أدبية
18/01/1990

الشِّعر مثل الماء والهواء لا نستطيع أن نعلِّبه.

الشِّعر مثل الماء والهواء لا نستطيع أن نعلِّبه.
يقول الشَّاعر السيِّد محمد حسين فضل الله، إنَّ الشّعر العربيّ في تجاربه الأخيرة، ابتعد عن أن يكون شعراً عربيّاً يعبّر عن الإنسان العربي أو يخدمه، لأنّه تحوّل إلى شعر نخبة يتحدّث أفرادها بعضهم مع بعض بلغة خاصّة.
قول الشَّاعر السيِّد محمد حسين فضل الله، إنَّ الشّعر العربيّ في تجاربه الأخيرة، ابتعد عن أن يكون شعراً عربيّاً يعبّر عن الإنسان العربي أو يخدمه، لأنّه تحوّل إلى شعر نخبة يتحدّث أفرادها بعضهم مع بعض بلغة خاصّة.
وفي مقابلةٍ أجرتها معه وكالة رويتر، قال العلامة فضل الله: "في تصوّري، إنّ الشّعر العربيّ في التّجارب الشعريّة الأخيرة، ابتعد عن أن يكون شعراً عربيّاً. أنا لا أتوقّف عند المصطلحات، حتّى لا يقال إنَّ المصطلحات تتطوّر كما هو الإنسان يتطوّر".
وأضاف: "إنّ كثيراً من الشّعراء العرب اّلذين يملكون عمق الإحساس وعمق الفكرة وروعة اللّفتة الفنيّة والإيحائيَّة، لا تشعر بأنَّهم يجسّدون إنساننا، إنَّهم يقرأون تجارب الآخرين. وفي تصوّري، إنّ هذا الشّعر ليس شعراً عربيّاً في ما يعبّر عن الإنسان العربيّ، كما أنّه لا يستطيع أن يخدم هذا الإنسان، لأنَّه أصبح شعر النّخبة الّتي تعيش في أبراج عاجيّة عالية ومسوّرة.. لذلك أصبحت النّخبة تتحدّث مع بعضها البعض كما لو كانت لها لغة خاصّة"..
الشّعر العربيّ في تجاربه الأخيرة، ابتعد عن أن يكون شعراً عربيّاً يعبّر عن الإنسان العربي أو يخدمه، لأنَّه تحوّل إلى شعر نخبة...

شعر النّخبة
ويعبِّر السيِّد فضل الله بأنَّه ليس ضدَّ النّخبة، ولكن "بشرط ألا تعيش العقليَّة النّخبويَّة، النّخبة يمكن أن تمثِّل مستوى فكر، لكن عليها أن تعيش الذّهنيَّة الإنسانيَّة الّتي تستطيع أن تتحرَّك مع الإنسان لتفهمه وتأخذ منه وتعطي".
ويجيب عمّا يمكن أن يكون الردّ على رأيٍ كهذا، فيقول: "على هذا الأساس، يمكن أن يقول الشّعراء المحدثون إنَّنا من جيلٍ اعتادت أذنه موسيقى معيَّنة للشّعر، أو من جيلٍ اعتادت ذهنيَّته أسلوباً معيّناً من الفنّ، وأنّ لكلّ جيل لغته"...
"ولكنّي أيضاً أستطيع أن أتحدَّث عن مجموعةٍ من الجيل الجديد؛ جيل أولادنا الّذي يعيش تطوّر الموسيقى واللَّفتة الفنيَّة، ومع ذلك، لا يهزّه هذا الشّعر".
أضاف "لا أريد أن أتكلّم بالمطلق، فهناك تجارب شعريّة حديثة جيّدة ناجحة، لكن يبدو أنّ هناك ذهنيّةً أصبحت تقول إنّك بمقدار ما تكون معقّداً أكثر، تكون مبدعاً أكثر".
وقال السيّد فضل الله: "مثلاً، عندما أقرأ بدر شاكر السيّاب، وحتّى صلاح عبد الصّبور ومحمد الفيتوري وآخرين من هذا التيّار، أحسّ بعمق التجربة الفنيّة وبامتدادها، لكن عندما أقرأ عبد الوهاب البياتي الّذي تكتب عنه الكتب والمقالات الكثيرة، لا أستطيع أن أهتزّ أو أنفعل أو أشعر بأية حالة تغيير في نفسي".
هناك ذهنيّةً أصبحت تقول إنّك بمقدار ما تكون معقّداً أكثر، تكون مبدعاً أكثر...

ترحيب وارتياح
في طريقك إلى منزل العلامة فضل الله، الّذي لا يكاد يمرّ يوم واحد في عالم السياسة في لبنان والمنطقة دون تصريحٍ له أو مقابلة معه صحفيّاً أو إذاعيّاً أو تلفزيونيّاً، تتساءل في نفسك: كيف ستكون المقابلة معه في موضوع بعيد عن الأحداث السياسيّة كلّ البعد، وقد تكون الأحداث اليوميّة أبعدته عنه؟!.
تصل إلى المنزل، حرّاس وترتيبات أمنيّة مشدّدة ومريدون وزوّار، تدخل إلى قاعة الانتظار، ومنها إلى مكان الاجتماع، وتجلس وقد هيّأْتَ آلة التّسجيل والأوراق.
يدخل العلامة فضل الله، وبعد التّرحيب والسّلام، تبدأ المقابلة، ويأتيك الردّ على التّساؤل الّذي دار في نفسك وأنت في الطّريق.
تسأل، فيجيبك في فيض ويسر وبشر، ويبعد عنك أيّ شعور بالحرج يلحظ أنّه انتابك، يتكلّم بارتياح وعيناه تتألّقان بحبور.
شعورك وشعور زميلك واحد، وهو أنّه قليلاً ما يكون على هذا الارتياح في المقابلات السياسيّة.. في طريق عودتك، تتساءل: أين هو عالم السيّد محمد حسين فضل الله الفعليّ؛ الشّعر أو السياسة أو الاثنان معاً.
ولد السيّد محمد حسين فضل الله حوالى سنة 1936م في النّجف الأشرف في العراق، حيث كان والده أستاذاً في الحوزة العلميّة، وكانت دراسته وشبابه في أغلبهما هناك. وهو من عائلة مسلمة شيعيّة، من بلدة عيناثا قضاء بنت جبيل في الجنوب اللّبناني.

مع البدايات في النّجف
للسيّد فضل الله مؤلّفات عديدة، بينها ديوانان شعريّان مطبوعان، هما "قصائد للإسلام والحياة"، و"رباعيّات يا ظلال الإسلام"، وله مجموعة تصدر قريباً عن دار رياض نجيب الرّيّس في لندن.
تسأله عمَّا إذا كانت دراسته الدّينيَّة تقليداً أو اختياراً، فيجيب بأنّه يمكن وصفها بالتّقليد العائليّ، لأنّ عائلته دينيَّة، وقد بدأ الدّرس في الحوزة العلميّة وعمره 12 سنة...
يتحدَّث عن الجوّ المنفتح في النَّجف، فيقول: "بدأت أنظم الشّعر بشكلٍ عفويّ وعمري عشر سنوات.. جوّ النّجف هو جوّ شاعريّ، النّجف تعتبر من البلدان الّتي يتزاوج فيها الأدب مع الفقه، وقد خرّجت شعراء كباراً، مثل محمد سعيد الحبوبي ومحمد مهدي الجواهري".
هذا الانفتاح الّذي أشار إليه، إلى جانب ضيق الجوّ، لربّما أدّيا إلى ما أسماه "المراهقة التّشاؤميّة".

سمات رومنطيقيّة
"المراهقة التّشاؤميَّة" الّتي يتحدَّث عنها السيِّد فضل الله، قد تكون تعبيراً آخر عن السّمات الرّومانطيقيّة الّتي برزت في عددٍ من قصائده في فترةٍ مبكرةٍ، شأنه في ذلك شأن كثير من الشّعراء، ورد بعض هذا في ديوان "قصائد للإسلام والحياة" المطبوع سنة 1984، والّذي يتضمَّن أعمالاً يعود بعضها إلى منتصف الخمسينات.
وقد وصف محتوياته في المقدِّمة بقوله إنَّه ربَّما كان فيها بعض ما لم يعد يمثّل اتّجاهاته الفكريّة ومشاعره الحاليّة.
من هذه السّمات الرّومانطيقيَّة المعروفة، الشّعور بالحزن والغربة والوحدة والبعد عن المجتمع، لكنّها في غالبها تحافظ على توجّهها إلى الله ومخاطبته.
ومن ذلك قوله: "أنا هنا يا ربّ خلقتني.. وحدي في الأرض فلم أتَّق".
وقال السيِّد فضل الله، إنَّه بعد تلك الفترة، "صارت الاهتمامات أقرب إلى التّفاؤل أو أقرب إلى الجديَّة".
أنا لا أحسّ بوجود انفصالٍ من ناحية فنيَّة بين ما أنا وبين الرّسالة...
وحتّى بعد حوالى 20 سنة، كما في قصيدة "في رحاب الفضاء" الّتي نظمها خلال رحلة في الطّائرة سنة 1978، تبقى هذه السّمات بارزةً، وإن "تلبَّست" أفكاراً صوفيّة عن النّفس:
"يا صفاء السَّماء يا زرقة الصّحو أمام المجاهل البيضاء
ضمّني في بحريّة النّور إنّي سابح في بحيرةٍ من دماء...
إنّني ها هنا يعربد فيَّ اليأس والحزن في الخطى العمياء...
يا صفاء الحياة يا حلم الرّوح.. الّتي غطّيت بألف غطاء...
وأثار العجاج بالرَّمل عينيها.. فتاهت في مهمّة الصّحراء...
أنا حسبي الصّفاء يا ربّ أنّي.. أهرق النّفس في كؤوس الصّفاء"..
وردّاً على ما قلناه من أنّ شعر السيّد فضل الله "ملتزم" إلى حدٍّ بعيد، وأنّ ذلك يجعل نتاجه الفنّيّ "مظلوماً" أحياناً، حيث تتدخّل الغاية الإصلاحيّة لتقطع مدى المعاناة النفسيّة وتضعها في "الخطّ الإصلاحيّ" المطلوب، قال: "من الممكن ألا يكون هذا الشَّيء متكلّفاً.. عندما تعيش أجواء "الرِّسالة"، فإنَّك لا تستطيع أن تبتعد عن نفسك، إنَّني لا أحسّ بوجود انفصالٍ من ناحية فنيَّة بين ما أنا وبين الرّسالة".

صورة خاطئة
وعن الصّورة الشَّائعة عن رجال الدِّين يقول: "قد تكون التَّجربة التَّاريخيَّة مع ما يسمَّى برجال الدّين، تركت آثاراً مثقلة، منها أنّ لرجال الدّين لغةً لا يعيشون فيها إحساسهم بالمعنى، وإنَّما يتحدّثون تقليديّاً، كما يلبسون تقليديّاً، وكما يمارسون الطّقوس تقليديّاً".
وتابع: "لقد أصبحت الفكرة الشّائعة، أنَّ رجل الدّين ينبغي أن يكون مجرّد قمّة روحيَّة يتطلّع إليها النّاس، لتعطيهم الخدر والرّاحة والطّمأنينة، لكن ليس من حقّه أن يكون عنده فكر، ليس من حقّه أن يعبّر عن إحساسه، من حقّه أن يعطي النّاس أجواء خياليّة حالمة ضبابيّة غيبيّة، ولكن ليس له الحقّ في أن يتحرّك في الواقع".
وأضاف: "هناك نوع من أنواع الاعتداء الوحشيّ على إنسانيَّة الإنسان في رجل الدّين، وهذا ربَّما هيّأ ذهنيّةً معيّنةً أصبحت تتنكّر لرجل الدّين الذي يعيش إنسانيّته".

لختام: قصيدة عموديّة
ختاماً، يتلو السيّد فضل الله بعض نتاجه الشعريّ الأخير، وهي قصيدة عموديّة غنائيّة، تؤكِّد مرّةً أخرى تشديده على الموسيقى في الشّعر...

 أنا يا ليلاي ما زلت أغنّي للضّحى حبّي.. وللإشراق فنّي
  وحياتي فكرةٌ.. لم تكتمل في حنايا روحها وحي المغنّي
  هبطت للأرض عذراء المنى ترشف الأطياف في أطهر دنّ
شاقها النّور فطارت نحوه بجناحٍ من هواها مطمئنّ
وتخطّتْ حجب الغيب.. فلم تسرح إلا على أروع لحن
وحنتْ تحتضن الحبّ ـ على صبوات الحسن.. في جنّة عدن
وستبقى في صعود.. كلّما عاقها درب.. تخطّته بأمن
أنا يا ليلاي مهما يعتصر من دمائي اللّيل في عسف التجنّي
فدمي فيثارةٌ تعزف لي أغنيات النّور في فجر التمنّي
وأنا ـ عبر المدى ـ ما ضرّني أنّني وحدي أحيا وأغنّي
أزرع النّشوة في دنيا غدي وأثير النّور في أطياف جفني
وأناجيك وحولي جنّةٌ من رؤى فنٍّ.. ومن أطياب حسن
فأنا أخلق وحدي جنّتي فأرى اللّذّة في أعماق حزني
فتعالي نقطع العمر معاً بين لهوٍ.. وعذاب وتغنّي
فهوانا لم يعد أسطورةً في خيالٍ.. يبدع النّجوى وظنّ
إنّه كونٌ رحيبٌ يغدق الخصب نعماه على الرّوض الأغنّ
فتعالي.. نبذل الحبّ فما العمر.. إن لم يهدم الحبّ ويبني
غاية العمر حياةٌ ينتشي في حناياها الضّحى منكِ ومنّي
 
يقول الشَّاعر السيِّد محمد حسين فضل الله، إنَّ الشّعر العربيّ في تجاربه الأخيرة، ابتعد عن أن يكون شعراً عربيّاً يعبّر عن الإنسان العربي أو يخدمه، لأنّه تحوّل إلى شعر نخبة يتحدّث أفرادها بعضهم مع بعض بلغة خاصّة.
قول الشَّاعر السيِّد محمد حسين فضل الله، إنَّ الشّعر العربيّ في تجاربه الأخيرة، ابتعد عن أن يكون شعراً عربيّاً يعبّر عن الإنسان العربي أو يخدمه، لأنّه تحوّل إلى شعر نخبة يتحدّث أفرادها بعضهم مع بعض بلغة خاصّة.
وفي مقابلةٍ أجرتها معه وكالة رويتر، قال العلامة فضل الله: "في تصوّري، إنّ الشّعر العربيّ في التّجارب الشعريّة الأخيرة، ابتعد عن أن يكون شعراً عربيّاً. أنا لا أتوقّف عند المصطلحات، حتّى لا يقال إنَّ المصطلحات تتطوّر كما هو الإنسان يتطوّر".
وأضاف: "إنّ كثيراً من الشّعراء العرب اّلذين يملكون عمق الإحساس وعمق الفكرة وروعة اللّفتة الفنيّة والإيحائيَّة، لا تشعر بأنَّهم يجسّدون إنساننا، إنَّهم يقرأون تجارب الآخرين. وفي تصوّري، إنّ هذا الشّعر ليس شعراً عربيّاً في ما يعبّر عن الإنسان العربيّ، كما أنّه لا يستطيع أن يخدم هذا الإنسان، لأنَّه أصبح شعر النّخبة الّتي تعيش في أبراج عاجيّة عالية ومسوّرة.. لذلك أصبحت النّخبة تتحدّث مع بعضها البعض كما لو كانت لها لغة خاصّة"..
الشّعر العربيّ في تجاربه الأخيرة، ابتعد عن أن يكون شعراً عربيّاً يعبّر عن الإنسان العربي أو يخدمه، لأنَّه تحوّل إلى شعر نخبة...

شعر النّخبة
ويعبِّر السيِّد فضل الله بأنَّه ليس ضدَّ النّخبة، ولكن "بشرط ألا تعيش العقليَّة النّخبويَّة، النّخبة يمكن أن تمثِّل مستوى فكر، لكن عليها أن تعيش الذّهنيَّة الإنسانيَّة الّتي تستطيع أن تتحرَّك مع الإنسان لتفهمه وتأخذ منه وتعطي".
ويجيب عمّا يمكن أن يكون الردّ على رأيٍ كهذا، فيقول: "على هذا الأساس، يمكن أن يقول الشّعراء المحدثون إنَّنا من جيلٍ اعتادت أذنه موسيقى معيَّنة للشّعر، أو من جيلٍ اعتادت ذهنيَّته أسلوباً معيّناً من الفنّ، وأنّ لكلّ جيل لغته"...
"ولكنّي أيضاً أستطيع أن أتحدَّث عن مجموعةٍ من الجيل الجديد؛ جيل أولادنا الّذي يعيش تطوّر الموسيقى واللَّفتة الفنيَّة، ومع ذلك، لا يهزّه هذا الشّعر".
أضاف "لا أريد أن أتكلّم بالمطلق، فهناك تجارب شعريّة حديثة جيّدة ناجحة، لكن يبدو أنّ هناك ذهنيّةً أصبحت تقول إنّك بمقدار ما تكون معقّداً أكثر، تكون مبدعاً أكثر".
وقال السيّد فضل الله: "مثلاً، عندما أقرأ بدر شاكر السيّاب، وحتّى صلاح عبد الصّبور ومحمد الفيتوري وآخرين من هذا التيّار، أحسّ بعمق التجربة الفنيّة وبامتدادها، لكن عندما أقرأ عبد الوهاب البياتي الّذي تكتب عنه الكتب والمقالات الكثيرة، لا أستطيع أن أهتزّ أو أنفعل أو أشعر بأية حالة تغيير في نفسي".
هناك ذهنيّةً أصبحت تقول إنّك بمقدار ما تكون معقّداً أكثر، تكون مبدعاً أكثر...

ترحيب وارتياح
في طريقك إلى منزل العلامة فضل الله، الّذي لا يكاد يمرّ يوم واحد في عالم السياسة في لبنان والمنطقة دون تصريحٍ له أو مقابلة معه صحفيّاً أو إذاعيّاً أو تلفزيونيّاً، تتساءل في نفسك: كيف ستكون المقابلة معه في موضوع بعيد عن الأحداث السياسيّة كلّ البعد، وقد تكون الأحداث اليوميّة أبعدته عنه؟!.
تصل إلى المنزل، حرّاس وترتيبات أمنيّة مشدّدة ومريدون وزوّار، تدخل إلى قاعة الانتظار، ومنها إلى مكان الاجتماع، وتجلس وقد هيّأْتَ آلة التّسجيل والأوراق.
يدخل العلامة فضل الله، وبعد التّرحيب والسّلام، تبدأ المقابلة، ويأتيك الردّ على التّساؤل الّذي دار في نفسك وأنت في الطّريق.
تسأل، فيجيبك في فيض ويسر وبشر، ويبعد عنك أيّ شعور بالحرج يلحظ أنّه انتابك، يتكلّم بارتياح وعيناه تتألّقان بحبور.
شعورك وشعور زميلك واحد، وهو أنّه قليلاً ما يكون على هذا الارتياح في المقابلات السياسيّة.. في طريق عودتك، تتساءل: أين هو عالم السيّد محمد حسين فضل الله الفعليّ؛ الشّعر أو السياسة أو الاثنان معاً.
ولد السيّد محمد حسين فضل الله حوالى سنة 1936م في النّجف الأشرف في العراق، حيث كان والده أستاذاً في الحوزة العلميّة، وكانت دراسته وشبابه في أغلبهما هناك. وهو من عائلة مسلمة شيعيّة، من بلدة عيناثا قضاء بنت جبيل في الجنوب اللّبناني.

مع البدايات في النّجف
للسيّد فضل الله مؤلّفات عديدة، بينها ديوانان شعريّان مطبوعان، هما "قصائد للإسلام والحياة"، و"رباعيّات يا ظلال الإسلام"، وله مجموعة تصدر قريباً عن دار رياض نجيب الرّيّس في لندن.
تسأله عمَّا إذا كانت دراسته الدّينيَّة تقليداً أو اختياراً، فيجيب بأنّه يمكن وصفها بالتّقليد العائليّ، لأنّ عائلته دينيَّة، وقد بدأ الدّرس في الحوزة العلميّة وعمره 12 سنة...
يتحدَّث عن الجوّ المنفتح في النَّجف، فيقول: "بدأت أنظم الشّعر بشكلٍ عفويّ وعمري عشر سنوات.. جوّ النّجف هو جوّ شاعريّ، النّجف تعتبر من البلدان الّتي يتزاوج فيها الأدب مع الفقه، وقد خرّجت شعراء كباراً، مثل محمد سعيد الحبوبي ومحمد مهدي الجواهري".
هذا الانفتاح الّذي أشار إليه، إلى جانب ضيق الجوّ، لربّما أدّيا إلى ما أسماه "المراهقة التّشاؤميّة".

سمات رومنطيقيّة
"المراهقة التّشاؤميَّة" الّتي يتحدَّث عنها السيِّد فضل الله، قد تكون تعبيراً آخر عن السّمات الرّومانطيقيّة الّتي برزت في عددٍ من قصائده في فترةٍ مبكرةٍ، شأنه في ذلك شأن كثير من الشّعراء، ورد بعض هذا في ديوان "قصائد للإسلام والحياة" المطبوع سنة 1984، والّذي يتضمَّن أعمالاً يعود بعضها إلى منتصف الخمسينات.
وقد وصف محتوياته في المقدِّمة بقوله إنَّه ربَّما كان فيها بعض ما لم يعد يمثّل اتّجاهاته الفكريّة ومشاعره الحاليّة.
من هذه السّمات الرّومانطيقيَّة المعروفة، الشّعور بالحزن والغربة والوحدة والبعد عن المجتمع، لكنّها في غالبها تحافظ على توجّهها إلى الله ومخاطبته.
ومن ذلك قوله: "أنا هنا يا ربّ خلقتني.. وحدي في الأرض فلم أتَّق".
وقال السيِّد فضل الله، إنَّه بعد تلك الفترة، "صارت الاهتمامات أقرب إلى التّفاؤل أو أقرب إلى الجديَّة".
أنا لا أحسّ بوجود انفصالٍ من ناحية فنيَّة بين ما أنا وبين الرّسالة...
وحتّى بعد حوالى 20 سنة، كما في قصيدة "في رحاب الفضاء" الّتي نظمها خلال رحلة في الطّائرة سنة 1978، تبقى هذه السّمات بارزةً، وإن "تلبَّست" أفكاراً صوفيّة عن النّفس:
"يا صفاء السَّماء يا زرقة الصّحو أمام المجاهل البيضاء
ضمّني في بحريّة النّور إنّي سابح في بحيرةٍ من دماء...
إنّني ها هنا يعربد فيَّ اليأس والحزن في الخطى العمياء...
يا صفاء الحياة يا حلم الرّوح.. الّتي غطّيت بألف غطاء...
وأثار العجاج بالرَّمل عينيها.. فتاهت في مهمّة الصّحراء...
أنا حسبي الصّفاء يا ربّ أنّي.. أهرق النّفس في كؤوس الصّفاء"..
وردّاً على ما قلناه من أنّ شعر السيّد فضل الله "ملتزم" إلى حدٍّ بعيد، وأنّ ذلك يجعل نتاجه الفنّيّ "مظلوماً" أحياناً، حيث تتدخّل الغاية الإصلاحيّة لتقطع مدى المعاناة النفسيّة وتضعها في "الخطّ الإصلاحيّ" المطلوب، قال: "من الممكن ألا يكون هذا الشَّيء متكلّفاً.. عندما تعيش أجواء "الرِّسالة"، فإنَّك لا تستطيع أن تبتعد عن نفسك، إنَّني لا أحسّ بوجود انفصالٍ من ناحية فنيَّة بين ما أنا وبين الرّسالة".

صورة خاطئة
وعن الصّورة الشَّائعة عن رجال الدِّين يقول: "قد تكون التَّجربة التَّاريخيَّة مع ما يسمَّى برجال الدّين، تركت آثاراً مثقلة، منها أنّ لرجال الدّين لغةً لا يعيشون فيها إحساسهم بالمعنى، وإنَّما يتحدّثون تقليديّاً، كما يلبسون تقليديّاً، وكما يمارسون الطّقوس تقليديّاً".
وتابع: "لقد أصبحت الفكرة الشّائعة، أنَّ رجل الدّين ينبغي أن يكون مجرّد قمّة روحيَّة يتطلّع إليها النّاس، لتعطيهم الخدر والرّاحة والطّمأنينة، لكن ليس من حقّه أن يكون عنده فكر، ليس من حقّه أن يعبّر عن إحساسه، من حقّه أن يعطي النّاس أجواء خياليّة حالمة ضبابيّة غيبيّة، ولكن ليس له الحقّ في أن يتحرّك في الواقع".
وأضاف: "هناك نوع من أنواع الاعتداء الوحشيّ على إنسانيَّة الإنسان في رجل الدّين، وهذا ربَّما هيّأ ذهنيّةً معيّنةً أصبحت تتنكّر لرجل الدّين الذي يعيش إنسانيّته".

لختام: قصيدة عموديّة
ختاماً، يتلو السيّد فضل الله بعض نتاجه الشعريّ الأخير، وهي قصيدة عموديّة غنائيّة، تؤكِّد مرّةً أخرى تشديده على الموسيقى في الشّعر...

 أنا يا ليلاي ما زلت أغنّي للضّحى حبّي.. وللإشراق فنّي
  وحياتي فكرةٌ.. لم تكتمل في حنايا روحها وحي المغنّي
  هبطت للأرض عذراء المنى ترشف الأطياف في أطهر دنّ
شاقها النّور فطارت نحوه بجناحٍ من هواها مطمئنّ
وتخطّتْ حجب الغيب.. فلم تسرح إلا على أروع لحن
وحنتْ تحتضن الحبّ ـ على صبوات الحسن.. في جنّة عدن
وستبقى في صعود.. كلّما عاقها درب.. تخطّته بأمن
أنا يا ليلاي مهما يعتصر من دمائي اللّيل في عسف التجنّي
فدمي فيثارةٌ تعزف لي أغنيات النّور في فجر التمنّي
وأنا ـ عبر المدى ـ ما ضرّني أنّني وحدي أحيا وأغنّي
أزرع النّشوة في دنيا غدي وأثير النّور في أطياف جفني
وأناجيك وحولي جنّةٌ من رؤى فنٍّ.. ومن أطياب حسن
فأنا أخلق وحدي جنّتي فأرى اللّذّة في أعماق حزني
فتعالي نقطع العمر معاً بين لهوٍ.. وعذاب وتغنّي
فهوانا لم يعد أسطورةً في خيالٍ.. يبدع النّجوى وظنّ
إنّه كونٌ رحيبٌ يغدق الخصب نعماه على الرّوض الأغنّ
فتعالي.. نبذل الحبّ فما العمر.. إن لم يهدم الحبّ ويبني
غاية العمر حياةٌ ينتشي في حناياها الضّحى منكِ ومنّي
 
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير