هل تعدّ عاشوراء إلقاءً للنّفس في التهلكة؟!

هل تعدّ عاشوراء إلقاءً للنّفس في التهلكة؟!
هناك سؤال يتردَّد: هل كان الإمام الحسين (عليه السلام) يعلم بما يصيبه في نهاية المطاف عندما بدأ مسيرته إلى كربلاء؟
وإذا كان يعلم ذلك، فكيف جازَ له أن ينطلق في مسيرته التي تؤدِّي به إلى القتل، وذلك من خلال النّهي القرآني عن إلقاء النفس في التّهلكة؟
والجواب عنه، إنَّ هناك في حديث السيرة الحسينيّة إشارات عدّة على أنّه كان عالِماً بمصيره من خلال الأحاديث المرويّة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وفيما أثاره في حواره مع الذين طلبوا منه العودة عن قراره بالسفر إلى العراق، وفيما تحدَّث به إلى القوم الذين وافقوه من مكّة، حيث أعلن لهم النهاية المحتومة التي سينتهي إليها في سفره ذاك، وربّما كانت طبيعة الأمور في موازين القوّة تفرض ذلك، ولا سيّما في منتصف الطريق، عندما عرف بمقتل سفيره وابن عمّه مسلم بن عقيل في الكوفة بعد خذلان الناس له..

المسألة من النّاحية الفقهيّة
وفي ضوء ذلك، كيف نفسِّر المسألة من الناحية الفقهيّة؟
ربَّما يثير البعض المسألة في دائرة خصوصيّات الإمام الحسين (عليه السلام) في تكاليفه الشرعيّة التي قد تفرضها إمامته ممّا يجوز له ولا يجوز غيره، لأنَّ دوره يختلف عن دور الآخرين، ولذلك، فإنّه يطرح المسألة على أساس أنّه أعرف بتكليفه فيما حدَّد الله له من تكاليف، فليس لنا أن نخوض في الموضوع في دائرة التصوُّر الشّرعيّ في تكاليفنا.
ولكنَّنا نتساءل: ما هي المشكلة في القضيّة؟ ولماذا لا يجوز للرّساليّ الثائر أن يتحرَّك بالثّورة ضدّ الفئات التي تتحدَّى الإسلام في حركته وفي قوَّته وفي امتداده، في المواقع التي يواجه فيه الخطر المحقَّق أو المحتمل، هل هناك غير إلقاء النفس في التهلكة؟
إنَّ الجواب عن ذلك هو أنَّ هناك فرقاً بين الحالات الفرديّة التي تؤدّي إلى الموت، وبين الحالات الجهادية التي تتحرَّك في مواقع الخطر، فقد رخَّص الله للمجاهدين أن يتحرَّكوا في السّاحات التي تؤدِّي بهم إلى القتل فرادى أو جماعات، لأنَّ الإسلام يفرض عليه ذلك، ما يجعل دائرة الجهاد خارجةً عن دائرة حركة إلقاء النفس في التهلكة.
وفي ضوء ذلك، فإنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) حدَّد لنفسه ولأصحابه من أهل بيته وغيرهم المهمّة الجهادية الموكولة إليه، ورأى فيها إلزاماً شرعيّاً فيما هي الأهمية الكبرى للمصلحة الإسلامية العليا، تماماً كما هي حالة المجاهدين في زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فيما كانوا يواجهونه من احتمالات الخطر الكبير، ويأملون، من خلال الشهادة التي يحصلون عليها، الفوز بالجنّة فيما وعد الله به عباده المجاهدين الذين اشترى منهم أموالهم وأنفسهم {بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}، كما جاء في الآية الكريمة.
ثمَّ لو كانت المسألة كما يقولون، فلماذا لا يكون فعل الإمام دليلاً شرعيّاً على استثناء مثل هذه الحالات من إطلاق النّهي عن إلقاء النفس في التّهلكة، وإذا كان الفعل كما يقولون، لا إطلاق فيه، فيقتصر فيه على مورده، وهو الإمام الحسين (عليه السلام).
وإنَّ هناك نقطة لا بدّ من التوقُّف عندها، وهي أنّ أهل بيته وأصحابه انطلقوا بالموقف من خلال العناوين العامّة للجهاد، بإذنه وبرعايته، ما يوحي بأنَّ المسألة لا تتَّصل بالمورد الخاصّ، بل تمتدّ إلى الخطّ العام، ما يؤدّي بنا إلى الاستنتاج الفقهي بأنَّ من الممكن لأيّة حالة مماثلة فيما هي الظروف والمواقع، أن تأخذ الشرعيّة لحركتها من عاشوراء، على أساس أنَّها خارجة عن دائرة النّهي الشّرعي في إلقاء النفس في التهلكة.
العمل المسلَّح فقهيّاً
ونبقى في الإطار الفقهي من قضيّة عاشوراء، لنطرح سؤالاً آخر يلتقي مع السؤال الأوّل في بعض جوانبه، ولكنّه يختلف عنه في العنوان والامتداد: هل نستطيع أن نفهم شرعيّة العمل المسلَّح في حركة التّغيير للواقع الإسلامي المنحرف من خلال هذه الحركة الحسينيَّة؟
وهل يمكن أن تنطلق عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أُمّة الإسلام، لتدفع بالقيادة الإسلاميّة وبالمسلمين معها، إلى التحرُّك في خطّ المواجهة، ولا سيَّما إذا كان الواقع الإسلامي واقع القيادة المنحرفة التي تعمل على إضعاف الخطّ الإسلاميّ الفكري أو العملي؟
وهل كانت حركة الثّورة في عاشوراء حركة فاعلة في مستوى المبادرة الحسينيّة، أو كانت حركة منفعلة بالضّغط الأمويّ الذي عمل على محاصرة الإمام الحسين (عليه السلام) ومَن معه، ما أدّى إلى أن يقفوا في مواجهة القوّة المحاصِرة دفاعاً عن النّفس؟
هذه علامات استفهام قد يطرحها البعض ليؤكّد أنَّ الحسين تحرَّك من خلال ما كان يتصوَّره من الظروف الطبيعيّة للواقع، بحيث كان الرّفض للبيعة حركة تتّجه لصنع القوَّة من خلال الاتصالات التي كان يجريها مع الشخصيات الفاعلة في الكوفة وفي البصرة وغيرهما، ومن خلال الاستجابة الكبيرة للرّغبة التي عبَّر عنها الكثيرون من الشخصيات القيادية في الكوفة، الأمر الذي أقنعه بالقدرة على أن يواجه المسألة من موقع قويّ يعيد الشرعيّة إلى موقعها القويّ، ليواجه السلطة غير الشرعية على أساس العناوين الجديدة التي تتمخَّض عنها الحركة، ليطلب من كلّ القوى، بمن فيهم الحاكم الجائر، الابتعاد عن موقع السلطة، فإذا رفض ذلك، كانت محاربته محاربةً للرافضين للطاعة في الدخول في البيعة العامّة المرتكزة على شرعية الإسلام.

وعي الحسين (ع) للنّتائج القاسية
إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام)، كان مقتنعاً بقدرته على أن يجعل من الكوفة مركز السلطة الشرعية، تماماً كما كان عليه أمر أبيه الإمام عليّ (عليه السلام)، من دون أن يقوده ذلك إلى قتالٍ، من خلال نجاح سفيره مسلم بن عقيل في سيطرته على الكوفة ـــ وهذه هي وجهة نظر هؤلاء ـــ وقد يؤكّدون نظرتهم بأنَّ الحسين (عليه السلام) لو كان يعرف أنّ الأمر يؤدّي إلى قتال، لما بدأ تحرّكه بهذا الشّكل الثائر القويّ، لأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يفرضان على المسلم، قائداً كان أو جنديّاً، مثل هذا الأسلوب في الحركة، بل قد يشكّل الأمر إذا أدّى ذلك إلى العنف الجارح أو القاتل!
ولكنَّنا في دراستنا للسيرة الحسينيّة، من خلال الكلمات الصادرة عن الإمام الحسين (عليه السلام) في أحاديثه مع الشخصيّات التي حاولت أن تصرفه عن مسيره تحت تأثير التحذير من الخطر الذي يواجهه من خذلان أهل الكوفة، ومن ضغط بني أُميّة، نجد أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان واعياً للنتائج القاسية التي قد تنتهي إليها حركته، ولو على مستوى الاحتمال الكبير، بل قد يستشعر الباحث من بعض الكلمات، أنَّ المسألة كانت مورد قناعة يقينيّة لديه، ولا سيّما إذا عرفنا أنَّ طبيعة مثل هذا الموقف الذي يواجه فيه رأس السلطة ليبعده عن موقعه، كان يفرض تلك النتائج، كما كان الأمر مع أبيه الذي كان يدافع عن موقعه الشرعي ضدّ الّذين تمرَّدوا عليه، وأخيه الإمام الحسن (عليه السلام) الذي كان ينطلق من الموقع نفسه، بحيث كان من الصّعب، بدرجة عالية جداً، أن تنتهي المسألة إلاَّ بقتالٍ عنيف. مع ملاحظة مهمّة، وهي أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يرفض الصلح على أيّ مستوى، لأنَّ المرحلة التي كان يتحرَّك فيها، لا تستجيب لأيّة مصلحة إسلاميّة في الصّلح، خلافاً للمرحلة السابقة التي عاشها مع أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) في حربه مع معاوية، وهذا ما يجعل من مسألة النتائج الخطرة أمراً طبيعيّاً جداً.
ثمَّ نلاحظ أنَّ الإمام الحسين عرف بمقتل مسلم بن عقيل وخذلان أهل الكوفة له وسيطرة بني أُميّة، من خلال ابن زياد، على الكوفة، في الوقت الّذي لم يكن الأمر قد ضاق به إلى مستوى الحصار الذي يمنعه من العودة إلى المدينة أو الذّهاب إلى مكان آخر، فلو أنَّ المسألة مسألة حركة تبرِّر نفسها بما تملكه من القوَّة، بعيداً من أيّة مبادرة للمواجهة الحادّة العنيفة التي تنتهي بالحرب، لكانَ من المفروض أن يعود الإمام الحسين (عليه السلام) من حيث أتى عند معرفته بأنَّ ميزان القوّة قد بدأ يميل إلى جانب خصومه.
الإصرار على الثَّورة
وهكذا نرى أنّ الموقف كان حاسماً في الإصرار على الثّورة في خطّ الشهادة، ولذلك وقف في كربلاء ليرفض كلّ العروض التي قدَّمها إليه ابن زياد عبر جماعته، في تقديم السلامة له ولأهل بيته ولأصحابه، بشرط أن يتنازل ليزيد، ويدخل في عمليّة صلح جديد معه، على طريقة الصّلح الذي جرى بين الإمام الحسن ومعاوية، أو على طريقة أخرى.
إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) وضع عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أُمّة جدّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في واجهة حركته، ليذكّر المسلمين الذين يريد لهم أن يكونوا معه بالعناوين الشرعيّة التي تفرض عليهم التحرُّك معه، وليحدِّثهم بأنَّ مسألته ليست مسألة ثائر يتطلَّع إلى السلطة من موقع الزّهو والسيطرة الطاغية، فليست القضيّة قضيّة تحدِّيات المسألة الذاتيّة في مواجهة مسألة ذاتيّة أخرى، بل هي للإيحاء إليهم بأنَّ هذه العناوين تفرض على كلّ الناس الاستجابة لأيّة قيادة تعمل من أجل تحويلها إلى واقع حيّ، كما تفرض على القيادة أن تتحرَّك من أجلها.
هل الأمر خاصّ بالإمامة؟!
وقد يقول قائل، إنَّ المسألة مسألة الإمامة التي قد تجعل لهذه الحركة خصوصيَّتها في مسؤوليَّات الإمام المعصوم، ولم تكن المسألة مسألة عناوين عامّة لأيّة قيادة أخرى.
والجواب، إنَّ الإمام لا ينطلق في حركته من خصوصيَّات المسؤوليّة الخفيّة التي لا يعرفها المسلمون معه، لأنَّ القضيّة هي قضيّة الإسلام فيما يجب عليه أن يحرِّك الأُمّة لتحقّق له قوّته وعزّته وكرامته، من خلال عناوينه الكبيرة، وأهدافه الواسعة، ولذلك، فإنّه ينطلق من قضايا الإسلام وعناوينه التي يشعر المسلمون معه بأنّهم معنيّون بها من خلال مسؤوليّتهم عنها، لا من خلال الطّاعة العمياء للإمام الذي تجب عليهم طاعته.. ولذلك، كانت طريقة القرآن في حديثه عن المعارك التي يريد للمسلمين أن يخوضوها، أو التي خاضها المسلمون قبل نزول الآيات، هي أن يقدِّم لهم العناوين التي يريد الله لهم أن يتحرَّكوا من أجل تحقيقها في الواقع، لينطلقوا من موقع وعي للهدف، لا من موقع استسلام أعمى للأمر، وهذا ما لاحظناه في الآيات التي تحدَّثت عن بدر وعن أُحُد وعن حُنَين والأحزاب وغيرها؛ وهكذا رأينا العناوين الكبيرة التي وضعت في واجهة هذه المعارك التي انطلق بها المسلمون في كلّ معاركهم ضدّ الكفَّار، وهي التي انطلقت بها قيادة الإمام عليّ (عليه السلام) في الحرب الدّاخليّة، لتأكيد قوّة الموقع الشرعي، من دون أن تكون هناك أيّة خصوصيّة للعصمة في القائد أو للموقع المميَّز له، بل كان الخطاب في ذلك للأُمّة كلّها في نطاق القيادة الشرعيّة ـــ أيّة قيادة ـــ على أساس حاجة المعركة في كلّ ساحات الصراع للقيادة.
شرعيّة الثّورة
ولذلك، فإنَّنا نستطيع أن نستوحي من حركة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، أنّه كان يطرح شرعيّة المعركة من خلال عناوينها الإسلاميّة العامّة، لا من خلال خصوصيّة إمامته، وهذا ما نقرأه في خطابه الذي بدأ به مسيرته: "أيُّها الناس إنَّ رسول الله قال: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يُغيّر عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه، ألا وإنَّ هؤلاء القوم قد تركوا طاعة الرّحمن، ولَزِموا طاعة الشّيطان، وأظهروا الفساد، وعَطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأنا أحق مَنْ غَيَّر".
وخطابه الآخر: "إِنّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلا بَطَراً، وَلا مُفْسِداً وَلا ظالِماً، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ الْحَقِّ فَاللهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْقَوْمِ بِالْحَقِّ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ".
وفي ضوء ذلك، يمكن لنا أن ندخل في مثل هذه التجربة على أساس شرعيّة الموقف إذا كانت المرحلة شبيهة بالمرحلة التي عاشها الإمام الحسين من حيث الظّروف والأوضاع والمواقع، وبذلك تخضع المسألة في حركة العناوين الكبيرة في واقع الأُمّة لدراسة المرحلة الزمنيّة والسياسيّة في مدى الإيجابيات التي توفّرها للمصلحة الإسلاميّة العليا على صعيد تغيير الواقع، أو إيجاد الصدمة النفسيّة أو السياسيّة التي قد تهزّ الأُمّة من أجل إعدادها لمرحلة جديدة، أو الإعداد للخطّة الطويلة التي تحتاجها الثورة في مواجهة التحدّيات الكبيرة للاستكبار؛ فقد تحتاج القضيّة إلى الأسلوب الكربلائي، وقد تحتاج إلى الأسلوب الهادئ الذي ينفتح على السلام على أساس المرونة العمليّة التي تمثّل أسلوب الانحناء أمام العاصفة ريثما تمرّ، ليبدأ التحرّك في أجواء طبيعيّة ملائمة، وقد تمسّ الحاجة إلى أسلوب متنوّع فيما بين الرّفق والعنف، فيتحدَّد الحكم الشّرعي في نوعية الحركة تبعاً لنوعية الظروف الموضوعيّة الموافقة أو المخالفة.
*من نصّ مكتوب لسماحته، في سنة 1410هـ، نشر في سلسلة "رسالة الحسين (عليه السلام)" الّتي تصدر في مدينة قمّ في إيران.
هناك سؤال يتردَّد: هل كان الإمام الحسين (عليه السلام) يعلم بما يصيبه في نهاية المطاف عندما بدأ مسيرته إلى كربلاء؟
وإذا كان يعلم ذلك، فكيف جازَ له أن ينطلق في مسيرته التي تؤدِّي به إلى القتل، وذلك من خلال النّهي القرآني عن إلقاء النفس في التّهلكة؟
والجواب عنه، إنَّ هناك في حديث السيرة الحسينيّة إشارات عدّة على أنّه كان عالِماً بمصيره من خلال الأحاديث المرويّة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وفيما أثاره في حواره مع الذين طلبوا منه العودة عن قراره بالسفر إلى العراق، وفيما تحدَّث به إلى القوم الذين وافقوه من مكّة، حيث أعلن لهم النهاية المحتومة التي سينتهي إليها في سفره ذاك، وربّما كانت طبيعة الأمور في موازين القوّة تفرض ذلك، ولا سيّما في منتصف الطريق، عندما عرف بمقتل سفيره وابن عمّه مسلم بن عقيل في الكوفة بعد خذلان الناس له..

المسألة من النّاحية الفقهيّة
وفي ضوء ذلك، كيف نفسِّر المسألة من الناحية الفقهيّة؟
ربَّما يثير البعض المسألة في دائرة خصوصيّات الإمام الحسين (عليه السلام) في تكاليفه الشرعيّة التي قد تفرضها إمامته ممّا يجوز له ولا يجوز غيره، لأنَّ دوره يختلف عن دور الآخرين، ولذلك، فإنّه يطرح المسألة على أساس أنّه أعرف بتكليفه فيما حدَّد الله له من تكاليف، فليس لنا أن نخوض في الموضوع في دائرة التصوُّر الشّرعيّ في تكاليفنا.
ولكنَّنا نتساءل: ما هي المشكلة في القضيّة؟ ولماذا لا يجوز للرّساليّ الثائر أن يتحرَّك بالثّورة ضدّ الفئات التي تتحدَّى الإسلام في حركته وفي قوَّته وفي امتداده، في المواقع التي يواجه فيه الخطر المحقَّق أو المحتمل، هل هناك غير إلقاء النفس في التهلكة؟
إنَّ الجواب عن ذلك هو أنَّ هناك فرقاً بين الحالات الفرديّة التي تؤدّي إلى الموت، وبين الحالات الجهادية التي تتحرَّك في مواقع الخطر، فقد رخَّص الله للمجاهدين أن يتحرَّكوا في السّاحات التي تؤدِّي بهم إلى القتل فرادى أو جماعات، لأنَّ الإسلام يفرض عليه ذلك، ما يجعل دائرة الجهاد خارجةً عن دائرة حركة إلقاء النفس في التهلكة.
وفي ضوء ذلك، فإنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) حدَّد لنفسه ولأصحابه من أهل بيته وغيرهم المهمّة الجهادية الموكولة إليه، ورأى فيها إلزاماً شرعيّاً فيما هي الأهمية الكبرى للمصلحة الإسلامية العليا، تماماً كما هي حالة المجاهدين في زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فيما كانوا يواجهونه من احتمالات الخطر الكبير، ويأملون، من خلال الشهادة التي يحصلون عليها، الفوز بالجنّة فيما وعد الله به عباده المجاهدين الذين اشترى منهم أموالهم وأنفسهم {بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}، كما جاء في الآية الكريمة.
ثمَّ لو كانت المسألة كما يقولون، فلماذا لا يكون فعل الإمام دليلاً شرعيّاً على استثناء مثل هذه الحالات من إطلاق النّهي عن إلقاء النفس في التّهلكة، وإذا كان الفعل كما يقولون، لا إطلاق فيه، فيقتصر فيه على مورده، وهو الإمام الحسين (عليه السلام).
وإنَّ هناك نقطة لا بدّ من التوقُّف عندها، وهي أنّ أهل بيته وأصحابه انطلقوا بالموقف من خلال العناوين العامّة للجهاد، بإذنه وبرعايته، ما يوحي بأنَّ المسألة لا تتَّصل بالمورد الخاصّ، بل تمتدّ إلى الخطّ العام، ما يؤدّي بنا إلى الاستنتاج الفقهي بأنَّ من الممكن لأيّة حالة مماثلة فيما هي الظروف والمواقع، أن تأخذ الشرعيّة لحركتها من عاشوراء، على أساس أنَّها خارجة عن دائرة النّهي الشّرعي في إلقاء النفس في التهلكة.
العمل المسلَّح فقهيّاً
ونبقى في الإطار الفقهي من قضيّة عاشوراء، لنطرح سؤالاً آخر يلتقي مع السؤال الأوّل في بعض جوانبه، ولكنّه يختلف عنه في العنوان والامتداد: هل نستطيع أن نفهم شرعيّة العمل المسلَّح في حركة التّغيير للواقع الإسلامي المنحرف من خلال هذه الحركة الحسينيَّة؟
وهل يمكن أن تنطلق عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أُمّة الإسلام، لتدفع بالقيادة الإسلاميّة وبالمسلمين معها، إلى التحرُّك في خطّ المواجهة، ولا سيَّما إذا كان الواقع الإسلامي واقع القيادة المنحرفة التي تعمل على إضعاف الخطّ الإسلاميّ الفكري أو العملي؟
وهل كانت حركة الثّورة في عاشوراء حركة فاعلة في مستوى المبادرة الحسينيّة، أو كانت حركة منفعلة بالضّغط الأمويّ الذي عمل على محاصرة الإمام الحسين (عليه السلام) ومَن معه، ما أدّى إلى أن يقفوا في مواجهة القوّة المحاصِرة دفاعاً عن النّفس؟
هذه علامات استفهام قد يطرحها البعض ليؤكّد أنَّ الحسين تحرَّك من خلال ما كان يتصوَّره من الظروف الطبيعيّة للواقع، بحيث كان الرّفض للبيعة حركة تتّجه لصنع القوَّة من خلال الاتصالات التي كان يجريها مع الشخصيات الفاعلة في الكوفة وفي البصرة وغيرهما، ومن خلال الاستجابة الكبيرة للرّغبة التي عبَّر عنها الكثيرون من الشخصيات القيادية في الكوفة، الأمر الذي أقنعه بالقدرة على أن يواجه المسألة من موقع قويّ يعيد الشرعيّة إلى موقعها القويّ، ليواجه السلطة غير الشرعية على أساس العناوين الجديدة التي تتمخَّض عنها الحركة، ليطلب من كلّ القوى، بمن فيهم الحاكم الجائر، الابتعاد عن موقع السلطة، فإذا رفض ذلك، كانت محاربته محاربةً للرافضين للطاعة في الدخول في البيعة العامّة المرتكزة على شرعية الإسلام.

وعي الحسين (ع) للنّتائج القاسية
إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام)، كان مقتنعاً بقدرته على أن يجعل من الكوفة مركز السلطة الشرعية، تماماً كما كان عليه أمر أبيه الإمام عليّ (عليه السلام)، من دون أن يقوده ذلك إلى قتالٍ، من خلال نجاح سفيره مسلم بن عقيل في سيطرته على الكوفة ـــ وهذه هي وجهة نظر هؤلاء ـــ وقد يؤكّدون نظرتهم بأنَّ الحسين (عليه السلام) لو كان يعرف أنّ الأمر يؤدّي إلى قتال، لما بدأ تحرّكه بهذا الشّكل الثائر القويّ، لأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يفرضان على المسلم، قائداً كان أو جنديّاً، مثل هذا الأسلوب في الحركة، بل قد يشكّل الأمر إذا أدّى ذلك إلى العنف الجارح أو القاتل!
ولكنَّنا في دراستنا للسيرة الحسينيّة، من خلال الكلمات الصادرة عن الإمام الحسين (عليه السلام) في أحاديثه مع الشخصيّات التي حاولت أن تصرفه عن مسيره تحت تأثير التحذير من الخطر الذي يواجهه من خذلان أهل الكوفة، ومن ضغط بني أُميّة، نجد أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان واعياً للنتائج القاسية التي قد تنتهي إليها حركته، ولو على مستوى الاحتمال الكبير، بل قد يستشعر الباحث من بعض الكلمات، أنَّ المسألة كانت مورد قناعة يقينيّة لديه، ولا سيّما إذا عرفنا أنَّ طبيعة مثل هذا الموقف الذي يواجه فيه رأس السلطة ليبعده عن موقعه، كان يفرض تلك النتائج، كما كان الأمر مع أبيه الذي كان يدافع عن موقعه الشرعي ضدّ الّذين تمرَّدوا عليه، وأخيه الإمام الحسن (عليه السلام) الذي كان ينطلق من الموقع نفسه، بحيث كان من الصّعب، بدرجة عالية جداً، أن تنتهي المسألة إلاَّ بقتالٍ عنيف. مع ملاحظة مهمّة، وهي أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يرفض الصلح على أيّ مستوى، لأنَّ المرحلة التي كان يتحرَّك فيها، لا تستجيب لأيّة مصلحة إسلاميّة في الصّلح، خلافاً للمرحلة السابقة التي عاشها مع أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) في حربه مع معاوية، وهذا ما يجعل من مسألة النتائج الخطرة أمراً طبيعيّاً جداً.
ثمَّ نلاحظ أنَّ الإمام الحسين عرف بمقتل مسلم بن عقيل وخذلان أهل الكوفة له وسيطرة بني أُميّة، من خلال ابن زياد، على الكوفة، في الوقت الّذي لم يكن الأمر قد ضاق به إلى مستوى الحصار الذي يمنعه من العودة إلى المدينة أو الذّهاب إلى مكان آخر، فلو أنَّ المسألة مسألة حركة تبرِّر نفسها بما تملكه من القوَّة، بعيداً من أيّة مبادرة للمواجهة الحادّة العنيفة التي تنتهي بالحرب، لكانَ من المفروض أن يعود الإمام الحسين (عليه السلام) من حيث أتى عند معرفته بأنَّ ميزان القوّة قد بدأ يميل إلى جانب خصومه.
الإصرار على الثَّورة
وهكذا نرى أنّ الموقف كان حاسماً في الإصرار على الثّورة في خطّ الشهادة، ولذلك وقف في كربلاء ليرفض كلّ العروض التي قدَّمها إليه ابن زياد عبر جماعته، في تقديم السلامة له ولأهل بيته ولأصحابه، بشرط أن يتنازل ليزيد، ويدخل في عمليّة صلح جديد معه، على طريقة الصّلح الذي جرى بين الإمام الحسن ومعاوية، أو على طريقة أخرى.
إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) وضع عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أُمّة جدّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في واجهة حركته، ليذكّر المسلمين الذين يريد لهم أن يكونوا معه بالعناوين الشرعيّة التي تفرض عليهم التحرُّك معه، وليحدِّثهم بأنَّ مسألته ليست مسألة ثائر يتطلَّع إلى السلطة من موقع الزّهو والسيطرة الطاغية، فليست القضيّة قضيّة تحدِّيات المسألة الذاتيّة في مواجهة مسألة ذاتيّة أخرى، بل هي للإيحاء إليهم بأنَّ هذه العناوين تفرض على كلّ الناس الاستجابة لأيّة قيادة تعمل من أجل تحويلها إلى واقع حيّ، كما تفرض على القيادة أن تتحرَّك من أجلها.
هل الأمر خاصّ بالإمامة؟!
وقد يقول قائل، إنَّ المسألة مسألة الإمامة التي قد تجعل لهذه الحركة خصوصيَّتها في مسؤوليَّات الإمام المعصوم، ولم تكن المسألة مسألة عناوين عامّة لأيّة قيادة أخرى.
والجواب، إنَّ الإمام لا ينطلق في حركته من خصوصيَّات المسؤوليّة الخفيّة التي لا يعرفها المسلمون معه، لأنَّ القضيّة هي قضيّة الإسلام فيما يجب عليه أن يحرِّك الأُمّة لتحقّق له قوّته وعزّته وكرامته، من خلال عناوينه الكبيرة، وأهدافه الواسعة، ولذلك، فإنّه ينطلق من قضايا الإسلام وعناوينه التي يشعر المسلمون معه بأنّهم معنيّون بها من خلال مسؤوليّتهم عنها، لا من خلال الطّاعة العمياء للإمام الذي تجب عليهم طاعته.. ولذلك، كانت طريقة القرآن في حديثه عن المعارك التي يريد للمسلمين أن يخوضوها، أو التي خاضها المسلمون قبل نزول الآيات، هي أن يقدِّم لهم العناوين التي يريد الله لهم أن يتحرَّكوا من أجل تحقيقها في الواقع، لينطلقوا من موقع وعي للهدف، لا من موقع استسلام أعمى للأمر، وهذا ما لاحظناه في الآيات التي تحدَّثت عن بدر وعن أُحُد وعن حُنَين والأحزاب وغيرها؛ وهكذا رأينا العناوين الكبيرة التي وضعت في واجهة هذه المعارك التي انطلق بها المسلمون في كلّ معاركهم ضدّ الكفَّار، وهي التي انطلقت بها قيادة الإمام عليّ (عليه السلام) في الحرب الدّاخليّة، لتأكيد قوّة الموقع الشرعي، من دون أن تكون هناك أيّة خصوصيّة للعصمة في القائد أو للموقع المميَّز له، بل كان الخطاب في ذلك للأُمّة كلّها في نطاق القيادة الشرعيّة ـــ أيّة قيادة ـــ على أساس حاجة المعركة في كلّ ساحات الصراع للقيادة.
شرعيّة الثّورة
ولذلك، فإنَّنا نستطيع أن نستوحي من حركة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، أنّه كان يطرح شرعيّة المعركة من خلال عناوينها الإسلاميّة العامّة، لا من خلال خصوصيّة إمامته، وهذا ما نقرأه في خطابه الذي بدأ به مسيرته: "أيُّها الناس إنَّ رسول الله قال: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يُغيّر عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه، ألا وإنَّ هؤلاء القوم قد تركوا طاعة الرّحمن، ولَزِموا طاعة الشّيطان، وأظهروا الفساد، وعَطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأنا أحق مَنْ غَيَّر".
وخطابه الآخر: "إِنّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلا بَطَراً، وَلا مُفْسِداً وَلا ظالِماً، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ الْحَقِّ فَاللهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْقَوْمِ بِالْحَقِّ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ".
وفي ضوء ذلك، يمكن لنا أن ندخل في مثل هذه التجربة على أساس شرعيّة الموقف إذا كانت المرحلة شبيهة بالمرحلة التي عاشها الإمام الحسين من حيث الظّروف والأوضاع والمواقع، وبذلك تخضع المسألة في حركة العناوين الكبيرة في واقع الأُمّة لدراسة المرحلة الزمنيّة والسياسيّة في مدى الإيجابيات التي توفّرها للمصلحة الإسلاميّة العليا على صعيد تغيير الواقع، أو إيجاد الصدمة النفسيّة أو السياسيّة التي قد تهزّ الأُمّة من أجل إعدادها لمرحلة جديدة، أو الإعداد للخطّة الطويلة التي تحتاجها الثورة في مواجهة التحدّيات الكبيرة للاستكبار؛ فقد تحتاج القضيّة إلى الأسلوب الكربلائي، وقد تحتاج إلى الأسلوب الهادئ الذي ينفتح على السلام على أساس المرونة العمليّة التي تمثّل أسلوب الانحناء أمام العاصفة ريثما تمرّ، ليبدأ التحرّك في أجواء طبيعيّة ملائمة، وقد تمسّ الحاجة إلى أسلوب متنوّع فيما بين الرّفق والعنف، فيتحدَّد الحكم الشّرعي في نوعية الحركة تبعاً لنوعية الظروف الموضوعيّة الموافقة أو المخالفة.
*من نصّ مكتوب لسماحته، في سنة 1410هـ، نشر في سلسلة "رسالة الحسين (عليه السلام)" الّتي تصدر في مدينة قمّ في إيران.
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير