الإمام الهادي (ع) كلمـات النـور

الإمام الهادي (ع) كلمـات النـور

سلسلة ذهبيّة وحديث ذهبيّ

ونعيش مع الإمام(ع) المفاهيم الإسلامية التي قد توحي إلينا بالكثير مما قد نختلف فيه، وقد تصحّح لنا الكثير مما أخطأنا فيه، ذلك بأنَّ قيمة هذه الكلمات أنها كلمات النور والحق الذي يضي‏ء للناس الطريق في كل زمان ومكان، لأنَّ الإمام لم يتحدّث عن فكر ذاتي يمكن أن يخطى‏ء فيه المفكّر أو يصيب، بل تحدّث عن إسلام نقيّ صافٍ يتحرّك فيه من خلال ما قاله الشاعر:

ووالِ أناساً قولهم وحديثهـم روى جدُّنا عن جبرائيل عن الباري

وينقل بعض الذين عاصروه، كما يذكر ذلك "المسعودي" في "مروج الذهب" في مسألة هذا الإسناد المتسلسل الذي يربط الفكرة برسول الله(ص)، على أساس أنَّ الكلام كلامُه وأنَّ الفكرة فكرته {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:3ـ4]. قال المسعودي: "حدثني محمد بن الفرج بمدينة جرجان في المحلّة المعروفة ببئر أبو عناب قال: حدثني أبو دعامه قال: أتيت علي بن محمد بن علي بن موسى الهادي عائداً في علّته التي كانت وفاته منها في هذه السنة"، لاحظ أنَّ الإمام وهو في مرض الموت لم يكن ليترك الفرصة في أن يعلّم الناس الذين يعودونه، وهذا ما كان عليه عليٌّ(ع)، كما يُروى أنه عندما ضربه (عبد الرحمن بن ملجم) وكان يعاني من ضربته تلك كان يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني"، وهو يعاني مما يقرب من سكرات الموت، وهو المضروب بسيف مسموم على رأسه، والسُّم يسري في جسده، فلقد كان يريد أن لا تمضي اللحظات الأخيرة من حياته إلاّ وهو يعلّم الناس علماً يضي‏ء لهم الفكر وينفتح بهم على الحق.

وهكذا كان الإمام علي الهادي(ع) كما يقول هذا الشخص، "فلما هممت بالانصراف، قال لي: يا أبا دعامة، قد وجب عليّ حقُّك، أحدّثك بحديث تُسَرُّ به، قال: فقلت: ما أحوجني إلى ذلك يابن رسول الله، قال: حدّثني أبي محمد بن علي، قال حدّثني: أبي علي بن موسى، قال حدّثني: أبي موسى بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدّثني أبي محمد بن علي، قال: حدّثني أبي علي بن الحسين، قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب(ع)، قال: قال لي رسول الله: يا علي: أكتب، قال: فقلت ما أكتب؟ فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى على اللسان وحلّت به المناكحة. قال أبو دعامة: فقلت يابن رسول الله، والله ما أدري أيهما أحسن، الحديث أم الإسناد، فقال: إنها لصحيفة بخطِّ علي بن أبي طالب(ع) وإملاء رسول الله(ص) نتوارثها صاغراً عن كابر"(17).

استيحاءات النصّ

عندما ندرس هذا النص، فإنّنا نأخذ منه ثلاث نقاط: النقطة الأولى، وهي أنَّ الأئمة(ع) كانوا يتحدثون بحديث رسول الله(ص) من خلال هذه السلسلة المباركة، وهذا الإسناد الطاهر الذي قال عنه (أحمد بن حنبل) في بعض كلماته إنَّه "لو أُلقِيَ على مجنون لأفاق".

والنقطة الثانية: أن الأئمة(ع) كانوا لا يتركون فرصة لتعليم الناس إلا وانتهزوها حتى في مرض الموت، كما ذكرنا ذلك.

والنقطة الثالثة: أنهم كانوا يتوارثون كتاب عليٍّ(ع)، وهو الذي كتبه(ع) بإملاء رسول الله(ص) مما لم يروه الكثير من الصحابة.

ونقف على هاتين الكلمتين: "الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى على اللسان وحلّت به المناكحة"، فالإسلام كلمة وحركة ظاهرية في اتجاه الكلمة، وذلك بأن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أن تقولها، سواء كانت منطلقة من قلبك أو من لسانك، لتتحرّك في المجرى العام في الحياة الإسلامية، لتكون مسلماً تعيش الانتماء إلى الإسلام، وتكون مسلماً كبقية المسلمين في المسألة القانونية الظاهرية.

حقيقة الإيمان وجوهره

أما الإيمان، فهو ليس مجرد فكرة تنطلق من العقل لينفتح لها القلب، ولكنها فكرة تتعمّق في الذات، بأن يكون الإيمان عقلاً من عقلك، وقلباً من قلبك، وإحساساً من إحساسك، وكلمة تنطق بها بلسانك، ولستَ مؤمناً إذا اكتفيت بذلك، ولكن أن يكون هناك دليل على هذا الإيمان، ودليل الإيمان أن تكون عيناك مؤمنتين، فلا تنظران إلاّ لما أحلّ الله، ولا تتحركان إلا من خلال المعرفة التي تطوف في آفاق الله، وأن تكون أذناك مؤمنتين لا تسمعان إلا ما أحلّ الله، ولا تتخذان طاقة السمع إلا من أجل معرفةٍ يمكن لها أن تغني عقلك، عندما يتحول السمع إلى قناة تطل على عقلك، وأن يكون لسانك مؤمناً فلا ينطق إلاّ بالحق، وأن تكون يداك مؤمنتين فلا تتحركان إلا بما أحلّ الله، وأن تكون رجلاك مؤمنتين فلا تنطلقان إلاّ في الدروب التي يرضاها الله، وأن يكون كلُّ جسدك مؤمناً في ما تأكل بأن يكون حلالاً، وفيما تشرب بأن يكون حلالاً، وفي ما تستلذّ من شهواتك بأن تكون من حلال، وفي ما تلعب وتلهو بأن يكون لهوك حلالاً ولعبك حلالاً.

وتستمر المسألة لتمتدّ في مواقفك، بأن تكون مواقفك عندما تؤيّد وعندما ترفض صورة لإيمانك، فلا تقف أيّ موقف تأييد إلاّ إذا كان الإيمان ينسجم مع هذا الموقف، ولا تقف موقف رفض إلاّ إذا كان الإيمان يتطلّب منك ذلك.

أن تكون مؤمن العقل والقلب والإحساس والشعور والحركة، لأنَّ ذلك هو الدليل على إيمانك، وهذا ما تحدّث به الإمام الصادق(ع) في ما رُوي عنه أنهم قالوا له: إنَّ هناك "من يقول إننا نرجو الجنة ونخاف من النار"، قال: "كذبوا، ليسوا براجين، إنّ من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شي‏ء هرب منه"(18)، فالذين يتجهون إلى ما يدخلهم النار كيف يقولون إننا نخاف النار، والذين يبتعدون عمّا يؤدّي بهم إلى الجنة كيف يقولون إننا نرجو الجنة، إنَّ هذه الكلمة تؤكّد على أن يكون الإيمان كلَّ كيانك، وأن لا يكون مجرّد خطراتٍ في الفكر ونبضات في القلب وبعض ما تلمّ به من هنا وهناك.

قيمة العقل

ثم ننطلق إلى فكرة أخرى يؤكّد فيها الإمام قيمة العقل، كما يشرح لنا فيها هذا التنوّع في معاجز الأنبياء، لماذا جاء موسى بمعجزة العصا وباليد البيضاء، ولماذا جاء عيسى بمعجزة إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ولماذا جاء محمد(ص) بمعجزة القرآن في عالم البلاغة.

يروي (الكليني) في (الكافي) عن الحسين بن محمد عن أحمد بن محمد السيّاري عن أبي يعقوب البغدادي، قال: "قال ابن السكيت ـ وكان من علماء اللغة العربية ـ لأبي الحسن علي الهادي(ع): لماذا بعث الله موسى بن عمران(ع) بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب، وبعث محمداً(ص) على جميع الأنبياء(ع) بالكلام والخطب؟

فقال أبو الحسن: إنَّ الله لمّا بعث موسى(ع) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم، إنَّ الله بعث عيسى(ع) في وقت ظهرت فيه الزمانات ـ أي الأمراض المزمنة ـ واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجة عليهم، إنَّ الله بعث محمداً(ص) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، وأظنه قال الشعر، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل قولهم وأثبت به الحجة عليهم".

العقـل حجّـة

قال: فقال ابن السكِّيت: "تالله ما رأيت مثلك قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ قال: فقال(ع): العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه، قال: فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب"(19).

ونلاحظ هنا، أنَّ الإمام يريد أن يؤكّد ما أكّده الإسلام في القرآن وفي بعض الأحاديث القدسيّة، من أنّ العقل هو حجة الله على الإنسان، وأنَّ الله يأمر العقل بما يأمر به وينهى العقل بما ينهى عنه، وأنه يثيب الإنسان ويعاقبه على قدر عقله.

فعندما تحدّث (ابن السكيت) عما هو الحجّة اليوم، فإنَّ الإمام الهادي(ع) لم يشر إلى الحجّة بصراحة، ولكنه قال له: إنَّ هناك الصادقين الذين يصدقون على الله في ما ينطلقون به من الرسالة وفي ما يجلسون به من الموقع، وفي ما يتحركون به مما يأمرون الناس أو ينهونهم عنه، وعليك أن تستنطق عقلك، ثم دعه يدرس مواقف كلِّ الذين يتحرّكون في الساحة، فالعقل عندما يملك العناصر الأساسية التي يمكن له أن يتحرك فيها بإشراقة الفكر وصفائه ونقائه، يمكن عندئذ أن يكتشف الحجة، وهو الصادق الذي يعرف من خلال صدقه أنه يصدق عن الله، ويعرف الكاذب الذي يمكن أن يكتشف كذبه عندما يكذب على الله، ليصدّق الصادق فيتبعه ويسير معه.

العقل مقياس

وهذا هو المقياس الذي لا بد لنا أن نقيس به الأشياء، فالعقل قادنا إلى أن نؤمن برسول الله(ص)، وإلى أن نؤمن بالقرآن وبالإسلام، والعقل يقودنا الآن إلى أن يكون تصديقنا لمن نصدقه منطلقاً من الحجة التي يتمتع بها هذا الإنسان الذي يريد أن يكون حجة علينا في ذلك، وأن لا يكون انتماؤنا لأيّ إنسان من خلال قرابة أو صداقة أو حالة سطحية، بل أن نستنطق عقلنا في كل من يتحرك في الساحة، لنعرف من الصادق على الله لنصدّقه، ومن الكاذب عليه لنكذّبه، وإذا استنطقنا عقولنا وتجرّدنا عن كل أهوائنا وكل ما ورثناه وألفناه، فسينطلق العقل ليعرّفنا الحجة في كل زمان ومكان.

ولعلّ مشكلتنا في كثير مما ننحرف فيه ونخطى‏ء أننا عاطفيون وانفعاليون ولسنا عقلانيين، فنحن نخاطب بعضنا بعضاً بهوى النفس، ونرتبط ببعضنا البعض من خلال حالات الانفعال، وندمّر بعضنا بعضاً على أساس الانفعال. فوحدها الأمة التي تعقل، وحدها الأمة التي تفكّر، وحدها الأمة التي تعالج كلّ قضاياها بالحوار العقلاني الموضوعي، وهي الأمة التي يمكن أن تعرف الله جيداً وتعرف رسالاته ورسله جيداً، وتعرف كيف تكتشف الحسن لترتبط به، وكيف تكتشف القبيح لتنأى عنه.

لذلك، فإذا أردتم أن تنفتحوا على المصير الذي ينجيكم عند الله، فاستنطقوا عقولكم، لأنّ الله كما في الحديث المأثور المروي عن أئمة أهل البيت(ع): "لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب"(20).

تأويل القرآن بغير معناه

وننتقل إلى نقطة ثالثة، وهي أنه في زمن الإمام الهادي(ع)، كما في كثير من الأزمنة، كان بعض الناس من أهل الأهواء يحاولون أن يفسّروا القرآن بغير معناه الظاهري، وكانوا يتأولونه بغير معناه من دون أساس للتأويل، لأنَّ التأويل في عمق اللغة العربية، فعندما تستعمل لفظاً في معنى مجازي، أو عندما تستعير لفظاً موضوعاً لمعنى آخر، أو عندما تستعمل الكناية، فهذه كلها قد تقترب من معنى التأويل، ولكنه تأويل ينطلق من قواعد اللغة. أمّا أن تفسّر الكلمة على هواك، بحيث لا تجد المعنى المراد فيها، فإنَّ ذلك يعني الفوضى، لأنَّ بإمكان أي إنسان أن يفسّر أيّ كلام بما يحب دون أن يرتكز على قاعدة، وهذا ما حدث في زمن الإمام الهادي(ع) من بعض الذين ينتسبون إلى التشيع زوراً ويحاولون أن يتقربوا إلى الناس في هذا الفكر المنحرف باسم أهل البيت(ع).

نسبة الأحاديث لأهل البيت(ع)

وجاء من يكتب إلى الإمام الهادي(ع) بذلك، يقول "الكشي"، وهو من علماء الرجال: حدّثني موسى بن جعفر بن وهب عن إبراهيم بن شيبة قال: كتبت إليه: "جعلت فداك، إنَّ عندنا قوماً يختلفون في معرفة فضلكم بأقاويل مختلفة تشمئز منها القلوب وتضيق لها الصدور، ويروون في ذلك الأحاديث لا يجوز لنا الإقرار بها لما فيها من القول العظيم، ولا يجوز ردها ولا الجحود لها، إذ نسبت إلى آبائك، فنحن وقوف عليها من ذلك، لأنهم يقولون ويتأولون معنى قوله عز وجل: {إنَّ الصّلاةَ تَنهى عن الفَحْشاءِ والمُنكر} [العنكبوت:45] وقوله عز وجل: {وأقيموا الصّلاة واتوا الزّكاة}، [البقرة:43] معناها رجل لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد دراهم ولا إخراج مال، وأشياء تشبهها من الفرائض والسنن والمعاصي تأوّلوها وصيّروها على هذا الحد الذي ذكرت، فإن رأيت أن تمنّ على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من الأقاويل التي تصيّرهم إلى العطب والهلاك، والذين ادّعوا هذه الأشياء ادّعوا أنهم أولياء ودعوا إلى طاعتهم، منهم علي بن حسكة والقاسم اليقطيني، فما تقول بالقبول منهم جميعاً؟".

الموقف الصارم الحازم

فكتب إليه: "ليس هذا ديننا فاعتزله"، إنّ ديننا هو أن تأخذ بالقرآن كما نزل، وكما فهمه الناس، بحسب قواعد اللغة العربية التي هي أساس التفاهم بين الناس في هذا أو في ذلك، أمّا كل هذا فهو ليس من ديننا، ولذلك فإنَّ هؤلاء لا يمثلوننا وليسوا منّا ولسنا منهم.

لقد وقف الإمام أمام هذه الفئة التي تحوّلت إلى فئة تغلو في الدين وحاربهم حرباً لا هوادة فيها، حتى أنه أمر بقتل بعض هؤلاء إذا لم يرتدعوا عن ذلك، باعتبار أنهم أصبحوا مفسدين في الأرض على مستوى العقيدة، والفساد فيها أخطر من الفساد في العمل(21).

الشك المنهجيّ

يركّز الإمام الهادي(ع) على أسلوب القرآن، فعندما تكون هناك مشكلة بينك وبين شخص آخر، فعليك في طريقة التعبير أن تساوي نفسك بالآخر، فعندما تتحدث ـ مثلاً ـ مع شخص يشك وأنت على يقين، ففي مجال الحوار ولأجل إيصاله إلى الحقيقة، حاول أن تُظهر نفسك بمظهر الشاكّ، أو إذا كانت هناك مباهلة فإنَّك في العادة تقول للطرف الآخر إذا كنت كاذباً فسيلعنك الله، في حين أن أسلوب القرآن يعلّمك أن تقول: سيلعن الله الكاذب منّا حتى لو كنت صادقاً.

ففي تفسير العياشي بإسناده عن محمد بن سعيد الأزدي، أن موسى بن محمد بن الرضا(ع) أخبره أن يحيى ابن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل: "أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: {فإن كُنتَ في شَكٍّ ممَّا أنزَلْنَا إليكَ فاسألِ الذينَ يقرأون الكتابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس:94]، مَن المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب فيها النبي(ص)، أليس قد شك في ما أنزل الله؟ وإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذاً أنزل الكتاب؟ قال موسى: فسألت أخي عن ذلك، قال: فأما قوله: {فإن كنتَ في شَكٍّ ممَّا أنزلْنا إليْكَ فاسألِ الذينَ يقرأون الكتَابَ من قَبلِكَ} [يونس:94] فإنَّ المخاطب بذلك رسول الله(ص)، ولم يكُ في شك مما أنزل الله، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث إلينا نبيّاً من الملائكة، إنه لم يفرق بينه وبين نبيّه في الاستغناء في المأكل والمشرب والمشي في الأسواق.

فأوحى الله إلى نبيّه: {فاسأل الذينَ يقرأون الكتابَ من قَبْلِكَ} [يونس:94] بمحضر الجهلة: هل بعث الله رسولاً قبلك إلاَّ وهو يأكل الطعام ويشرب ويمشي في الأسواق، ولك بهم أسوة، وإنّما قال: فإن كنت في شك ولم يكن ـ أي لم يكن في شك ـ ولكن ليتبعهم كما قال : {فقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبنَاءَنا وأبْنَاءكُمْ ونِساءَنا ونِسَاءَكُمْ وأنفُسَنَا وأنفُسَكُمْ ثُمَّ نبْتَهِلْ فَنَجْعَل لعنَةَ الله على الكاذِبين} [آل عمران:61].

فكأنه يفرض النبي شاكّاً ـ وهو ليس بشاك ـ ويقول له كما هم شاكّون افترض أنك في موضع الشك، وذلك من أجل أن تجتذب هؤلاء لتحتجَّ عليهم بذلك، فالمباهلة تقتضي أن يفقد كل طرف صفته التي تميز بها.

ثم يقول الإمام الهادي(ع): "ولو قال تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم، لم يكونوا يجيئون للمباهلة، وقد عرف أن نبيكم مؤدّ عنه رسالته، وما هو من الكاذبين، وكذلك عرف النبي(ص) أنه صادق في ما يقول، ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه"(22).

فالذي يستفيده الإمام الهادي(ع) من القرآن هو الأسلوب العلمي الذي يجعل الإنسان الذي يحاورك يقف معك بكلِّ قلب مفتوح، لأنك ساويت نفسك به وأعطيته النَصف من نفسك، وهذا تطبيق للآية الكريمة التي تقول: {وإنَّا أو إيَّاكُم لَعَلى هُدىً أو في ضَلال مبين} [سبأ:24].

الزمن البري‏ء

ويبقى ثمة حديث يمكن أن يستفيد منه الكثير من الناس الذين اعتادوا أن ينسبوا المشاكل إلى الزمن، كما يقول قائلهم إنَّ اليوم يوم شؤم، وإن اليوم يوم نحس، وإذا حصل له مكروه قال: اللهم العن هذا اليوم، بحيث نحمّل الأيام ما يصيبنا ونتشاءم منها، فالبعض لا يسافر إذا كان اليوم آخر أربعاء من الشهر وما إلى ذلك.

ولنستمع إلى الإمام الهادي(ع) كيف يخاطب الناس الذين يتحدّثون بهذه الطريقة. يقول الحسن بن مسعود: "دخلت على أبي الحسن علي بن محمد(ع) وقد نكبت إصبعي وتلقّاني راكبٌ وصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي، فقلت: كفاني الله شرّك من يوم فما أشأمك ـ أي ما أكثر شؤمك ـ فقال لي(ع): يا حسن، هذا وأنت تغشانا، ترمي بذنبك مَن لا ذنب له؟! قال الحسن: فأثاب إليّ عقلي وتبيّنتُ خطأي، فقلت: مولاي أستغفر الله، فقال: يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها، إذا جوزيتم بأعمالكم فيها"، فما تواجهونه هو نتيجة طبيعية للأعمال {ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس ليذيقهم بعض الذي عملوا} [الروم:41]، قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً وهي توبتي يابن رسول الله، قال: والله ما ينفعكم، ولكن الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه، أما علمت يا حسن أنَّ الله هو المعاقب والمجازي بالأعمال عاجلاً وآجلاً، قلت: بلى يا مولاي، قال(ع): لا تعد ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله (23).

فكم نحمِّل الأيام من عاداتنا وتقاليدنا وما ألفناه، حتى أن هناك بعض الأحاديث تقول إنَّ في كوامل الأيام وكوامل الأسبوع وكوامل الشهور وكوامل السنة لا يُحبّذ العمل، وهذا يعني أن لا نعمل طوال السنة إذا كانت الأيام كلها نحساً وشؤماً، في حين أنَّ لدينا حديثاً يقول: "لا تعادوا الأيام فتعاديكم"(24)، فالإمام يركّز على أنَّ الشؤم شؤمنا، والسعد سعدُنا، فنحن نتفاءل من خلال ما نتحرّك فيه من ظروف محيطة بما يمكن أن يحقّق لنا النتائج الطيّبة، ونتشاءم بما يصدر منا من خلال هذه الظروف الصعبة.

التزامنا بخطّ أهل البيت(ع) التزام الروح والعقل والفكر

وهكذا، لو درسنا تاريخ أهل البيت(ع)، لرأينا الامتداد في كلِّ الواقع الإسلاميّ موجوداً في حياة كلِّ إمامٍ من أئمة أهل البيت(ع)، فإنهم عاشوا حياتهم مع الناس وهم المعصومون من قِبَل الله، والمعصومون في أنفسهم، فلم يُنْقَل في تاريخ أحدٍ منهم أيُّ خطأ في قول أو فعل أو عمل، ولذلك كانت عصمتهم تتحرّك من خلال الصورة التي أشرقت في حياتهم وفي حياة الناس كلِّهم.. وهذا هو الذي يجعلنا نلتزمهم التزام الروح والعقل والفكر، وأن نعيش في خطِّ إمامتهم، فلا يبقى لنا مجرّد الحبِّ والولاء، بل نتّبعهم في كلِّ ما يقولون وما يفعلون، لأنَّ الله تعالى أعطاهم ملكات قدسيّة استطاعوا من خلالها أن يكتشفوا الكثير مما يخفى على الناس، واستطاعوا الحصول على الكرامات التي ينقلها المؤرخون في حياتهم، مما لا يحدث إلا لأولياء الله تعالى.

وينقل المؤرخون أنَّ المتوكل عندما حبس الإمام الهادي(ع) ودفعه إلى علي بن كركر، قال(ع): "أنا أكرمُ على الله من ناقة صالح، تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب"(25)، فلما كان الغد أطلقه المتوكّل، وفي اليوم الثالث وثب على المتوكل ثلاثةٌ من قادة العسكر فقتلوه وأقعدوا ولده المنتصر خليفة..

فعلاقتنا بأهل البيت(ع) إنما هي من خلال علاقتهم بالله ورسوله، لأنَّهم عبدوا الله حقَّ عبادته، وأطاعوه حقَّ طاعته، وجاهدوا في سبيل الله، ودعوا إليه سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولذلك، فإنَّ الولاية لأهل البيت(ع) تعني أن نتّبعهم في كلِّ ما قالوه وفعلوه، واتّباعهم هو باتّباع الإسلام الحقّ الذي بيّنوه وعرّفوه لنا في كلِّ المفاهيم التي أطلقوها.

وعلينا ونحن نسير معهم ونتّبعهم، أن نستوثق من كلِّ حديث يُنْسَبُ إليهم، فلا نقبل كلَّ حديث يرويه من نعرفه ومَنْ لا نعرفه، بل لا بدَّ لنا أن نعرفه بالمستوى الذي نعرف فيه أنَّه الحقّ.

المصادر:

(17)بحار الأنوار، ج:5، ص:208.

(18)بحار الأنوار، ج:67، ص:357.

(19)الكافي، الكليني، ج:1، ص:24، رواية:20.

(20)الكافي، الكليني، ج:1، ص:10، رواية:1.

(21)جاء في وسائل الشيعة أن الإمام الهادي(ع)، قال لأحد أصحابه عن هؤلاء الغلاة: "وإن وجدت من أحدٍ منهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخرة"، ج8/554.

(22)تفسير العياشي، ج:2، ص:128.

(23)بحار الأنوار، ج:65، ص:2.

(24)بحار الأنوار، ج:24، ص:238.

(25)مناقب آل أبي طالب، ج:4، ص:407.

سلسلة ذهبيّة وحديث ذهبيّ

ونعيش مع الإمام(ع) المفاهيم الإسلامية التي قد توحي إلينا بالكثير مما قد نختلف فيه، وقد تصحّح لنا الكثير مما أخطأنا فيه، ذلك بأنَّ قيمة هذه الكلمات أنها كلمات النور والحق الذي يضي‏ء للناس الطريق في كل زمان ومكان، لأنَّ الإمام لم يتحدّث عن فكر ذاتي يمكن أن يخطى‏ء فيه المفكّر أو يصيب، بل تحدّث عن إسلام نقيّ صافٍ يتحرّك فيه من خلال ما قاله الشاعر:

ووالِ أناساً قولهم وحديثهـم روى جدُّنا عن جبرائيل عن الباري

وينقل بعض الذين عاصروه، كما يذكر ذلك "المسعودي" في "مروج الذهب" في مسألة هذا الإسناد المتسلسل الذي يربط الفكرة برسول الله(ص)، على أساس أنَّ الكلام كلامُه وأنَّ الفكرة فكرته {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:3ـ4]. قال المسعودي: "حدثني محمد بن الفرج بمدينة جرجان في المحلّة المعروفة ببئر أبو عناب قال: حدثني أبو دعامه قال: أتيت علي بن محمد بن علي بن موسى الهادي عائداً في علّته التي كانت وفاته منها في هذه السنة"، لاحظ أنَّ الإمام وهو في مرض الموت لم يكن ليترك الفرصة في أن يعلّم الناس الذين يعودونه، وهذا ما كان عليه عليٌّ(ع)، كما يُروى أنه عندما ضربه (عبد الرحمن بن ملجم) وكان يعاني من ضربته تلك كان يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني"، وهو يعاني مما يقرب من سكرات الموت، وهو المضروب بسيف مسموم على رأسه، والسُّم يسري في جسده، فلقد كان يريد أن لا تمضي اللحظات الأخيرة من حياته إلاّ وهو يعلّم الناس علماً يضي‏ء لهم الفكر وينفتح بهم على الحق.

وهكذا كان الإمام علي الهادي(ع) كما يقول هذا الشخص، "فلما هممت بالانصراف، قال لي: يا أبا دعامة، قد وجب عليّ حقُّك، أحدّثك بحديث تُسَرُّ به، قال: فقلت: ما أحوجني إلى ذلك يابن رسول الله، قال: حدّثني أبي محمد بن علي، قال حدّثني: أبي علي بن موسى، قال حدّثني: أبي موسى بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدّثني أبي محمد بن علي، قال: حدّثني أبي علي بن الحسين، قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب(ع)، قال: قال لي رسول الله: يا علي: أكتب، قال: فقلت ما أكتب؟ فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى على اللسان وحلّت به المناكحة. قال أبو دعامة: فقلت يابن رسول الله، والله ما أدري أيهما أحسن، الحديث أم الإسناد، فقال: إنها لصحيفة بخطِّ علي بن أبي طالب(ع) وإملاء رسول الله(ص) نتوارثها صاغراً عن كابر"(17).

استيحاءات النصّ

عندما ندرس هذا النص، فإنّنا نأخذ منه ثلاث نقاط: النقطة الأولى، وهي أنَّ الأئمة(ع) كانوا يتحدثون بحديث رسول الله(ص) من خلال هذه السلسلة المباركة، وهذا الإسناد الطاهر الذي قال عنه (أحمد بن حنبل) في بعض كلماته إنَّه "لو أُلقِيَ على مجنون لأفاق".

والنقطة الثانية: أن الأئمة(ع) كانوا لا يتركون فرصة لتعليم الناس إلا وانتهزوها حتى في مرض الموت، كما ذكرنا ذلك.

والنقطة الثالثة: أنهم كانوا يتوارثون كتاب عليٍّ(ع)، وهو الذي كتبه(ع) بإملاء رسول الله(ص) مما لم يروه الكثير من الصحابة.

ونقف على هاتين الكلمتين: "الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى على اللسان وحلّت به المناكحة"، فالإسلام كلمة وحركة ظاهرية في اتجاه الكلمة، وذلك بأن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أن تقولها، سواء كانت منطلقة من قلبك أو من لسانك، لتتحرّك في المجرى العام في الحياة الإسلامية، لتكون مسلماً تعيش الانتماء إلى الإسلام، وتكون مسلماً كبقية المسلمين في المسألة القانونية الظاهرية.

حقيقة الإيمان وجوهره

أما الإيمان، فهو ليس مجرد فكرة تنطلق من العقل لينفتح لها القلب، ولكنها فكرة تتعمّق في الذات، بأن يكون الإيمان عقلاً من عقلك، وقلباً من قلبك، وإحساساً من إحساسك، وكلمة تنطق بها بلسانك، ولستَ مؤمناً إذا اكتفيت بذلك، ولكن أن يكون هناك دليل على هذا الإيمان، ودليل الإيمان أن تكون عيناك مؤمنتين، فلا تنظران إلاّ لما أحلّ الله، ولا تتحركان إلا من خلال المعرفة التي تطوف في آفاق الله، وأن تكون أذناك مؤمنتين لا تسمعان إلا ما أحلّ الله، ولا تتخذان طاقة السمع إلا من أجل معرفةٍ يمكن لها أن تغني عقلك، عندما يتحول السمع إلى قناة تطل على عقلك، وأن يكون لسانك مؤمناً فلا ينطق إلاّ بالحق، وأن تكون يداك مؤمنتين فلا تتحركان إلا بما أحلّ الله، وأن تكون رجلاك مؤمنتين فلا تنطلقان إلاّ في الدروب التي يرضاها الله، وأن يكون كلُّ جسدك مؤمناً في ما تأكل بأن يكون حلالاً، وفيما تشرب بأن يكون حلالاً، وفي ما تستلذّ من شهواتك بأن تكون من حلال، وفي ما تلعب وتلهو بأن يكون لهوك حلالاً ولعبك حلالاً.

وتستمر المسألة لتمتدّ في مواقفك، بأن تكون مواقفك عندما تؤيّد وعندما ترفض صورة لإيمانك، فلا تقف أيّ موقف تأييد إلاّ إذا كان الإيمان ينسجم مع هذا الموقف، ولا تقف موقف رفض إلاّ إذا كان الإيمان يتطلّب منك ذلك.

أن تكون مؤمن العقل والقلب والإحساس والشعور والحركة، لأنَّ ذلك هو الدليل على إيمانك، وهذا ما تحدّث به الإمام الصادق(ع) في ما رُوي عنه أنهم قالوا له: إنَّ هناك "من يقول إننا نرجو الجنة ونخاف من النار"، قال: "كذبوا، ليسوا براجين، إنّ من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شي‏ء هرب منه"(18)، فالذين يتجهون إلى ما يدخلهم النار كيف يقولون إننا نخاف النار، والذين يبتعدون عمّا يؤدّي بهم إلى الجنة كيف يقولون إننا نرجو الجنة، إنَّ هذه الكلمة تؤكّد على أن يكون الإيمان كلَّ كيانك، وأن لا يكون مجرّد خطراتٍ في الفكر ونبضات في القلب وبعض ما تلمّ به من هنا وهناك.

قيمة العقل

ثم ننطلق إلى فكرة أخرى يؤكّد فيها الإمام قيمة العقل، كما يشرح لنا فيها هذا التنوّع في معاجز الأنبياء، لماذا جاء موسى بمعجزة العصا وباليد البيضاء، ولماذا جاء عيسى بمعجزة إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ولماذا جاء محمد(ص) بمعجزة القرآن في عالم البلاغة.

يروي (الكليني) في (الكافي) عن الحسين بن محمد عن أحمد بن محمد السيّاري عن أبي يعقوب البغدادي، قال: "قال ابن السكيت ـ وكان من علماء اللغة العربية ـ لأبي الحسن علي الهادي(ع): لماذا بعث الله موسى بن عمران(ع) بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب، وبعث محمداً(ص) على جميع الأنبياء(ع) بالكلام والخطب؟

فقال أبو الحسن: إنَّ الله لمّا بعث موسى(ع) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم، إنَّ الله بعث عيسى(ع) في وقت ظهرت فيه الزمانات ـ أي الأمراض المزمنة ـ واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجة عليهم، إنَّ الله بعث محمداً(ص) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، وأظنه قال الشعر، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل قولهم وأثبت به الحجة عليهم".

العقـل حجّـة

قال: فقال ابن السكِّيت: "تالله ما رأيت مثلك قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ قال: فقال(ع): العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه، قال: فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب"(19).

ونلاحظ هنا، أنَّ الإمام يريد أن يؤكّد ما أكّده الإسلام في القرآن وفي بعض الأحاديث القدسيّة، من أنّ العقل هو حجة الله على الإنسان، وأنَّ الله يأمر العقل بما يأمر به وينهى العقل بما ينهى عنه، وأنه يثيب الإنسان ويعاقبه على قدر عقله.

فعندما تحدّث (ابن السكيت) عما هو الحجّة اليوم، فإنَّ الإمام الهادي(ع) لم يشر إلى الحجّة بصراحة، ولكنه قال له: إنَّ هناك الصادقين الذين يصدقون على الله في ما ينطلقون به من الرسالة وفي ما يجلسون به من الموقع، وفي ما يتحركون به مما يأمرون الناس أو ينهونهم عنه، وعليك أن تستنطق عقلك، ثم دعه يدرس مواقف كلِّ الذين يتحرّكون في الساحة، فالعقل عندما يملك العناصر الأساسية التي يمكن له أن يتحرك فيها بإشراقة الفكر وصفائه ونقائه، يمكن عندئذ أن يكتشف الحجة، وهو الصادق الذي يعرف من خلال صدقه أنه يصدق عن الله، ويعرف الكاذب الذي يمكن أن يكتشف كذبه عندما يكذب على الله، ليصدّق الصادق فيتبعه ويسير معه.

العقل مقياس

وهذا هو المقياس الذي لا بد لنا أن نقيس به الأشياء، فالعقل قادنا إلى أن نؤمن برسول الله(ص)، وإلى أن نؤمن بالقرآن وبالإسلام، والعقل يقودنا الآن إلى أن يكون تصديقنا لمن نصدقه منطلقاً من الحجة التي يتمتع بها هذا الإنسان الذي يريد أن يكون حجة علينا في ذلك، وأن لا يكون انتماؤنا لأيّ إنسان من خلال قرابة أو صداقة أو حالة سطحية، بل أن نستنطق عقلنا في كل من يتحرك في الساحة، لنعرف من الصادق على الله لنصدّقه، ومن الكاذب عليه لنكذّبه، وإذا استنطقنا عقولنا وتجرّدنا عن كل أهوائنا وكل ما ورثناه وألفناه، فسينطلق العقل ليعرّفنا الحجة في كل زمان ومكان.

ولعلّ مشكلتنا في كثير مما ننحرف فيه ونخطى‏ء أننا عاطفيون وانفعاليون ولسنا عقلانيين، فنحن نخاطب بعضنا بعضاً بهوى النفس، ونرتبط ببعضنا البعض من خلال حالات الانفعال، وندمّر بعضنا بعضاً على أساس الانفعال. فوحدها الأمة التي تعقل، وحدها الأمة التي تفكّر، وحدها الأمة التي تعالج كلّ قضاياها بالحوار العقلاني الموضوعي، وهي الأمة التي يمكن أن تعرف الله جيداً وتعرف رسالاته ورسله جيداً، وتعرف كيف تكتشف الحسن لترتبط به، وكيف تكتشف القبيح لتنأى عنه.

لذلك، فإذا أردتم أن تنفتحوا على المصير الذي ينجيكم عند الله، فاستنطقوا عقولكم، لأنّ الله كما في الحديث المأثور المروي عن أئمة أهل البيت(ع): "لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب"(20).

تأويل القرآن بغير معناه

وننتقل إلى نقطة ثالثة، وهي أنه في زمن الإمام الهادي(ع)، كما في كثير من الأزمنة، كان بعض الناس من أهل الأهواء يحاولون أن يفسّروا القرآن بغير معناه الظاهري، وكانوا يتأولونه بغير معناه من دون أساس للتأويل، لأنَّ التأويل في عمق اللغة العربية، فعندما تستعمل لفظاً في معنى مجازي، أو عندما تستعير لفظاً موضوعاً لمعنى آخر، أو عندما تستعمل الكناية، فهذه كلها قد تقترب من معنى التأويل، ولكنه تأويل ينطلق من قواعد اللغة. أمّا أن تفسّر الكلمة على هواك، بحيث لا تجد المعنى المراد فيها، فإنَّ ذلك يعني الفوضى، لأنَّ بإمكان أي إنسان أن يفسّر أيّ كلام بما يحب دون أن يرتكز على قاعدة، وهذا ما حدث في زمن الإمام الهادي(ع) من بعض الذين ينتسبون إلى التشيع زوراً ويحاولون أن يتقربوا إلى الناس في هذا الفكر المنحرف باسم أهل البيت(ع).

نسبة الأحاديث لأهل البيت(ع)

وجاء من يكتب إلى الإمام الهادي(ع) بذلك، يقول "الكشي"، وهو من علماء الرجال: حدّثني موسى بن جعفر بن وهب عن إبراهيم بن شيبة قال: كتبت إليه: "جعلت فداك، إنَّ عندنا قوماً يختلفون في معرفة فضلكم بأقاويل مختلفة تشمئز منها القلوب وتضيق لها الصدور، ويروون في ذلك الأحاديث لا يجوز لنا الإقرار بها لما فيها من القول العظيم، ولا يجوز ردها ولا الجحود لها، إذ نسبت إلى آبائك، فنحن وقوف عليها من ذلك، لأنهم يقولون ويتأولون معنى قوله عز وجل: {إنَّ الصّلاةَ تَنهى عن الفَحْشاءِ والمُنكر} [العنكبوت:45] وقوله عز وجل: {وأقيموا الصّلاة واتوا الزّكاة}، [البقرة:43] معناها رجل لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد دراهم ولا إخراج مال، وأشياء تشبهها من الفرائض والسنن والمعاصي تأوّلوها وصيّروها على هذا الحد الذي ذكرت، فإن رأيت أن تمنّ على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من الأقاويل التي تصيّرهم إلى العطب والهلاك، والذين ادّعوا هذه الأشياء ادّعوا أنهم أولياء ودعوا إلى طاعتهم، منهم علي بن حسكة والقاسم اليقطيني، فما تقول بالقبول منهم جميعاً؟".

الموقف الصارم الحازم

فكتب إليه: "ليس هذا ديننا فاعتزله"، إنّ ديننا هو أن تأخذ بالقرآن كما نزل، وكما فهمه الناس، بحسب قواعد اللغة العربية التي هي أساس التفاهم بين الناس في هذا أو في ذلك، أمّا كل هذا فهو ليس من ديننا، ولذلك فإنَّ هؤلاء لا يمثلوننا وليسوا منّا ولسنا منهم.

لقد وقف الإمام أمام هذه الفئة التي تحوّلت إلى فئة تغلو في الدين وحاربهم حرباً لا هوادة فيها، حتى أنه أمر بقتل بعض هؤلاء إذا لم يرتدعوا عن ذلك، باعتبار أنهم أصبحوا مفسدين في الأرض على مستوى العقيدة، والفساد فيها أخطر من الفساد في العمل(21).

الشك المنهجيّ

يركّز الإمام الهادي(ع) على أسلوب القرآن، فعندما تكون هناك مشكلة بينك وبين شخص آخر، فعليك في طريقة التعبير أن تساوي نفسك بالآخر، فعندما تتحدث ـ مثلاً ـ مع شخص يشك وأنت على يقين، ففي مجال الحوار ولأجل إيصاله إلى الحقيقة، حاول أن تُظهر نفسك بمظهر الشاكّ، أو إذا كانت هناك مباهلة فإنَّك في العادة تقول للطرف الآخر إذا كنت كاذباً فسيلعنك الله، في حين أن أسلوب القرآن يعلّمك أن تقول: سيلعن الله الكاذب منّا حتى لو كنت صادقاً.

ففي تفسير العياشي بإسناده عن محمد بن سعيد الأزدي، أن موسى بن محمد بن الرضا(ع) أخبره أن يحيى ابن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل: "أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: {فإن كُنتَ في شَكٍّ ممَّا أنزَلْنَا إليكَ فاسألِ الذينَ يقرأون الكتابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس:94]، مَن المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب فيها النبي(ص)، أليس قد شك في ما أنزل الله؟ وإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذاً أنزل الكتاب؟ قال موسى: فسألت أخي عن ذلك، قال: فأما قوله: {فإن كنتَ في شَكٍّ ممَّا أنزلْنا إليْكَ فاسألِ الذينَ يقرأون الكتَابَ من قَبلِكَ} [يونس:94] فإنَّ المخاطب بذلك رسول الله(ص)، ولم يكُ في شك مما أنزل الله، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث إلينا نبيّاً من الملائكة، إنه لم يفرق بينه وبين نبيّه في الاستغناء في المأكل والمشرب والمشي في الأسواق.

فأوحى الله إلى نبيّه: {فاسأل الذينَ يقرأون الكتابَ من قَبْلِكَ} [يونس:94] بمحضر الجهلة: هل بعث الله رسولاً قبلك إلاَّ وهو يأكل الطعام ويشرب ويمشي في الأسواق، ولك بهم أسوة، وإنّما قال: فإن كنت في شك ولم يكن ـ أي لم يكن في شك ـ ولكن ليتبعهم كما قال : {فقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبنَاءَنا وأبْنَاءكُمْ ونِساءَنا ونِسَاءَكُمْ وأنفُسَنَا وأنفُسَكُمْ ثُمَّ نبْتَهِلْ فَنَجْعَل لعنَةَ الله على الكاذِبين} [آل عمران:61].

فكأنه يفرض النبي شاكّاً ـ وهو ليس بشاك ـ ويقول له كما هم شاكّون افترض أنك في موضع الشك، وذلك من أجل أن تجتذب هؤلاء لتحتجَّ عليهم بذلك، فالمباهلة تقتضي أن يفقد كل طرف صفته التي تميز بها.

ثم يقول الإمام الهادي(ع): "ولو قال تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم، لم يكونوا يجيئون للمباهلة، وقد عرف أن نبيكم مؤدّ عنه رسالته، وما هو من الكاذبين، وكذلك عرف النبي(ص) أنه صادق في ما يقول، ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه"(22).

فالذي يستفيده الإمام الهادي(ع) من القرآن هو الأسلوب العلمي الذي يجعل الإنسان الذي يحاورك يقف معك بكلِّ قلب مفتوح، لأنك ساويت نفسك به وأعطيته النَصف من نفسك، وهذا تطبيق للآية الكريمة التي تقول: {وإنَّا أو إيَّاكُم لَعَلى هُدىً أو في ضَلال مبين} [سبأ:24].

الزمن البري‏ء

ويبقى ثمة حديث يمكن أن يستفيد منه الكثير من الناس الذين اعتادوا أن ينسبوا المشاكل إلى الزمن، كما يقول قائلهم إنَّ اليوم يوم شؤم، وإن اليوم يوم نحس، وإذا حصل له مكروه قال: اللهم العن هذا اليوم، بحيث نحمّل الأيام ما يصيبنا ونتشاءم منها، فالبعض لا يسافر إذا كان اليوم آخر أربعاء من الشهر وما إلى ذلك.

ولنستمع إلى الإمام الهادي(ع) كيف يخاطب الناس الذين يتحدّثون بهذه الطريقة. يقول الحسن بن مسعود: "دخلت على أبي الحسن علي بن محمد(ع) وقد نكبت إصبعي وتلقّاني راكبٌ وصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي، فقلت: كفاني الله شرّك من يوم فما أشأمك ـ أي ما أكثر شؤمك ـ فقال لي(ع): يا حسن، هذا وأنت تغشانا، ترمي بذنبك مَن لا ذنب له؟! قال الحسن: فأثاب إليّ عقلي وتبيّنتُ خطأي، فقلت: مولاي أستغفر الله، فقال: يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها، إذا جوزيتم بأعمالكم فيها"، فما تواجهونه هو نتيجة طبيعية للأعمال {ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس ليذيقهم بعض الذي عملوا} [الروم:41]، قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً وهي توبتي يابن رسول الله، قال: والله ما ينفعكم، ولكن الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه، أما علمت يا حسن أنَّ الله هو المعاقب والمجازي بالأعمال عاجلاً وآجلاً، قلت: بلى يا مولاي، قال(ع): لا تعد ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله (23).

فكم نحمِّل الأيام من عاداتنا وتقاليدنا وما ألفناه، حتى أن هناك بعض الأحاديث تقول إنَّ في كوامل الأيام وكوامل الأسبوع وكوامل الشهور وكوامل السنة لا يُحبّذ العمل، وهذا يعني أن لا نعمل طوال السنة إذا كانت الأيام كلها نحساً وشؤماً، في حين أنَّ لدينا حديثاً يقول: "لا تعادوا الأيام فتعاديكم"(24)، فالإمام يركّز على أنَّ الشؤم شؤمنا، والسعد سعدُنا، فنحن نتفاءل من خلال ما نتحرّك فيه من ظروف محيطة بما يمكن أن يحقّق لنا النتائج الطيّبة، ونتشاءم بما يصدر منا من خلال هذه الظروف الصعبة.

التزامنا بخطّ أهل البيت(ع) التزام الروح والعقل والفكر

وهكذا، لو درسنا تاريخ أهل البيت(ع)، لرأينا الامتداد في كلِّ الواقع الإسلاميّ موجوداً في حياة كلِّ إمامٍ من أئمة أهل البيت(ع)، فإنهم عاشوا حياتهم مع الناس وهم المعصومون من قِبَل الله، والمعصومون في أنفسهم، فلم يُنْقَل في تاريخ أحدٍ منهم أيُّ خطأ في قول أو فعل أو عمل، ولذلك كانت عصمتهم تتحرّك من خلال الصورة التي أشرقت في حياتهم وفي حياة الناس كلِّهم.. وهذا هو الذي يجعلنا نلتزمهم التزام الروح والعقل والفكر، وأن نعيش في خطِّ إمامتهم، فلا يبقى لنا مجرّد الحبِّ والولاء، بل نتّبعهم في كلِّ ما يقولون وما يفعلون، لأنَّ الله تعالى أعطاهم ملكات قدسيّة استطاعوا من خلالها أن يكتشفوا الكثير مما يخفى على الناس، واستطاعوا الحصول على الكرامات التي ينقلها المؤرخون في حياتهم، مما لا يحدث إلا لأولياء الله تعالى.

وينقل المؤرخون أنَّ المتوكل عندما حبس الإمام الهادي(ع) ودفعه إلى علي بن كركر، قال(ع): "أنا أكرمُ على الله من ناقة صالح، تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب"(25)، فلما كان الغد أطلقه المتوكّل، وفي اليوم الثالث وثب على المتوكل ثلاثةٌ من قادة العسكر فقتلوه وأقعدوا ولده المنتصر خليفة..

فعلاقتنا بأهل البيت(ع) إنما هي من خلال علاقتهم بالله ورسوله، لأنَّهم عبدوا الله حقَّ عبادته، وأطاعوه حقَّ طاعته، وجاهدوا في سبيل الله، ودعوا إليه سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولذلك، فإنَّ الولاية لأهل البيت(ع) تعني أن نتّبعهم في كلِّ ما قالوه وفعلوه، واتّباعهم هو باتّباع الإسلام الحقّ الذي بيّنوه وعرّفوه لنا في كلِّ المفاهيم التي أطلقوها.

وعلينا ونحن نسير معهم ونتّبعهم، أن نستوثق من كلِّ حديث يُنْسَبُ إليهم، فلا نقبل كلَّ حديث يرويه من نعرفه ومَنْ لا نعرفه، بل لا بدَّ لنا أن نعرفه بالمستوى الذي نعرف فيه أنَّه الحقّ.

المصادر:

(17)بحار الأنوار، ج:5، ص:208.

(18)بحار الأنوار، ج:67، ص:357.

(19)الكافي، الكليني، ج:1، ص:24، رواية:20.

(20)الكافي، الكليني، ج:1، ص:10، رواية:1.

(21)جاء في وسائل الشيعة أن الإمام الهادي(ع)، قال لأحد أصحابه عن هؤلاء الغلاة: "وإن وجدت من أحدٍ منهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخرة"، ج8/554.

(22)تفسير العياشي، ج:2، ص:128.

(23)بحار الأنوار، ج:65، ص:2.

(24)بحار الأنوار، ج:24، ص:238.

(25)مناقب آل أبي طالب، ج:4، ص:407.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير