الإمامُ الهادي (ع): موضعُ تقديرِ الأعداءِ والأولياءِ

الإمامُ الهادي (ع): موضعُ تقديرِ الأعداءِ والأولياءِ

عندما نقرأ تاريخ الإمام الهادي (ع)، نستوحي منه أنَّه كان محلَّ احترام الناس وتقديرهم في الحرمين ومكة والمدينة، ومن الطبيعي أن يكون هذا التقدير وهذا الاحترام بمستوى استثنائي، إذ لا بدَّ أن يكون ناشئاً من خلال القيادة الفكريّة والروحية والحركيّة التي كانت تدخل إلى كلِّ عقل وإلى كلّ قلب، لأنَّه ليس من الطبيعيّ أن يأخذ إنسانٌ هذا المستوى من الإكبار والتعظيم بدون أن يترك تأثيره في عقول النّاس وقلوبهم وحياتهم، مع ملاحظة أنّ أهل الحرمين لم يكونوا على رأي واحدٍ من المذهبيّة، بل كانوا يختلفون، حيث لم يُعهد أنَّ النّاس في مكّة والمدينة كانوا انذاك إماميّين يتشيّعون لأهل البيت (ع)، بل كانوا مختلفين في آرائهم المذهبيَّة، ومع ذلك، تراهم يلتقون على احترام شخصيّة الإمام الهادي (ع)1.

موضعُ احترامِ النّاسِ

من كلّ ذلك، نخلص إلى الموقع الذي كان يشغله الإمام في نفوس الناس، يقول (يحيى بن هرثمة)، [وقد أرسله المتوكّل]: "فذهبت إلى المدينة، فلمّا دخلتها، ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع النّاس بمثله خوفاً على عليّ، وقامت الدّنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم، ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجلعت أسكّنهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتّشت منزله، فلم أجد فيه إلّا مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني، وتولّيت خدمته بنفسي، وأحسنتُ عشرته"2.

فمن هذا وغيره، نعرف أنّ الإمام الهادي (ع) كان يتميّز بثقةٍ ومحبّةٍ عند النّاس بشكل لم يختلفوا عليه حتى مع اختلاف مذاهبهم، بحيث امتدّت محبته وتعظيمه حتى إلى حاشية المتوكّل في بغداد وسامراء بالمستوى الذي يهدّد والي بغداد ووصيف التركي بأنّه إذا سقطت شعرة منه، فإنه يطالب بها بكلّ قوّة، مما لم نعهده في تعامل الخلفاء مع أيّ إمام من أئمة أهل البيت (ع). وكما قلنا ـ فإنّ هذا يوحي بأنّ حركة الإمام (ع) في إدارة شؤون النّاس من خلال إحسانه إليهم تارةً، ومن خلال تثقيفه لهم، ومن خلال رعاية أمورهم، جعله في موقع محبة الناس كلّهم3.

إنّه الإنسان الذي يلتقي أعداؤه وأولياؤه على تعظيمه ومدحه والثناء عليه، هو إنسانٌ استطاع أن يقتحم عقول الناس وقلوبهم بكلِّ ما يرفع ثقافتهم، وما يؤكّد الخيرَ والعلم والعدلَ في حياتهم كلّها، لأنَّه لا يمكن أن يلتقي الناس على شخص إلاَّ إذا استطاع أن يفرض نفسه عليهم بكلّ الطاقات العلمية والروحية والأخلاقية التي تتمثّل فيه4.

هيبةٌ وروحانيّةٌ

وينقل عن هيبته: أنّه كان ذاهباً إلى بعض الأماكن، وقد وقف الناس وترجَّلوا له، وقال شخص هناك: إنّ هذا الفتى ليس أكبرنا سنّاً، وليس أغنانا، فلماذا نترجَّل له؟! فقال له أحدهم: سيخرج وسترى بنفسك أنّك لن تثبت على كلامك. وفعلاً، عندما خرج الإمام، كان هذا القائل أوّل المترجّلين أمامه بشكلٍ لا شعوريّ، وعندما سئل قال: إنّنا عندما رأيناه لم نملك أنفسنا إلّا وترجّلنا له.

كان يملك هيبةً تنطلق من عناصر شخصيّته، ومن روحانية تشعّ في وجهه، بحيث يشعر النّاس بالهالة الرّوحانيّة التي يعيشها الأئمّة (ع) فيما يختزنونه من إشعاعات الرّوح5.

مواجهتُه (ع) للغلوِّ في الدّين

[وقد] عاش الإمام كلّ حياته معلّماً هادياً مرشداً يحتضن النّاس كلّهم...

يقول "الكشي"، وهو من علماء الرجال: حدّثني موسى بن جعفر بن وهب عن إبراهيم بن شيبة قال: كتبت إليه [إلى الهادي (ع)]: "جعلت فداك، إنّ عندنا قوماً يختلفون في معرفة فضلكم بأقاويل مختلفة تشمئزّ منها القلوب، وتضيق لها الصّدور، ويروون في ذلك الأحاديث، لا يجوز لنا الإقرار بها، لما فيها من القول العظيم، ولا يجوز ردّها ولا الجحود لها، إذ نسبت إلى آبائك، فنحن وقوف عليها من ذلك، لأنهم يقولون ويتأوّلون معنى قوله عزّ وجلّ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}6، وقوله عزّ وجلّ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}7، معناها رجل لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرّجل، لا عدد دراهم ولا إخراج مال، وأشياء تشبهها من الفرائض والسّنن والمعاصي، تأوّلوها وصيّروها على هذا الحدّ الذي ذكرت، فإن رأيت أن تمنّ على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من الأقاويل الّتي تصيّرهم إلى العطب والهلاك. والذين ادّعوا هذه الأشياء، ادّعوا أنهم أولياء ودعوا إلى طاعتهم، منهم عليّ بن حسكة والقاسم اليقطيني، فما تقول بالقبول منهم جميعاً؟

فكتب إليه: "ليس هذا ديننا فاعتزله"8. إنّ ديننا هو أن تأخذ بالقرآن كما نزل، وكما فهمه الناس بحسب قواعد اللّغة العربيّة التي هي أساس التفاهم بين الناس في هذا أو في ذاك، أمّا كلّ هذا، فهو ليس من ديننا، ولذلك، فإن هؤلاء لا يمثلوننا وليسوا منا ولسنا منهم.

لقد وقف الإمام أمام هذه الفئة التي تحوّلت إلى فئةٍ تغلو في الدّين، وحاربهم حرباً لا هوادة فيها، حتى إنّه أمر بقتل بعض هؤلاء إذا لم يرتدعوا عن ذلك، باعتبار أنهم أصبحوا مفسدين في الأرض على مستوى العقيدة، والفساد فيها أخطر من الفساد في العمل9.

معاناةٌ حتَّى الشّهادة

وقد عانى الإمام الهادي (ع) الكثير من خلفاء بني العباس، فقد عاش مع المعتصم في بقيّة خلافته، ثم بعد ذلك، عاش مع أكثر من شخص من هؤلاء، كما يتحدث "ابن الصباغ المالكي" في "الفصول المهمّة"، أنه عاش مدّة في بقية ملك "المعتصم"، ثم مع "الواثق" خمس سنين وتسعة أشهر، ثم مع "المتوكّل" أربعة عشر سنة، ثم مع ابنه "المنتصر" ستّة أشهر، ثم مع "المستعين" ابن أخ المتوكّل ثلاث سنين وتسعة أشهر، ثم مع "المعتزّ"، وهو ابن الزبير بن المتوكّل، وقد استشهد في آخر ملكه، لأنّه (ع)، كما في "الفصول المهمّة"، مات مسموماً10...

[1]من كتاب "في رحاب أهل البيت (ع)، ج2.

[2]تاريخ الطبري، ج9، ص 360.

[3]من كتاب النّدوة، ج 5.

[4]في رحاب أهل البيت (ع)، ج2.

[5]من كتاب النّدوة، ج1.

[6]العنكبوت: 45.

[7]البقرة: 43.

[8]رجال الكشّي، ص 435.

[9]من كتاب النّدوة، ج 4.

[10]من كتاب النّدوة، ج4.

عندما نقرأ تاريخ الإمام الهادي (ع)، نستوحي منه أنَّه كان محلَّ احترام الناس وتقديرهم في الحرمين ومكة والمدينة، ومن الطبيعي أن يكون هذا التقدير وهذا الاحترام بمستوى استثنائي، إذ لا بدَّ أن يكون ناشئاً من خلال القيادة الفكريّة والروحية والحركيّة التي كانت تدخل إلى كلِّ عقل وإلى كلّ قلب، لأنَّه ليس من الطبيعيّ أن يأخذ إنسانٌ هذا المستوى من الإكبار والتعظيم بدون أن يترك تأثيره في عقول النّاس وقلوبهم وحياتهم، مع ملاحظة أنّ أهل الحرمين لم يكونوا على رأي واحدٍ من المذهبيّة، بل كانوا يختلفون، حيث لم يُعهد أنَّ النّاس في مكّة والمدينة كانوا انذاك إماميّين يتشيّعون لأهل البيت (ع)، بل كانوا مختلفين في آرائهم المذهبيَّة، ومع ذلك، تراهم يلتقون على احترام شخصيّة الإمام الهادي (ع)1.

موضعُ احترامِ النّاسِ

من كلّ ذلك، نخلص إلى الموقع الذي كان يشغله الإمام في نفوس الناس، يقول (يحيى بن هرثمة)، [وقد أرسله المتوكّل]: "فذهبت إلى المدينة، فلمّا دخلتها، ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع النّاس بمثله خوفاً على عليّ، وقامت الدّنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم، ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجلعت أسكّنهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتّشت منزله، فلم أجد فيه إلّا مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني، وتولّيت خدمته بنفسي، وأحسنتُ عشرته"2.

فمن هذا وغيره، نعرف أنّ الإمام الهادي (ع) كان يتميّز بثقةٍ ومحبّةٍ عند النّاس بشكل لم يختلفوا عليه حتى مع اختلاف مذاهبهم، بحيث امتدّت محبته وتعظيمه حتى إلى حاشية المتوكّل في بغداد وسامراء بالمستوى الذي يهدّد والي بغداد ووصيف التركي بأنّه إذا سقطت شعرة منه، فإنه يطالب بها بكلّ قوّة، مما لم نعهده في تعامل الخلفاء مع أيّ إمام من أئمة أهل البيت (ع). وكما قلنا ـ فإنّ هذا يوحي بأنّ حركة الإمام (ع) في إدارة شؤون النّاس من خلال إحسانه إليهم تارةً، ومن خلال تثقيفه لهم، ومن خلال رعاية أمورهم، جعله في موقع محبة الناس كلّهم3.

إنّه الإنسان الذي يلتقي أعداؤه وأولياؤه على تعظيمه ومدحه والثناء عليه، هو إنسانٌ استطاع أن يقتحم عقول الناس وقلوبهم بكلِّ ما يرفع ثقافتهم، وما يؤكّد الخيرَ والعلم والعدلَ في حياتهم كلّها، لأنَّه لا يمكن أن يلتقي الناس على شخص إلاَّ إذا استطاع أن يفرض نفسه عليهم بكلّ الطاقات العلمية والروحية والأخلاقية التي تتمثّل فيه4.

هيبةٌ وروحانيّةٌ

وينقل عن هيبته: أنّه كان ذاهباً إلى بعض الأماكن، وقد وقف الناس وترجَّلوا له، وقال شخص هناك: إنّ هذا الفتى ليس أكبرنا سنّاً، وليس أغنانا، فلماذا نترجَّل له؟! فقال له أحدهم: سيخرج وسترى بنفسك أنّك لن تثبت على كلامك. وفعلاً، عندما خرج الإمام، كان هذا القائل أوّل المترجّلين أمامه بشكلٍ لا شعوريّ، وعندما سئل قال: إنّنا عندما رأيناه لم نملك أنفسنا إلّا وترجّلنا له.

كان يملك هيبةً تنطلق من عناصر شخصيّته، ومن روحانية تشعّ في وجهه، بحيث يشعر النّاس بالهالة الرّوحانيّة التي يعيشها الأئمّة (ع) فيما يختزنونه من إشعاعات الرّوح5.

مواجهتُه (ع) للغلوِّ في الدّين

[وقد] عاش الإمام كلّ حياته معلّماً هادياً مرشداً يحتضن النّاس كلّهم...

يقول "الكشي"، وهو من علماء الرجال: حدّثني موسى بن جعفر بن وهب عن إبراهيم بن شيبة قال: كتبت إليه [إلى الهادي (ع)]: "جعلت فداك، إنّ عندنا قوماً يختلفون في معرفة فضلكم بأقاويل مختلفة تشمئزّ منها القلوب، وتضيق لها الصّدور، ويروون في ذلك الأحاديث، لا يجوز لنا الإقرار بها، لما فيها من القول العظيم، ولا يجوز ردّها ولا الجحود لها، إذ نسبت إلى آبائك، فنحن وقوف عليها من ذلك، لأنهم يقولون ويتأوّلون معنى قوله عزّ وجلّ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}6، وقوله عزّ وجلّ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}7، معناها رجل لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرّجل، لا عدد دراهم ولا إخراج مال، وأشياء تشبهها من الفرائض والسّنن والمعاصي، تأوّلوها وصيّروها على هذا الحدّ الذي ذكرت، فإن رأيت أن تمنّ على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من الأقاويل الّتي تصيّرهم إلى العطب والهلاك. والذين ادّعوا هذه الأشياء، ادّعوا أنهم أولياء ودعوا إلى طاعتهم، منهم عليّ بن حسكة والقاسم اليقطيني، فما تقول بالقبول منهم جميعاً؟

فكتب إليه: "ليس هذا ديننا فاعتزله"8. إنّ ديننا هو أن تأخذ بالقرآن كما نزل، وكما فهمه الناس بحسب قواعد اللّغة العربيّة التي هي أساس التفاهم بين الناس في هذا أو في ذاك، أمّا كلّ هذا، فهو ليس من ديننا، ولذلك، فإن هؤلاء لا يمثلوننا وليسوا منا ولسنا منهم.

لقد وقف الإمام أمام هذه الفئة التي تحوّلت إلى فئةٍ تغلو في الدّين، وحاربهم حرباً لا هوادة فيها، حتى إنّه أمر بقتل بعض هؤلاء إذا لم يرتدعوا عن ذلك، باعتبار أنهم أصبحوا مفسدين في الأرض على مستوى العقيدة، والفساد فيها أخطر من الفساد في العمل9.

معاناةٌ حتَّى الشّهادة

وقد عانى الإمام الهادي (ع) الكثير من خلفاء بني العباس، فقد عاش مع المعتصم في بقيّة خلافته، ثم بعد ذلك، عاش مع أكثر من شخص من هؤلاء، كما يتحدث "ابن الصباغ المالكي" في "الفصول المهمّة"، أنه عاش مدّة في بقية ملك "المعتصم"، ثم مع "الواثق" خمس سنين وتسعة أشهر، ثم مع "المتوكّل" أربعة عشر سنة، ثم مع ابنه "المنتصر" ستّة أشهر، ثم مع "المستعين" ابن أخ المتوكّل ثلاث سنين وتسعة أشهر، ثم مع "المعتزّ"، وهو ابن الزبير بن المتوكّل، وقد استشهد في آخر ملكه، لأنّه (ع)، كما في "الفصول المهمّة"، مات مسموماً10...

[1]من كتاب "في رحاب أهل البيت (ع)، ج2.

[2]تاريخ الطبري، ج9، ص 360.

[3]من كتاب النّدوة، ج 5.

[4]في رحاب أهل البيت (ع)، ج2.

[5]من كتاب النّدوة، ج1.

[6]العنكبوت: 45.

[7]البقرة: 43.

[8]رجال الكشّي، ص 435.

[9]من كتاب النّدوة، ج 4.

[10]من كتاب النّدوة، ج4.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير