الإمام الهادي(ع).. عمر قصير حافل بالعلم والجهاد

الإمام الهادي(ع).. عمر قصير حافل بالعلم والجهاد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أمَّ سماحـة آيـة الله الـعـظمى السيِّد محمد حسين فضل الله المصلّين في مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ: 6 رجب 1418هـ/ الموافق: 7 تشرين الثَّاني 1997م .

وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة بحضور حشدٍ من الشَّخصيَّات العلمائيَّة والسّياسيَّة والاجتماعيَّة وآلافٍ من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

الخطبة الأولى

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[1]. من أهل هذا البيت، الإمام العاشر أبو الحسن بن محمد الهادي(ع)، ولا بدَّ لنا من أن نطلَّ دائماً على أيِّ إمامٍ من هؤلاء الأئمَّة(ع)، لأنَّهم حجج الله على خلقه، ولأنَّهم أوصياء رسول الله(ص) في عقيدتنا، ولا بدَّ لنا من أن نتعرَّف كيف عاشوا، وكيف كانت حركتهم في حياتهم، وكيف أوذوا في الله، وكيف وعظوا النّاس وأرشدوهم..

مواجهة الانحرافات الفكريَّة

عاش الإمام الهادي(ع) عمراً قصيراً، فقد كان عمره يوم وفاته إحدى وأربعين سنة، وقد عاش حياته في نشاطٍ دائمٍ متحرِّكٍ في الثّقافة الإسلاميَّة، فقد كان يعلّم النَّاس ويعلّم العلماء منهم، حتى إنّه ذُكر أنَّ الّذين رووا علومه بلغوا ما يقارب المئة وخمسة وثمانين راوياً، والراوي ـ عادةً ـ يمثّل موقعاً ثقافياً متقدِّماً في تلك الأوقات. وتحرَّك(ع) في حياة النّاس، بحيث كان يراقب كلّ الانحرافات الّتي تعرض للواقع الإسلاميّ، لأنَّ مسؤوليَّة الأنبياء والأولياء والعلماء في كلّ زمان ومكان، هو أن يدرسوا كلّ الخطوط الَّتي تتحرَّك في الثقافة الإسلاميَّة أو في الواقع الإسلاميّ، ليصلحوا الخطأ وليقوِّموا الانحراف، وذلك بالأساليب الّتي وضعها الله تعالى في كتابه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالّتي هي أحسن.

وقد واجه الإمام الهادي(ع) كثيراً من المشاكل الفكريَّة الّتي بدأت تفرض نفسها على الذّهنيَّة الإسلاميَّة لتنحرف بها عن الصَّواب، فقد حدثت في زمنه مشكلة النَّاس الَّذين يقولون بـ"الجبر"، وأنَّ الله تعالى أجبر عباده على أعمالهم، فليس للعباد اختيارٌ فيما يطيعون أو فيما يعصون، فالطّاعة من الله والمعصية من الله، وكلّ ما يقوم به الإنسان لا إرادة له فيه ولا اختيار. ومن الطّبيعيّ أنَّ القرآن الكريم أكَّد رفض ذلك، فالله جعل الإنسان مختاراً فيما يفعل وفيما يترك: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[2].. فالله تعالى أعطى الإنسان هدايته من خلال ما أعطاه من عقلٍ يميِّز به بين الحسن والقبيح، والله أعطى الإنسان هدايته فيما أرسل به الأنبياء ليبلّغوا النّاس تعاليم الله من خلال وحي الله الذي يهدي النّاس إلى صراط العزيز الحميد، ويُخرجهم من الظّلمات إلى النّور.. كما أنَّ العقل يُقبّح أن يعاقب الله إنساناً على عملٍ لم يختره، فهو أمرٌ يرفضه العقل ويرفضه القرآن.

وكان هناك اتّجاه التّفويض، الَّذي يقول إنَّ الله تعالى فوَّض الأمر إلى خلقه، فهو خلقهم وانعزل عنهم، أو فوَّض الأمر إلى بعض خلقه، بمعنى أنَّ الله تعالى خلق النَّاس وجعل الأمر للأنبياء مثلاً، فلا يتدخَّل في شؤون النّاس.. ولكن تبقى قدرة الله وهيمنته وتدبيره للنّاس، بما لا يُبعدهم عن رعايته وتدبيره وسلطته. ففي تلك المرحلة، ظهر من يقول بـ"الجبر" و"التّفويض" ـ وقد كانوا بحسب الظّاهر خارج المدينة ـ فأرسل الإمام(ع) رسالته إلى "أهل الأهواء"، وشرح لهم حقائق الأمور، وبيَّن لهم بالدَّليل من العقل والنَّقل بطلان الجبر والتَّفويض، ودعاهم إلى الاستقامة في خطِّ الله سبحانه وتعالى.

مواجهة الغلاة

وهكذا نشأت طائفة من الغلاة الّذين حاولوا أن يحركوا خرافاتهم في الذّهنيَّة الإسلاميَّة، وخصوصاً أنَّ كثيراً من الذهنيّات التي تعيش في المجتمع هي ذهنيّات طيّبة تقبل كلَّ شيء، وهذا يحدث في كلِّ زمانٍ ومكان، بحيث إنَّ النّاس ينطلقون من خلال حبّهم لأهل البيت(ع)، وقد يتدخَّل بعض النّاس بالطّريقة الَّتي يدَّعون فيها لهم الألوهيَّة أو ما يشبهها. ففي زمان الإمام الهادي(ع)، ظهر من يقول بربوبيَّته، فوقف الإمام(ع) ضدَّهم وحاربهم، وربما ـ في بعض الرّوايات ـ قتلهم، لأنَّ الأئمّة(ع) جاهدوا وعملوا من أجل أن يُوحَّد الله تعالى، ولذلك كان الإمام عليّ(ع) دائماً يؤكِّد لهم أنّه عبد مخلوق يسجد بين يدي الله تعالى ويعفِّر جبهته في التراب، ولذلك قال(ع) بعد ذلك: "هلك فيَّ رجلان؛ محبّ غال ـ بحيث يصل إلى درجة ادّعاء الربوبيَّة ـومبغض قال"[3].

وفي زمن الإمام الهادي(ع)، جاء من يدَّعي أنَّ الإمام هو الربّ وهو النبيّ، وأنَّ الصَّلاة الَّتي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي معرفة الإمام(ع)، وقد استغلّوا حبَّ النّاس لأهل البيت(ع)، وقدَّموا أنفسهم على أنهم من المحبّين لهم، وبدأوا ينشرون هذه الأفكار، فكتب بعض الأصحاب إلى الإمام الهادي(ع): "جُعلت فداك يا سيّدي، إنَّ عليّ بن حسكة يدَّعي أنّه من أوليائك، وأنَّك أنت الأوَّل القديم، وأنّه بابك ونبيّك، أمرته أن يدعو إلى ذلك، ويزعم أنَّ الصَّلاة والزكاة والحجّ والصَّوم كلّ ذلك معرفتك، ومعرفة من كان مثل حال "ابن حسكة" فيما يدّعي من البابيّة والنبوّة ـ أيّ أنه باب الإمام والنبيّ من قِبَله ـ فهو مؤمن كامل سقط عنه الاستعباد بالصَّلاة والصَّوم والحجّ ـ أي لم يعد مُكَلَّفاً بالحجّ والصَّوم والصَّلاة ـ وذكر جميع شرائع الدّين أنّ معنى ذلك كلّه ما ثبت لك، ومال إليه ناس كثير، فإن رأيت أن تمنَّ على مواليك ـ شيعتك ـ بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة".

فكتب الإمام الهادي(ع): "كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، وبحسبك ـ يكفيك ـ أني لا أعرفه في مواليَّ، ما له؟ لعنه الله، فوالله ما بعث الله محمّداً والأنبياء قبله إلا بالحنيفيَّة والصَّلاة والزكاة والحجّ والصّيام والولاية، وما دعا محمَّد(ص) إلا إلى الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء من ولده عبيد الله لا نشرك به شيئاً، وإن أطعناه رحمنا، وإن عصيناه عذّبنا، ما لنا على الله من حجَّة، بل الحجَّة لله علينا وعلى جميع خلقه، أبرأ إلى الله ممن يقول ذلك، وأنتفي إلى الله من هذا القول، فاهجروهم لعنهم الله، وألجئوهم إلى أضيق الطّريق"[4].

وفي ضوء ذلك، كان النَّاس يلجأون إلى أهل البيت(ع)، عندما كانوا يواجهون مثل هذه القضايا ليصحِّحوا أفكارهم وعقيدتهم من كلِّ هذه الأباطيل، وعلينا في كلِّ زمان ومكان عندما تنتشر مثل هذه الأفكار، أو ما كان قريباً منها، أن نلجأ إلى العلماء المنفتحين الواعين الَّذين يعرفون حقائق القرآن وحقائق النبيّ(ص) وأهل بيته(ع) فيما بثّوه، حتى لا تختلط علينا الأمور بالطَّريقة التي قد تُبعدنا عن الطَّريق المستقيم، في الوقت الَّذي يخيَّل إلينا فيه أنّنا سائرون إليه.

مكانة الإمام(ع) في النّفوس

لقد كان للإمام الهادي(ع) نشاط واسع في تأكيد المفاهيم الإسلاميَّة، وتعليم النَّاس الأحكام الشرعيَّة، وتركيز قاعدة إيمانيّة ولائيَّة شعبيَّة ممتدَّة في أكثر من بلد، فقد كان للإمام جهاز متحرِّك متنوّع يغطِّي الكثير من أخبار النّاس هنا وهناك، ويحمل تعاليمه إليهم بطريقةٍ دقيقةٍ جدّاً. وقد استطاع هذا الجهاز السّير في هذا الخطّ، فجعل للإمام شعبيَّة كبيرة لدى المسلمين ممن كان يعتقد بإمامته، وممن كان لا يعتقد بها، حتى خاف خلفاء بني العباس الَّذين عاصرهم(ع) على ملكهم منه، من خلال محبَّة النّاس لأهل البيت(ع)، ومن ثقة النّاس بهم، ومن إحساس النّاس بقداستهم، ونضرب على ذلك عدَّة أمثال.

المثل الأوَّل: يذكر التَّاريخ أنَّ المتوكِّل العبَّاسي مَرِض مرضاً شديداً خيف عليه منه، فنذرت أمُّه إن عافاه الله، أن تبعث إلى الإمام الهادي(ع) عشرة آلاف دينار أو درهم، فلمَّا عوفي المتوكِّل ـ بعد هذا النَّذر ـ أرسلت أمُّ المتوكِّل إلى الإمام صرّةً فيها هذا المبلغ، ولم يفتح الإمام الصرَّة.. لكن كيف اكتشف المتوكِّل ذلك؟ سعى بعض النَّاس إلى المتوكِّل بأنَّ في بيت الإمام(ع) سلاحاً كثيراً ومالاً، وأنّه يريد أن يهيِّئ من خلال هذا المال والسِّلاح للثّورة، فأرسل إليه جماعةً يقتحمون البيت في اللّيل، ومن رفق الإمام بأحدهم قال له: "مكانك حتى يأتوك بشمعة"، ليروا طريقهم في الظّلمة، فجيء بشمعة، فوجدوا الإمام جالساً على حصيرٍ وهو يصلّي، فقال له(ع): "دونك البيوت"[5]، ففتَّشوا ولم يجدوا إلا هذه الصرّة المُـرسَـلة من أمّ الـمتوكِّل وسيفاً، فجاءوا به إلى المتوكِّل، فرأى خاتم ـ توقيع ـ أمِّه على الصرَّة، فأرسل إليها واستفسر عن الموضوع، فذكرت له نذرها، فضمَّ المتوكِّل إليه مبلغاً مماثلاً، وأرسله إلى الإمام، واعتذر إليه من ذلك.

وشاهدنا أنَّ أمَّ المتوكّل عندما مرض ولدها، لم تجد أحداً في المجتمع الإسلاميّ تتقرّب وتتشفَّع به إلى الله غير الإمام الهادي(ع)، ما يدلّنا على أنَّ قداسة الإمام الهادي(ع) كانت تعيش في وجدان المسلمين، حتى في داخل بيت الخلافة المناهضة لخطِّ الأئمَّة(ع).

المثل الثّاني هو: أنَّ الشَّخص الَّذي أرسله المتوكِّل إلى المدينة ليأتي بالإمام منها إلى "سامرّاء" حتى يضعه تحت نظره، وأمره بإكرامه وإعظامه، يحدِّث هذا الشَّخص فيقول: "ذهبت إلى المدينة، فلمَّا دخلتها، ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع النّاس بمثله خوفاً على "عليّ"، وقامت الدّنيا على ساق، لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجعلت أسكّنهم وأحلف لهم إنّي لم أُأمر فيه بمكروه، وأنّه لا بأس عليه، ثم فتَّشت منزله، فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعَظُم في عيني، وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته"[6].. وهذا الرّجل هو من موظّفي الخلافة، ومع ذلك، يحدِّث عن مدى انتشار أمر الإمام(ع) في المدينة وتقدير أهلها له، ما يدلّ على عظمة الإمام وقداسته في نفوس النّاس..

أمّا المثل الثَّالث، فهو: أنَّ هذا الرَّجل نفسه عندما جاء إلى بغداد، وقبل أن يدخل على المتوكِّل، اجتمع بوالي بغداد ـ أي محافظها ـ الّذي قال له: "إنَّ هذا الرَّجل قد ولده رسول الله، والمتوكِّل مَنْ تعلم، فإن حرَّضته عليه قتله، وكان رسول الله خصمك يوم القيامة"[7]، فهذا الوالي الذي عيَّنه المتوكّل يحمل للإمام الهادي(ع) هذا النّوع من الاحترام والتّقديس، بحيث يحذّر الرّجل من قتل الإمام، لأنَّ رسول الله سوف يكون خصمه يوم القيامة.

احترام النّاس للإمام(ع)

ونستطيع أن نأخذ فكرةً عن احترام الناس للإمام(ع)، من خلال قصَّة يرويها أحد معاصريه، وهو محمد بن الحسن الأشتر العلوي، يقول: "كنت مع أبي على باب المتوكّل وأنا صبيّ، في جمعٍ في النّاس ما بين طالبيّ إلى عبّاسي وجعفري، ونحن وقوف، إذ جاء أبو الحسن ـ الإمام الهادي(ع) ـ فترجَّل النّاس كلّهم ـ عن خيولهم ـ حتى دخل فقال بعضهم لبعض ـ وكلّهم من بني هاشم ـ: لمن نترجّل، لهذا الغلام وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا سنّاً؟ والله لا ترجَّلنا له، فقال أبو هاشم الجعفري: والله لتترجَّلنَّ له صَغْرَةً (أي وأنتم صاغرون) إذا رأيتموه، فما هو إلا أن أقبل وبصروا به، حتى ترجّل له النّاس كلّهم، فقال لهم أبو هاشم: أليس زعمتم أنّكم لا ترجّلون له؟ فقالوا: والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجَّلنا له"[8].

ما هي دلالة هذه الأمور؟ دلالتها أنَّ عظمة الإمام وهيبته وقداسته تجاوزت شيعته، وامتدَّت حتى إلى المواقع الّتي قد تعاديه وتخاصمه وتظلمه، ومن الطَّبيعيّ أنَّ ذلك لا يحصل لأيِّ أحد، وإنما يحصل للّذين انفتحوا على الله، فأدخل الله هيبتهم في نفوس النّاس ـ حتى أعدائهم ـ وخدموا النّاس بكلّ ما عندهم من طاقة، حتى تعلّق الناس بهم من خلال ما قدَّموه لهم، وأعطوا العلم حتى وصلوا إلى الدَّرجة الّتي يشعر فيها حتى العلماء بحاجتهم إليهم.

ولو درسنا كلَّ تاريخ أهل البيت(ع)، لرأينا هذه الخصوصيَّة، وهي الامتداد في كلِّ الواقع الإسلاميّ، موجودةً في حياة كلّ إمام من أئمّة أهل البيت(ع)، فإنهم عاشوا حياتهم مع النّاس، وهم المعصومون من قِبَل الله والمعصومون في أنفسهم، فلم يُنقل في تاريخ أحد منهم أيّ خطأ في فكر أو قول أو عمل، ولذلك كانت عصمتهم تتحرَّك من خلال الصّورة الّتي أشرقت في حياتهم وفي حياة النّاس كلّهم، وهذا هو الّذي يجعلنا نلتزمهم التزام الرّوح والعقل والفكر، وأن نعيش في خطِّ إمامتهم، فلا يبقى لنا مجرّد الحبّ والولاء، ولكن نتحرّك من خلال الاتّباع، فإنَّ الله أعطاهم ملكات قدسيَّة استطاعوا من خلالها أن يكتشفوا الكثير مما يخفى على النّاس، واستطاعوا أن يحصلوا على الكثير من الكرامات الَّتي ينقلها المؤرّخون في حياتهم، مما لا يحدث إلا لأولياء الله تعالى.

ينقل الشَّيخ المفيد وبعض المؤرِّخين عن الحسين بن محمد: لما حبس المتوكِّل أبا الحسن ـ الهادي(ع) ـ ودفعه إلى عليّ بن كركر، قال أبو الحسن(ع): "أنا أكرم على الله من ناقة صالح، تمتَّعوا في داركم ثلاثة أيَّام ذلك وعد غير مكذوب"[9]، فلمّا كان الغد، أطلقه واعتذر إليه، فلما كان اليوم الثَّالث وثب عليه ـ على المتوكِّل ـ ياغز ويغلون و... ـ وكانوا من قادة العسكر ـ فقتلوه وأقعدوا ولده المنتصر خليفةً له، وتحقَّق دعاء الإمام(ع) عليه وحديث الإمام عنه، وهو كان من الغيب الَّذي ألهمه الله تعالى إيّاه.

ولذلك، فإنَّ علاقتنا بأهل البيت(ع) إنما هي من خلال علاقتهم بالله وبرسوله، لأنَّهم عبدوا الله حقَّ عبادته، وأطاعوه حقَّ طاعته، وجاهدوا في سبيل الله، ودعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولذلك فإنَّ الولاية لأهل البيت(ع) تعني أن نتَّبعهم في كلّ ما قالوه وفعلوه، واتّباعهم هو باتّباع الإسلام الحقّ الَّذي بيَّنوه وعرّفوه لنا في كلّ المفاهيم التي أطـلـقوها. وعـلينا ـ ونحن نريد أن نسير معهم ونتَّبعهم ـ أن نستوثق من كلّ حديثٍ يُنسَب إليهم، فلا نقبل كلَّ حديثٍ يرويه من يعرفه ومن لا يعرفه، بل لا بدَّ لنا من أن نعرفه بالمستوى الَّذي نعرف فيه أنّه الحقّ.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتّقوا الله تعالى في السَّير على خطِّ الله ورسوله وأوليائه في كلِّ مواقع حياتكم، حدّقوا بأنفسكم فيما تحملون من فكرٍ في عقولكم، وفيما تحملون من عاطفةٍ في قلوبكم، وفيما تتحركون به من مواقف في حياتكم.. ليعرف كلّ واحدٍ منكم نفسه من خلال حسابات نفسه، لأنَّ الله يـريـــد لنا جميعاً أن تكون كلُّ حياتنا ـ في ظاهر أمورنا وباطنها ـ في مواقع رضاه، وعلى الإنسان وهو يعيش في عالمٍ تختلف فيه الأفكار، وتتضارب فيه الأهواء، وتتحرّك فيه الأوهام، أن يكون دائماً محاسباً لنفسه، ناقداً لكلِّ أوضاعه..

اتّقوا الله، وتذكَّروا الموت الّذي أنتم صائرون إليه، وأنَّ كلَّ واحدٍ منكم يُدفَن في قبره وحده، ويُحشَر إلى الله وحده، ويواجه الحساب من الله وحده، لذلك ليحكم كلّ واحدٍ منّا أمره في أن يتعرّف من نفسه كلّ ما يقبل عليه، فإنَّ الدنيا لا تغني عن الآخرة، وإنَّ ما نحصل عليه من مالٍ وجاهٍ لن ينفعنا إلا إذا استخدمناه في طاعة الله تعالى.. فتعالوا لندرس ماذا في هذه المرحلة من أحداث الأسبوع الَّذي مضى، حتى نعرف كيف نتَّقي الله في المواقف الّتي يجب أن نقفها فيما حمَّلنا الله إيّاه من مسؤوليَّتنا عن الإسلام والمسلمين.

السَّعي لمزيدٍ من التَّنازلات

لا تزال عمليَّة التَّسوية بين سلطة الحكم الذّاتيّ والكيان الصّهيونيّ تراوح مكانها، بل إنها ـ أمام الضّغط الأميركي ـ عاشت في تيهٍ من التَّفاصيل الّتي أبعدت القضايا الحيويَّة عن البحث. ولا تزال أميركا تضغط على العرب لحضور مؤتمر "الدّوحة" الاقتصاديّ، معلنةً أنّه مفيدٌ لهم اقتصاديّاً، في الوقت الَّذي يعلن "نتنياهو" رفضه تسليم المزيد من الأراضي للسلطة الفلسطينيَّة، وأنَّ ألف وحدة سكنيَّة في مستوطنة جبل "أبو غنيم" سوف تكون جاهزةً في العام المقبل.

ويقف وزير الدّفاع الأميركي ليعلن أنَّ "أميركا ستواصل العمل من أجل جعل إسرائيل دولةً عظيمة"، مضيفاً: "نحن ننوي الوقوف مع إسرائيل في المستقبل كما كان الأمر في الماضي، وإيماننا بأمن إسرائيل لا يتزعزع ولا ينتهي".. في الوقت الّذي يعلم الجميع أنَّ إسرائيل هي التي تهدِّد الأمن العربيّ، وليس العكس.

إنَّ على العرب أن يعرفوا أنَّ المطلوب أميركيّاً هو أن يخضعوا للكيان الصّهيوني سياسيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً، فهذا هو ما يُرضي أميركا الّتي سوف تستمرّ في الضّغط للوصول إلى هذه النّتيجة العدوانيَّة، وعليهم أن يتدبّروا أمرهم بالمزيد من التَّضامن الَّذي يمنحهم بعضاً من القوَّة، ويقودهم إلى حماية وجودهم من كلِّ جوانبه.

العدوانيَّة الأميركيَّة المستمرَّة

أمّا على مستوى فرض العقوبات الاقتصاديَّة على السّودان، فإنَّ إعلان وزيرة الخارجيَّة الأميركيَّة فرض هذه العقوبات، بحجَّة "الإرهاب والاضطهاد الدِّيني وانتهاك حقوق الإنسان"، يمثّل عدواناً جديداً على العالم الإسلاميّ الّذي يخضع لحرب أميركيّة منظّمة، وهذا ما نراه في الحصار الاقتصاديّ على العراق وليبيا وإيران، حيث تستخدم أميركا في هذه الحرب مجلس الأمن الذي يمثِّل تحالف المصالح الاقتصاديَّة الاستكباريَّة ضد المستضعفين، مع العلم أنَّ هذه العقوبات لا تطال إسرائيل التي تمثّل أعلى درجات الإرهاب ضدّ الفلسطينيّين واللّبنانيّين والسوريّين، وتمثّل أعلى درجات الاضطهاد الدّينيّ لغير اليهود، وانتهاك كلِّ حقوق الإنسان.

إنَّنا نعرف أنَّ أميركا تلوِّح بحقوق الإنسان وبمسألة "الإرهاب"، لتهديد المعارضين لسياستها في العالم الثّالث، باتهام هذه الدّولة أو تلك بـ"الإرهاب" وبانتهاكها لحقوق الإنسان، والجميع يعرف أنَّ السّودان قد أظهر تمايزاً في مجال الانفتاح الدّينيّ، ولا سيَّما بما يتصل بالمسيحيّين، وعمل على إيجاد أكثر من فرصةٍ لإيقاف الحرب، بالحوار مع المتمرّدين، وبحلِّ المشاكل مع جيرانه، لكنَّ أميركا تبقى تضغط وتضغط ليدخل السّودان بيت الطّاعة الأميركي.. والإسلام الذي يرتكز عليه النّظام السّوداني لا يسمح بذلك.

التَّبريرات الواهية!

ونتوقَّف عند استقبال شيخ الجامع الأزهر لسفير العدوّ، وقد حاول تبرير ذلك بأنّه "لا يريد إقفال الأبواب والامتناع عن إجراء اللّقاءات"، وأنّه أبلغ سفير العدوّ "أنّنا ما زلنا ـ على حدّ قوله ـ ضدّ الإرهاب، وأنّ من يفجِّر نفسه في عدوّ يعتدي على أرضه وماله وعِرضه فهو شهيد، ولكن من يفجِّر نفسه في أطفال ونساء وشيوخ ومرضى آمنين، فهذا عمل بعيد عن الإسلام"، مرحِّباً بالدّعوة إلى حوار الأديان..

إنَّ هذا الكلام هو مجرّد تبرير لا قيمة له، لأنَّ استقباله لهذا السفير يُفسَّر اعترافاً بالاحتلال وبشرعيَّة إسرائيل من النّاحية السياسيَّة، ولا ندري كيف يمكن لشخصٍ في هذا الموقع الإسلاميّ أن يخالف أحكام الإسلام ويقف ضدَّ مصالح المسلمين، ولا سيَّما أنَّ الدّول العربيَّة في هذه المرحلة تعمل على مقاومة التَّطبيع؟! أمّا حوار الأديان، فهو عنوان تتحرّك به إسرائيل من أجل التَّطبيع الدّينيّ مع المسلمين، لاحتواء رفضهم احتلالها لفلسطين.

إنَّنا نستنكر ـ بشدَّة ـ هذا الموقف التَّنازليّ من شيخ الجامع الأزهر، وندعوه إلى التنحّي عن منصبه إذا كان يصرّ على موقفه هذا، لأنَّه لا يملك هذا المنصب، بل يملكه الإسلام والمسلمون.

لبنان: سياسة الحرمان

ونصل إلى لبنان، لنتوقَّف عند مشكلة الحرمان المستمرَّة، وعند تقصير الدَّولة على المستوى المعيشيّ والاجتماعي، لنسأل عن السَّبب في هذا الإهمال المتواصل للضَّاحية الجنوبيَّة، ولا سيّما بما يتَّصل بالماء والكهرباء، حيث تعاني بعض المناطق انقطاعاً شبه دائم للمياه والكهرباء، من دون أن تتحرَّك أجهزة الدَّولة للقيام بواجباتها، في وقتٍ نظلّ نسمع أنَّ الدَّولة تقدَّمت أشواطاً على صعيد تأهيل البنية التحتيَّة، وبخاصّة الكهرباء والماء، متسائلين في الوقت نفسه عن الإنماء المتوازن للمناطق؟!

ونلاحظ في الوقت نفسه، أنَّ المناطق المحرومة ـ ولا سيّما البقاع وعكّار ـ لا تزال تعيش تحت تأثير الوعود الّتي لم تتحقَّق، لأنَّ تحقيق المساعدات مربوط بالضَّرائب المفروضة على الطَّبقات الفقيرة دون الغنيَّة، ما يجعل الحرمان مستمرّاً في البلد، الأمر الَّذي يفقد فيه المواطن شعوره بالاستقرار وبالانتماء إلى الوطن، لأنَّ قيمة هذا الانتماء هو إحساس الإنسان فيه بكرامته وأمنه الاقتصاديّ والسّياسيّ.

إنَّنا نعتقد أنَّ من الضَّروريّ أن يمارس النّاس حقَّهم في المعارضة بالوسائل المشروعة، لتحقيق الأمور المطلبيَّة، ودعم كلِّ الأصوات المرتفعة في هذا المجال، في نطاق وحدة وطنيَّة شاملة يلتقي فيها الجميع على القضايا الحيويَّة، وفي مقدَّمها الوقوف ضدّ الاحتلال ودعم المجاهدين في مواجهتهم له.


[1]  [الأحزاب: 33].

[2]  [الإنسان: 3].

[3]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 28.

[4]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 25، ص 316.

[5]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 500.

[6]  المصدر نفسه، هامش ص 201.

[7]  المصدر نفسه، هامش ص 201.

[8]  أعيان الشّيعة، السيّد محسن الأمين، ج 2، ص 37.

[9]  بحار الأنوار، ج 50، ص 190.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أمَّ سماحـة آيـة الله الـعـظمى السيِّد محمد حسين فضل الله المصلّين في مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ: 6 رجب 1418هـ/ الموافق: 7 تشرين الثَّاني 1997م .

وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة بحضور حشدٍ من الشَّخصيَّات العلمائيَّة والسّياسيَّة والاجتماعيَّة وآلافٍ من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

الخطبة الأولى

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[1]. من أهل هذا البيت، الإمام العاشر أبو الحسن بن محمد الهادي(ع)، ولا بدَّ لنا من أن نطلَّ دائماً على أيِّ إمامٍ من هؤلاء الأئمَّة(ع)، لأنَّهم حجج الله على خلقه، ولأنَّهم أوصياء رسول الله(ص) في عقيدتنا، ولا بدَّ لنا من أن نتعرَّف كيف عاشوا، وكيف كانت حركتهم في حياتهم، وكيف أوذوا في الله، وكيف وعظوا النّاس وأرشدوهم..

مواجهة الانحرافات الفكريَّة

عاش الإمام الهادي(ع) عمراً قصيراً، فقد كان عمره يوم وفاته إحدى وأربعين سنة، وقد عاش حياته في نشاطٍ دائمٍ متحرِّكٍ في الثّقافة الإسلاميَّة، فقد كان يعلّم النَّاس ويعلّم العلماء منهم، حتى إنّه ذُكر أنَّ الّذين رووا علومه بلغوا ما يقارب المئة وخمسة وثمانين راوياً، والراوي ـ عادةً ـ يمثّل موقعاً ثقافياً متقدِّماً في تلك الأوقات. وتحرَّك(ع) في حياة النّاس، بحيث كان يراقب كلّ الانحرافات الّتي تعرض للواقع الإسلاميّ، لأنَّ مسؤوليَّة الأنبياء والأولياء والعلماء في كلّ زمان ومكان، هو أن يدرسوا كلّ الخطوط الَّتي تتحرَّك في الثقافة الإسلاميَّة أو في الواقع الإسلاميّ، ليصلحوا الخطأ وليقوِّموا الانحراف، وذلك بالأساليب الّتي وضعها الله تعالى في كتابه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالّتي هي أحسن.

وقد واجه الإمام الهادي(ع) كثيراً من المشاكل الفكريَّة الّتي بدأت تفرض نفسها على الذّهنيَّة الإسلاميَّة لتنحرف بها عن الصَّواب، فقد حدثت في زمنه مشكلة النَّاس الَّذين يقولون بـ"الجبر"، وأنَّ الله تعالى أجبر عباده على أعمالهم، فليس للعباد اختيارٌ فيما يطيعون أو فيما يعصون، فالطّاعة من الله والمعصية من الله، وكلّ ما يقوم به الإنسان لا إرادة له فيه ولا اختيار. ومن الطّبيعيّ أنَّ القرآن الكريم أكَّد رفض ذلك، فالله جعل الإنسان مختاراً فيما يفعل وفيما يترك: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[2].. فالله تعالى أعطى الإنسان هدايته من خلال ما أعطاه من عقلٍ يميِّز به بين الحسن والقبيح، والله أعطى الإنسان هدايته فيما أرسل به الأنبياء ليبلّغوا النّاس تعاليم الله من خلال وحي الله الذي يهدي النّاس إلى صراط العزيز الحميد، ويُخرجهم من الظّلمات إلى النّور.. كما أنَّ العقل يُقبّح أن يعاقب الله إنساناً على عملٍ لم يختره، فهو أمرٌ يرفضه العقل ويرفضه القرآن.

وكان هناك اتّجاه التّفويض، الَّذي يقول إنَّ الله تعالى فوَّض الأمر إلى خلقه، فهو خلقهم وانعزل عنهم، أو فوَّض الأمر إلى بعض خلقه، بمعنى أنَّ الله تعالى خلق النَّاس وجعل الأمر للأنبياء مثلاً، فلا يتدخَّل في شؤون النّاس.. ولكن تبقى قدرة الله وهيمنته وتدبيره للنّاس، بما لا يُبعدهم عن رعايته وتدبيره وسلطته. ففي تلك المرحلة، ظهر من يقول بـ"الجبر" و"التّفويض" ـ وقد كانوا بحسب الظّاهر خارج المدينة ـ فأرسل الإمام(ع) رسالته إلى "أهل الأهواء"، وشرح لهم حقائق الأمور، وبيَّن لهم بالدَّليل من العقل والنَّقل بطلان الجبر والتَّفويض، ودعاهم إلى الاستقامة في خطِّ الله سبحانه وتعالى.

مواجهة الغلاة

وهكذا نشأت طائفة من الغلاة الّذين حاولوا أن يحركوا خرافاتهم في الذّهنيَّة الإسلاميَّة، وخصوصاً أنَّ كثيراً من الذهنيّات التي تعيش في المجتمع هي ذهنيّات طيّبة تقبل كلَّ شيء، وهذا يحدث في كلِّ زمانٍ ومكان، بحيث إنَّ النّاس ينطلقون من خلال حبّهم لأهل البيت(ع)، وقد يتدخَّل بعض النّاس بالطّريقة الَّتي يدَّعون فيها لهم الألوهيَّة أو ما يشبهها. ففي زمان الإمام الهادي(ع)، ظهر من يقول بربوبيَّته، فوقف الإمام(ع) ضدَّهم وحاربهم، وربما ـ في بعض الرّوايات ـ قتلهم، لأنَّ الأئمّة(ع) جاهدوا وعملوا من أجل أن يُوحَّد الله تعالى، ولذلك كان الإمام عليّ(ع) دائماً يؤكِّد لهم أنّه عبد مخلوق يسجد بين يدي الله تعالى ويعفِّر جبهته في التراب، ولذلك قال(ع) بعد ذلك: "هلك فيَّ رجلان؛ محبّ غال ـ بحيث يصل إلى درجة ادّعاء الربوبيَّة ـومبغض قال"[3].

وفي زمن الإمام الهادي(ع)، جاء من يدَّعي أنَّ الإمام هو الربّ وهو النبيّ، وأنَّ الصَّلاة الَّتي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي معرفة الإمام(ع)، وقد استغلّوا حبَّ النّاس لأهل البيت(ع)، وقدَّموا أنفسهم على أنهم من المحبّين لهم، وبدأوا ينشرون هذه الأفكار، فكتب بعض الأصحاب إلى الإمام الهادي(ع): "جُعلت فداك يا سيّدي، إنَّ عليّ بن حسكة يدَّعي أنّه من أوليائك، وأنَّك أنت الأوَّل القديم، وأنّه بابك ونبيّك، أمرته أن يدعو إلى ذلك، ويزعم أنَّ الصَّلاة والزكاة والحجّ والصَّوم كلّ ذلك معرفتك، ومعرفة من كان مثل حال "ابن حسكة" فيما يدّعي من البابيّة والنبوّة ـ أيّ أنه باب الإمام والنبيّ من قِبَله ـ فهو مؤمن كامل سقط عنه الاستعباد بالصَّلاة والصَّوم والحجّ ـ أي لم يعد مُكَلَّفاً بالحجّ والصَّوم والصَّلاة ـ وذكر جميع شرائع الدّين أنّ معنى ذلك كلّه ما ثبت لك، ومال إليه ناس كثير، فإن رأيت أن تمنَّ على مواليك ـ شيعتك ـ بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة".

فكتب الإمام الهادي(ع): "كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، وبحسبك ـ يكفيك ـ أني لا أعرفه في مواليَّ، ما له؟ لعنه الله، فوالله ما بعث الله محمّداً والأنبياء قبله إلا بالحنيفيَّة والصَّلاة والزكاة والحجّ والصّيام والولاية، وما دعا محمَّد(ص) إلا إلى الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء من ولده عبيد الله لا نشرك به شيئاً، وإن أطعناه رحمنا، وإن عصيناه عذّبنا، ما لنا على الله من حجَّة، بل الحجَّة لله علينا وعلى جميع خلقه، أبرأ إلى الله ممن يقول ذلك، وأنتفي إلى الله من هذا القول، فاهجروهم لعنهم الله، وألجئوهم إلى أضيق الطّريق"[4].

وفي ضوء ذلك، كان النَّاس يلجأون إلى أهل البيت(ع)، عندما كانوا يواجهون مثل هذه القضايا ليصحِّحوا أفكارهم وعقيدتهم من كلِّ هذه الأباطيل، وعلينا في كلِّ زمان ومكان عندما تنتشر مثل هذه الأفكار، أو ما كان قريباً منها، أن نلجأ إلى العلماء المنفتحين الواعين الَّذين يعرفون حقائق القرآن وحقائق النبيّ(ص) وأهل بيته(ع) فيما بثّوه، حتى لا تختلط علينا الأمور بالطَّريقة التي قد تُبعدنا عن الطَّريق المستقيم، في الوقت الَّذي يخيَّل إلينا فيه أنّنا سائرون إليه.

مكانة الإمام(ع) في النّفوس

لقد كان للإمام الهادي(ع) نشاط واسع في تأكيد المفاهيم الإسلاميَّة، وتعليم النَّاس الأحكام الشرعيَّة، وتركيز قاعدة إيمانيّة ولائيَّة شعبيَّة ممتدَّة في أكثر من بلد، فقد كان للإمام جهاز متحرِّك متنوّع يغطِّي الكثير من أخبار النّاس هنا وهناك، ويحمل تعاليمه إليهم بطريقةٍ دقيقةٍ جدّاً. وقد استطاع هذا الجهاز السّير في هذا الخطّ، فجعل للإمام شعبيَّة كبيرة لدى المسلمين ممن كان يعتقد بإمامته، وممن كان لا يعتقد بها، حتى خاف خلفاء بني العباس الَّذين عاصرهم(ع) على ملكهم منه، من خلال محبَّة النّاس لأهل البيت(ع)، ومن ثقة النّاس بهم، ومن إحساس النّاس بقداستهم، ونضرب على ذلك عدَّة أمثال.

المثل الأوَّل: يذكر التَّاريخ أنَّ المتوكِّل العبَّاسي مَرِض مرضاً شديداً خيف عليه منه، فنذرت أمُّه إن عافاه الله، أن تبعث إلى الإمام الهادي(ع) عشرة آلاف دينار أو درهم، فلمَّا عوفي المتوكِّل ـ بعد هذا النَّذر ـ أرسلت أمُّ المتوكِّل إلى الإمام صرّةً فيها هذا المبلغ، ولم يفتح الإمام الصرَّة.. لكن كيف اكتشف المتوكِّل ذلك؟ سعى بعض النَّاس إلى المتوكِّل بأنَّ في بيت الإمام(ع) سلاحاً كثيراً ومالاً، وأنّه يريد أن يهيِّئ من خلال هذا المال والسِّلاح للثّورة، فأرسل إليه جماعةً يقتحمون البيت في اللّيل، ومن رفق الإمام بأحدهم قال له: "مكانك حتى يأتوك بشمعة"، ليروا طريقهم في الظّلمة، فجيء بشمعة، فوجدوا الإمام جالساً على حصيرٍ وهو يصلّي، فقال له(ع): "دونك البيوت"[5]، ففتَّشوا ولم يجدوا إلا هذه الصرّة المُـرسَـلة من أمّ الـمتوكِّل وسيفاً، فجاءوا به إلى المتوكِّل، فرأى خاتم ـ توقيع ـ أمِّه على الصرَّة، فأرسل إليها واستفسر عن الموضوع، فذكرت له نذرها، فضمَّ المتوكِّل إليه مبلغاً مماثلاً، وأرسله إلى الإمام، واعتذر إليه من ذلك.

وشاهدنا أنَّ أمَّ المتوكّل عندما مرض ولدها، لم تجد أحداً في المجتمع الإسلاميّ تتقرّب وتتشفَّع به إلى الله غير الإمام الهادي(ع)، ما يدلّنا على أنَّ قداسة الإمام الهادي(ع) كانت تعيش في وجدان المسلمين، حتى في داخل بيت الخلافة المناهضة لخطِّ الأئمَّة(ع).

المثل الثّاني هو: أنَّ الشَّخص الَّذي أرسله المتوكِّل إلى المدينة ليأتي بالإمام منها إلى "سامرّاء" حتى يضعه تحت نظره، وأمره بإكرامه وإعظامه، يحدِّث هذا الشَّخص فيقول: "ذهبت إلى المدينة، فلمَّا دخلتها، ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع النّاس بمثله خوفاً على "عليّ"، وقامت الدّنيا على ساق، لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجعلت أسكّنهم وأحلف لهم إنّي لم أُأمر فيه بمكروه، وأنّه لا بأس عليه، ثم فتَّشت منزله، فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعَظُم في عيني، وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته"[6].. وهذا الرّجل هو من موظّفي الخلافة، ومع ذلك، يحدِّث عن مدى انتشار أمر الإمام(ع) في المدينة وتقدير أهلها له، ما يدلّ على عظمة الإمام وقداسته في نفوس النّاس..

أمّا المثل الثَّالث، فهو: أنَّ هذا الرَّجل نفسه عندما جاء إلى بغداد، وقبل أن يدخل على المتوكِّل، اجتمع بوالي بغداد ـ أي محافظها ـ الّذي قال له: "إنَّ هذا الرَّجل قد ولده رسول الله، والمتوكِّل مَنْ تعلم، فإن حرَّضته عليه قتله، وكان رسول الله خصمك يوم القيامة"[7]، فهذا الوالي الذي عيَّنه المتوكّل يحمل للإمام الهادي(ع) هذا النّوع من الاحترام والتّقديس، بحيث يحذّر الرّجل من قتل الإمام، لأنَّ رسول الله سوف يكون خصمه يوم القيامة.

احترام النّاس للإمام(ع)

ونستطيع أن نأخذ فكرةً عن احترام الناس للإمام(ع)، من خلال قصَّة يرويها أحد معاصريه، وهو محمد بن الحسن الأشتر العلوي، يقول: "كنت مع أبي على باب المتوكّل وأنا صبيّ، في جمعٍ في النّاس ما بين طالبيّ إلى عبّاسي وجعفري، ونحن وقوف، إذ جاء أبو الحسن ـ الإمام الهادي(ع) ـ فترجَّل النّاس كلّهم ـ عن خيولهم ـ حتى دخل فقال بعضهم لبعض ـ وكلّهم من بني هاشم ـ: لمن نترجّل، لهذا الغلام وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا سنّاً؟ والله لا ترجَّلنا له، فقال أبو هاشم الجعفري: والله لتترجَّلنَّ له صَغْرَةً (أي وأنتم صاغرون) إذا رأيتموه، فما هو إلا أن أقبل وبصروا به، حتى ترجّل له النّاس كلّهم، فقال لهم أبو هاشم: أليس زعمتم أنّكم لا ترجّلون له؟ فقالوا: والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجَّلنا له"[8].

ما هي دلالة هذه الأمور؟ دلالتها أنَّ عظمة الإمام وهيبته وقداسته تجاوزت شيعته، وامتدَّت حتى إلى المواقع الّتي قد تعاديه وتخاصمه وتظلمه، ومن الطَّبيعيّ أنَّ ذلك لا يحصل لأيِّ أحد، وإنما يحصل للّذين انفتحوا على الله، فأدخل الله هيبتهم في نفوس النّاس ـ حتى أعدائهم ـ وخدموا النّاس بكلّ ما عندهم من طاقة، حتى تعلّق الناس بهم من خلال ما قدَّموه لهم، وأعطوا العلم حتى وصلوا إلى الدَّرجة الّتي يشعر فيها حتى العلماء بحاجتهم إليهم.

ولو درسنا كلَّ تاريخ أهل البيت(ع)، لرأينا هذه الخصوصيَّة، وهي الامتداد في كلِّ الواقع الإسلاميّ، موجودةً في حياة كلّ إمام من أئمّة أهل البيت(ع)، فإنهم عاشوا حياتهم مع النّاس، وهم المعصومون من قِبَل الله والمعصومون في أنفسهم، فلم يُنقل في تاريخ أحد منهم أيّ خطأ في فكر أو قول أو عمل، ولذلك كانت عصمتهم تتحرَّك من خلال الصّورة الّتي أشرقت في حياتهم وفي حياة النّاس كلّهم، وهذا هو الّذي يجعلنا نلتزمهم التزام الرّوح والعقل والفكر، وأن نعيش في خطِّ إمامتهم، فلا يبقى لنا مجرّد الحبّ والولاء، ولكن نتحرّك من خلال الاتّباع، فإنَّ الله أعطاهم ملكات قدسيَّة استطاعوا من خلالها أن يكتشفوا الكثير مما يخفى على النّاس، واستطاعوا أن يحصلوا على الكثير من الكرامات الَّتي ينقلها المؤرّخون في حياتهم، مما لا يحدث إلا لأولياء الله تعالى.

ينقل الشَّيخ المفيد وبعض المؤرِّخين عن الحسين بن محمد: لما حبس المتوكِّل أبا الحسن ـ الهادي(ع) ـ ودفعه إلى عليّ بن كركر، قال أبو الحسن(ع): "أنا أكرم على الله من ناقة صالح، تمتَّعوا في داركم ثلاثة أيَّام ذلك وعد غير مكذوب"[9]، فلمّا كان الغد، أطلقه واعتذر إليه، فلما كان اليوم الثَّالث وثب عليه ـ على المتوكِّل ـ ياغز ويغلون و... ـ وكانوا من قادة العسكر ـ فقتلوه وأقعدوا ولده المنتصر خليفةً له، وتحقَّق دعاء الإمام(ع) عليه وحديث الإمام عنه، وهو كان من الغيب الَّذي ألهمه الله تعالى إيّاه.

ولذلك، فإنَّ علاقتنا بأهل البيت(ع) إنما هي من خلال علاقتهم بالله وبرسوله، لأنَّهم عبدوا الله حقَّ عبادته، وأطاعوه حقَّ طاعته، وجاهدوا في سبيل الله، ودعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولذلك فإنَّ الولاية لأهل البيت(ع) تعني أن نتَّبعهم في كلّ ما قالوه وفعلوه، واتّباعهم هو باتّباع الإسلام الحقّ الَّذي بيَّنوه وعرّفوه لنا في كلّ المفاهيم التي أطـلـقوها. وعـلينا ـ ونحن نريد أن نسير معهم ونتَّبعهم ـ أن نستوثق من كلّ حديثٍ يُنسَب إليهم، فلا نقبل كلَّ حديثٍ يرويه من يعرفه ومن لا يعرفه، بل لا بدَّ لنا من أن نعرفه بالمستوى الَّذي نعرف فيه أنّه الحقّ.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتّقوا الله تعالى في السَّير على خطِّ الله ورسوله وأوليائه في كلِّ مواقع حياتكم، حدّقوا بأنفسكم فيما تحملون من فكرٍ في عقولكم، وفيما تحملون من عاطفةٍ في قلوبكم، وفيما تتحركون به من مواقف في حياتكم.. ليعرف كلّ واحدٍ منكم نفسه من خلال حسابات نفسه، لأنَّ الله يـريـــد لنا جميعاً أن تكون كلُّ حياتنا ـ في ظاهر أمورنا وباطنها ـ في مواقع رضاه، وعلى الإنسان وهو يعيش في عالمٍ تختلف فيه الأفكار، وتتضارب فيه الأهواء، وتتحرّك فيه الأوهام، أن يكون دائماً محاسباً لنفسه، ناقداً لكلِّ أوضاعه..

اتّقوا الله، وتذكَّروا الموت الّذي أنتم صائرون إليه، وأنَّ كلَّ واحدٍ منكم يُدفَن في قبره وحده، ويُحشَر إلى الله وحده، ويواجه الحساب من الله وحده، لذلك ليحكم كلّ واحدٍ منّا أمره في أن يتعرّف من نفسه كلّ ما يقبل عليه، فإنَّ الدنيا لا تغني عن الآخرة، وإنَّ ما نحصل عليه من مالٍ وجاهٍ لن ينفعنا إلا إذا استخدمناه في طاعة الله تعالى.. فتعالوا لندرس ماذا في هذه المرحلة من أحداث الأسبوع الَّذي مضى، حتى نعرف كيف نتَّقي الله في المواقف الّتي يجب أن نقفها فيما حمَّلنا الله إيّاه من مسؤوليَّتنا عن الإسلام والمسلمين.

السَّعي لمزيدٍ من التَّنازلات

لا تزال عمليَّة التَّسوية بين سلطة الحكم الذّاتيّ والكيان الصّهيونيّ تراوح مكانها، بل إنها ـ أمام الضّغط الأميركي ـ عاشت في تيهٍ من التَّفاصيل الّتي أبعدت القضايا الحيويَّة عن البحث. ولا تزال أميركا تضغط على العرب لحضور مؤتمر "الدّوحة" الاقتصاديّ، معلنةً أنّه مفيدٌ لهم اقتصاديّاً، في الوقت الَّذي يعلن "نتنياهو" رفضه تسليم المزيد من الأراضي للسلطة الفلسطينيَّة، وأنَّ ألف وحدة سكنيَّة في مستوطنة جبل "أبو غنيم" سوف تكون جاهزةً في العام المقبل.

ويقف وزير الدّفاع الأميركي ليعلن أنَّ "أميركا ستواصل العمل من أجل جعل إسرائيل دولةً عظيمة"، مضيفاً: "نحن ننوي الوقوف مع إسرائيل في المستقبل كما كان الأمر في الماضي، وإيماننا بأمن إسرائيل لا يتزعزع ولا ينتهي".. في الوقت الّذي يعلم الجميع أنَّ إسرائيل هي التي تهدِّد الأمن العربيّ، وليس العكس.

إنَّ على العرب أن يعرفوا أنَّ المطلوب أميركيّاً هو أن يخضعوا للكيان الصّهيوني سياسيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً، فهذا هو ما يُرضي أميركا الّتي سوف تستمرّ في الضّغط للوصول إلى هذه النّتيجة العدوانيَّة، وعليهم أن يتدبّروا أمرهم بالمزيد من التَّضامن الَّذي يمنحهم بعضاً من القوَّة، ويقودهم إلى حماية وجودهم من كلِّ جوانبه.

العدوانيَّة الأميركيَّة المستمرَّة

أمّا على مستوى فرض العقوبات الاقتصاديَّة على السّودان، فإنَّ إعلان وزيرة الخارجيَّة الأميركيَّة فرض هذه العقوبات، بحجَّة "الإرهاب والاضطهاد الدِّيني وانتهاك حقوق الإنسان"، يمثّل عدواناً جديداً على العالم الإسلاميّ الّذي يخضع لحرب أميركيّة منظّمة، وهذا ما نراه في الحصار الاقتصاديّ على العراق وليبيا وإيران، حيث تستخدم أميركا في هذه الحرب مجلس الأمن الذي يمثِّل تحالف المصالح الاقتصاديَّة الاستكباريَّة ضد المستضعفين، مع العلم أنَّ هذه العقوبات لا تطال إسرائيل التي تمثّل أعلى درجات الإرهاب ضدّ الفلسطينيّين واللّبنانيّين والسوريّين، وتمثّل أعلى درجات الاضطهاد الدّينيّ لغير اليهود، وانتهاك كلِّ حقوق الإنسان.

إنَّنا نعرف أنَّ أميركا تلوِّح بحقوق الإنسان وبمسألة "الإرهاب"، لتهديد المعارضين لسياستها في العالم الثّالث، باتهام هذه الدّولة أو تلك بـ"الإرهاب" وبانتهاكها لحقوق الإنسان، والجميع يعرف أنَّ السّودان قد أظهر تمايزاً في مجال الانفتاح الدّينيّ، ولا سيَّما بما يتصل بالمسيحيّين، وعمل على إيجاد أكثر من فرصةٍ لإيقاف الحرب، بالحوار مع المتمرّدين، وبحلِّ المشاكل مع جيرانه، لكنَّ أميركا تبقى تضغط وتضغط ليدخل السّودان بيت الطّاعة الأميركي.. والإسلام الذي يرتكز عليه النّظام السّوداني لا يسمح بذلك.

التَّبريرات الواهية!

ونتوقَّف عند استقبال شيخ الجامع الأزهر لسفير العدوّ، وقد حاول تبرير ذلك بأنّه "لا يريد إقفال الأبواب والامتناع عن إجراء اللّقاءات"، وأنّه أبلغ سفير العدوّ "أنّنا ما زلنا ـ على حدّ قوله ـ ضدّ الإرهاب، وأنّ من يفجِّر نفسه في عدوّ يعتدي على أرضه وماله وعِرضه فهو شهيد، ولكن من يفجِّر نفسه في أطفال ونساء وشيوخ ومرضى آمنين، فهذا عمل بعيد عن الإسلام"، مرحِّباً بالدّعوة إلى حوار الأديان..

إنَّ هذا الكلام هو مجرّد تبرير لا قيمة له، لأنَّ استقباله لهذا السفير يُفسَّر اعترافاً بالاحتلال وبشرعيَّة إسرائيل من النّاحية السياسيَّة، ولا ندري كيف يمكن لشخصٍ في هذا الموقع الإسلاميّ أن يخالف أحكام الإسلام ويقف ضدَّ مصالح المسلمين، ولا سيَّما أنَّ الدّول العربيَّة في هذه المرحلة تعمل على مقاومة التَّطبيع؟! أمّا حوار الأديان، فهو عنوان تتحرّك به إسرائيل من أجل التَّطبيع الدّينيّ مع المسلمين، لاحتواء رفضهم احتلالها لفلسطين.

إنَّنا نستنكر ـ بشدَّة ـ هذا الموقف التَّنازليّ من شيخ الجامع الأزهر، وندعوه إلى التنحّي عن منصبه إذا كان يصرّ على موقفه هذا، لأنَّه لا يملك هذا المنصب، بل يملكه الإسلام والمسلمون.

لبنان: سياسة الحرمان

ونصل إلى لبنان، لنتوقَّف عند مشكلة الحرمان المستمرَّة، وعند تقصير الدَّولة على المستوى المعيشيّ والاجتماعي، لنسأل عن السَّبب في هذا الإهمال المتواصل للضَّاحية الجنوبيَّة، ولا سيّما بما يتَّصل بالماء والكهرباء، حيث تعاني بعض المناطق انقطاعاً شبه دائم للمياه والكهرباء، من دون أن تتحرَّك أجهزة الدَّولة للقيام بواجباتها، في وقتٍ نظلّ نسمع أنَّ الدَّولة تقدَّمت أشواطاً على صعيد تأهيل البنية التحتيَّة، وبخاصّة الكهرباء والماء، متسائلين في الوقت نفسه عن الإنماء المتوازن للمناطق؟!

ونلاحظ في الوقت نفسه، أنَّ المناطق المحرومة ـ ولا سيّما البقاع وعكّار ـ لا تزال تعيش تحت تأثير الوعود الّتي لم تتحقَّق، لأنَّ تحقيق المساعدات مربوط بالضَّرائب المفروضة على الطَّبقات الفقيرة دون الغنيَّة، ما يجعل الحرمان مستمرّاً في البلد، الأمر الَّذي يفقد فيه المواطن شعوره بالاستقرار وبالانتماء إلى الوطن، لأنَّ قيمة هذا الانتماء هو إحساس الإنسان فيه بكرامته وأمنه الاقتصاديّ والسّياسيّ.

إنَّنا نعتقد أنَّ من الضَّروريّ أن يمارس النّاس حقَّهم في المعارضة بالوسائل المشروعة، لتحقيق الأمور المطلبيَّة، ودعم كلِّ الأصوات المرتفعة في هذا المجال، في نطاق وحدة وطنيَّة شاملة يلتقي فيها الجميع على القضايا الحيويَّة، وفي مقدَّمها الوقوف ضدّ الاحتلال ودعم المجاهدين في مواجهتهم له.


[1]  [الأحزاب: 33].

[2]  [الإنسان: 3].

[3]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 28.

[4]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 25، ص 316.

[5]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 500.

[6]  المصدر نفسه، هامش ص 201.

[7]  المصدر نفسه، هامش ص 201.

[8]  أعيان الشّيعة، السيّد محسن الأمين، ج 2، ص 37.

[9]  بحار الأنوار، ج 50، ص 190.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير