أدبية
27/07/1991

الوجه الآخر للعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (في الشِّعر والوجدان والمرأة والحياة)

الوجه الآخر للعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (في الشِّعر والوجدان والمرأة والحياة)
 

العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله؛ شخصيّة سياسيّة فقهيّة، ثقافيّة، أدبيّة، شعريّة.. من الصّعب الخوض في شموليّتها بسهولة مطلقة، فهو رجل جامع وجامعة حوار وجدال، منطق وفقه، مهادنة وقوّة. وزيادة على ذلك، هو رجل أدب وشعر من الطّراز الأوّل، وله في هذا الميدان صولات وجولات ووقفات مطبوعة، منها: "قصائد للإسلام والحياة"، رباعيات "يا ظلال الإسلام"، ومجموعة جديدة صدرت حديثاً عن دار رياض الريس عنوانها: "على شاطئ الوجدان"، وأخرى ستصدر قريباً...

تميّز وإبداع
كذلك، له نتاجات عقيديَّة ودينيَّة وحياتيَّة واجتماعيَّة وفكريَّة فلسفيَّة، ومنها: "الإسلام ومنطق القوة"، "الحوار في القرآن"، "خطوات على طريق الإسلام"، "الحركة الإسلاميّة هموم وقضايا"، "قضايانا على ضوء الإسلام"، "من أجل الإسلام"، سلسلة من وحي القرآن في دروس التفسير، سلسلة رسالة التآخي، "أسلوب الدعوة في القرآن"، "الدين بين القرآن والقانون"، سلسلة مفاهيم إسلاميَّة عامة، وغيرها من الكتب والرسالات التي تتحدّى الواقع لتسير في ركب المرحلة، وتواكب اجتهاداتها وتطوّراتها وحالاتها الحركيَّة الجاهزة.

فالسيّد كواحد من ألمع الرجالات في ميدانه، يعتبر واحداً بين قلّة في هذا الأوان، تمكّنوا من بناء فلسفة متكاملة حول الدين والمنطق والأخلاق والحرية والجدل، ولعلَّ هذه الفلسفة كفيلة وحدها بالحدّ من جموح الأخذ والردّ حيال منطق الرّجل الّذي يهدف إلى الإقناع والإرشاد والمحبّة والصّراحة والعطاء من منطلق التَّساهل ومنطق القوّة، وهو القائل فيها:

"أن تملك القوّة في الحياة.. معناه أن تكون نفسك لا غيرك، وأن تمسك بزمام الحياة في عمليّة إدارة وقيادة.. أن تعطيك الحياة طاقاتها وثرواتها لتسخّرها كما تريد، وتفجّرها كما تشاء، وتصنعها كما يروق لك.. أمّا أن تفقد القوّة فتكون ضعيفاً، تفقد القدرة على الصّراع وعلى الحركة.. فمعناه أن تكون صورة غيرك وظلّه، كمثل الشّبح الّذي يظهر ويزول، ليعود في بعض اللّمحات باهت اللّون، ضائع الملامح.. بحيث لا تشارك في الحياة إلا من بعيد، تماماً كاللَّمحة الخاطفة من الضّياء الخافت الآتي من مسافات شاسعة على خجل واستحياء من أجل أن يخترق سواد اللّيل، فلا يخدش إلا بعض حواشي الظّلال بكلّ هدوء".
يعتبر السيد واحداً بين قلّة في هذا الأوان، تمكّنوا من بناء فلسفة متكاملة حول الدّين والمنطق والحريّة

رؤية متكاملة المعالم
ذلك هو منطق الحياة المتحرّك عند العلامة، الّذي يقدّم القوّة كإحدى القيم الكبيرة الفاعلة في شمول المعنى الّذي تمثّله الكلمة، ليتّسع للحياة كلّها بما فيها من فكر وسلاح ومواقف، وذلك هو واقع الأشياء الّذي يفرض نفسه؛ ففي كلّ حالة من حالات تعاظم القوّة، كانت الحياة تتقدَّم وتنمو وتفسح في المجال لولادة طاقات جديدة ومواقف مبدعة، وكانت المبادئ تتحرَّك لتفرض نفسها على الواقع.

فهو صريح الرّؤية، واضح في معالمها وفي كلّ القضايا التي تطرحها أو تطرح عليها، بعيداً عن كلّ التحدّيات الداخليّة والخارجيّة، وهو الّذي يقول في كتاب "الإسلام ومنطق القوّة": قد يكون من غير الطّبيعيّ أن ينتظر العاملون التحديات لينطلقوا في البحث عن الحلول الإسلاميّة للمشاكل، أو التصور الإسلامي لحركة الواقع، لأنّ ذلك يفقد العاملين الثّقة بالفكرة أو بالعمل في الحالات الّتي تواجههم، وتبقى فيها الأسئلة دون جواب، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنّ البحث الّذي ينطلق من موقع الحاجة إلى مواجهة التحدّيات، لا يتحرَّك إلا في إطار القضايا التي يثيرها الآخرون، ليسير البحث في خطى تفكيرهم، فلا يعالج إلا المشاكل الّتي عالجوها من منطلقاتهم الفكريّة، لتكون الدراسة ردّاً على ما أثبتوه، ورفضاً لما قرّروه، ما يجعل الأفكار تتحرّك في داخل الأجواء الفكريّة الّتي يعيشون فيها ويتحرّكون في إطارها...

في البدء كان الحوار
تسأله في الحوار فيقول: "في البدء كان الحوار،كان الملائكة يسبّحون ويقدّسون الله في ابتهالٍ وخشوعٍ وإخلاص، ويشاء الله أن يخلق الإنسان ليكون "خليفته في الأرض"، ويعلن لهم هذه المشيئة الحاسمة، ويبدأ الحوار في سؤال عن طبيعته ودوره، وعن سلبيّاته وإيجابيّاته، ويحدّثهم الله عن ذلك كلّه فيما اختصره القرآن من القصّة.. ويختم الحوار من موقع الوقوف بهم عند حدود المعرفة الّتي يملكونها {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 30]..

وتتحرَّك الحياة في الأرض، ويخطو آدم ـ الإنسان في حركته الإنسانيَّة الّتي تنتج الإنسان الفرد من أجل أن يوجد الإنسان ـ المجتمع، ويعيش المجتمع في حاجات متضادَّة، وأفكار متباينة، ومشاعر مختلفة.. ويقف أفراده ليتقاتلوا وليتحاربوا.. كأسلوبٍ من أساليب التّعبير عن ذواتهم فيما تريد.

ويقتل قابيل هابيل، لأنَّه يريد أن يؤكِّد ذاتيّته من خلال ذلك.. فلم يكن هناك شيء آخر يستريح إليه من أجل التَّنفيس عن عقدته النّفسيَّة، فكان القتل هو الأسلوب الّذي يفهمه، فليس عنده مجال للكلمة الّتي تأخذ تارةً وتعطي أخرى، وجاء الأنبياء ليعلِّموا الإنسان طبيعة الكلمة الّتي تأخذ وتعطي، ليتعلَّم كيف يعالج مشاكله بها، وكيف يحلّ خلافاته من خلالها، لأنَّها تمثِّل النَّافذة التي يطلّ منها الإنسان على ما في داخل الآخرين، عندما تجد صداها الإيجابيّ في كلماتهم الهادئة أو الصَّاخبة.

وكان الحوار هو أسلوب الأنبياء ورسالتهم الإلهيَّة إلى الإنسان، وقد حاولوا ـ في البداية ـ أن يدخلوا الإنسان إلى مدرسة الحوار، فأثاروا أمامه القضايا الّتي تتحدَّى جهله وآفاقه الضيِّقة، ليثيروا فيه طبيعة المواجهة، حتَّى يسأل أو يحتجّ أو يشتم أو يتمرَّد أو يقذف بالحجارة أو يهدِّد بالقتل... وذاب الجليد، وبدأ الإنسان يحاور الأنبياء حواراً عنيفاً يبرّر تمرّده، ووقف الأنبياء أمامه يحاورونه حواراً يخفِّف من تمرّده، فكانت الكلمة الطيِّبة الوديعة تقابل الكلمة العنيفة الحاقدة، كانوا يريدونه أن يستمع إلى الكلمة الحلوة ليتعلَّمها، لتبقى في وعيه ويمارسها ولو بعد حين، وكانوا يدلِّلونه بتسامحهم، ليعرف كيف يتحوَّل التَّسامح إلى ممارسة عمليَّة تتجسَّد في موقف الرّسول...

وما تزال الحياة تحتضن الحوار، وترزح في الوقت نفسه تحت ثقل الأساليب العنيفة الّتي تريد أن تخنق الحوار بالجوّ الخانق الّذي تصنعه، وبالقوَّة الماديّة الغاشمة التي تحشدها.. وكان القرآن الكريم خاتمة الكتب السماويّة الّتي جاءت لتعلّم الإنسان كيف يكون الحوار طريقاً للفكر والعقيدة والعمل... (من كتاب الحوار في القرآن، للعلامة فضل الله)...

ونسأله في القضايا الإسلاميّة، فنستنتج أنّه لا يؤمن بالتوقّف الطويل أمام محطّات الفكر السابقة، لأنّ ذلك قد يجعل من المحطة ـ التي تعيش في بعض مراحل الطّريق ـ محطةً نهائيّةً يقف النّاس عندها لتموت الحركة هناك، فيتجمَّد خطّ السَّير أمام حالات الاسترخاء الّتي يرغب فيها المتعبون المجهدون، في شعورٍ بالاكتفاء يتحدَّى كلّ طموح الرّسالة.. وكلّ امتدادات المسيرة، بل هو يؤمن بالحاجة إلى الامتداد والانتقال إلى محطّات فكريّة جديدة.. من أجل التطلّع إلى الجديد في الأرض الّتي نسير عليها، وفي الأفق الّذي نعيش فيه، وفي الإنسان الّذي يتمثَّل فينا وفي الآخرين... (من كتاب قضايانا على ضوء الإسلام)..

كان السيد يؤمن بالحاجة للانتقال إلى محطّات فكريّة جديدة، من أجل التطلّع إلى الجديد في الأفق الذي نعيش فيه
 
الحوار والتَّكوين الإنسانيّ
في ضوء ذلك، يرى السيِّد أنَّ موضوع الحوار يرتبط بالتّكوين الإنسانيّ الدّاخليّ لشخصيّة الإنسان.. وهو يريد للفكر أن يتحوّل إلى خطوات عمليّة، ويريد للحوار أن يتجسّد في الإنسان المحاور الّذي يعرف كيف يصل إلى عقل الإنسان الآخر بأقرب طريق وأفضل سبيل وأسلوب.

وأنت تحاوره، تشعر بالرَّهبة والإيمان والأمان، بالخشوع والسّكينة والاطمئنان، بالقوّة والضّعف لا بالارتهان.. وفي حضرته، لا تفكِّر في أن تكون صدامياً أو مشاكساً، أو فضولياً يتطاول على مقامات أرفع كي ينال حظوة.. أبداً، فكونه رحب فسيح، وقلبه دفّاق دافئ، ومجلسه أنيس جليس، يشدّك للجلوس والاستطالة رغم ضيق المسؤول الإعلاميّ (للعلامة) الّذي لم تفارق عينه ساعة يده، وأحبّ أن يحصرنا في دوام معيّن رغم استئناس العلامة بالحوار واستمتاعه بجلساته المتتالية.

فالحوار مع السيِّد، جميل وهادئ، مفيد أثير وجامع، وقد راودتني أسئلة واستفسارات كثيرة وأنا أهمّ بالخروج من منزلنا في كليمنصو إلى منطقة حارة حريك في الضّاحية لمقابلته.. وعندما وطأت العتبة الأولى في ذلك الكون العلميّ الفقهيّ الإنسانيّ الفريد، أحسست بالانحياز إلى الرَّجل.. نعم، أنا منحازة إليه، إلى شعره وفلسفته في الحياة وفي قضايا الدّين والشّؤون الأخرى.

عندما صعدت سلالم المبنى، واستقبلتني إحدى الأخوات الجليلات بالتّرحاب والتَّفتيش الدّقيق، مع الاعتذار والاحتفاظ ـ إلى حين انتهاء المقابلة الّتي استمرَّت في جلساتها ساعات محبَّبات ـ بما تيسَّر من ساعة وخواتم وأشياء أخرى، وكلّ ذلك من أجل الاطمئنان والحيطة، والضَّرورة لها أحكامها. هذه الأمور شكَّلت لديّ ردّ فعل لا أدري دوافعه، فقط رحت أفكّر في قرارة نفسي: ألهذا الحدّ أنا خطرة؟ أم أنّ الضّرورات الأمنيّة تحتّم أخذ الحذر من كلّ شخص، حتّى من المقرّبين والمحبّين.. المهمّ أنّ راحة السيّد وحياته وأمنه على رأسنا وفوق كلّ اعتبار، ونحن ليس لنا مأخذ على أهل البيت، لأنّنا منهم ولهم...

في حضرة السيّد، لا تفكِّر في أن تكون صدامياً أو فضوليّاً يتطاول على مقامات أرفع كي ينال حظوة

في انتظار السيّد
إذاً، أنتِ في منزل العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، يعني ستكونين يا زينب وجهاً لوجه مع رجلٍ ليس ككلِّ الرّجال، فأنا أعرفه من خلال شعره وكتاباته وعلى الهاتف، وزيارة قصيرة بصحبة نسوة عديدات لأمر اجتماعيّ، وهو نسيج وحده لا يشبه أحداً ولا يشبهه أحد، وهو متفرّد في الشّعر.. نجفيّ الفكرة، ينتمي إلى الواقعيّة في عداد المذاهب الأدبيَّة، وحسب الشيخ عبد الهادي الفضلي ـ مقدّم رباعيّات "يا ظلال الإسلام" ـ فإنّه لم يحفل بالرّمز ولم يهتمّ بالأسطورة، وإنَّما نحا منحى الاجتماعيّة والوضوح، ولعلّ ذلك عائد إلى تقديره لقيمة رسالته الشعريَّة الّتي تتطلَّب أن لا يسير في غير طريق الدَّعوة، تلكم الدَّعوة الّتي تقتضي أن ينحو المنحى الاجتماعي والوضوح في العرض شكلاً ومضموناً... وهو متفرّد أيضاً في السياسة والفقه والأدب والخطاب السياسيّ والمواقف كافّة.
يستقبلك من جديد المسؤول الإعلاميّ، يشترط عليك بعض الشّروط، توافق على مضضٍ دون علم السيِّد.. تختلف معه في الرّأي، وتجلس في انتظار الرّجل، يدخل، تقف بخشوع، تسلّم، وفي السلام بركة واطمئنان، تجلس، تلتقط عدسة الزّميل المصوّر بعض الصّور، ينصرف، تبدأ بالسّلام عليكم، وتنال البركة من جديد، لتبدأ حوارك بالسؤال:

بطاقة هويّة شعريّة
ـ لنبدأ بالعلامة الشّاعر، ماذا عن بطاقة الهويّة الإنسانيّة والشعريّة؟
ـ الولادة في الهويّة الرّسميّة، لبناني من منطقة بنت جبيل، ومن بلدة عيناثا، والعائلة آل فضل الله، وهي عائلة علميّة عريقة، تمتّ بالنّسبة إلى الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وهي تتّصل في جذورها التاريخيّة بأشراف مكّة.
والأب هو السيّد عبد الرؤوف فضل الله، العالم المجتهد الّذي عاش حياته كلّها في الفقه وفي توجيه النّاس وإرشادهم، وكان شاعراً، ولكن ليس له أيّ إنتاج مطبوع..

والوالدة هي الحاجة رؤوفة بنت الحاج حسن بزّي، شقيقة المرحوم (لنّائب عي بزّي)
ولدتُ في النّجف الأشرف في العراق سنة 1354 هجريّة، والّتي توافق سنة 1935 أو1936 ميلاديّة، ودرست في طفولتي في النّجف، وتحديداً في "الكتاتيب"، ثم في مدرسة حديثة لم أقضِ فيها طويلاً، ثم انطلقت في الدّراسة الدينيّة...
اكتشفت الموهبة الشّعريّة عندي في العاشرة من عمري، وانطلقت في التّجربة الشعريّة من خلال القراءات المكثّفة المبكرة، وكانت أغلب قراءاتي للشّعر الجاهليّ، وشعر المتنبّي، والبحتري، وأبو تمام، وفي الشّعر الحديث، التقيت بمحمد مهدي الجواهري، وقرأت الأخطل الصّغير، والياس أبو شبكة، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران..
ثم بدأت أقرأ في الخمسينات للسيّاب والبياتي ونازك الملائكة، واطّلعت على كلّ حركة الشعر الحديث من خلال مجلّة الآداب.

اكتشفت الموهبة الشّعريّة عندي في عمر العاشرة، وانطلقت في التّجربة الشعريّة من خلال القراءات المبكرة

ـ كنتَ تتابع مجلّة الآداب؟
ـ لقد تابعتها منذ انطلقت خلال وجودي في العراق، ثم بعد مجيئي إلى لبنان..
ـ وبمن تأثّرت من كتّاب هذه المجلّة؟
ـ قلت إنّني تأثّرت شعريّاً بالسيّاب أكثر من غيره، لقد قدّرته بشكلٍ كبيرٍ جداً، وكنت أتابع التّجارب التي تتحرّك في معركة الشّعر الحديث عبر تجارب البياتي، ونازك الملائكة، ومحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح الدّين عبد الصّبور، ومحمد الفيتوري، وكثيرين...
ـ ومن الشّعراء المحدثين اللّبنانيّين بمن تأثّرت؟
ـ لم أتأثّر بالكثيرين منهم، ولكنّي كنت أقدّر خليل حاوي..
ـ وما يسمّى بشعراء الجنوب؟
ـ لقد قرأت تجارب متعدّدة لهم، ولكن لم أستطع أن أتوقّف عندها.
ـ والنّجف؟
ـ كانت النجف البلدة العلميّة الّتي تمثّل قاعدةً أدبيّةً وشعريّةً، وكان شعراء العراق هم شعراء النّجف، أو كانوا متأثّرين بشعراء النّجف، ومنهم محمد مهدي الجواهري، وعلي الشرقي، ومحمد رضا الشبيبي، ثم كرَّت السبّحة..
بين النّجف وجبل عامل
ـ إذاً، يمكننا القول إنَّ النَّجف كانت المنبع والأساس للشّعر والشّعراء الشيعة؟
ـ من الممكن جدّاً أن نقول ذلك، وقد كان الفقهاء الّذين يتخصَّصون في النّجف هم الّذين يقرأون شعر شعراء النَّجف، فنحن نعرف تأثير مجلَّة العرفان في كثير من حركة الأدب الشيعيّ.. ونحن نعرف أنَّ مجلَّة العرفان كانت تنشر لشعراء النَّجف وشعراء العراق المتأثّرين بالنَّجف، وشعراء عاملة المتأثّرين بالنّجف، ونستطيع أن نقول إنَّ الشّعر الشيعيّ قد يرقى في أكثر تجاربه إلى جذور نجفيّة.
ـ وهل يمكننا أن نطلق على كلّ فقيهٍ شيعيّ لقب شاعر؟
ـ ليس هذا دقيقاً، ولكنّنا نستطيع أن نعتبر أنّ هناك من فقهاء الشّيعة من كانوا شعراء من الدّرجة الأولى، كمحمد سعيد الحبوبي.
ـ وهل من علاقة بين منطقة جبل عامل في لبنان والنّجف الأشرف في العراق من الوجهة الفقهيّة؟
ـ من الطّبيعيّ أنَّ النَّجف كانت الجامعة الّتي تخصَّص فيها الكثيرون من علماء جبل عامل، ولا سيَّما في المراحل المتأخِّرة، وربّما كان علماء جبل عامل في القديم يتحرّكون بشكل واسع، فكانوا يذهبون إلى مصر وإلى إيران، وإلى أماكن أخرى، ولكنّ علماء جبل عامل في المئة سنة الأخيرة أو ما قبلها، كان تخصّصهم ينحصر في النجف، ولذلك كان للنّجف تأثيرها الكبير في هذه الحقبة من تاريخ جبل عامل الفقهيّ والأدبيّ...
كانت النَّجف الجامعة الّتي تخصَّص فيها الكثيرون من علماء جبل عامل، ولا سيَّما في المراحل المتأخِّرة

التَّجربة الشعرية الأولى
ـ ما هو تاريخ علاقتك بالشِّعر؟
ـ لقد كانت تجربتي الشّعريَّة الأولى في العاشرة من عمري، وكنت أشعر بجوٍّ شعريّ يسيطر على مشاعري، حيث كنَّا في النَّجف نتنفَّس الشِّعر، لأنَّ المناسبات الدّينيّة كانت كثيرة، وكنّا نحضرها منذ الطّفولة، ولذلك كنّا نسمع الشِّعر في المآتم وفي الأفراح وفي المناسبات الدّينيّة ولو بالطّريقة الشّعبيَّة.
ـ من خلال هذه الطّفولة المفعمة بالشِّعر والفكر، هل لك أن ترسم مناخك الفكريّ الإبداعيّ الدّينيّ العام الّذي تشكَّلت عطاءاتك في ظلّه، وبمن تأثّرت في هذا السّياق؟
ـ لقد عشت في بيئةٍ دينيّةٍ فقهيّةٍ أدبيّة يغلب عليها طابع المحافظة، وتتحكّم فيها التّقاليد، وكانت المرحلة الّتي عشتها من المراحل الّتي قد تعتبر فيها المعاصرة مشكلةً لمن يتمثَّلها في وعيه وفي نشاطه العمليّ، وحتَّى النَّشاط الثّقافيّ، ولذلك عشت حالةً فكريّةً قلقةً حائرة، بين ما كان يتحرَّك في الجوّ من الحالة التقليديّة، وما كنت أتطلَّع إليه من المعاصرة في أحاسيسها وفي تجاربها، وذلك من خلال ما كنت أقرأه من الكتابات المصريَّة، وفي مقدّمها مجلّة الرّسالة الّتي كان يصدرها أحمد حسن الزيَّات، ومجلّة الثّقافة، وكنت أطلّ على مجلّة "الكتاب" التي كان يصدرها عادل غضبان، ومجلّة "أدب الكاتب" الّتي كان يصدرها طه حسين، كما كنّا نطلّ على المجلات الّتي تصدر في لبنان، كمجلّة "الأديب" ومن بعدها "الآداب".

لذلك، كنت في نموّ حسّي الثَّقافيّ الأوَّل، أشعر بوجود تجاذب بين النَّهج الثّقافيّ الدّينيّ الّذي يتمثّل بخطّ دراستي ومجتمعي، وحتّى بالخطّ الأدبيّ المحلّيّ، وبين ما كنت أقرأه من هذه التطلّعات الثقافيّة الجديدة الّتي كانت تعبّر عن انفتاح وتوق إلى الحريّة وما إلى ذلك.. ولكنّني استطعت في مرحلةٍ مبكرةٍ من شبابي ـ وأظنّ أنَّي كنت في سنّ الخامسة عشرة أو السَّادسة عشرة ـ أن أعيش نوعاً من المزج بين هاتين الثَّقافتين وهذين المنهجين.. لم أكن حركيّاً إسلاميّاً بالمعنى التنظيمي، ولكني كنت أعيش تطلعات الحركية الإسلامية وهذا ما أتذكره الآن.

لم أكن حركيّاً إسلاميّاً بالمعنى التنظيمي، ولكني كنت أعيش تطلعات الحركية الإسلامية

ـ أمن أجل ذلك كان عندك صراع بين الحقيقة والحلم؟
ـ قد لا يكون الجوّ جوّ صراع، ولكنّه محاولة لتقريب الحلم من الحقيقة، إذا صحّ التّعبير. كنت في تلك المرحلة من حياتي ألتقي بالكثيرين ممن يعيشون الحركيّة السياسيّة المعاصرة، كالشيوعيّين والقوميّين العرب والدّيمقراطيّين في تجربة كامل التّشادرشي في العراق، ولذلك أتذكَّر نفسي عندما جئت في أوّل سفري إلى لبنان في سنة 1952، وكانت السنة التي توفّي فيها المرحوم السيّد محسن الأمين(قده)، حيث إنّني وصلت بيروت في ذلك الوقت وكان عمري يقترب من السّادسة عشرة أو السابعة عشرة، وفي ذلك الوقت، شاركت في الحفل الكبير الضّخم الّذي أقيم في أربعين السيّد محسن الأمين في بيروت، وكنت لافتاً للنّظر، لأنّني كنت ألبس العمّة في هذه السّنّ المبكرة، وقد ألقيت قصيدة في المناسبة..
ـ هل تذكر مقاطع منها؟

ـ أتذكّر بعض الأبيات الّتي تقول:

في ذمّة القدر المبيد روح تسير مع الخلود

روحٌ كما رفَّ النَّسيم أرقّ من لحن القصيد

والزّمن روح المنى لطفاً على طبع الوجود

تجري على ضوء الحياة مع القديم مع الجديد

مهلاً أبا الحسن الزّكيّ فقد ظمئنا للورود

هذا المعين وكنت ترشفنا به بجذب النّشيد

والدّين وهو عقيدة شعَّت على أفق الوجود

ومبادئ توحي لنا روح التّضامن والصّمود

عرّفتنا فيه الحياة بما حواه من البنود

وأريتنا أنّ الإخاء من الهدى بيت القصيد

فالمسلمون لبعضهم في الدّين كالصّرح المشيد

لا طائفيّة بينهم ترمي العقائد بالجحود

والدّين روح برء تحنو على كلّ العبيد

تهفو لتوحيد الصّفوف ودفع غائلة الحقوق
عا
ش الموحّد في ظلال الحقّ في أفق الخلود


القصيدة طويلة، وقد التقيت في تلك الفترة بعض النَّوادي الأدبيَّة، مثل نادي حسين مروَّة، كما التقيت ببعض الأدباء الّذين كانوا يتحرَّكون في السّاحة، وكانت لي جلساتي ولقاءاتي وندواتي مع الطّليعة الشابَّة في بنت جبيل، وكنّا نخوض حوارات حول الشيوعيَّة والبعث، كنّا مع كلّ الطليعة الشَّاعرة في بنت جبيل؛ مع موسى الزّين شرارة، وعبد اللّطيف شرارة، وإبراهيم شرارة، ومجتمع خالي المرحوم علي بزّي ومجتمع الشخصيّات في بنت جبيل الّذي كان يتحرَّك في الخطّ الحزبيّ، مثل إبراهيم نعيم بزّي.. ولا أذكر كل الأسماء.
وأيضاً، كانت هناك لقاءات مع عبد الحسين عبد الله، ومع الكثيرين الّذين يمثّلون النشاط الثقافيّ في جبل عامل. كنت أشعر في ذلك الوقت بأنّني غير بعيد عن حسّ المعاصرة، ولم أشعر بالغربة عندما انطلقت إلى جوّ لبنان الجديد الّذي كان يضجّ بالتيّارات السياسيّة والأدبيّة، بل كنت أحسّ في نفسي بأنّني أعيش في حالة طبيعيّة، بالرّغم من أنَّني كنت أقف في الجانب الإسلاميّ في مواجهة التيَّارات الأخرى.. إنّ هذا يعطيني الفكرة الآن وأنا أتذكَّر تلك المرحلة، أنّني استطعت في وقت مبكر أن أزاوج بين الحداثة والأصالة. 
 

حكاية الاستسقاء
ـ بما أننا تطرقنا إلى سيرة السيّد محسن الأمين، يقال إنّه كان يتنبّأ، ما حكاية صلاة الاستسقاء؟
ـ السيّد محسن الأمين كان عالماً مجتهداً تقيّاً منفتحاً على أكثر من موقع من مواقع الثّقافة..
ـ وماذا في قصّة الاستسقاء التي حدثت في أيّامه؟
ـ إنّ هناك عبادة دينية معروفة، وهي عبادة صلاة الاستسقاء، وذلك عندما يحلّ الجدب في منطقة من المناطق، فيخرج النّاس إلى البريّة حفاةً في حالة من الخشوع، ويصلّون صلاة الاستسقاء جماعة، ويتقدّمهم شخص معروف بالتّقوى والعلم والورع، ممن يعتقد النّاس فيه أنّ الله يستجيب دعاءه وتوسّلاته.. وكانت المرحلة الّتي انطلق فيها السيّد محسن الأمين ليصلّي صلاة الاستسقاء، هي مرحلة أجدب النّاس فيها وانقطع المطر، فصلّى بالنّاس، وما إن انتهت الصّلاة حتى هطل المطر، وقد ذكرها بعض الشّعراء في رثائه، ومنهم الشّاعر إبراهيم بزي كما أذكر.

لحظات ولادة الإلهام
ـ نعود إلى جوِّك الشّعريّ، ما هي المحطَّات الّتي تندرج فيها قصيدتك منذ اختمارها في رأسك وحتَّى خروجها إلى النّور صافيةً مغناجاً، حدّثنا عن حالة شاعر عشيّة ولادة إلهامه؟
ـ كان الشّعر في كياني حالةً جنينيّةً تختزن الكثير من ازدحام الصّور المتنوّعة في حسّي ووجداني الشّعريّ، ولكنَّها لم تكن واضحةً، حيث إنَّ القصيدة عندما تعيش حالتها الجنينيَّة، ترسم في الوجدان ملامحها التّفصيليَّة، كما لو كانت هناك خريطة للقصيدة تتابع حركتها من خلال الخطِّ الهندسيّ الّذي يربط بين أفكارها أو بين أبياتها.
الواقع أنّني كنت أعيش الحالة الشّعريّة كما لو كان هناك شيء يقهرني ويجعل مسألة الشّعر حالةً ضاغطةً لا أقوى على مقاومتها، وقد تنطلق الكلمة في البداية أو في البيت من دون أيّ تخطيط، وتأتي الأفكار..

إنّك تطلقين النّبع في البداية، ولكن ماذا يأتي جرّاء ذلك؟ إنه أمرٌ ينطلق من خلال ما يختزنه النّبع في عطائه، ولذلك كانت التّجربة الشعريّة بالنّسبة إليّ لا تحمل الكثير، من دون فرقٍ بين التّجربة الّتي قد يتمثّل الناس فيها شيئاً من العمق أو من النّضوج، أو التّجربة الّتي قد لا يتمثّل النّاس فيها ذلك، حيث قد تغلب عليها السّطحيّة أو ما إلى ذلك..

كان الشّعر في كياني حالةً جنينيّةً تختزن الكثير من ازدحام الصّور المتنوّعة في وجداني الشّعريّ
ـ ولحظة القبض على ذاتك الشّعريّة، بماذا تحسّ؟
ـ أحسّ بوجود حالة ولادة، أشعر فيها بالضّغط والقلق، والجوّ المتحرّك فيها يشبه اللانهاية، حتّى إذا استطعت أن أصل بالقصيدة إلى شاطئها الأخير، أشعر بأنّني تخفّفت من حمل ثقيل، أشعر بالرّاحة والطّمأنينة، كما لو كان هناك إنسان حبيس في قفص وانطلق.
ـ وهل المسألة كما حالة الصّلاة؟
ـ الصّلاة في منطلقاتها لدى الّذين يعيشون جوّ الصّلاة وروحانيّتها، هي حالة روحيّة يعيش الإنسان فيها بداية الاختناق في الجوّ الّذي يحيط به، ليتحرّر في الأجواء التي تنفتح على الله، وهكذا مسألة الشّعر، هي حالة صلاة في الأفق الواسع الّذي يريد الإنسان أن يعيش فيه بعيداً عن المفردات الصّغيرة التي تشدّه إلى الأرض.

تجلّيات شعريَّة
ـ نلاحظ في قصائدك تعدّد التجلّيات الشعريّة، هل تؤمن بتعدّديّة الجماليّة الإنسانيّة وسموّها؟
ـ من الطّبيعيّ أنَّ الجمال هو سرّ الحياة في عمقها، فيما تختزنه من عناصر ودقائق في تكوينها الإبداعيّ، وهو سرّ الحياة في الصّورة الّتي تتمظهر فيها كلّ تلك العناصر، والحياة فيما بين العمق والامتداد ـ فيما هو الشّكل وفيما هو المضمون ـ تتنوّع في أشكالها وألوانها وإيحاءاتها ومنطلقاتها، وبذلك، فإنّ الله خلق الحياة على أساس التنوّع، سواء في الظواهر الكونيّة الّتي تتنوّع فيها حالة الإشراق أو غير ذلك...

فنحن عندما ننطلق مع النور نعيش مع الشمس مشاعر تختلف عن المشاعر النورانية التي نعيشها مع القمر، وكذلك نعيش مع الكواكب أجواء النور البعيد البعيد، الذي يحمل إلينا في تطلّعاتنا وفي استغراقنا في الظّلام معنى الفجر، وفي ذلك نجد أنَّ حركة النّور في مظهره الجماليّ تتنوَّع في الحياة، فهناك النّور الّذي يعطي الدّفء والحرارة، وهناك النّور الّذي يعطي البرود والإحساس بالطَّمأنينة، وهناك النّور الّذي يجعل الإنسان يلاحقه لاهثاً عندما يريد أن يهرب من كلِّ أجواء الظَّلام، حتَّى لا يطبق الظَّلام على وعيه عندما يسيطر على الكون الَّذي يعيش فيه...

وهكذا، عندما نعيش الخضرة الطَّافرة في الأرض، عندما نكتشف موسم الورد أو نكتشف المواسم الأخرى في الأشجار والأغراس المتنوِّعة.. نرى هناك جماليّات تفوق العدّ والحصر، ونجد أنّنا حتّى في موسم الورد، نعيش إيحاءات جماليّة مع هذه الوردة، تختلف عن الإيحاءات الجماليّة مع تلك الوردة...

وهكذا ننطلق مع الجمالات الإنسانيّة، فلكلّ إنسان جماله؛ للرّجل جماله، وللمرأة جمالها، والجمال في الرّجل متنوّع متعدّد، وهكذا عند المرأة، وقد يختلط الجمال بالغريزة، وقد يتحرّك مع أجواء العاطفة المنفتحة على آفاق ورديّة ساحرة.

وهكذا نلاحظ المسألة عندما نطلّ على الجبال والسّهول والبحار والأنهار وعلى كلّ شيء في الحياة، حتى إنّنا عندما نحدّق في العقرب، فإنّنا نجد فيها جمالاتها الرّائعة، قد يكون جمال القبح، وقد يكون القبح حالةً معنويّةً في العقرب، وليس حالةً شكليّةً.. إنّني أعتقد أنّ مسألة القبح هي من المسائل الّتي قد لا يكون لها واقع إلا في إحساسنا، من خلال تأثّرنا ببعض نتائج هذا الشَّيء الّذي نعتبره قبيحاً، وإلا فإنّنا قد نجد نوعاً من الجمال حتَّى فيما يعانيه المشوّهون من عدم تناسب...

هذا النّوع في التشكّل والتنوّع الجماليّ في الطبيعة، لا بدّ من أن ينعكس على الحالة الوجدانيّة التي يعيشها الإنسان، باعتبار أنّ الحالة الوجدانيّة والشّعوريّة تمثّل صدى لعيش الإنسان في الطّبيعة وفي الحياة...

وفي هذا الجوّ، فإنّ من الطّبيعيّ أن لا يقف الإنسان عند موقعٍ واحد من مواقع الجمال لو اجتذبه هذا الموقع بشكل أكبر، بل أن يترك المجال للمواقع الأخرى، ولعلّنا نعرف أن الإنسان الّذي رُكّبت شخصيّته على أساس الملل من الاستمرار في تجربة واحدة من خلال ما يتحرّك به الروتين والرّتابة وما إلى ذلك، قد يظلّ في حركة تطلّع إلى الجديد.. ومعنى التطلّع إلى الجديد، أنّ الإنسان لا يستطيع أن يستمرّ في حالة جماليّة واحدة، بل لا بدّ له من أن ينفتح على جمالات أخرى تجعله يمتدّ في مشاعره وأحاسيسه ووجدانه، حتى إنّ الإنسان يحاول عندما يتجمّد في موقع واحد، في حالة جماليّة واحدة، أن يصنع من مشاعره وأحاسيسه جمالات متنوّعة للمنظر الواحد، حتّى لا يبقى مشدوداً إلى حالة جامدة في تمثّله لهذا الجمال.. وعلى هذا الأساس، فقد كنت كأيّ إنسانٍ يتطلّع إلى جمال الحياة ويتحسّسها، دون أن أقف عند موقع واحد للجمال، ولكنّني كنت أعيش الجمال كلّه عندما كنت أعيش الحياة كلّها...

كنت كأيّ إنسانٍ يتطلّع إلى جمال الحياة، ولكنّني كنت أعيش الجمال كلّه عندما أعيش الحياة كلّها

نفحات صوفيّة
ـ كيف يجمع العلامة فضل الله تلك الأفكار الصوفيّة المتجلّية في بعض قصائده، وتلك الوقفات الخارجة على بعض القانون؟
ـ أنا لا أعتقد أنّ الإنسان عندما يعيش مع الله ومع الآفاق السّابحة في أجواء النّور والخير والمحبّة الّتي يمثّلها الله في وجداننا الديني، لا أعتقد أنّه يبتعد عن أيّة حالة أخرى.
الله هو خالق الكون وكلّ ما في الكون هو مظهر لإبداعه وعظمته، لذلك فنحن حتّى عندما نتحدّث عن لذّاتنا، نتحدّث عن الله، وحتّى عندما نتحدّث عن ممارساتنا لأحاسيسنا وتطلّعاتنا في الحياة، نتحدّث عن الله، ألسنا نقرأ في القرآن الكريم عن النبيّ إبراهيم(ع) الّذي يقول عن الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشّعراء: 79 ـ 80]، فنحن عندما نأكل ونشرب نتذكَّر الله، وهكذا عندما نتألّم ونفرح ونحزن نذكر الله.
إذاً نستطيع أن نختار كلمة وحدة الوجود، لا بمعناها الفلسفيّ، ولكن بمعناها الوجداني، حيث نجد أنَّ الوجود كلَّه يتجمَّع في حضرة الله تعالى، ليعبّر كلّ موجود عن علاقته بالله وعن دلالاته الّتي تتمثَّل في حركة وجوده.
الوجود كلَّه يتجمَّع في حضرة الله، ليعبّر كلّ موجود عن علاقته به وعن دلالاته الّتي تتمثَّل في حركة وجوده
 
 
 

العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله؛ شخصيّة سياسيّة فقهيّة، ثقافيّة، أدبيّة، شعريّة.. من الصّعب الخوض في شموليّتها بسهولة مطلقة، فهو رجل جامع وجامعة حوار وجدال، منطق وفقه، مهادنة وقوّة. وزيادة على ذلك، هو رجل أدب وشعر من الطّراز الأوّل، وله في هذا الميدان صولات وجولات ووقفات مطبوعة، منها: "قصائد للإسلام والحياة"، رباعيات "يا ظلال الإسلام"، ومجموعة جديدة صدرت حديثاً عن دار رياض الريس عنوانها: "على شاطئ الوجدان"، وأخرى ستصدر قريباً...

تميّز وإبداع
كذلك، له نتاجات عقيديَّة ودينيَّة وحياتيَّة واجتماعيَّة وفكريَّة فلسفيَّة، ومنها: "الإسلام ومنطق القوة"، "الحوار في القرآن"، "خطوات على طريق الإسلام"، "الحركة الإسلاميّة هموم وقضايا"، "قضايانا على ضوء الإسلام"، "من أجل الإسلام"، سلسلة من وحي القرآن في دروس التفسير، سلسلة رسالة التآخي، "أسلوب الدعوة في القرآن"، "الدين بين القرآن والقانون"، سلسلة مفاهيم إسلاميَّة عامة، وغيرها من الكتب والرسالات التي تتحدّى الواقع لتسير في ركب المرحلة، وتواكب اجتهاداتها وتطوّراتها وحالاتها الحركيَّة الجاهزة.

فالسيّد كواحد من ألمع الرجالات في ميدانه، يعتبر واحداً بين قلّة في هذا الأوان، تمكّنوا من بناء فلسفة متكاملة حول الدين والمنطق والأخلاق والحرية والجدل، ولعلَّ هذه الفلسفة كفيلة وحدها بالحدّ من جموح الأخذ والردّ حيال منطق الرّجل الّذي يهدف إلى الإقناع والإرشاد والمحبّة والصّراحة والعطاء من منطلق التَّساهل ومنطق القوّة، وهو القائل فيها:

"أن تملك القوّة في الحياة.. معناه أن تكون نفسك لا غيرك، وأن تمسك بزمام الحياة في عمليّة إدارة وقيادة.. أن تعطيك الحياة طاقاتها وثرواتها لتسخّرها كما تريد، وتفجّرها كما تشاء، وتصنعها كما يروق لك.. أمّا أن تفقد القوّة فتكون ضعيفاً، تفقد القدرة على الصّراع وعلى الحركة.. فمعناه أن تكون صورة غيرك وظلّه، كمثل الشّبح الّذي يظهر ويزول، ليعود في بعض اللّمحات باهت اللّون، ضائع الملامح.. بحيث لا تشارك في الحياة إلا من بعيد، تماماً كاللَّمحة الخاطفة من الضّياء الخافت الآتي من مسافات شاسعة على خجل واستحياء من أجل أن يخترق سواد اللّيل، فلا يخدش إلا بعض حواشي الظّلال بكلّ هدوء".
يعتبر السيد واحداً بين قلّة في هذا الأوان، تمكّنوا من بناء فلسفة متكاملة حول الدّين والمنطق والحريّة

رؤية متكاملة المعالم
ذلك هو منطق الحياة المتحرّك عند العلامة، الّذي يقدّم القوّة كإحدى القيم الكبيرة الفاعلة في شمول المعنى الّذي تمثّله الكلمة، ليتّسع للحياة كلّها بما فيها من فكر وسلاح ومواقف، وذلك هو واقع الأشياء الّذي يفرض نفسه؛ ففي كلّ حالة من حالات تعاظم القوّة، كانت الحياة تتقدَّم وتنمو وتفسح في المجال لولادة طاقات جديدة ومواقف مبدعة، وكانت المبادئ تتحرَّك لتفرض نفسها على الواقع.

فهو صريح الرّؤية، واضح في معالمها وفي كلّ القضايا التي تطرحها أو تطرح عليها، بعيداً عن كلّ التحدّيات الداخليّة والخارجيّة، وهو الّذي يقول في كتاب "الإسلام ومنطق القوّة": قد يكون من غير الطّبيعيّ أن ينتظر العاملون التحديات لينطلقوا في البحث عن الحلول الإسلاميّة للمشاكل، أو التصور الإسلامي لحركة الواقع، لأنّ ذلك يفقد العاملين الثّقة بالفكرة أو بالعمل في الحالات الّتي تواجههم، وتبقى فيها الأسئلة دون جواب، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنّ البحث الّذي ينطلق من موقع الحاجة إلى مواجهة التحدّيات، لا يتحرَّك إلا في إطار القضايا التي يثيرها الآخرون، ليسير البحث في خطى تفكيرهم، فلا يعالج إلا المشاكل الّتي عالجوها من منطلقاتهم الفكريّة، لتكون الدراسة ردّاً على ما أثبتوه، ورفضاً لما قرّروه، ما يجعل الأفكار تتحرّك في داخل الأجواء الفكريّة الّتي يعيشون فيها ويتحرّكون في إطارها...

في البدء كان الحوار
تسأله في الحوار فيقول: "في البدء كان الحوار،كان الملائكة يسبّحون ويقدّسون الله في ابتهالٍ وخشوعٍ وإخلاص، ويشاء الله أن يخلق الإنسان ليكون "خليفته في الأرض"، ويعلن لهم هذه المشيئة الحاسمة، ويبدأ الحوار في سؤال عن طبيعته ودوره، وعن سلبيّاته وإيجابيّاته، ويحدّثهم الله عن ذلك كلّه فيما اختصره القرآن من القصّة.. ويختم الحوار من موقع الوقوف بهم عند حدود المعرفة الّتي يملكونها {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 30]..

وتتحرَّك الحياة في الأرض، ويخطو آدم ـ الإنسان في حركته الإنسانيَّة الّتي تنتج الإنسان الفرد من أجل أن يوجد الإنسان ـ المجتمع، ويعيش المجتمع في حاجات متضادَّة، وأفكار متباينة، ومشاعر مختلفة.. ويقف أفراده ليتقاتلوا وليتحاربوا.. كأسلوبٍ من أساليب التّعبير عن ذواتهم فيما تريد.

ويقتل قابيل هابيل، لأنَّه يريد أن يؤكِّد ذاتيّته من خلال ذلك.. فلم يكن هناك شيء آخر يستريح إليه من أجل التَّنفيس عن عقدته النّفسيَّة، فكان القتل هو الأسلوب الّذي يفهمه، فليس عنده مجال للكلمة الّتي تأخذ تارةً وتعطي أخرى، وجاء الأنبياء ليعلِّموا الإنسان طبيعة الكلمة الّتي تأخذ وتعطي، ليتعلَّم كيف يعالج مشاكله بها، وكيف يحلّ خلافاته من خلالها، لأنَّها تمثِّل النَّافذة التي يطلّ منها الإنسان على ما في داخل الآخرين، عندما تجد صداها الإيجابيّ في كلماتهم الهادئة أو الصَّاخبة.

وكان الحوار هو أسلوب الأنبياء ورسالتهم الإلهيَّة إلى الإنسان، وقد حاولوا ـ في البداية ـ أن يدخلوا الإنسان إلى مدرسة الحوار، فأثاروا أمامه القضايا الّتي تتحدَّى جهله وآفاقه الضيِّقة، ليثيروا فيه طبيعة المواجهة، حتَّى يسأل أو يحتجّ أو يشتم أو يتمرَّد أو يقذف بالحجارة أو يهدِّد بالقتل... وذاب الجليد، وبدأ الإنسان يحاور الأنبياء حواراً عنيفاً يبرّر تمرّده، ووقف الأنبياء أمامه يحاورونه حواراً يخفِّف من تمرّده، فكانت الكلمة الطيِّبة الوديعة تقابل الكلمة العنيفة الحاقدة، كانوا يريدونه أن يستمع إلى الكلمة الحلوة ليتعلَّمها، لتبقى في وعيه ويمارسها ولو بعد حين، وكانوا يدلِّلونه بتسامحهم، ليعرف كيف يتحوَّل التَّسامح إلى ممارسة عمليَّة تتجسَّد في موقف الرّسول...

وما تزال الحياة تحتضن الحوار، وترزح في الوقت نفسه تحت ثقل الأساليب العنيفة الّتي تريد أن تخنق الحوار بالجوّ الخانق الّذي تصنعه، وبالقوَّة الماديّة الغاشمة التي تحشدها.. وكان القرآن الكريم خاتمة الكتب السماويّة الّتي جاءت لتعلّم الإنسان كيف يكون الحوار طريقاً للفكر والعقيدة والعمل... (من كتاب الحوار في القرآن، للعلامة فضل الله)...

ونسأله في القضايا الإسلاميّة، فنستنتج أنّه لا يؤمن بالتوقّف الطويل أمام محطّات الفكر السابقة، لأنّ ذلك قد يجعل من المحطة ـ التي تعيش في بعض مراحل الطّريق ـ محطةً نهائيّةً يقف النّاس عندها لتموت الحركة هناك، فيتجمَّد خطّ السَّير أمام حالات الاسترخاء الّتي يرغب فيها المتعبون المجهدون، في شعورٍ بالاكتفاء يتحدَّى كلّ طموح الرّسالة.. وكلّ امتدادات المسيرة، بل هو يؤمن بالحاجة إلى الامتداد والانتقال إلى محطّات فكريّة جديدة.. من أجل التطلّع إلى الجديد في الأرض الّتي نسير عليها، وفي الأفق الّذي نعيش فيه، وفي الإنسان الّذي يتمثَّل فينا وفي الآخرين... (من كتاب قضايانا على ضوء الإسلام)..

كان السيد يؤمن بالحاجة للانتقال إلى محطّات فكريّة جديدة، من أجل التطلّع إلى الجديد في الأفق الذي نعيش فيه
 
الحوار والتَّكوين الإنسانيّ
في ضوء ذلك، يرى السيِّد أنَّ موضوع الحوار يرتبط بالتّكوين الإنسانيّ الدّاخليّ لشخصيّة الإنسان.. وهو يريد للفكر أن يتحوّل إلى خطوات عمليّة، ويريد للحوار أن يتجسّد في الإنسان المحاور الّذي يعرف كيف يصل إلى عقل الإنسان الآخر بأقرب طريق وأفضل سبيل وأسلوب.

وأنت تحاوره، تشعر بالرَّهبة والإيمان والأمان، بالخشوع والسّكينة والاطمئنان، بالقوّة والضّعف لا بالارتهان.. وفي حضرته، لا تفكِّر في أن تكون صدامياً أو مشاكساً، أو فضولياً يتطاول على مقامات أرفع كي ينال حظوة.. أبداً، فكونه رحب فسيح، وقلبه دفّاق دافئ، ومجلسه أنيس جليس، يشدّك للجلوس والاستطالة رغم ضيق المسؤول الإعلاميّ (للعلامة) الّذي لم تفارق عينه ساعة يده، وأحبّ أن يحصرنا في دوام معيّن رغم استئناس العلامة بالحوار واستمتاعه بجلساته المتتالية.

فالحوار مع السيِّد، جميل وهادئ، مفيد أثير وجامع، وقد راودتني أسئلة واستفسارات كثيرة وأنا أهمّ بالخروج من منزلنا في كليمنصو إلى منطقة حارة حريك في الضّاحية لمقابلته.. وعندما وطأت العتبة الأولى في ذلك الكون العلميّ الفقهيّ الإنسانيّ الفريد، أحسست بالانحياز إلى الرَّجل.. نعم، أنا منحازة إليه، إلى شعره وفلسفته في الحياة وفي قضايا الدّين والشّؤون الأخرى.

عندما صعدت سلالم المبنى، واستقبلتني إحدى الأخوات الجليلات بالتّرحاب والتَّفتيش الدّقيق، مع الاعتذار والاحتفاظ ـ إلى حين انتهاء المقابلة الّتي استمرَّت في جلساتها ساعات محبَّبات ـ بما تيسَّر من ساعة وخواتم وأشياء أخرى، وكلّ ذلك من أجل الاطمئنان والحيطة، والضَّرورة لها أحكامها. هذه الأمور شكَّلت لديّ ردّ فعل لا أدري دوافعه، فقط رحت أفكّر في قرارة نفسي: ألهذا الحدّ أنا خطرة؟ أم أنّ الضّرورات الأمنيّة تحتّم أخذ الحذر من كلّ شخص، حتّى من المقرّبين والمحبّين.. المهمّ أنّ راحة السيّد وحياته وأمنه على رأسنا وفوق كلّ اعتبار، ونحن ليس لنا مأخذ على أهل البيت، لأنّنا منهم ولهم...

في حضرة السيّد، لا تفكِّر في أن تكون صدامياً أو فضوليّاً يتطاول على مقامات أرفع كي ينال حظوة

في انتظار السيّد
إذاً، أنتِ في منزل العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، يعني ستكونين يا زينب وجهاً لوجه مع رجلٍ ليس ككلِّ الرّجال، فأنا أعرفه من خلال شعره وكتاباته وعلى الهاتف، وزيارة قصيرة بصحبة نسوة عديدات لأمر اجتماعيّ، وهو نسيج وحده لا يشبه أحداً ولا يشبهه أحد، وهو متفرّد في الشّعر.. نجفيّ الفكرة، ينتمي إلى الواقعيّة في عداد المذاهب الأدبيَّة، وحسب الشيخ عبد الهادي الفضلي ـ مقدّم رباعيّات "يا ظلال الإسلام" ـ فإنّه لم يحفل بالرّمز ولم يهتمّ بالأسطورة، وإنَّما نحا منحى الاجتماعيّة والوضوح، ولعلّ ذلك عائد إلى تقديره لقيمة رسالته الشعريَّة الّتي تتطلَّب أن لا يسير في غير طريق الدَّعوة، تلكم الدَّعوة الّتي تقتضي أن ينحو المنحى الاجتماعي والوضوح في العرض شكلاً ومضموناً... وهو متفرّد أيضاً في السياسة والفقه والأدب والخطاب السياسيّ والمواقف كافّة.
يستقبلك من جديد المسؤول الإعلاميّ، يشترط عليك بعض الشّروط، توافق على مضضٍ دون علم السيِّد.. تختلف معه في الرّأي، وتجلس في انتظار الرّجل، يدخل، تقف بخشوع، تسلّم، وفي السلام بركة واطمئنان، تجلس، تلتقط عدسة الزّميل المصوّر بعض الصّور، ينصرف، تبدأ بالسّلام عليكم، وتنال البركة من جديد، لتبدأ حوارك بالسؤال:

بطاقة هويّة شعريّة
ـ لنبدأ بالعلامة الشّاعر، ماذا عن بطاقة الهويّة الإنسانيّة والشعريّة؟
ـ الولادة في الهويّة الرّسميّة، لبناني من منطقة بنت جبيل، ومن بلدة عيناثا، والعائلة آل فضل الله، وهي عائلة علميّة عريقة، تمتّ بالنّسبة إلى الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وهي تتّصل في جذورها التاريخيّة بأشراف مكّة.
والأب هو السيّد عبد الرؤوف فضل الله، العالم المجتهد الّذي عاش حياته كلّها في الفقه وفي توجيه النّاس وإرشادهم، وكان شاعراً، ولكن ليس له أيّ إنتاج مطبوع..

والوالدة هي الحاجة رؤوفة بنت الحاج حسن بزّي، شقيقة المرحوم (لنّائب عي بزّي)
ولدتُ في النّجف الأشرف في العراق سنة 1354 هجريّة، والّتي توافق سنة 1935 أو1936 ميلاديّة، ودرست في طفولتي في النّجف، وتحديداً في "الكتاتيب"، ثم في مدرسة حديثة لم أقضِ فيها طويلاً، ثم انطلقت في الدّراسة الدينيّة...
اكتشفت الموهبة الشّعريّة عندي في العاشرة من عمري، وانطلقت في التّجربة الشعريّة من خلال القراءات المكثّفة المبكرة، وكانت أغلب قراءاتي للشّعر الجاهليّ، وشعر المتنبّي، والبحتري، وأبو تمام، وفي الشّعر الحديث، التقيت بمحمد مهدي الجواهري، وقرأت الأخطل الصّغير، والياس أبو شبكة، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران..
ثم بدأت أقرأ في الخمسينات للسيّاب والبياتي ونازك الملائكة، واطّلعت على كلّ حركة الشعر الحديث من خلال مجلّة الآداب.

اكتشفت الموهبة الشّعريّة عندي في عمر العاشرة، وانطلقت في التّجربة الشعريّة من خلال القراءات المبكرة

ـ كنتَ تتابع مجلّة الآداب؟
ـ لقد تابعتها منذ انطلقت خلال وجودي في العراق، ثم بعد مجيئي إلى لبنان..
ـ وبمن تأثّرت من كتّاب هذه المجلّة؟
ـ قلت إنّني تأثّرت شعريّاً بالسيّاب أكثر من غيره، لقد قدّرته بشكلٍ كبيرٍ جداً، وكنت أتابع التّجارب التي تتحرّك في معركة الشّعر الحديث عبر تجارب البياتي، ونازك الملائكة، ومحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح الدّين عبد الصّبور، ومحمد الفيتوري، وكثيرين...
ـ ومن الشّعراء المحدثين اللّبنانيّين بمن تأثّرت؟
ـ لم أتأثّر بالكثيرين منهم، ولكنّي كنت أقدّر خليل حاوي..
ـ وما يسمّى بشعراء الجنوب؟
ـ لقد قرأت تجارب متعدّدة لهم، ولكن لم أستطع أن أتوقّف عندها.
ـ والنّجف؟
ـ كانت النجف البلدة العلميّة الّتي تمثّل قاعدةً أدبيّةً وشعريّةً، وكان شعراء العراق هم شعراء النّجف، أو كانوا متأثّرين بشعراء النّجف، ومنهم محمد مهدي الجواهري، وعلي الشرقي، ومحمد رضا الشبيبي، ثم كرَّت السبّحة..
بين النّجف وجبل عامل
ـ إذاً، يمكننا القول إنَّ النَّجف كانت المنبع والأساس للشّعر والشّعراء الشيعة؟
ـ من الممكن جدّاً أن نقول ذلك، وقد كان الفقهاء الّذين يتخصَّصون في النّجف هم الّذين يقرأون شعر شعراء النَّجف، فنحن نعرف تأثير مجلَّة العرفان في كثير من حركة الأدب الشيعيّ.. ونحن نعرف أنَّ مجلَّة العرفان كانت تنشر لشعراء النَّجف وشعراء العراق المتأثّرين بالنَّجف، وشعراء عاملة المتأثّرين بالنّجف، ونستطيع أن نقول إنَّ الشّعر الشيعيّ قد يرقى في أكثر تجاربه إلى جذور نجفيّة.
ـ وهل يمكننا أن نطلق على كلّ فقيهٍ شيعيّ لقب شاعر؟
ـ ليس هذا دقيقاً، ولكنّنا نستطيع أن نعتبر أنّ هناك من فقهاء الشّيعة من كانوا شعراء من الدّرجة الأولى، كمحمد سعيد الحبوبي.
ـ وهل من علاقة بين منطقة جبل عامل في لبنان والنّجف الأشرف في العراق من الوجهة الفقهيّة؟
ـ من الطّبيعيّ أنَّ النَّجف كانت الجامعة الّتي تخصَّص فيها الكثيرون من علماء جبل عامل، ولا سيَّما في المراحل المتأخِّرة، وربّما كان علماء جبل عامل في القديم يتحرّكون بشكل واسع، فكانوا يذهبون إلى مصر وإلى إيران، وإلى أماكن أخرى، ولكنّ علماء جبل عامل في المئة سنة الأخيرة أو ما قبلها، كان تخصّصهم ينحصر في النجف، ولذلك كان للنّجف تأثيرها الكبير في هذه الحقبة من تاريخ جبل عامل الفقهيّ والأدبيّ...
كانت النَّجف الجامعة الّتي تخصَّص فيها الكثيرون من علماء جبل عامل، ولا سيَّما في المراحل المتأخِّرة

التَّجربة الشعرية الأولى
ـ ما هو تاريخ علاقتك بالشِّعر؟
ـ لقد كانت تجربتي الشّعريَّة الأولى في العاشرة من عمري، وكنت أشعر بجوٍّ شعريّ يسيطر على مشاعري، حيث كنَّا في النَّجف نتنفَّس الشِّعر، لأنَّ المناسبات الدّينيّة كانت كثيرة، وكنّا نحضرها منذ الطّفولة، ولذلك كنّا نسمع الشِّعر في المآتم وفي الأفراح وفي المناسبات الدّينيّة ولو بالطّريقة الشّعبيَّة.
ـ من خلال هذه الطّفولة المفعمة بالشِّعر والفكر، هل لك أن ترسم مناخك الفكريّ الإبداعيّ الدّينيّ العام الّذي تشكَّلت عطاءاتك في ظلّه، وبمن تأثّرت في هذا السّياق؟
ـ لقد عشت في بيئةٍ دينيّةٍ فقهيّةٍ أدبيّة يغلب عليها طابع المحافظة، وتتحكّم فيها التّقاليد، وكانت المرحلة الّتي عشتها من المراحل الّتي قد تعتبر فيها المعاصرة مشكلةً لمن يتمثَّلها في وعيه وفي نشاطه العمليّ، وحتَّى النَّشاط الثّقافيّ، ولذلك عشت حالةً فكريّةً قلقةً حائرة، بين ما كان يتحرَّك في الجوّ من الحالة التقليديّة، وما كنت أتطلَّع إليه من المعاصرة في أحاسيسها وفي تجاربها، وذلك من خلال ما كنت أقرأه من الكتابات المصريَّة، وفي مقدّمها مجلّة الرّسالة الّتي كان يصدرها أحمد حسن الزيَّات، ومجلّة الثّقافة، وكنت أطلّ على مجلّة "الكتاب" التي كان يصدرها عادل غضبان، ومجلّة "أدب الكاتب" الّتي كان يصدرها طه حسين، كما كنّا نطلّ على المجلات الّتي تصدر في لبنان، كمجلّة "الأديب" ومن بعدها "الآداب".

لذلك، كنت في نموّ حسّي الثَّقافيّ الأوَّل، أشعر بوجود تجاذب بين النَّهج الثّقافيّ الدّينيّ الّذي يتمثّل بخطّ دراستي ومجتمعي، وحتّى بالخطّ الأدبيّ المحلّيّ، وبين ما كنت أقرأه من هذه التطلّعات الثقافيّة الجديدة الّتي كانت تعبّر عن انفتاح وتوق إلى الحريّة وما إلى ذلك.. ولكنّني استطعت في مرحلةٍ مبكرةٍ من شبابي ـ وأظنّ أنَّي كنت في سنّ الخامسة عشرة أو السَّادسة عشرة ـ أن أعيش نوعاً من المزج بين هاتين الثَّقافتين وهذين المنهجين.. لم أكن حركيّاً إسلاميّاً بالمعنى التنظيمي، ولكني كنت أعيش تطلعات الحركية الإسلامية وهذا ما أتذكره الآن.

لم أكن حركيّاً إسلاميّاً بالمعنى التنظيمي، ولكني كنت أعيش تطلعات الحركية الإسلامية

ـ أمن أجل ذلك كان عندك صراع بين الحقيقة والحلم؟
ـ قد لا يكون الجوّ جوّ صراع، ولكنّه محاولة لتقريب الحلم من الحقيقة، إذا صحّ التّعبير. كنت في تلك المرحلة من حياتي ألتقي بالكثيرين ممن يعيشون الحركيّة السياسيّة المعاصرة، كالشيوعيّين والقوميّين العرب والدّيمقراطيّين في تجربة كامل التّشادرشي في العراق، ولذلك أتذكَّر نفسي عندما جئت في أوّل سفري إلى لبنان في سنة 1952، وكانت السنة التي توفّي فيها المرحوم السيّد محسن الأمين(قده)، حيث إنّني وصلت بيروت في ذلك الوقت وكان عمري يقترب من السّادسة عشرة أو السابعة عشرة، وفي ذلك الوقت، شاركت في الحفل الكبير الضّخم الّذي أقيم في أربعين السيّد محسن الأمين في بيروت، وكنت لافتاً للنّظر، لأنّني كنت ألبس العمّة في هذه السّنّ المبكرة، وقد ألقيت قصيدة في المناسبة..
ـ هل تذكر مقاطع منها؟

ـ أتذكّر بعض الأبيات الّتي تقول:

في ذمّة القدر المبيد روح تسير مع الخلود

روحٌ كما رفَّ النَّسيم أرقّ من لحن القصيد

والزّمن روح المنى لطفاً على طبع الوجود

تجري على ضوء الحياة مع القديم مع الجديد

مهلاً أبا الحسن الزّكيّ فقد ظمئنا للورود

هذا المعين وكنت ترشفنا به بجذب النّشيد

والدّين وهو عقيدة شعَّت على أفق الوجود

ومبادئ توحي لنا روح التّضامن والصّمود

عرّفتنا فيه الحياة بما حواه من البنود

وأريتنا أنّ الإخاء من الهدى بيت القصيد

فالمسلمون لبعضهم في الدّين كالصّرح المشيد

لا طائفيّة بينهم ترمي العقائد بالجحود

والدّين روح برء تحنو على كلّ العبيد

تهفو لتوحيد الصّفوف ودفع غائلة الحقوق
عا
ش الموحّد في ظلال الحقّ في أفق الخلود


القصيدة طويلة، وقد التقيت في تلك الفترة بعض النَّوادي الأدبيَّة، مثل نادي حسين مروَّة، كما التقيت ببعض الأدباء الّذين كانوا يتحرَّكون في السّاحة، وكانت لي جلساتي ولقاءاتي وندواتي مع الطّليعة الشابَّة في بنت جبيل، وكنّا نخوض حوارات حول الشيوعيَّة والبعث، كنّا مع كلّ الطليعة الشَّاعرة في بنت جبيل؛ مع موسى الزّين شرارة، وعبد اللّطيف شرارة، وإبراهيم شرارة، ومجتمع خالي المرحوم علي بزّي ومجتمع الشخصيّات في بنت جبيل الّذي كان يتحرَّك في الخطّ الحزبيّ، مثل إبراهيم نعيم بزّي.. ولا أذكر كل الأسماء.
وأيضاً، كانت هناك لقاءات مع عبد الحسين عبد الله، ومع الكثيرين الّذين يمثّلون النشاط الثقافيّ في جبل عامل. كنت أشعر في ذلك الوقت بأنّني غير بعيد عن حسّ المعاصرة، ولم أشعر بالغربة عندما انطلقت إلى جوّ لبنان الجديد الّذي كان يضجّ بالتيّارات السياسيّة والأدبيّة، بل كنت أحسّ في نفسي بأنّني أعيش في حالة طبيعيّة، بالرّغم من أنَّني كنت أقف في الجانب الإسلاميّ في مواجهة التيَّارات الأخرى.. إنّ هذا يعطيني الفكرة الآن وأنا أتذكَّر تلك المرحلة، أنّني استطعت في وقت مبكر أن أزاوج بين الحداثة والأصالة. 
 

حكاية الاستسقاء
ـ بما أننا تطرقنا إلى سيرة السيّد محسن الأمين، يقال إنّه كان يتنبّأ، ما حكاية صلاة الاستسقاء؟
ـ السيّد محسن الأمين كان عالماً مجتهداً تقيّاً منفتحاً على أكثر من موقع من مواقع الثّقافة..
ـ وماذا في قصّة الاستسقاء التي حدثت في أيّامه؟
ـ إنّ هناك عبادة دينية معروفة، وهي عبادة صلاة الاستسقاء، وذلك عندما يحلّ الجدب في منطقة من المناطق، فيخرج النّاس إلى البريّة حفاةً في حالة من الخشوع، ويصلّون صلاة الاستسقاء جماعة، ويتقدّمهم شخص معروف بالتّقوى والعلم والورع، ممن يعتقد النّاس فيه أنّ الله يستجيب دعاءه وتوسّلاته.. وكانت المرحلة الّتي انطلق فيها السيّد محسن الأمين ليصلّي صلاة الاستسقاء، هي مرحلة أجدب النّاس فيها وانقطع المطر، فصلّى بالنّاس، وما إن انتهت الصّلاة حتى هطل المطر، وقد ذكرها بعض الشّعراء في رثائه، ومنهم الشّاعر إبراهيم بزي كما أذكر.

لحظات ولادة الإلهام
ـ نعود إلى جوِّك الشّعريّ، ما هي المحطَّات الّتي تندرج فيها قصيدتك منذ اختمارها في رأسك وحتَّى خروجها إلى النّور صافيةً مغناجاً، حدّثنا عن حالة شاعر عشيّة ولادة إلهامه؟
ـ كان الشّعر في كياني حالةً جنينيّةً تختزن الكثير من ازدحام الصّور المتنوّعة في حسّي ووجداني الشّعريّ، ولكنَّها لم تكن واضحةً، حيث إنَّ القصيدة عندما تعيش حالتها الجنينيَّة، ترسم في الوجدان ملامحها التّفصيليَّة، كما لو كانت هناك خريطة للقصيدة تتابع حركتها من خلال الخطِّ الهندسيّ الّذي يربط بين أفكارها أو بين أبياتها.
الواقع أنّني كنت أعيش الحالة الشّعريّة كما لو كان هناك شيء يقهرني ويجعل مسألة الشّعر حالةً ضاغطةً لا أقوى على مقاومتها، وقد تنطلق الكلمة في البداية أو في البيت من دون أيّ تخطيط، وتأتي الأفكار..

إنّك تطلقين النّبع في البداية، ولكن ماذا يأتي جرّاء ذلك؟ إنه أمرٌ ينطلق من خلال ما يختزنه النّبع في عطائه، ولذلك كانت التّجربة الشعريّة بالنّسبة إليّ لا تحمل الكثير، من دون فرقٍ بين التّجربة الّتي قد يتمثّل الناس فيها شيئاً من العمق أو من النّضوج، أو التّجربة الّتي قد لا يتمثّل النّاس فيها ذلك، حيث قد تغلب عليها السّطحيّة أو ما إلى ذلك..

كان الشّعر في كياني حالةً جنينيّةً تختزن الكثير من ازدحام الصّور المتنوّعة في وجداني الشّعريّ
ـ ولحظة القبض على ذاتك الشّعريّة، بماذا تحسّ؟
ـ أحسّ بوجود حالة ولادة، أشعر فيها بالضّغط والقلق، والجوّ المتحرّك فيها يشبه اللانهاية، حتّى إذا استطعت أن أصل بالقصيدة إلى شاطئها الأخير، أشعر بأنّني تخفّفت من حمل ثقيل، أشعر بالرّاحة والطّمأنينة، كما لو كان هناك إنسان حبيس في قفص وانطلق.
ـ وهل المسألة كما حالة الصّلاة؟
ـ الصّلاة في منطلقاتها لدى الّذين يعيشون جوّ الصّلاة وروحانيّتها، هي حالة روحيّة يعيش الإنسان فيها بداية الاختناق في الجوّ الّذي يحيط به، ليتحرّر في الأجواء التي تنفتح على الله، وهكذا مسألة الشّعر، هي حالة صلاة في الأفق الواسع الّذي يريد الإنسان أن يعيش فيه بعيداً عن المفردات الصّغيرة التي تشدّه إلى الأرض.

تجلّيات شعريَّة
ـ نلاحظ في قصائدك تعدّد التجلّيات الشعريّة، هل تؤمن بتعدّديّة الجماليّة الإنسانيّة وسموّها؟
ـ من الطّبيعيّ أنَّ الجمال هو سرّ الحياة في عمقها، فيما تختزنه من عناصر ودقائق في تكوينها الإبداعيّ، وهو سرّ الحياة في الصّورة الّتي تتمظهر فيها كلّ تلك العناصر، والحياة فيما بين العمق والامتداد ـ فيما هو الشّكل وفيما هو المضمون ـ تتنوّع في أشكالها وألوانها وإيحاءاتها ومنطلقاتها، وبذلك، فإنّ الله خلق الحياة على أساس التنوّع، سواء في الظواهر الكونيّة الّتي تتنوّع فيها حالة الإشراق أو غير ذلك...

فنحن عندما ننطلق مع النور نعيش مع الشمس مشاعر تختلف عن المشاعر النورانية التي نعيشها مع القمر، وكذلك نعيش مع الكواكب أجواء النور البعيد البعيد، الذي يحمل إلينا في تطلّعاتنا وفي استغراقنا في الظّلام معنى الفجر، وفي ذلك نجد أنَّ حركة النّور في مظهره الجماليّ تتنوَّع في الحياة، فهناك النّور الّذي يعطي الدّفء والحرارة، وهناك النّور الّذي يعطي البرود والإحساس بالطَّمأنينة، وهناك النّور الّذي يجعل الإنسان يلاحقه لاهثاً عندما يريد أن يهرب من كلِّ أجواء الظَّلام، حتَّى لا يطبق الظَّلام على وعيه عندما يسيطر على الكون الَّذي يعيش فيه...

وهكذا، عندما نعيش الخضرة الطَّافرة في الأرض، عندما نكتشف موسم الورد أو نكتشف المواسم الأخرى في الأشجار والأغراس المتنوِّعة.. نرى هناك جماليّات تفوق العدّ والحصر، ونجد أنّنا حتّى في موسم الورد، نعيش إيحاءات جماليّة مع هذه الوردة، تختلف عن الإيحاءات الجماليّة مع تلك الوردة...

وهكذا ننطلق مع الجمالات الإنسانيّة، فلكلّ إنسان جماله؛ للرّجل جماله، وللمرأة جمالها، والجمال في الرّجل متنوّع متعدّد، وهكذا عند المرأة، وقد يختلط الجمال بالغريزة، وقد يتحرّك مع أجواء العاطفة المنفتحة على آفاق ورديّة ساحرة.

وهكذا نلاحظ المسألة عندما نطلّ على الجبال والسّهول والبحار والأنهار وعلى كلّ شيء في الحياة، حتى إنّنا عندما نحدّق في العقرب، فإنّنا نجد فيها جمالاتها الرّائعة، قد يكون جمال القبح، وقد يكون القبح حالةً معنويّةً في العقرب، وليس حالةً شكليّةً.. إنّني أعتقد أنّ مسألة القبح هي من المسائل الّتي قد لا يكون لها واقع إلا في إحساسنا، من خلال تأثّرنا ببعض نتائج هذا الشَّيء الّذي نعتبره قبيحاً، وإلا فإنّنا قد نجد نوعاً من الجمال حتَّى فيما يعانيه المشوّهون من عدم تناسب...

هذا النّوع في التشكّل والتنوّع الجماليّ في الطبيعة، لا بدّ من أن ينعكس على الحالة الوجدانيّة التي يعيشها الإنسان، باعتبار أنّ الحالة الوجدانيّة والشّعوريّة تمثّل صدى لعيش الإنسان في الطّبيعة وفي الحياة...

وفي هذا الجوّ، فإنّ من الطّبيعيّ أن لا يقف الإنسان عند موقعٍ واحد من مواقع الجمال لو اجتذبه هذا الموقع بشكل أكبر، بل أن يترك المجال للمواقع الأخرى، ولعلّنا نعرف أن الإنسان الّذي رُكّبت شخصيّته على أساس الملل من الاستمرار في تجربة واحدة من خلال ما يتحرّك به الروتين والرّتابة وما إلى ذلك، قد يظلّ في حركة تطلّع إلى الجديد.. ومعنى التطلّع إلى الجديد، أنّ الإنسان لا يستطيع أن يستمرّ في حالة جماليّة واحدة، بل لا بدّ له من أن ينفتح على جمالات أخرى تجعله يمتدّ في مشاعره وأحاسيسه ووجدانه، حتى إنّ الإنسان يحاول عندما يتجمّد في موقع واحد، في حالة جماليّة واحدة، أن يصنع من مشاعره وأحاسيسه جمالات متنوّعة للمنظر الواحد، حتّى لا يبقى مشدوداً إلى حالة جامدة في تمثّله لهذا الجمال.. وعلى هذا الأساس، فقد كنت كأيّ إنسانٍ يتطلّع إلى جمال الحياة ويتحسّسها، دون أن أقف عند موقع واحد للجمال، ولكنّني كنت أعيش الجمال كلّه عندما كنت أعيش الحياة كلّها...

كنت كأيّ إنسانٍ يتطلّع إلى جمال الحياة، ولكنّني كنت أعيش الجمال كلّه عندما أعيش الحياة كلّها

نفحات صوفيّة
ـ كيف يجمع العلامة فضل الله تلك الأفكار الصوفيّة المتجلّية في بعض قصائده، وتلك الوقفات الخارجة على بعض القانون؟
ـ أنا لا أعتقد أنّ الإنسان عندما يعيش مع الله ومع الآفاق السّابحة في أجواء النّور والخير والمحبّة الّتي يمثّلها الله في وجداننا الديني، لا أعتقد أنّه يبتعد عن أيّة حالة أخرى.
الله هو خالق الكون وكلّ ما في الكون هو مظهر لإبداعه وعظمته، لذلك فنحن حتّى عندما نتحدّث عن لذّاتنا، نتحدّث عن الله، وحتّى عندما نتحدّث عن ممارساتنا لأحاسيسنا وتطلّعاتنا في الحياة، نتحدّث عن الله، ألسنا نقرأ في القرآن الكريم عن النبيّ إبراهيم(ع) الّذي يقول عن الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشّعراء: 79 ـ 80]، فنحن عندما نأكل ونشرب نتذكَّر الله، وهكذا عندما نتألّم ونفرح ونحزن نذكر الله.
إذاً نستطيع أن نختار كلمة وحدة الوجود، لا بمعناها الفلسفيّ، ولكن بمعناها الوجداني، حيث نجد أنَّ الوجود كلَّه يتجمَّع في حضرة الله تعالى، ليعبّر كلّ موجود عن علاقته بالله وعن دلالاته الّتي تتمثَّل في حركة وجوده.
الوجود كلَّه يتجمَّع في حضرة الله، ليعبّر كلّ موجود عن علاقته به وعن دلالاته الّتي تتمثَّل في حركة وجوده
 
 
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير