1. إنّ هذه الكلمات العاقلة المتّزنة تدلّ على وعيٍ عميقٍ للأمور الَّتي تترك تأثيرها على الإنسان في مواجهته للسّلطة لتدفعه إلى الخوف والهرب منها؛ فلماذا يخاف إذا لم تكن له جريمة يعاقب عليها؟ ولماذا يتراجع عن موقعه في الطَّريق إذا كان يتَّسع لمرور الآخرين من دون أن يضيّق عليهم بمكانه ليزول عنها؟! وإذا كان الحاكم متوازناً عادلاً في أحكامه وعلاقته بالنَّاس، فلماذا يخشى منه إذا كان بريئاً من كلِّ ذنب؟! هذا إضافةً إلى شجاعة الموقف وجرأة الخطاب وصلابة الإرادة، مما لا يصدر عن صبيّ يختزن عقل الصّبا في شخصيّته، بل إنَّ ذلك يكشف عن عقلٍ مفكّرٍ واسعٍ منفتحٍ على الواقع من خلال ملكة قدسيّة ربانيّة.. وهذه هي الملكة الَّتي فرضت احترامه على المأمون وعلى النَّاس المحيطين به، كما نرى ذلك فيما بعد. ورغم صغر سنِّ الإمام الجواد (ع)، والَّذي عاش زهاء الخمس والعشرين سنة، فقد روى عنه جمعٌ من العلماء، وقد عدَّدهم السيّد الأمين (ره)، فقال: قال الخطيب (البغدادي) في تاريخ بغداد: أسند محمد بن عليّ (الجواد) الحديث عن أبيه (الرّضا).. وفي المناقب: كان بوّابه عثمان بن سعيد السمّان، ومن ثقاته أيوب بن نوح بن درّاج الكوفي، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي، ومن أصحابه، شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمد بن أحمد المحمودي، وأبو يحيى الجرجاني، وأبو القاسم إدريس القمّي، وعليّ بن محمد، وهارون ابن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النّيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، وأبو علي بن بلال، وعبد الله بن محمد الحصيني، ومحمد بن الحسن بن شمون البصري. وقال (صاحب المناقب) في موضع آخر: وقد روى عنه المصنّفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه، وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره، ومحمد بن منده بن مهربذ في كتابه... وهكذا، انطلق الإمام الجواد (ع) يعيش مع أصحابه ومع النَّاس من حوله مسؤوليَّة الإمامة في توجيه النّاس، وفي تعويدهم على التَّسامح والانفتاح حتى مع الذين يختلفون معه في الرأي، ولا سيّما إذا كانوا من الأقرباء... وفي وفاته (ع)، قال الشيخ المفيد: ورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرَّم سنة عشرين ومائتين، وتُوفّي بها في ذي القعدة من هذه السَّنة، وقيل: إنَّه مضى مسموماً، ولم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به، ودُفِن في مقابر قريش (في بغداد) في ظهر جدِّه أبي الحسن موسى بن جعفر (ع)، وكان له يومَ قُبض خمس وعشرون سنة وأشهر2. [1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 50، ص 92. [2]الإرشاد، الشّيخ المفيد، ج3، ص 295. ">

الإمامُ الجوادُ (ع): مسؤوليّةُ الإمامةِ المبكرةِ

الإمامُ الجوادُ (ع): مسؤوليّةُ الإمامةِ المبكرةِ

انفتح الإمام محمّد بن عليّ الجواد (ع) على خطِّ الإمامة مبكراً، بحيث يمكن أن يَصْدُق عليه ما صدق على يحيى (ع) في نبوّته: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم: 12]، وعاش بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع) مسؤوليَّة الإمامة، حيث يمكننا أن نسمِّيه "الإمام المعجزة"، لأنَّ إمامته انفتحت على كلِّ الواقع وهو بعدُ في سنِّ الصِّبا، حيث حيّر العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته...

وقد استطاع (ع) منذ حداثة سنِّه، أن يُظهر ثبات الإمامة وصلابتها، حيث يروي محمد ابن طلحة فيقول: "لما تُوفّي والده الرِّضا (ع)، وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته (أي الرِّضا) بسنة، اتَّفق أنَّه خرج إلى الصَّيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه، والصّبيان يلعبون، ومحمد (الجواد) واقفٌ معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حولها. فلمَّا أقبل المأمون، انصرف الصّبيان هاربين، ووقف أبو جعفر محمّد (ع) فلم يبرح مكانه، فقرب منه الخليفة، فنظر إليه، وكأنَّ الله عزَّ وعلا ألقى عليه مسحةً من قبول، فوقف الخليفة، وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصّبيان؟ فقال له محمّد (الجواد) مسرعاً: "يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطَّريق ضيقٌ لأوسّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظنّي بك حَسَنٌ، إنَّك لا تضرُّ من لا ذنب له، فوقفت"1.

إنّ هذه الكلمات العاقلة المتّزنة تدلّ على وعيٍ عميقٍ للأمور الَّتي تترك تأثيرها على الإنسان في مواجهته للسّلطة لتدفعه إلى الخوف والهرب منها؛ فلماذا يخاف إذا لم تكن له جريمة يعاقب عليها؟ ولماذا يتراجع عن موقعه في الطَّريق إذا كان يتَّسع لمرور الآخرين من دون أن يضيّق عليهم بمكانه ليزول عنها؟! وإذا كان الحاكم متوازناً عادلاً في أحكامه وعلاقته بالنَّاس، فلماذا يخشى منه إذا كان بريئاً من كلِّ ذنب؟! هذا إضافةً إلى شجاعة الموقف وجرأة الخطاب وصلابة الإرادة، مما لا يصدر عن صبيّ يختزن عقل الصّبا في شخصيّته، بل إنَّ ذلك يكشف عن عقلٍ مفكّرٍ واسعٍ منفتحٍ على الواقع من خلال ملكة قدسيّة ربانيّة.. وهذه هي الملكة الَّتي فرضت احترامه على المأمون وعلى النَّاس المحيطين به، كما نرى ذلك فيما بعد.

ورغم صغر سنِّ الإمام الجواد (ع)، والَّذي عاش زهاء الخمس والعشرين سنة، فقد روى عنه جمعٌ من العلماء، وقد عدَّدهم السيّد الأمين (ره)، فقال: "قال الخطيب (البغدادي) في تاريخ بغداد: أسند محمد بن عليّ (الجواد) الحديث عن أبيه (الرّضا).. وفي المناقب: كان بوّابه عثمان بن سعيد السمّان، ومن ثقاته أيوب بن نوح بن درّاج الكوفي، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي، ومن أصحابه، شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمد بن أحمد المحمودي، وأبو يحيى الجرجاني، وأبو القاسم إدريس القمّي، وعليّ بن محمد، وهارون ابن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النّيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، وأبو علي بن بلال، وعبد الله بن محمد الحصيني، ومحمد بن الحسن بن شمون البصري. وقال (صاحب المناقب) في موضع آخر: وقد روى عنه المصنّفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه، وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره، ومحمد بن منده بن مهربذ في كتابه"...

وهكذا، انطلق الإمام الجواد (ع) يعيش مع أصحابه ومع النَّاس من حوله مسؤوليَّة الإمامة في توجيه النّاس، وفي تعويدهم على التَّسامح والانفتاح حتى مع الذين يختلفون معه في الرأي، ولا سيّما إذا كانوا من الأقرباء...

وفي وفاته (ع)، قال الشيخ المفيد: "ورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرَّم سنة عشرين ومائتين، وتُوفّي بها في ذي القعدة من هذه السَّنة، وقيل: إنَّه مضى مسموماً، ولم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به، ودُفِن في مقابر قريش (في بغداد) في ظهر جدِّه أبي الحسن موسى بن جعفر (ع)، وكان له يومَ قُبض خمس وعشرون سنة وأشهر"2.

[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 50، ص 92.

[2]الإرشاد، الشّيخ المفيد، ج3، ص 295.

انفتح الإمام محمّد بن عليّ الجواد (ع) على خطِّ الإمامة مبكراً، بحيث يمكن أن يَصْدُق عليه ما صدق على يحيى (ع) في نبوّته: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم: 12]، وعاش بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع) مسؤوليَّة الإمامة، حيث يمكننا أن نسمِّيه "الإمام المعجزة"، لأنَّ إمامته انفتحت على كلِّ الواقع وهو بعدُ في سنِّ الصِّبا، حيث حيّر العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته...

وقد استطاع (ع) منذ حداثة سنِّه، أن يُظهر ثبات الإمامة وصلابتها، حيث يروي محمد ابن طلحة فيقول: "لما تُوفّي والده الرِّضا (ع)، وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته (أي الرِّضا) بسنة، اتَّفق أنَّه خرج إلى الصَّيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه، والصّبيان يلعبون، ومحمد (الجواد) واقفٌ معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حولها. فلمَّا أقبل المأمون، انصرف الصّبيان هاربين، ووقف أبو جعفر محمّد (ع) فلم يبرح مكانه، فقرب منه الخليفة، فنظر إليه، وكأنَّ الله عزَّ وعلا ألقى عليه مسحةً من قبول، فوقف الخليفة، وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصّبيان؟ فقال له محمّد (الجواد) مسرعاً: "يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطَّريق ضيقٌ لأوسّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظنّي بك حَسَنٌ، إنَّك لا تضرُّ من لا ذنب له، فوقفت"1.

إنّ هذه الكلمات العاقلة المتّزنة تدلّ على وعيٍ عميقٍ للأمور الَّتي تترك تأثيرها على الإنسان في مواجهته للسّلطة لتدفعه إلى الخوف والهرب منها؛ فلماذا يخاف إذا لم تكن له جريمة يعاقب عليها؟ ولماذا يتراجع عن موقعه في الطَّريق إذا كان يتَّسع لمرور الآخرين من دون أن يضيّق عليهم بمكانه ليزول عنها؟! وإذا كان الحاكم متوازناً عادلاً في أحكامه وعلاقته بالنَّاس، فلماذا يخشى منه إذا كان بريئاً من كلِّ ذنب؟! هذا إضافةً إلى شجاعة الموقف وجرأة الخطاب وصلابة الإرادة، مما لا يصدر عن صبيّ يختزن عقل الصّبا في شخصيّته، بل إنَّ ذلك يكشف عن عقلٍ مفكّرٍ واسعٍ منفتحٍ على الواقع من خلال ملكة قدسيّة ربانيّة.. وهذه هي الملكة الَّتي فرضت احترامه على المأمون وعلى النَّاس المحيطين به، كما نرى ذلك فيما بعد.

ورغم صغر سنِّ الإمام الجواد (ع)، والَّذي عاش زهاء الخمس والعشرين سنة، فقد روى عنه جمعٌ من العلماء، وقد عدَّدهم السيّد الأمين (ره)، فقال: "قال الخطيب (البغدادي) في تاريخ بغداد: أسند محمد بن عليّ (الجواد) الحديث عن أبيه (الرّضا).. وفي المناقب: كان بوّابه عثمان بن سعيد السمّان، ومن ثقاته أيوب بن نوح بن درّاج الكوفي، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي، ومن أصحابه، شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمد بن أحمد المحمودي، وأبو يحيى الجرجاني، وأبو القاسم إدريس القمّي، وعليّ بن محمد، وهارون ابن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النّيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، وأبو علي بن بلال، وعبد الله بن محمد الحصيني، ومحمد بن الحسن بن شمون البصري. وقال (صاحب المناقب) في موضع آخر: وقد روى عنه المصنّفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه، وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره، ومحمد بن منده بن مهربذ في كتابه"...

وهكذا، انطلق الإمام الجواد (ع) يعيش مع أصحابه ومع النَّاس من حوله مسؤوليَّة الإمامة في توجيه النّاس، وفي تعويدهم على التَّسامح والانفتاح حتى مع الذين يختلفون معه في الرأي، ولا سيّما إذا كانوا من الأقرباء...

وفي وفاته (ع)، قال الشيخ المفيد: "ورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرَّم سنة عشرين ومائتين، وتُوفّي بها في ذي القعدة من هذه السَّنة، وقيل: إنَّه مضى مسموماً، ولم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به، ودُفِن في مقابر قريش (في بغداد) في ظهر جدِّه أبي الحسن موسى بن جعفر (ع)، وكان له يومَ قُبض خمس وعشرون سنة وأشهر"2.

[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 50، ص 92.

[2]الإرشاد، الشّيخ المفيد، ج3، ص 295.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير