الشَّهيد السيّد محمَّد باقر الصَّدر: منهج متجدّد وثورة أصيلة

الشَّهيد السيّد محمَّد باقر الصَّدر: منهج متجدّد وثورة أصيلة

السيّد باقر بن حيدر بن إسماعيل الصدر، أحد علماء الإمامية. ولد في مدينة الكاظمية في العراق سنة 1353هـ، ونشأ في أحضان أسرة عرفت بعلمها وفقاهتها وزعامتها الروحية. فقد أباه في أيام طفولته، فعاش يتيماً، لكن الله عوَّضه عن عطف الأب وحنانه، بعطف أم برة تقية، هي ابنة الشيخ عبد الحسين آل ياسين.

بدأ حياته الدراسية في منتدى النشر في الكاظمية، فظهرت عليه أمارات النبوغ والعبقرية، واتجه نحو الدراسات الحوزوية، فدرس المقدّمات والسّطوح على أخيه السيد إسماعيل الصدر في الكاظمية، حتى أتمها، ثم أخذ يدرس الكتب الدراسية وحده، وبدون أستاذ، فأكمل معظمها بهذه الطريقة. وقد اشترط على أستاذه في الفلسفة، الشيخ صدر الباوكوبي، أن يدرس عليه الأسفار بطريقة خاصة، بحيث يقرأ هو المطالب، ويسأل أستاذه عن الإشكاليات التي يواجهها فقط، وقد أكمل الأسفار بهذه الطريقة في مدة ستة أشهر.

هاجر إلى النجف الأشرف سنة 1367ه، وهو لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره، فحضر دروس البحث الخارج عند جملة من أعلامها، منهم: خاله الشيخ محمد رضا آل ياسين، والسيد الخوئي(قده). أصبح علماً من علماء الحوزة في وقت مبكر، حتى إن بعض علماء الحوزة الكبار، وهو الشيخ "عباس الرميتي"، كان يطلب من السيد الشهيد أن يجلس إليه عندما كان يكتب حاشيته على بعض الرسائل العلمية. وضمن هذه الظروف، بدأت التحديات تهز المجتمع والحوزة في آن، وعلى المستويين السياسي والثقافي.

أجيز بالاجتهاد في سن الثامنة عشرة، وبدأ يتألَّق في سماء العلم، حتى صار أحد الأعلام الكبار في الحوزة العلمية، وذاع اسمه في الأوساط العلمية، فشرع في تدريس البحث الخارج في جمادى الآخرة سنة 1389ه، فالتف حوله نخبة من الفضلاء وطلاب العلم.

برز اسمه كمرجع إلى جانب المراجع الكبار، ورجع إليه الكثير من الناس في التقليد، في الكثير من أنحاء العالم الإسلامي.

مدرسته الفكرية:

أسَّس من خلال أفكاره ونظرياته، مدرسة إسلامية فكرية أصيلة، اتسمت بالشمول من حيث المشكلات التي عنيت بها والميادين التي بحثتها، وقد أغنى المكتبة الإسلامية بمؤلفات رائعة، مثلت أفقاً واسعاً في المعرفة الإسلامية، واتسمت بالأسلوب الرصين والتجديد والأصالة. وجمع إلى جانب المكانة العلمية، خصال الفضل ومكارم الأخلاق، فكان مثالاً رائعاً للورع والزهد والتواضع.

حاول السيد الشهيد تنظيم علمي الأصول والفقه، لجعلهما يتماشيان مع التطورات والمستجدات، سواء داخل الحوزة العلمية، التي بدأت تعاني منافسة حادة من طرق التعليم الجامعي النظامي، أو خارجها، حيث كان المجتمع يتعرض لغزو فكري غربي وشرقي على حد سواء، ما يشكل خطراً على عقيدة الإسلام وشريعته، فكتب في علم الأصول كتباً مهمة، باعتبار أن الكتب المعتمدة في المدرسة أصبحت قديمة نسبياً، فالرسائل والكفاية، كما يقول السيد، نتاج أصولي يعود إلى ما قبل مئة سنة، وقد حصل علم الأصول بعدهما على خبرة مئة سنة بإضافة أفكار جديدة، كما أن الحاجة كانت ماسة لتطوير طريقة البحث، وإعادة النظر في استحداث مصطلحات جديدة.

ولذلك، نجد أنه واكب في حركته الفقهية التطورات والمستجدات في حركة الحياة التي لم يتناولها التشريع بشكل تفصيلي، أو تلك التي كانت تتحرك في الواقع، ولم يمكن إعطاؤها خطاً شرعياً محدداً، فأوجد نظرية تعالج هذه الأمور عرفت "بمنطقة الفراغ".

كانت دراسته للفلسفة في وقت كانت النظرة سلبية إليها، فكشف من خلالها عن تهافت المنظومات الأيديولوجية الفكرية والاقتصادية المغايرة للإسلام، في كتبه "فلسفتنا" و"اقتصادنا" و"الأسس المنطقية للاستقراء".

أعطى القرآن الكريم أولوية في أبحاثه وكتاباته، فدعا إلى اتباع منهج جديد في تفسير القرآن، فكان التفسير الموضوعي، في محاولة منه لجعل المفاهيم القرآنية أكثر حركية ومرونة وحيوية. واعتمد مقولة السنن الطبيعية والإلهية في تفسير حركة التاريخ والإنسان، فجاءت كتاباته في هذا السياق ممنهجة ومؤصلة، وتنم عن رؤية ثاقبة، وقدرة فائقة على تناول الموضوعات، فضلاً عن اتسامها بالطابع الشمولي، ما جعل الشهيد الصدر، كما يقول عبد الجبار الرفاعي: "مؤسساً ومؤصلاً للخطاب الإسلامي الجديد، فهو لم يقتصر على النقد المنهجي للفكر الغربي وإسقاطاته في الفكر العربي الحديث، إنما تجاوز ذلك إلى العمل على إعادة الثقة بالعناصر والمقومات الذاتية للأمة المسلمة، وبعث عناصر الحياة، واستدعاء روح الإبداع الكامنة في تراثها وماضيها".

مواقفه الشجاعة:

سجّل الكثير من المواقف الشجاعة منذ سنوات شبابه الأولى، في الوقوف والتصدي لكلّ الانحرافات الفكرية والعقائدية التي وفدت على الساحة الإسلامية، بما في ذلك الوقوف أمام السلطات الحاكمة في العراق آنذاك، في محاولاتها الهادفة إلى إبعاد الناس عن الإسلام ومبادئه، فقام بتأسيس ودعم مجموعة من الهيئات والتجمعات، التي أراد لها نشر المبادئ الصحيحة للإسلام. ولذلك، كانت انطلاقة جماعة العلماء التي كانت بقيادة خاله الشيخ مرتضى آل ياسين، والتي بدأت بإصدار المنشورات التي تتحدث عن الإسلام وعن الواقع بأسلوب لم تعهده الحوزة من قبل، فخط بذلك معالم خطاب سياسي وفكري يؤسس لمرحلة جديدة في الأسلوب والمضمون.

تصاعدت مواجهته مع النظام الحاكم في سنة 1968، واتخذت أشكالاً جديدة وخطيرة، وخصوصاً بعد مواقفه المؤيدة والمساندة للثورة الإسلامية في إيران، وفتواه الشهيرة بتحريم الانتماء إلى حزب البعث الحاكم في العراق، وإصداره بيانات تطالب الشعب بالثورة.

تجسّد استقباله للثورة الإسلاميّة في إيران، بقيادة الإمام الخميني(قده)، بمواقف دعا فيها إلى ضرورة الذوبان في الإمام كما ذاب هو في الإسلام، ولم يتوقف عند ذلك، بل ساهم في رسم خطوط هذه الجمهورية ومعالمها، وذلك باعتماده على الفكرة القرآنية التي أعطت الإنسان دورين؛ دور الخلافة، ودور الشهادة، حيث لا بدّ، في رأيه، من أن تشترك المرجعية والأمة في ممارسة هذا الدور، فيكون دور المرجع هو دور الشهادة، ودور الأمة هو دور الخلافة.

الصدر ووحدة الشعب العراقي:

وبما أنَّ العراق يعتبر مجتمعاً متنوعاً في مذاهبه وطوائفه، فقد راعى الشهيد الصدر في حركته السياسية المناهضة للنظام الحاكم، الوحدة الإسلامية القائمة على التنوع، محافظاً في الوقت نفسه على الرمزية الخاصة التي تمسّكت بها مختلف الشرائع الاجتماعية من قيم مشتركة، فيخاطب المسلمين في العراق: "يا أخي السني، ويا أخي الشيعي"، فيربط الشيعي بالإمام علي(ع)، كما يربط السني مثلاً بالخلفاء، معتبراً أن الصراع ليس موجهاً إلى السنة في الحكم، بل وجهه الحقيقي هو الاستبداد، ويلفت من ناحية أخرى، إلى ضرورة تكتل كل الشرائح العراقية في سبيل الدفاع عن قضاياها الكبرى في الوحدة، وهذا ما يدل عليه قوله: "إني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة، بذلت الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تهمّهم جميعا".

ولكن كما يبدو، فإن الوحدة التي يدعو لها السيد الشهيد، يجب أن ترتكز على الإسلام دون سواه، فيقول: "أنا معكما يا أخي السني والشيعي، بقدر ما أنتما مع الإسلام"، في إشارة واضحة إلى الوقوف بوجه كل التيارات المنحرفة، والدفاع عن الإسلام، وترسيخ عقيدته، محاولاً في الوقت نفسه، إحباط المخططات الرامية إلى بث بذور الفتنة، وإحداث القلاقل، من خلال النفاذ إلى المجتمع، واللعب على أوتار الطائفية، لإحداث شرخ فيه، لحرف العراقيين عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك، سواء تمثّل ذلك بالاستبداد الداخلي، أو بتلك الموجات العقائدية والفكرية الوافدة من الخارج.

استاءت السلطة من حركته، فأقدمت على اعتقاله أربع مرات، وفرضت عليه الإقامة الجبرية المشددة في بيته لمدة ثمانية أشهر. وفي المرة الأخيرة، كانت السلطة قد أرسلت إليه موفداً من قبلها، يطلب منه أن يتراجع عن مواقفه المؤيدة للجمهورية الإسلامية، وسحب فتاواه في تحريم الانتماء إلى حزب البعث، وغير ذلك من أمور، ولكن هذه الطلبات جوبهت بالرفض، مع علمه المسبق بعاقبة الأمور.

استشهاده:

توّجت حركته بالشهادة على إثر الاعتقال الرابع، وكان ذلك يوم السبت 19 جمادى الآخرة 1400هـ، المصادف 5 نيسان 1980، حيث اقتيد إلى بغداد، ونفذ به حكم الإعدام الجائر، بعد تعرضه لتعذيب وحشي، وذلك بعد ثلاثة أيام من اعتقاله، ثم جاؤوا بجثمانه الطاهر إلى النجف الأشرف ليلة الأربعاء 23 جمادى الأولى سنة 1400هـ، وأودعوه مثواه الأخير.

كان لنبأ إعدامه أصداء واسعة في العالم الإسلامي، فصدرت الكثير من البيانات من الشخصيات، تندّد بهذه الجريمة البشعة والنكراء، فبرحيله خسر العالم علماً من أعلام الفكر في العصر الحديث.

مؤلفات السيد الشهيد:

للسيد الشهيد الكثير من المؤلفات القيّمة منها: فلسفتنا، اقتصادنا، الأسس المنطقية للاستقراء، البنك اللاربوي في الإسلام، دروس في علم الأصول، غاية الفكر في علم الأصول، بحث حول المهدي(عج)، فدك في التاريخ، المرسل والرسول والرسالة، الإسلام يقود الحياة، المدرسة الإسلامية، المعالم الجديدة في الأصول، الفتاوى الواضحة، نظرة عامة في العبادات، بحوث في شرح العروة الوثقى، وغيرها.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .

السيّد باقر بن حيدر بن إسماعيل الصدر، أحد علماء الإمامية. ولد في مدينة الكاظمية في العراق سنة 1353هـ، ونشأ في أحضان أسرة عرفت بعلمها وفقاهتها وزعامتها الروحية. فقد أباه في أيام طفولته، فعاش يتيماً، لكن الله عوَّضه عن عطف الأب وحنانه، بعطف أم برة تقية، هي ابنة الشيخ عبد الحسين آل ياسين.

بدأ حياته الدراسية في منتدى النشر في الكاظمية، فظهرت عليه أمارات النبوغ والعبقرية، واتجه نحو الدراسات الحوزوية، فدرس المقدّمات والسّطوح على أخيه السيد إسماعيل الصدر في الكاظمية، حتى أتمها، ثم أخذ يدرس الكتب الدراسية وحده، وبدون أستاذ، فأكمل معظمها بهذه الطريقة. وقد اشترط على أستاذه في الفلسفة، الشيخ صدر الباوكوبي، أن يدرس عليه الأسفار بطريقة خاصة، بحيث يقرأ هو المطالب، ويسأل أستاذه عن الإشكاليات التي يواجهها فقط، وقد أكمل الأسفار بهذه الطريقة في مدة ستة أشهر.

هاجر إلى النجف الأشرف سنة 1367ه، وهو لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره، فحضر دروس البحث الخارج عند جملة من أعلامها، منهم: خاله الشيخ محمد رضا آل ياسين، والسيد الخوئي(قده). أصبح علماً من علماء الحوزة في وقت مبكر، حتى إن بعض علماء الحوزة الكبار، وهو الشيخ "عباس الرميتي"، كان يطلب من السيد الشهيد أن يجلس إليه عندما كان يكتب حاشيته على بعض الرسائل العلمية. وضمن هذه الظروف، بدأت التحديات تهز المجتمع والحوزة في آن، وعلى المستويين السياسي والثقافي.

أجيز بالاجتهاد في سن الثامنة عشرة، وبدأ يتألَّق في سماء العلم، حتى صار أحد الأعلام الكبار في الحوزة العلمية، وذاع اسمه في الأوساط العلمية، فشرع في تدريس البحث الخارج في جمادى الآخرة سنة 1389ه، فالتف حوله نخبة من الفضلاء وطلاب العلم.

برز اسمه كمرجع إلى جانب المراجع الكبار، ورجع إليه الكثير من الناس في التقليد، في الكثير من أنحاء العالم الإسلامي.

مدرسته الفكرية:

أسَّس من خلال أفكاره ونظرياته، مدرسة إسلامية فكرية أصيلة، اتسمت بالشمول من حيث المشكلات التي عنيت بها والميادين التي بحثتها، وقد أغنى المكتبة الإسلامية بمؤلفات رائعة، مثلت أفقاً واسعاً في المعرفة الإسلامية، واتسمت بالأسلوب الرصين والتجديد والأصالة. وجمع إلى جانب المكانة العلمية، خصال الفضل ومكارم الأخلاق، فكان مثالاً رائعاً للورع والزهد والتواضع.

حاول السيد الشهيد تنظيم علمي الأصول والفقه، لجعلهما يتماشيان مع التطورات والمستجدات، سواء داخل الحوزة العلمية، التي بدأت تعاني منافسة حادة من طرق التعليم الجامعي النظامي، أو خارجها، حيث كان المجتمع يتعرض لغزو فكري غربي وشرقي على حد سواء، ما يشكل خطراً على عقيدة الإسلام وشريعته، فكتب في علم الأصول كتباً مهمة، باعتبار أن الكتب المعتمدة في المدرسة أصبحت قديمة نسبياً، فالرسائل والكفاية، كما يقول السيد، نتاج أصولي يعود إلى ما قبل مئة سنة، وقد حصل علم الأصول بعدهما على خبرة مئة سنة بإضافة أفكار جديدة، كما أن الحاجة كانت ماسة لتطوير طريقة البحث، وإعادة النظر في استحداث مصطلحات جديدة.

ولذلك، نجد أنه واكب في حركته الفقهية التطورات والمستجدات في حركة الحياة التي لم يتناولها التشريع بشكل تفصيلي، أو تلك التي كانت تتحرك في الواقع، ولم يمكن إعطاؤها خطاً شرعياً محدداً، فأوجد نظرية تعالج هذه الأمور عرفت "بمنطقة الفراغ".

كانت دراسته للفلسفة في وقت كانت النظرة سلبية إليها، فكشف من خلالها عن تهافت المنظومات الأيديولوجية الفكرية والاقتصادية المغايرة للإسلام، في كتبه "فلسفتنا" و"اقتصادنا" و"الأسس المنطقية للاستقراء".

أعطى القرآن الكريم أولوية في أبحاثه وكتاباته، فدعا إلى اتباع منهج جديد في تفسير القرآن، فكان التفسير الموضوعي، في محاولة منه لجعل المفاهيم القرآنية أكثر حركية ومرونة وحيوية. واعتمد مقولة السنن الطبيعية والإلهية في تفسير حركة التاريخ والإنسان، فجاءت كتاباته في هذا السياق ممنهجة ومؤصلة، وتنم عن رؤية ثاقبة، وقدرة فائقة على تناول الموضوعات، فضلاً عن اتسامها بالطابع الشمولي، ما جعل الشهيد الصدر، كما يقول عبد الجبار الرفاعي: "مؤسساً ومؤصلاً للخطاب الإسلامي الجديد، فهو لم يقتصر على النقد المنهجي للفكر الغربي وإسقاطاته في الفكر العربي الحديث، إنما تجاوز ذلك إلى العمل على إعادة الثقة بالعناصر والمقومات الذاتية للأمة المسلمة، وبعث عناصر الحياة، واستدعاء روح الإبداع الكامنة في تراثها وماضيها".

مواقفه الشجاعة:

سجّل الكثير من المواقف الشجاعة منذ سنوات شبابه الأولى، في الوقوف والتصدي لكلّ الانحرافات الفكرية والعقائدية التي وفدت على الساحة الإسلامية، بما في ذلك الوقوف أمام السلطات الحاكمة في العراق آنذاك، في محاولاتها الهادفة إلى إبعاد الناس عن الإسلام ومبادئه، فقام بتأسيس ودعم مجموعة من الهيئات والتجمعات، التي أراد لها نشر المبادئ الصحيحة للإسلام. ولذلك، كانت انطلاقة جماعة العلماء التي كانت بقيادة خاله الشيخ مرتضى آل ياسين، والتي بدأت بإصدار المنشورات التي تتحدث عن الإسلام وعن الواقع بأسلوب لم تعهده الحوزة من قبل، فخط بذلك معالم خطاب سياسي وفكري يؤسس لمرحلة جديدة في الأسلوب والمضمون.

تصاعدت مواجهته مع النظام الحاكم في سنة 1968، واتخذت أشكالاً جديدة وخطيرة، وخصوصاً بعد مواقفه المؤيدة والمساندة للثورة الإسلامية في إيران، وفتواه الشهيرة بتحريم الانتماء إلى حزب البعث الحاكم في العراق، وإصداره بيانات تطالب الشعب بالثورة.

تجسّد استقباله للثورة الإسلاميّة في إيران، بقيادة الإمام الخميني(قده)، بمواقف دعا فيها إلى ضرورة الذوبان في الإمام كما ذاب هو في الإسلام، ولم يتوقف عند ذلك، بل ساهم في رسم خطوط هذه الجمهورية ومعالمها، وذلك باعتماده على الفكرة القرآنية التي أعطت الإنسان دورين؛ دور الخلافة، ودور الشهادة، حيث لا بدّ، في رأيه، من أن تشترك المرجعية والأمة في ممارسة هذا الدور، فيكون دور المرجع هو دور الشهادة، ودور الأمة هو دور الخلافة.

الصدر ووحدة الشعب العراقي:

وبما أنَّ العراق يعتبر مجتمعاً متنوعاً في مذاهبه وطوائفه، فقد راعى الشهيد الصدر في حركته السياسية المناهضة للنظام الحاكم، الوحدة الإسلامية القائمة على التنوع، محافظاً في الوقت نفسه على الرمزية الخاصة التي تمسّكت بها مختلف الشرائع الاجتماعية من قيم مشتركة، فيخاطب المسلمين في العراق: "يا أخي السني، ويا أخي الشيعي"، فيربط الشيعي بالإمام علي(ع)، كما يربط السني مثلاً بالخلفاء، معتبراً أن الصراع ليس موجهاً إلى السنة في الحكم، بل وجهه الحقيقي هو الاستبداد، ويلفت من ناحية أخرى، إلى ضرورة تكتل كل الشرائح العراقية في سبيل الدفاع عن قضاياها الكبرى في الوحدة، وهذا ما يدل عليه قوله: "إني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة، بذلت الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تهمّهم جميعا".

ولكن كما يبدو، فإن الوحدة التي يدعو لها السيد الشهيد، يجب أن ترتكز على الإسلام دون سواه، فيقول: "أنا معكما يا أخي السني والشيعي، بقدر ما أنتما مع الإسلام"، في إشارة واضحة إلى الوقوف بوجه كل التيارات المنحرفة، والدفاع عن الإسلام، وترسيخ عقيدته، محاولاً في الوقت نفسه، إحباط المخططات الرامية إلى بث بذور الفتنة، وإحداث القلاقل، من خلال النفاذ إلى المجتمع، واللعب على أوتار الطائفية، لإحداث شرخ فيه، لحرف العراقيين عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك، سواء تمثّل ذلك بالاستبداد الداخلي، أو بتلك الموجات العقائدية والفكرية الوافدة من الخارج.

استاءت السلطة من حركته، فأقدمت على اعتقاله أربع مرات، وفرضت عليه الإقامة الجبرية المشددة في بيته لمدة ثمانية أشهر. وفي المرة الأخيرة، كانت السلطة قد أرسلت إليه موفداً من قبلها، يطلب منه أن يتراجع عن مواقفه المؤيدة للجمهورية الإسلامية، وسحب فتاواه في تحريم الانتماء إلى حزب البعث، وغير ذلك من أمور، ولكن هذه الطلبات جوبهت بالرفض، مع علمه المسبق بعاقبة الأمور.

استشهاده:

توّجت حركته بالشهادة على إثر الاعتقال الرابع، وكان ذلك يوم السبت 19 جمادى الآخرة 1400هـ، المصادف 5 نيسان 1980، حيث اقتيد إلى بغداد، ونفذ به حكم الإعدام الجائر، بعد تعرضه لتعذيب وحشي، وذلك بعد ثلاثة أيام من اعتقاله، ثم جاؤوا بجثمانه الطاهر إلى النجف الأشرف ليلة الأربعاء 23 جمادى الأولى سنة 1400هـ، وأودعوه مثواه الأخير.

كان لنبأ إعدامه أصداء واسعة في العالم الإسلامي، فصدرت الكثير من البيانات من الشخصيات، تندّد بهذه الجريمة البشعة والنكراء، فبرحيله خسر العالم علماً من أعلام الفكر في العصر الحديث.

مؤلفات السيد الشهيد:

للسيد الشهيد الكثير من المؤلفات القيّمة منها: فلسفتنا، اقتصادنا، الأسس المنطقية للاستقراء، البنك اللاربوي في الإسلام، دروس في علم الأصول، غاية الفكر في علم الأصول، بحث حول المهدي(عج)، فدك في التاريخ، المرسل والرسول والرسالة، الإسلام يقود الحياة، المدرسة الإسلامية، المعالم الجديدة في الأصول، الفتاوى الواضحة، نظرة عامة في العبادات، بحوث في شرح العروة الوثقى، وغيرها.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير