري لهذه الظّاهرة من أنّ هناك تخلّفاً في المجتمع في مسألة استثمار الأموال التي يملكها النّاس، بما يمكّن المغامرين من استغلال أوضاع النّاس ورغبتهم في تنمية مواردهم، من دون تفكيرٍ في القواعد التي يمكن أن تؤصّل مسألة التنمية بحسب طبيعة الأوضاع الموجودة على المستوى الاقتصادي. وبهذا المعنى، يستسهل بعض النّاس الوعد بالرّبح السهل الذي لا يملك أيّ واقعية، باعتبار أن حال الطمع تسيطر عليهم، وكذلك حبّ الراحة في أن يستثمروا أموالهم في الجوانب الإنتاجية على المستوى الاقتصادي دون أيّ تعب. وهكذا استطاع كثيرون أن يستغلّوا هذه السذاجة الاقتصادية والطمع اللامعقول في خديعة هؤلاء الناس، والسيطرة على أموالهم تحت تأثير الوعود بأنهم سيحصلون على فوائد كبيرة في وقت قصير، مع إعطائهم بعض الحقوق الشرعية غير الواقعية، والتي تمثّل الشكل ولا تتعدى إلى المضمون.
عدم الوعي الاقتصاديّ عند أصحاب الأموال، دفع المستثمرين إلى استغلالهم والسيطرة على أموالهم

س: هل لهذه الظّاهرة علاقة بالبيئة التي تحيط بها، وبالمفاهيم السّائدة فيها؟

ج: المسألة لا تنحصر بطائفةٍ أو ببيئةٍ معيّنة، لكنّها تتمظهر بأكثر من نموذجٍ يعيش السذاجة الاقتصادية، وينطلق على أساس استسهال الثقة بالأشخاص الذين يغرونه بأنهم سوف يستثمرون أمواله بطريقة أو بأخرى.

وإذا ابتعدنا عن الواقع بأوسع من هذه الحالات المحدودة، فإننا نجد أنّ الأزمة الماليّة العالميّة انطلقت من خلال أنّ الكثيرين من أصحاب الأموال، ولا سيّما في الخليج وغيره، وضعوا أموالهم في محافظ استثماريّة، من دون أن يدرسوا الواقع الاقتصاديّ والجهات التي تترك تأثيرها على حركة هذه المحافظ وهذه الاستثمارات، في استغلالهم لها لتنمية ثرواتهم، ثم في إدارة اللّعبة الاقتصادية في مسألة الأسهم، والتي تهبط وتصعد، تماماً كما هي قضيّة المقامر التي قد يخسر فيها، لكنّه يأمل في اللّعبة الثّانية أو الثّالثة أن يربح ويعوّض خسارته، ليصل بعدها إلى مستوى لا يبقى معه شيء.

القضيّة إذاً تنطلق من السّذاجة الاقتصاديّة. ونحن نعرف أنّ الكثيرين في مجتمعنا قد يأتون بالعبادات بشكلٍ أو بآخر بحيث يوحون بالثّقة. لكنّنا نروي عن النبيّ محمّد(ص) وعن أئمّة أهل البيت(ع): «لا تنظروا إلى طول ركوعهم وسجودهم ـ فلعلّها عادة اعتادوها، والمرء يشقّ عليه أن يترك عادته ـ لكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر». ما يعني أنّ على الإنسان ألاّ ينخدع بالمظهر العباديّ، لأنّه ليس هو الذي يعطينا أساس الثّقة، بل إنّ التجربة في ما يمكن أن يسقط فيه النّاس، هي التي تعطينا الثقة، وذلك في أن يحدّث فلا يكذب، وأن يؤتمن فلا يخون.
المظهر العباديّ لأيّ شخص لا يمكن أن يعتبر أساساً للثّقة به، بل إنّ تجربته في صدق الحديث وأداء الأمانة هي التي تمنح الثقة به

س: ما رأي الدّين في عقود المضاربة التي تنصّ على أن يكون المستثمر شريكاً في الأرباح؟

ج: في التّشريع الإسلاميّ، على مستوى المعاملات الماليّة، هناك عنوانٌ يطلق عليه اسم «المضاربة»، وهي تمثّل شركةً بين العمل والمال، لأنّ النظريّة الإسلاميّة تقول إنّ المال لا ينتج مالاً إلا من خلال تزاوجه مع العمل. ولذلك فالمضاربة تعني أن يكون هناك اتفاق بين من يملك رأس المال وصاحب العمل، على أساس نسبةٍ من الربح. ولا بدّ من أن يكون الشخص الذي يعمل برأس المال واقعيّاً وجادّاً وخبيراً ومنتجاً للأرباح التي يعد بها، والتي يريد أن يقدّمها إلى صاحب رأس المال.

لكنّ الموجود عندنا في التّجارب السابقة وتلك التي نعيشها اليوم، هو أنّ هذه الأرباح لا تنطلق من خلال أعمال اقتصادية، بل من خلال استغلال لحركة رأس المال في حلّ مشاكله الاقتصاديّة هنا وهناك. ولذلك، فانّ ما يحصل تحت عنوان المضاربة أو المرابحة ليس واقعيّاً، بحسب ما نسمع من النّاس الذين يتابعون هذه المسألة، وبذلك، فالمسألة ـ إذا صدقت هذه الأحاديث ـ لا تكون شرعيّةً.

س: ثمة عقود مضاربة أو مرابحة تشترط أن يكون المستثمر شريكاً في الرّبح والخسارة في آن؟

ج: عندما يتمّ التعاقد بين صاحب رأس المال وصاحب العمل، يتمّ ذلك على أساس أن نسبة الأرباح تقسّم بين الطرفين، وإذا وقعت الخسارة فإنها تقع على صاحب رأس المال، وليس على صاحب العمل، لأنّ العامل فقد عمله، هذا إذا جرت القضيّة وفق أصولها. وهناك بعض الفقهاء يقولون إنّه من الممكن جداً أن يكون هناك اتفاق خارج إطار هذا العقد، في أن يضمن العامل رأس المال لصاحبه إذا حصلت الخسارة. ولكن هذا المعنى ليس إنسانيّاً، وبعض الفقهاء لا يجيز ذلك.
النظريّة الإسلامية تقول إنّ المال لا ينتج المال إلا من خلال تزاوجه مع العمل

س: ما الفرق بين تحديد نسبة الرّبح والفائدة؟
 

ج: تحديد مبلغ الربح يعتبر فائدةً، أمّا تحديد نسبة الرّبح فلا يعتبر فائدةً، لأنّ الشّراكة بين العمل ورأس المال واقعيّة، وتتحرّك على أساس نتائج حركة هذا العمل، ويمكن أن تربح أو أن تخسر. وهذا أيضاً مختلف عن الرّبا؛ فالمال هنا ينتج مالاً، كأن يديّن شخص مبلغاً من المال لآخر، على أن يعطيه لقاء ذلك مبلغاً شهرياً. وهذه ليست معاملة بين الطّرفين، بل هي استغلال لحاجة المستقرض من قبل المقرض، في أن يفرض عليه مبلغ معين.

لكن في المضاربة ليس هناك مبلغ معيّن، بل شركة بين العمل ورأس المال، فقد تربح وقد تخسر، ربما لأنّ الوضع الاقتصاديّ لحركة الشّراكة لا يعطي أرباحاً، فلا يحصل الطرفان في هذه الحالة على شيء، بينما في الربا، يحصل صاحب رأس المال على كلّ شيء، وعلى أصل ماله مع المبلغ الذي فرضه. أمّا في المضاربة، إذا حصلت الخسارة، فإنها تصيب الطّرفين.

س: إذاً، المستثمرون لا يخالفون الاعتبار الديني، لكنّ مشكلتهم تنحصر في مسألة الوعي الاقتصادي؟

ج: عدم وعيهم الاقتصادي جعلهم يتحرّكون في واقعٍ يؤدّي إلى خسارتهم لأموالهم، ما يجعل القضيّة في دائرة إهدار المال. لكنّ المسؤوليّة تقع على من يأخذ المال، كيف يديره؛ هل يديره لمصلحة صاحب المال أو لمصلحته الخاصّة؟ وهل يديره بشكلٍ مدروس، أم بلا ضوابط اقتصاديّة، لعدم معرفته بأصول الربح والخسارة في العمليّة الاقتصادية؟ وهل عندما يخسر يكون ذلك من دون تعمّد، ونتيجة للوضع الاقتصاديّ العام، أو يكون ذلك نتيجة لعبةٍ يديرها، فيأخذ من هذا ليعطي لذاك، أو أن يعطي أرباحاً غير معقولة لا تسمح بها حركة الربح والخسارة في السوق؟

س: يتذرّع بعض المستثمرين باستثمار أموالهم بموجب عقود مرابحة غير مضمونة النّتائج غالباً، بأنه تجنّب لفوائد البنوك التي يحرّمها الإسلام؟

س: يجوز للنّاس أن يضعوا مالاً في البنوك الإسلاميّة التي تأخذ بمبدأ المضاربة، إذا كانت جادّةً في ذلك، بحسب قوانينها الشرعيّة، ويمكن إيداع المال، لكن من دون أن يشترطوا الفائدة، لأنّ الله حرمها.

 النظرية الإسلامية أكثر عدالةً، لأنها تجعل الخسارة على صاحب رأس المال كما على العامل، بينما الرّبا يجعل صاحب رأس المال رابحاً دائماً. وهذا ما يجعل الدّول الفقيرة المستضعفة التي تقترض من البنك الدّولي، أو من بعض الدول الأخرى، تخضع لشروطها الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة، كما أنّ تراكم الفوائد يجعل هذه الدول المستقرضة تحت رحمة الدول المقرضة.

س: حكي عن علاقة ماليّة بين «جمعيّة المبرات الخيرية» وأعمال رجل الأعمال المفلس صلاح عزّ الدّين؟

ج: أحبّ أن أؤكّد أنّ «جمعية المبرات الخيرية» وسائر المؤسسات التابعة لها، لم ولن تدخل في أيّ عمل من هذه الأعمال المرتبطة بالقضيّة أو غيرها، لم ترتبط سابقاً، ولن ترتبط لاحقاً، لأنّ ما تملكه من مالٍ من خلال المحسنين، توظّفه في المشاريع التي تؤسّسها. ونحن الآن لدينا مشروع "المركز الإسلاميّ" في جبيل، والمجمع في بنت جبيل، ومشروع المكتبة العامة التي تؤسس إلى جانب مسجد الإمامين الحسنين، كما أنشأنا مبرّةً للأيتام في بغداد بكلفة خمسة ملايين دولار، وجُهّز المبنى الأوّل (خمسة طوابق على العظم)، فيما سيتمّ تجهيز المبنى الثاني قريباً، لإيواء الأيتام وإطعامهم. نحن لا يمكن أن نقدّم أيّ قرشٍ إلى أيّ مغامرٍ من مغامري الاقتصاد. وكلّ من يتحدث عن أن للمبرّات مشاركةً في هذه الأزمة، فإنّه لا يتكلم بكلام صحيح، بل يقول الأكاذيب والافتراءات، لأنني احرّم، بحسب ولايتي على «المبرات»، تحويل هذه الأموال، التي أغلبها أموال شرعيّة، إلى أيّ مغامرة اقتصادية.
جمعيّة المبرات الخيرية لا ترتبط بأيّ علاقات ماليّة مع صلاح عزّ الدّين، وأنا أحرّم تحويل الأموال الشرعيّة إلى أيّ مغامرة اقتصادية

س: بماذا تنصح النّاس من أصحاب الرساميل الصّغيرة أو الكبيرة؟

ج: أنصح الناس الذين يعملون على تنمية اقتصادهم، بأن يستثمروا أموالهم من خلال أعمالهم، أو بمشاركة الأشخاص الأمناء الذين يعملون معهم على تنمية المال بالطريقة التي يحصل فيها الربح المؤدي إلى نتائج اقتصادية إيجابية لمصلحة الشريكين.

وقد أثبتت الأزمة المالية العالمية فشل النّظام الرأسمالي في عدالة الاقتصاد، من حيث الإدارة التي يقودها الأشخاص الذين يسيطرون على اقتصاد العالم. لذلك، لا بدّ من إعادة النظر في النظام الاقتصادي الرأسمالي، ومحاولة الإتيان بتجربة النظام الاقتصادي الإسلامي.

س: ثمة مؤسسات تقرض الأموال للنّاس ممن يرهنون لديها ذهباً، وذلك بناءً على تقديرها لسعر الذهب، ثم تستوفي المبلغ من المستقرضين بالتّقسيط، مضافاً إليه ما تسمّيه «برسوم تخزين الذّهب والرسوم الإدارية». كيف تعلّقون على ذلك؟

ج: إذا كان الذهب المأخوذ من المقترِض رهناً على المال فلا إشكال فيه من الناحية الشرعية، وأما القسم الثاني الذي يتم بطريقة شراء الذهب من الراغب في القرض، ثم بيعه له بسعر أعلى، ثم استيفاء الثمن الأعلى منه أقساطاً، مع إبقاء الذهب رهناً ضمانة للتسديد، فهو موضع تحفّظ شرعي عندنا كباقي الحيل الشرعية للتخلّص من الربا.

أجرت الحوار: فاتن قبيسي

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 21 رمضان 1430 هـ  الموافق: 10/09/2009 م

فضل الله لـ «السّفير» حول أزمة عزّ الدّين وقضايا الإفلاس:

 ما يجري تحت عنوان عقود المضاربة ليس واقعيّاً وغير شرعيّ


هو ذاك الوجه المشرق الذي لا يتغيّر، بالرّغم من ضغط السّنين وقهر المسؤوليّات. هو تلك الصفحة المنيرة في كتاب الدين.

يعود المرجع الديني، السيّد محمّد حسين فضل الله، ليتحدّث بطريقته الشّغوفة بالمعرفة، وبأسلوبه المدرار بالكلام، مستعيداً صحّته التي كانت أُنهكت خلال «عدوان تموز» وبعيده، فيسترجع بعضاً من حيويّته، فيما لا تفارقه ابتسامته الودودة ونزعته الصادقة للتّرحيب بالضيف.

يتابع السيد فضل الله معظم القضايا المثارة في البلد؛ يقرأ عنها غالباً ويعلّق عليها أحياناً. وهو إذ تكثّفت «أجندته» خلال الشّهر الكريم، جرّاء تزايد النشاطات والمحاضرات الدينية، إلا أنّ ذلك لا يمنعه من فتح الباب أمام أيّ سؤالٍ حول أيّ موضوعٍ يحتاج إلى إضاءةٍ من كوّة الدين.

قضية رجل الأعمال صلاح عزّ الدّين كانت محور الحديث الذي أجرته معه صحيفة السفير، حيث قدّم وجهة نظر الشّرع الإسلاميّ في كلّ ما يتّصل بها من عقودٍ تجاريّةٍ ومفاعيل اقتصاديّة.

وهذا نصّ الحوار:


س: من وجهة نظركم، كيف تفسّرون ظاهرة إفلاس رجال الأعمال في لبنان، ممن يستثمرون أموال النّاس ويضيّعونها، والتي كانت آخر ظواهرها اليوم، قضيّة صلاح عزّ الدّين؟

ج: ينطلق تفسيري لهذه الظّاهرة من أنّ هناك تخلّفاً في المجتمع في مسألة استثمار الأموال التي يملكها النّاس، بما يمكّن المغامرين من استغلال أوضاع النّاس ورغبتهم في تنمية مواردهم، من دون تفكيرٍ في القواعد التي يمكن أن تؤصّل مسألة التنمية بحسب طبيعة الأوضاع الموجودة على المستوى الاقتصادي. وبهذا المعنى، يستسهل بعض النّاس الوعد بالرّبح السهل الذي لا يملك أيّ واقعية، باعتبار أن حال الطمع تسيطر عليهم، وكذلك حبّ الراحة في أن يستثمروا أموالهم في الجوانب الإنتاجية على المستوى الاقتصادي دون أيّ تعب. وهكذا استطاع كثيرون أن يستغلّوا هذه السذاجة الاقتصادية والطمع اللامعقول في خديعة هؤلاء الناس، والسيطرة على أموالهم تحت تأثير الوعود بأنهم سيحصلون على فوائد كبيرة في وقت قصير، مع إعطائهم بعض الحقوق الشرعية غير الواقعية، والتي تمثّل الشكل ولا تتعدى إلى المضمون.
عدم الوعي الاقتصاديّ عند أصحاب الأموال، دفع المستثمرين إلى استغلالهم والسيطرة على أموالهم

س: هل لهذه الظّاهرة علاقة بالبيئة التي تحيط بها، وبالمفاهيم السّائدة فيها؟

ج: المسألة لا تنحصر بطائفةٍ أو ببيئةٍ معيّنة، لكنّها تتمظهر بأكثر من نموذجٍ يعيش السذاجة الاقتصادية، وينطلق على أساس استسهال الثقة بالأشخاص الذين يغرونه بأنهم سوف يستثمرون أمواله بطريقة أو بأخرى.

وإذا ابتعدنا عن الواقع بأوسع من هذه الحالات المحدودة، فإننا نجد أنّ الأزمة الماليّة العالميّة انطلقت من خلال أنّ الكثيرين من أصحاب الأموال، ولا سيّما في الخليج وغيره، وضعوا أموالهم في محافظ استثماريّة، من دون أن يدرسوا الواقع الاقتصاديّ والجهات التي تترك تأثيرها على حركة هذه المحافظ وهذه الاستثمارات، في استغلالهم لها لتنمية ثرواتهم، ثم في إدارة اللّعبة الاقتصادية في مسألة الأسهم، والتي تهبط وتصعد، تماماً كما هي قضيّة المقامر التي قد يخسر فيها، لكنّه يأمل في اللّعبة الثّانية أو الثّالثة أن يربح ويعوّض خسارته، ليصل بعدها إلى مستوى لا يبقى معه شيء.

القضيّة إذاً تنطلق من السّذاجة الاقتصاديّة. ونحن نعرف أنّ الكثيرين في مجتمعنا قد يأتون بالعبادات بشكلٍ أو بآخر بحيث يوحون بالثّقة. لكنّنا نروي عن النبيّ محمّد(ص) وعن أئمّة أهل البيت(ع): «لا تنظروا إلى طول ركوعهم وسجودهم ـ فلعلّها عادة اعتادوها، والمرء يشقّ عليه أن يترك عادته ـ لكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر». ما يعني أنّ على الإنسان ألاّ ينخدع بالمظهر العباديّ، لأنّه ليس هو الذي يعطينا أساس الثّقة، بل إنّ التجربة في ما يمكن أن يسقط فيه النّاس، هي التي تعطينا الثقة، وذلك في أن يحدّث فلا يكذب، وأن يؤتمن فلا يخون.
المظهر العباديّ لأيّ شخص لا يمكن أن يعتبر أساساً للثّقة به، بل إنّ تجربته في صدق الحديث وأداء الأمانة هي التي تمنح الثقة به

س: ما رأي الدّين في عقود المضاربة التي تنصّ على أن يكون المستثمر شريكاً في الأرباح؟

ج: في التّشريع الإسلاميّ، على مستوى المعاملات الماليّة، هناك عنوانٌ يطلق عليه اسم «المضاربة»، وهي تمثّل شركةً بين العمل والمال، لأنّ النظريّة الإسلاميّة تقول إنّ المال لا ينتج مالاً إلا من خلال تزاوجه مع العمل. ولذلك فالمضاربة تعني أن يكون هناك اتفاق بين من يملك رأس المال وصاحب العمل، على أساس نسبةٍ من الربح. ولا بدّ من أن يكون الشخص الذي يعمل برأس المال واقعيّاً وجادّاً وخبيراً ومنتجاً للأرباح التي يعد بها، والتي يريد أن يقدّمها إلى صاحب رأس المال.

لكنّ الموجود عندنا في التّجارب السابقة وتلك التي نعيشها اليوم، هو أنّ هذه الأرباح لا تنطلق من خلال أعمال اقتصادية، بل من خلال استغلال لحركة رأس المال في حلّ مشاكله الاقتصاديّة هنا وهناك. ولذلك، فانّ ما يحصل تحت عنوان المضاربة أو المرابحة ليس واقعيّاً، بحسب ما نسمع من النّاس الذين يتابعون هذه المسألة، وبذلك، فالمسألة ـ إذا صدقت هذه الأحاديث ـ لا تكون شرعيّةً.

س: ثمة عقود مضاربة أو مرابحة تشترط أن يكون المستثمر شريكاً في الرّبح والخسارة في آن؟

ج: عندما يتمّ التعاقد بين صاحب رأس المال وصاحب العمل، يتمّ ذلك على أساس أن نسبة الأرباح تقسّم بين الطرفين، وإذا وقعت الخسارة فإنها تقع على صاحب رأس المال، وليس على صاحب العمل، لأنّ العامل فقد عمله، هذا إذا جرت القضيّة وفق أصولها. وهناك بعض الفقهاء يقولون إنّه من الممكن جداً أن يكون هناك اتفاق خارج إطار هذا العقد، في أن يضمن العامل رأس المال لصاحبه إذا حصلت الخسارة. ولكن هذا المعنى ليس إنسانيّاً، وبعض الفقهاء لا يجيز ذلك.
النظريّة الإسلامية تقول إنّ المال لا ينتج المال إلا من خلال تزاوجه مع العمل

س: ما الفرق بين تحديد نسبة الرّبح والفائدة؟
 

ج: تحديد مبلغ الربح يعتبر فائدةً، أمّا تحديد نسبة الرّبح فلا يعتبر فائدةً، لأنّ الشّراكة بين العمل ورأس المال واقعيّة، وتتحرّك على أساس نتائج حركة هذا العمل، ويمكن أن تربح أو أن تخسر. وهذا أيضاً مختلف عن الرّبا؛ فالمال هنا ينتج مالاً، كأن يديّن شخص مبلغاً من المال لآخر، على أن يعطيه لقاء ذلك مبلغاً شهرياً. وهذه ليست معاملة بين الطّرفين، بل هي استغلال لحاجة المستقرض من قبل المقرض، في أن يفرض عليه مبلغ معين.

لكن في المضاربة ليس هناك مبلغ معيّن، بل شركة بين العمل ورأس المال، فقد تربح وقد تخسر، ربما لأنّ الوضع الاقتصاديّ لحركة الشّراكة لا يعطي أرباحاً، فلا يحصل الطرفان في هذه الحالة على شيء، بينما في الربا، يحصل صاحب رأس المال على كلّ شيء، وعلى أصل ماله مع المبلغ الذي فرضه. أمّا في المضاربة، إذا حصلت الخسارة، فإنها تصيب الطّرفين.

س: إذاً، المستثمرون لا يخالفون الاعتبار الديني، لكنّ مشكلتهم تنحصر في مسألة الوعي الاقتصادي؟

ج: عدم وعيهم الاقتصادي جعلهم يتحرّكون في واقعٍ يؤدّي إلى خسارتهم لأموالهم، ما يجعل القضيّة في دائرة إهدار المال. لكنّ المسؤوليّة تقع على من يأخذ المال، كيف يديره؛ هل يديره لمصلحة صاحب المال أو لمصلحته الخاصّة؟ وهل يديره بشكلٍ مدروس، أم بلا ضوابط اقتصاديّة، لعدم معرفته بأصول الربح والخسارة في العمليّة الاقتصادية؟ وهل عندما يخسر يكون ذلك من دون تعمّد، ونتيجة للوضع الاقتصاديّ العام، أو يكون ذلك نتيجة لعبةٍ يديرها، فيأخذ من هذا ليعطي لذاك، أو أن يعطي أرباحاً غير معقولة لا تسمح بها حركة الربح والخسارة في السوق؟

س: يتذرّع بعض المستثمرين باستثمار أموالهم بموجب عقود مرابحة غير مضمونة النّتائج غالباً، بأنه تجنّب لفوائد البنوك التي يحرّمها الإسلام؟

س: يجوز للنّاس أن يضعوا مالاً في البنوك الإسلاميّة التي تأخذ بمبدأ المضاربة، إذا كانت جادّةً في ذلك، بحسب قوانينها الشرعيّة، ويمكن إيداع المال، لكن من دون أن يشترطوا الفائدة، لأنّ الله حرمها.

 النظرية الإسلامية أكثر عدالةً، لأنها تجعل الخسارة على صاحب رأس المال كما على العامل، بينما الرّبا يجعل صاحب رأس المال رابحاً دائماً. وهذا ما يجعل الدّول الفقيرة المستضعفة التي تقترض من البنك الدّولي، أو من بعض الدول الأخرى، تخضع لشروطها الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة، كما أنّ تراكم الفوائد يجعل هذه الدول المستقرضة تحت رحمة الدول المقرضة.

س: حكي عن علاقة ماليّة بين «جمعيّة المبرات الخيرية» وأعمال رجل الأعمال المفلس صلاح عزّ الدّين؟

ج: أحبّ أن أؤكّد أنّ «جمعية المبرات الخيرية» وسائر المؤسسات التابعة لها، لم ولن تدخل في أيّ عمل من هذه الأعمال المرتبطة بالقضيّة أو غيرها، لم ترتبط سابقاً، ولن ترتبط لاحقاً، لأنّ ما تملكه من مالٍ من خلال المحسنين، توظّفه في المشاريع التي تؤسّسها. ونحن الآن لدينا مشروع "المركز الإسلاميّ" في جبيل، والمجمع في بنت جبيل، ومشروع المكتبة العامة التي تؤسس إلى جانب مسجد الإمامين الحسنين، كما أنشأنا مبرّةً للأيتام في بغداد بكلفة خمسة ملايين دولار، وجُهّز المبنى الأوّل (خمسة طوابق على العظم)، فيما سيتمّ تجهيز المبنى الثاني قريباً، لإيواء الأيتام وإطعامهم. نحن لا يمكن أن نقدّم أيّ قرشٍ إلى أيّ مغامرٍ من مغامري الاقتصاد. وكلّ من يتحدث عن أن للمبرّات مشاركةً في هذه الأزمة، فإنّه لا يتكلم بكلام صحيح، بل يقول الأكاذيب والافتراءات، لأنني احرّم، بحسب ولايتي على «المبرات»، تحويل هذه الأموال، التي أغلبها أموال شرعيّة، إلى أيّ مغامرة اقتصادية.
جمعيّة المبرات الخيرية لا ترتبط بأيّ علاقات ماليّة مع صلاح عزّ الدّين، وأنا أحرّم تحويل الأموال الشرعيّة إلى أيّ مغامرة اقتصادية

س: بماذا تنصح النّاس من أصحاب الرساميل الصّغيرة أو الكبيرة؟

ج: أنصح الناس الذين يعملون على تنمية اقتصادهم، بأن يستثمروا أموالهم من خلال أعمالهم، أو بمشاركة الأشخاص الأمناء الذين يعملون معهم على تنمية المال بالطريقة التي يحصل فيها الربح المؤدي إلى نتائج اقتصادية إيجابية لمصلحة الشريكين.

وقد أثبتت الأزمة المالية العالمية فشل النّظام الرأسمالي في عدالة الاقتصاد، من حيث الإدارة التي يقودها الأشخاص الذين يسيطرون على اقتصاد العالم. لذلك، لا بدّ من إعادة النظر في النظام الاقتصادي الرأسمالي، ومحاولة الإتيان بتجربة النظام الاقتصادي الإسلامي.

س: ثمة مؤسسات تقرض الأموال للنّاس ممن يرهنون لديها ذهباً، وذلك بناءً على تقديرها لسعر الذهب، ثم تستوفي المبلغ من المستقرضين بالتّقسيط، مضافاً إليه ما تسمّيه «برسوم تخزين الذّهب والرسوم الإدارية». كيف تعلّقون على ذلك؟

ج: إذا كان الذهب المأخوذ من المقترِض رهناً على المال فلا إشكال فيه من الناحية الشرعية، وأما القسم الثاني الذي يتم بطريقة شراء الذهب من الراغب في القرض، ثم بيعه له بسعر أعلى، ثم استيفاء الثمن الأعلى منه أقساطاً، مع إبقاء الذهب رهناً ضمانة للتسديد، فهو موضع تحفّظ شرعي عندنا كباقي الحيل الشرعية للتخلّص من الربا.

أجرت الحوار: فاتن قبيسي

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 21 رمضان 1430 هـ  الموافق: 10/09/2009 م
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير