الإمام الكاظم(ع) في علاقاته بالله وبالناس

الإمام الكاظم(ع) في علاقاته بالله وبالناس

رسم الإمام الكاظم(ع)، انطلاقاً من الخطِّ الإسلاميّ العام، منهجاً للإنسان في علاقته بربه وبمجتمعه وبالحياة من حوله.. ونحن إذ نستذكر هذا المنهج، فلكي ننفتح على إمامته في خط تعاليمه ووصاياه وروحانيته وعصمته، لنزداد من خلال معرفتنا التزاماً بخطِّ أهل البيت(ع) وبإخلاصهم وتضحياتهم في سبيل الله، وبمواقفهم أمام الطاغوت.

طاعة الله

يقول الإمام الكاظم(ع) لبعض ولده وهو ينصحه: "يا بنيّ، إيّاك أن يراك الله في معصية نهاك عنها ـ اعرف مواقع معاصي الله لتبتعد عنها، واعرف أيضاً أنَّ الله تعالى يبغض الذين يعصونه، لأنَّهم يبتعدون عن مواقع رضاه، حاول وأنت تعرف مواقع المعصية ألاَّ يراك الله في معصيةٍ نهاك عنها، لا في كلمةٍ ولا في فعل ـ وإيّاك أن يفقدك الله عند طاعةٍ أمَرَك بها"، فالطاعات معروفةٌ في ما أمرك الله به وأوجبه عليك، والله تعالى يريد أن يجدك عند مواقع طاعته لتحصل على مواقع رضاه.

وفي وصية أخرى له(ع) يقول: "يا بنيّ، عليك بالجدّ، فلا تخرجنَّ نفسك من حدِّ التقصير في عبادة الله عزَّ وجلّ وطاعته، فإنَّ الله لا يُعبد حقَّ عبادته ـ مهما صلّيت وصمت، لا تحسبنَّ أنَّك أدّيت لله حقَّه وعبدته حقَّ عبادته ـ وإيّاك والمزاح ـ والمزاح ليس محرّماً، لكنَّ البعض يغلب المزاح على حياته، بحيث لا تجده إلاّ مزّاحاً في طريقته في الحياة ـ فإنَّه يُذهب بنور إيمانك ويستخفّ مروءتَك، وإيّاك والضجر والكسل ـ لا تضجر من عملٍ أو دراسةٍ أو عبادة، وحاول أن تكون الإنسان الذي يجدّد رغبته في ما ينفعه في الدنيا والآخرة فإنَّهما يمنعانك حظَّك من الدنيا والآخرة".

محاسبة النفس

وكان(ع) يراقب الناس، فيراهم يعيشون الغفلة، بحيث يتحرّكون في أعمالهم وأشغالهم وقد نسوا حدود الله وأوامره ونواهيه، وارتكبوا المعاصي في غفلتهم، فكان(ع) يقول: "ليس منا مَن لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم ـ يصبح الصباح عليه فيدرس ما عمل في ليله من خير أو شرّ، ويمسي المساء عليه فيدرس ما فعل في نهاره ـ فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه"، فهو يحدّق في نفسه قبل أن ينسى ما فعل..

ويقول(ع): "لا تستكثروا كثير الخير ـ إذا عملتم خيراً في عالم العطاء والعبادة والجهاد فلا تروه كثيراً ـ ولا تستقلّوا قليل الذنوب، فإنَّ قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا اللهَ في السرِّ حتى تعطوا من أنفسكم النَصَف، وسارعوا إلى طاعة الله ـ قبل أن يأتي الوقت الذي لا تستطيعون فيه الطاعة ـ وأصدقوا الحديث، وأدّوا الأمانة، فإنَّما ذلك لكم، ولا تَدخلوا في ما لا يحلّ، فإنَّما ذلك عليكم".

علم الناس

يقول(ع): "وجدتُ علم الناس في أربع: أولها: أن تعرف ربَّك، الثانية: أن تعرف ما صنع بك، الثالثة: أن تعرف ما أراد منك، الرابعة: أن تعرف ما يُخرجك عن دينك".

يلخّص هذا الحديث مواقع الثقافة الدينيّة التي تعمّق للمسلم معرفته العقيدية، وتوسّع لديه آفاقها، وتحقّق عنده المناعة الفكريّة ضدّ الانحراف.. فلا بدَّ في النقطة الأولى من معرفة الله في آفاق عظمته، وفي حقائق الألوهيّة التوحيديّة في عمقها الفكريّ، وفي رحابتها الوجدانية، ليتأكّد الإيمان به في العقل والقلب وفي الحياة، من خلال الحضور الإلهيّ في كلِّ موقع من مواقع الوجود، وهيمنته المطلقة على كلِّ شي‏ء، حتى لا يغيب عن خاطر الإنسان في شي‏ء، ولا يبتعد عن حركته في أيِّ قولٍ أو فعل.

وإذا كانت معرفة الله تعني المعرفة الشاملة التي تشتمل على كلِّ مواقع حكمة الله وتدبيره، فإنّ إرسال الرُّسل واليوم الآخر يدخلان في ذلك من خلال اقتضاء الحكمة والتدبير في ذلك.

أما النقطة الثانية، فإنَّها تتصل بالانفتاح على الله في دائرة النعمة الواسعة التي تتسع باتساع الكون في كلِّ الظواهر والأشياء التي تتصل بحماية وجود الإنسان في نموّه الجسدي والعقلي والحركيّ وفاعليته في بناء الحياة على الأسس القويّة والخطط المتوازنة، في ما أراده الله منه، ما يجعله مشدوداً إلى الله في كلِّ شي‏ء من خلال الحاجة المطلقة والفقر الشامل، الأمر الذي يثير فيه الشعور بضرورة التفكير في الطريقة الفضلى التي تربطه من ناحية عمليّة بمواقع الشكر الرحبة، بالإضافة إلى ما يربطه به من الناحية التكوينيّة.. وبذلك تتحوّل هذه المعرفة إلى عنصر حيٍّ يمنح الإنسان فكراً موسوعيّاً علميّاً في كلِّ مفردات النِعَم في الحياة من جهة، كما يمنحه حركةً في الانفتاح على الله في موقع الشكر والعبادة من جهةٍ أخرى.

وأمّا النقطة الثالثة، فتتمثل في معرفة الشريعة بكلِّ دقائقها وتفصيلاتها المتصلة بالخطِّ العام للسلوك الإنسانيّ في كلِّ القضايا العامة والخاصّة في حياته، ليتعرّف من خلال ذلك، ما هي أوامر الله ونواهيه على مستوى النظرية والتطبيق معاً.

وأمَّا النقطة الرابعة، فتتحرّك المعرفة من أجل صيانة الإنسان من الخطِّ المنحرف، أو الخطّ المضادّ في ما يمكن أن يتعرّض له المسلم من تضليلٍ أو انحراف بفعل التيارات الفكريّة المتنوّعة التي تختلف عن الفكر الإسلاميّ في الجذور أو في بعض التفاصيل، لا سيما إذا كان من الممكن تحريكها بطريقةٍ مدروسة مضلّلة، بحيث يختلط فيها الحقّ بالباطل من حيث الصورة، فيقع الاشتباه والانحراف، الأمر الذي يجعل من المعرفة أمراً حيويّاً على مستوى سلامة العقيدة في الخطِّ الخاص والعام.

وقد يكون إغفال التربية الإسلاميّة لاستكمال هذه العناصر من المعرفة في تربية الأجيال الإسلاميّة، هو المسؤول عن كثير من حالات الاهتزاز العقيدي، أو الانحراف الفكري، لفقدان الخطّ الفاصل بين الحقِّ والباطل، ولابتعاد الإنسان في وعيه لله عن وعيه لعلاقة حياته في مفرداتها التفصيليّة بالله، أو في محدوديّة معرفته بالإسلام في شريعته، أو في فقدانه لها بالكامل..

وربما كان من المفيد أن ندرس الاقتراح باتخاذ هذه الأمور في المعرفة الإسلاميّة أساساً في المنهج التربوي للإسلام، كما لا بدَّ لنا من إدخال العنصر الرابع في صلب الدراسات الفكريّة لطلاب العلوم الدينيّة في الحوزات العلميّة الإسلاميّة، حيث نجد الكثيرين منهم يجهلون التيارات الفكريّة الماديّة أو الفلسفات الإلحاديّة، أو النظريّات السياسيّة المخالفة للإسلام، ما يجعلهم غير دقيقين في التعرّف على ملامح العقيدة، أو في مواجهة التحديات المتحرّكة من خلال الكفر والضلال، الأمر الذي قد يجعلهم بعيدين عن المستوى المميّز في الدعوة إلى الإسلام، وفي تقديم الحجّة على الآخرين في ساحات الصراع.

ساعات الحياة

يوصي(ع) بعض أولاده بما يفتح عقولهم فيقول: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات؛ ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان الثقاة الذين يعرّفونكم عيوبَكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعةً تُخْلُون فيها للذّاتكم بغير محرّم". يتوجّه الإمام(ع) إلى الإنسان، بأنَّ عليه أن يفرّغ وقتاً للصلاة ومناجاة الله، وساعةً لتحصيل معاشه، وأخرى لمعاشرة الإخوان الذين يدلّونه على عيوبه ولا يضخّمون له شخصيته ويحسِّنون له عيوبه، وتبقى له ساعةٌ لغرائزه وشهواته المحلّلة، حيث لا يريد الله سبحانه أن يكبت هذه الغرائز، ويترك اللذّات التي أحلّها له تعالى: {قُلْ مَنْ حرَّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادِه والطيِّباتِ مِنَ الرزّقِ قُلْ هي للّذين امنُوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة} [الأعراف:32]. فالله سبحانه لا يريد أن نترك طيّبات الحياة الدنيا، بل أن نترك محرّماتها، وليس الزهد ألا نأكل ونلبس جيّداً، ولكنَّ الزهد، هو أن نتجنّب الحرام إذا أقبل علينا، وأن تكون لنا الإرادة في مواجهته.

ثم يتحدّث الإمام(ع) عن الإنسان الذي إذا صلّى وعمل خيراً، فإنَّه يُعْجَبُ بنفسه، فيقول: "العُجْب درجات، منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبُه ويحسب أنَّه يُحسن صُنعاً، ومنها أن يؤمن العبد بربِّه فيمنَّ على الله تبارك وتعالى، وللّه تعالى فيه المنّ"(54)، لأنَّه صلّى وصام وحجَّ بما أعطاه الله من قوّةٍ في جسده.

محاسبة النفس والاستزادة من طلب العلم

وورد عنه(ع) في بعض الروايات أنَّه قال: "ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه"، فكما تحاسب نفسك في آخر النهار على المستوى الماديّ، عليك أن تفكّر قبل أن تنام في كلِّ عملك ومواقفك وكلماتك، فإذا رأيت أنك عملت حَسَناً، دعوتَ الله أن يزيدك من هذا الحسن في أيامك القادمة من أجل أن يتعمق الفعل الحسن في أعماقك، ليتحوّل إلى عنصر فاعل في حركة الذات في الحياة، من خلال تحوّله إلى ملكة كامنة في النفس كطبيعة ثانية له، وإن رأيت أنَّك عملت سيئاً استغفرت الله وتُبت إليه لِتُصلح يومك القادم، فلا تكون فيه سيّئة، لأنَّ عالم السيئات هو كـ"الميكروب" الذي لا بدَّ أن تكتشفه في بداياته لتتخلّص منه قبل أن يتجذّر ويمتدّ في الذات، فلا تتمكن من إزالته.

وفي حديث عنه(ع) يحدّد لنا ما هو العلم الذي يجب علينا أن نتعلّمه، وما هو العمل الذي يجب أن نمارسه في الحياة، فيقول: "أولى العلم بك ما لا يصلح لك العملُ إلاِّ به، وأوجب العلم عليك ما أنت مسؤولٌ عن العمل به، وألْزَمُ العلم لك ما دلَّك على صلاح قلبك وأظهر لك فسادَه، وأحمَدُ العلم عاقبةً ما زاد في علمك العاجل، فلا تشتغلنَّ بعلم ما لا يضرُّك جهلُه ولا تغفلنَّ عن علم ما يزيد في جهلك تركه".

وخلاصة الفكرة، أنَّ الإمام(ع) يريد أن يبيّن لنا أنَّ هناك أشياء تتصل بحياتك ومسؤوليتك وعقيدتك، فهي مما يجب أن تتعلّمها، ومنها ما يتوقف عليه صلاح عملك من خلال توفر عناصر الصلاح في داخله، مما يتعلمه الإنسان من برامج إصلاح العمل، ومنها ما يتوقف عليه القيام بمسؤوليتك في تحويله إلى عمل، ومنها ما يفتح لك أبواب الوعي لما يصلح قلبك أو لما يفسده، لتتعرف منه كيف تصلح قلبك في الفكر والعاطفة والإحساس، وتبتعد عما يؤدي إلى فساده من ذلك كله، ومنها ما ينمي لك طاقتك العلميّة في حياتك، بحيث يترك تأثيره الإيجابي عليها. ثم يعطي الإمام النصيحة الأخيرة في القاعدة الحاكمة على مواقع العلم لدى الإنسان، فلا يتطلب العلم الذي لا علاقة له بمسؤولياته العقيدية والعملية، فلا يضره جهله به، ولا يبتعد عن العلم الذي يدخل في صلب مسؤولياته، بحيث يترك تأثيره السلبي على جهله به.. وخلاصة الفكرة في هذه الكلمة، أنّ قيمة العلم تتحدد بمقدار علاقته بالحياة وبالمصير، أما الأشياء التي لا دخل لها في العقيدة أو المسؤولية الشرعية، فَلِم تصرف وقتَك في الانشغال بها؟

عندما يكون الإنسان أعرف بنفسه

فيما يتصل بثقة الإنسان بنفسه وموقعه، ينبّه الإمام الكاظم(ع) إلى أنَّ الإنسان عندما يُحكم فكره ويُنضج رأيه ويؤكّد موقفه ويرى أنَّه مع الحقّ، فلا داعي لأن يستعير ثقته بنفسه من الناس، بل عليه أن يدرس نفسه، ويعرف رصيده في علمه وفقهه ووعيه ومواقفه، وعند ذلك يكون أعرفَ الناس بنفسه.. ففي حديث رواه الكشّي في رجاله عن حمدويه بن نصير قال: حدّثني محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن، قال: "قال العبد الصالح ـ والمراد به الإمام الكاظم(ع) ـ: يا يونس ارفق بهم، فإنَّ كلامك يدقّ عليهم. قال: قلت: إنّهم يقولون لي: زنديق، قال لي: وما يضرُّك أن يكون في يدك لؤلؤة فيقول الناس هي حصاة، وما ينفعك أن تكون في يدك حصاة فيقول الناس إنّها لؤلؤة". وهذه الوصيّة تتحرّك في المواقع التي يقف فيها المفكّرون الإسلاميون أو الدعاة إلى الله، في ما يطلقونه من أفكار، وفي ما يتحرّكون به من مواقف مما قد لا يرتاح الناس إليه، في ما لا يألفونه من أمور العقيدة أو الحياة، فيخيّل إليهم أنَّه زندقة وضلال، لأنّهم لم يأخذوا بالجذور العميقة للعقيدة، ولم يطّلعوا على الخطِّ المستقيم في نظرة الإسلام إلى الحياة، فكيف يتصرّف هؤلاء المفكّرون أو الدعاة أمام ذلك؟ هل ينسحبون من الميدان تاركين الناس في جهلهم وفي تخيّلاتهم وأوهامهم، أو يبقون على إصرارهم في ما يعتقدون ويقرّرون مهما كانت النتائج؟

إنَّ الإمام الكاظم(ع) يريد لهم ـ في ما قاله ليونس ـ أن يرفقوا بالناس، فيأخذوا بأساليب البساطة، ليقرّبوا لهم الفكرة بالطريقة التي تتناسب مع عقولهم بعيداً عن كلِّ عناصر الإثارة التي تثير الحساسيّات الخاصة على مستوى عقليّة الجماهير المملوءة بالكثير من الأوهام والخيالات، مما يحتاج إلى الكثير من الجهد الفكري من أجل إثارته والسيطرة عليه، لأنَّ المواجهة المباشرة، والإثارة العنيفة، قد تزيد الموقف تعقيداً، وقد تثير عصبياتهم بطريقة عدوانية، وتعمّق ضلالهم، وتحوّلهم إلى شخصيات هائجة من مواقع الجهل والتخلّف.

وهذا هو خطُّ الحكمة في معالجة حالات الانحراف الجماهيري، فيما تعيشه الجماهير من التصوّرات التي تمتزج فيها الحقيقة بالخرافة، واليقين بالوهم، مما يضيفونه من تقاليدهم وأوضاعهم بطريقة معقّدة.. فإنَّ المسألة المطروحة هي أن نصل إلى قناعاتهم لا إلى إثارتهم، وربما كان ذلك مقتضياً لدراسة معمّقةٍ واقعيّة للذهنيّة العامة للأمة، وللأفكار المطروحة في داخلها، وللوسائل العمليّة المؤثّرة في الانفتاح عليها، الأمر الذي يجعل الداعية معنيّاً بأن يبحث عن مفاتيح العقول والقلوب للأفراد والجماعات.

ويريد لهم(ع) في ما قاله ليونس ألاَّ يسقطوا أمام الكلمات القاسية في ما يرميهم به الجاهلون والمتخلّفون، ولا يتعقّدوا منها لينسحبوا من المسؤوليّة في الاستمرار على الخطِّ وفي الثبات في صعيد المواجهة، لأنَّ الإنسان المؤمن لا يستعير ثقته بنفسه من خلال كلمات الناس عنه، ليبقى في موقف المترقّب لما يقولونه عنه، ليقوى أو يضعف تَبَعَاً للكلمات الإيجابيّة أو للكلمات السلبيّة عنه، بل ينطلق في ثقته بنفسه من نظرةٍ موضوعيّة جادّة إلى كلِّ العناصر الواقعيّة التي تمثّل حجم طاقاته، فيما هو الكمّ والكيف، ليحكم لنفسه أو عليها تَبَعاً لذلك، من دون ملاحظةٍ لأيِّ شي‏ءٍ خارجٍ عن طبيعته الذاتية.. وبذلك يمكنه أن يحافظ على توازنه في جميع الحالات المحيطة به، فلا يغترّ بالكلمات التي تمنحه ضخامة في الشخصيّة لا يملكها في ما يعرفه عن نفسه، ولا يسقط أمام الكلمات التي تسلبه صفاته الحقيقيّة مما يملكه في وجوده.

وهذا هو الخطُّ العمليّ الذي يمثّل القوّة الحقيقية للموقف الثابت الواثق بنفسه المنفتح على الأهداف الكبيرة فيما هي المسيرة الإسلامية بعيداً عن كلُِّ حالات الاهتزاز التي قد يثيرها الآخرون من أعداء الإسلام والمسلمين، فيما يحاولون أن يحرّكوها في أجهزة إعلامهم المعادي الذي يستهدف إسقاط مستويات الأمّة وإيجاد حالةٍ من فقدان الثقة بقدرتها على الثبات في مواجهة التحديات، وذلك من خلال الإيحاء الدائم بنقاط الضعف التي يخترعونها وبالاتهامات التي يصوغونها ويحرّكونها كذباً وافتراءً، وبالعناوين المثيرة التي يضعونها على كثير من أوضاع الأمّة، مما يمكن أن يخضع لأكثر من عنوان، كما نلاحظه في عناوين التعصّب والتطرّف التي يطلقونها على الإسلاميّين الحركيين، وفي عنوان الإرهاب الذي يحرّكونه في سلوك المجاهدين من أجل الحريّة على خطِّ الإسلام ضدّ المستكبرين الذين يضطهدون حريّة الشعوب المستضعفة، أو عناوين التكفير والضلال التي يطلقها المتخلّفون المتعصبون على دعاة الإصلاح.

إنَّ الإمام(ع) يقول لكلِّ العاملين والمجاهدين: ادرسوا كلَّ المعطيات المتوفّرة لديكم مما تملكونه من حقائق، وحاولوا أن تركّزوا مسألة التقويم للذات الفردية أو الجماعية بشكل موضوعيّ واقعي لا يتأثّر بالانفعالات التي تخضع لتضخيم الموقع أو تقزيمه بفعل بعض المؤثّرات الداخلية أو الخارجيّة، الأمر الذي يضع المواقع والمواقف في نصابها الصحيح.

وإذا كان الإمام الكاظم(ع) يؤكِّد على العاملين الإسلاميّين ألاَّ يسقطوا عندما يقول الناس عما يملكونه من اللؤلؤ الفكري والروحيّ والعلميّ، إنَّه "حصى"، وألاّ ينتفخوا غروراً عندما يقول الناس عن الحصى الذي يملكونه إنَّه لؤلؤاً، فلا بدَّ أن يبقوا مع الواقع كيفما كان، وإذا كان هذا التأكيد موجّهاً إلى الذات في أنفسهم، فإنَّنا نستوحي منه توجيهاً إليهم في تقييم الآخرين من قياداتهم أو أتباعهم، ليكون الحقّ هو الأساس، والعقل هو المنطلق، لا الباطل الذي يتغذّى بالعاطفة، ولا الانفعال الذي يقود إلى الضلال..

وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين عليٌّ(ع): "لا يخدعنّك سواد الناس عن نفسك، لأنَّ الأمر يصل إليك دونهم"، أي لو أتى النّاس وضخّموا لك شخصيّتك، وقالوا أنت العظيم الذي ليس أحدٌ مثله، وأنت تعرف أنَّ علمك مثلاً أو موقعك يمثّل عشرةً أو عشرين بالمائة، فلا تنخدع بكلام النّاس، لأنَّك إذا خُدِعت ستسقط.. ونحن نقتدي بعليٍّ(ع) الذي كان إذا مدحه الناس يقول: "اللهم اجعلني خيراً مما يظنّون واغفرْ لي ما لا يعلمون"، ونحن نعرف أنَّ علياً(ع) فوق النقص وفوق العيب، ولكنّه يتواضع لله، لأنَّه(ع) يعلّمنا عندما يمدحنا النّاس أن ننزل إلى داخل أنفسنا لنكتشف عيوبنا، وفي هذا يقول الإمام زين العابدين(ع) في دعاء مكارم الأخلاق: "اللهم لا ترفعني في النّاسِ درجةً إلاَّ حططتني عند نفسي مثلَها، ولا تُحدثْ لي عِزَّاً ظاهراً إلاَّ أحدثْتَ لي ذِلّةً باطنةً عند نفسي بِقَدَرِها".

ومن هنا، فإنَّ الإمام الكاظم(ع) أراد للإنسان أن يدرس نفسه بنفسه، ليعرف موازين نفسه من نفسه لا من النّاس، لأنَّه هو الذي يعرف حجمَ فكره وطاقاته وطبيعة نواياه، سيئة أم حسنة، فالنّاس لا يعرفون الكثير من ذلك، فإذا فهم الإنسان نفسه، ورأى فيها خيراً وصدقاً، ورأى النّاس غير ذلك، فإنَّ هذا لا يضرّه ولا يُسقطه ولو شتموه وسبُّوه، لأنَّه يشعر بالأصالة والقوّة والصلابة، وإذا رأى في نفسه غير ذلك ومدحه النّاس، وهو ليس بمستوى المدح، فإنَّه لا يعظِّم شخصيته أبداً.

النهي عن الخوض مع الخائضين

جاء في الحديث عن الإمام الكاظم(ع) في ما أوصى به أحد أصحابه الفضل بن يونس قال: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة، قال ما الإمّعة؟ قال لا تقل: أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس، إنَّ رسول الله(ص) قال: إنَّما هما نجدان (طريقان) نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير".

وهذا خطٌّ واضحٌ في تحديد الموقف الحاسم من خلال الدراسة العميقة الواعية المنفتحة على الواقع كلِّه من جميع جوانبه، لتكون عمليّة الاختيار ناتجةً من استعراض كلِّ الاحتمالات، حيث يتحدّد الرأي الشخصيّ للإنسان بالمستوى الذي يتحمّل فيه مسؤوليّة كلِّ النتائج المترتبة عليه من خلال قناعاته المبنيّة على الفكر المسؤول، فلا ينبغي للإنسان، بل لا يجوز له أن يخضع في موقفه للجوِّ العام من حوله، ليكون مجرّد صدىً للآخرين في ما يقولونه أو في ما يتخذونه من الموقف، لأنَّ في ذلك انتقاصاً من كرامة عقله، وحطّاً من منزلة إنسانيته، وابتعاداً عن احترام إرادته، إذ لا معنى لخضوع الإنسان لقرارات الآخرين الذين لا يملكون العصمة في فكرهم من دون أن يعرف الأساس في هذا القرار أو في هذا الموقف، ليكون على بيّنةٍ من أمره، عندما يكون على بيّنةٍ من الجذور الفكريّة لذلك الأمر.

وكيف يأمن لهؤلاء الذين قد تتحكّم فيهم شهواتهم، وقد تحكم عليهم نقاط ضعفهم، وقد ينطلقون فيها من مواقع انفعاليّة وعاطفيّة، ما قد يعرّض القضايا التي ترتبط بهم للخطر، عندما يكون القرار الصادر منهم شرّاً وفساداً وخللاً في مواقع الحقّ.

إنَّ الإسلام، في ما يتحدّث به الإمام(ع)، لا يريد للإنسان أن يتهرّب من مسؤولية فكره في تحديد موقفه، وفي تأكيد قناعاته، بل يريد له أن يحرّكه في كلِّ موقع من مواقع الحركة في حياته، فإنَّ الله لم يجعل فكر الآخرين عذراً له إذا كان في موقع الخطأ، ما لم يكونوا في مستوى العصمة، أو في مستوى الثقافة الاجتهاديّة التي تُلزم الآخرين أو تجيز لهم الالتزام بمضمونها الفكريِّ والعلميّ.. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإنَّ الله يريد للإنسان أن يربّي عقله، كما يربّي جسمه، حتى يستطيع بعقله أن يتحرّك في المواقع القياديّة للحياة، ليمنح الساحة من إبداعاته، وليفتح لها أبواب التقدّم والتطوّر في ما يمكن أن ينتجه فكرُه. وكما أراد للنّاس أن يفكّروا مع قياداتهم ومع النّاس الآخرين، فقد أراد للقيادة أن تفكّر مع النّاس، وذلك في ما نستوحيه من قوله تعالى لنبيِّه محمد(ص): {وشَاوِرهم في الأمرِ فإذا عزمتَ فتوكّلْ على الله} [آل عمران:159]. فإنَّ الظاهر أنَّ المقصود من ذلك، هو تعويد النبيِّ(ص) لأصحابه بأن يفكّروا معه في ما يطرحه معهم من الأمور العامة أو الخاصّة، ليعتادوا على تحريك فكرهم، حتى يتعلّموا كيف يكونون قادةً للفكر في المستقبل.

إنَّ الإسلام يريد للأمة كلِّها أن تفكّر بحسب الحجم الثقافيّ الذي يملكه الأفراد، لأنَّ التدريب على إثارة الفكر في العقل يعطي القوّة والنموَّ والانفتاح، في ما يغني التجربة العامة للأمة ويحوّلها إلى طاقات متحرّكة تتنامى وتتلاقح وتُنتج الكثير من عناصر الخير والحياة، ويكشف لنا عن كثير مما لا نستطيع اكتشافه في حالات السكون والركود.

وقد وضع الإمام الكاظم(ع) العنوان العام للمسألة في الدعوة إلى إبلاغ الخير للناس، وإلى قول الخير في واقع حياتهم، ما يجعل القضية تحمل معنى المسؤولية في تحديد الخير في مواقعه في الحياة، مما لا يستطيع معرفته إلاَّ من خلال الرجوع إلى القاعدة الفكريّة التي يرتكز عليها عقله في حركته نحو اكتشاف المجهول..

وفي ضوء هذا، لا بدَّ من أن يواجه الموقف على أساس أنَّه يملك الفكر المستقلّ الذي يتحرّك بأصالةٍ ليحدّد النتائج في ما تتضمنه من الخير أو الشرّ.. فلا معنى لأن يقول أنا مع الناس في ما يتحرّكون به، وأنا كواحد من الناس في ما يتخذونه من موقف، تماماً كما هي الورقة في مهبِّ الريح، وكما هي الخشبة في مجرى التيار، فإنَّ أمثال هذا النموذج يعانون الضعف الشديد للشخصيّة، لأنّهم لا يطيقون الانفراد بالموقف عن النّاس، أو يخافون الوحشة في ذلك، أو يرفضون التعب في مسألة التفكير، ولذلك، فهم يتركون للآخرين أن يقرّروا أو يفكّروا أو يتخذوا المواقف ويحدّدوا المواقع، من دون اعتبار لطبيعة أفكارهم وقراراتهم ومواقفهم، فيما يمكن أن يكون فيها من خير أو شرّ، تماماً كما يقول الشاعر:

وما أنا إلا من غزيّةٍ إن غوت غويْتُ وإن تُرْشَدْ غزيّة أرْشَدِ

فقد رفض رسول الله(ص) ذلك من كلِّ الناس، لأنَّ الحياة في جميع ساحاتها تخطّط لطريقين، طريق الخير وطريق الشرّ، ولا بدَّ للإنسان أن يميّز أحدهما عن الآخر، ليلتزم طريق الخير الذي أراد الله منه أن يلتزمه، ويرفض طريق الشرّ الذي أراد له أن يرفضه، فلا يبقى حائراً بينهما، ولا يتخذ موقف اللامبالاة أو السلبيّة في التحديد من ذلك كلِّه.

معالجة التشاؤم

جاء في الفقيه، في ما رواه محمد بن علي بن الحسين، بإسناده عن سليمان بن جعفر الجعفري، عن الحسن موسى بن جعفر الكاظم(ع)، قال: "الشؤم للمسافر في طريقه في خمسة: الغراب الناعق عن يمينه، والكلب الناشر لِذَنبهِ، والذئب العاوي الذي يسوي في وجه الرجل وهو مقعٍ على ذنبه، ثم يعوي، ثم يرتفع، ثم ينخفض ثلاثاً، والظبي السانح عن يمين إلى شمال، والبومة الصارخة، والمرأة الشمطاء تلقى فرجها، والأتان العضباء، يعني الجدعاء، فمن أوجس في نفسه منهنّ شيئاً، فليقل: "اعتصمت بك يا ربِّ من شرّ ما أجدُ في نفسي فاعصمني من ذلك"، فَيُعْصَمُ من ذلك".

إنَّ الظاهر من هذا الحديث، أنَّ الإمام(ع) لا يريد أن يؤكّد وجود حقيقة للتشاؤم في هذه الأمور، باعتبار أنَّها نذيرٌ طبيعيٌّ للشؤم في خصائصها الذاتية، بل يريد أن يشير إليها من حيث الحالة الشعبيّة الجارية على التشاؤم بها، في ما يرونه فيها من خصائص معيّنة في طبيعتها، أو في ما غلب العادة عندهم في مصاحبتها لبعض حالات الشؤم، ولو بطريق الصدفة، ما جعل تصوّرها مقارناً لاستحضار صورة الشؤم معها.

ولما كان التشاؤم غريباً عن الذهنيّة الإسلاميّة المنفتحة على الله من موقع الثقة به والتوكّل عليه، فلا بدَّ من أن يرجع الإنسان المسلم أمام هذه الأمور إلى إيمانه بالله، فلا يهزّه الخوف، أو يُسقطه التطيّر، ولا يتجمّد في مشاريعه العمليّة من سفر أو غيره تحت تأثير ذلك، بل يعمل على أن يقوم بطريقة إيحائية، في الإيحاء لنفسه بأنَّ هذه الأمور مهما كانت تحمل في صورتها أو طبيعتها من التهاويل المخيفة، فإنَّ الله الذي خلقها يملك أمرها، كما يملك أمرَ الإنسان في جميع قضاياه، ولذلك فلا بدَّ من مواجهة الموقف بالتحدّي العنيف للخوف في حركة المشاعر بالاعتصام بالله، الذي يعصم عباده المؤمنين من كلِّ شرّ.. ويؤكّد الإمام الكاظم(ع) أنَّ الله يعصمه من ذلك، فيُلقي في نفسه الشعور العميق بالقوّة، ويُثير في موقفه الثبات بالثقة، ويدفع عنه في حركة الأوضاع المحيطة به من كلِّ سوء.

وقد نلاحظ في التدقيق في التعبير، قولَ الإمام(ع): "فمن أوجس في نفسه منها شيئاً"، أنَّ المسألة تدخل في نطاق المشاعر النفسيّة التي قد تتحرّك نتيجة التربية الذاتية القائمة على أساس التقاليد الشعبيّة التي يلتصق بها الإنسان في مشاعره وخطواته العمليّة بشكل لا شعوريّ، بحيث يختزن تأثيراتها في داخله عفويّاً من دون أيّة محاكمة عقليّة أو تفكير موضوعيّ.. وهذا هو الذي يؤكّد المعنى الذي قدّمناه من عدم ارتباط المسألة بالواقع، ما يجعل للمعالجة النفسيّة الإيمانيّة دورها الكبير، لأنَّ القضيّة ليست قضيّة فكريّةً لتُعالج بالأسلوب الفكريّ، لأنَّ الناس لا تعيش هذا الأفق في ارتباطها بهذه الأمور، بل هي قضيةٌ نفسيّةٌ لا بدَّ من معالجتها بالوسائل النفسيّة المتصلة بالعمق الإيمانيّ في العقيدة بالله القادر على كلِّ شي‏ء، والمهيمن على كلِّ شي‏ء.. وهذا هو الذي نلاحظه في الحديث الشريف الذي يؤكّد على أنَّ "كفارة الطِيرَة التوكّل"(55)، وعلى أنَّ الطيرة التشاؤم من الأمور التي تختزنها الذات في ما تختزنه من عناصر التأثُّر بكلِّ ما حولها من التهاويل الناشِئة من ضغط الواقع، أو من التصورات الشعبيّة العامة التي تُلقي ظلالها عليه، وذلك في الحديث الشريف الذي يقول: ثلاثٌ لم يعرفها نبيّ، وعدَّ منها الطيرة، وأراد للإنسان أن يمضي عند عروض الطيرة له، فلا يتوقّف أمام مشاعر الخوف التي تتحرّك في داخله.

ولعلَّ هذا هو ما نستوحيه من الحديث المرويّ عن الإمام جعفر الصادق(ع)، حيث يقول: "الطيرة على ما تجعلها، إن هوّنتها تهوّنت، وإن شددتها تشدّدت، وإن لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئاً"(56). والحديث المرويّ عن الإمام الرضا(ع)، حيث كتب إليه بعض البغداديين يسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا يدور، فكتب(ع): "مَن خرج يوم الأربعاء لا يدور خلافاً على أهل الطيرة، وُقِيَ من كلِّ آفة، وعُوفِيَ من كلِّ عاهة، وقضى الله له حاجته"(57).

إنَّ الفكرة التي تحكم كلَّ هذه الأحاديث، هي أنَّ التطيّر لا ينطلق من واقع موضوعيّ في الأمور التي يتطيّر الناس منها، بل هناك عاداتٌ معيّنة تحوّلت إلى سلوك بشريٍّ عام، وإلى أوضاع نفسيّة داخليّة صعبة، ولا بدَّ من مواجهتها بالموقف المضادّ الذي يمثّل صدمةً قويّةً للمشاعر، وبالوسائل الإيمانية التي تفتح قلب الإنسان على مواقع الثقة بالله في كلِّ شي‏ء، والتوكّل عليه في كلِّ أمر.

وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نواجه الأفكار التي أثارتها بعض الأحاديث في التأكيد على نحوسات الأيام والأبراج ونحوها، لنخضعها للقاعدة العامة التي تنفي التشاؤم من الأساس كسلوكٍ عام، وتوجِّه الإنسان المسلم إلى عدم التوقُّف أمام كلِّ الأوضاع والأزمان التي تحمل في داخلها بعض التهاويل الشعوريّة من خلال العادات الشعبيّة المتخلّفة.

إنَّنا نريد أن نؤكِّد على ذلك، لأنَّ الطريقة التي يُثير فيها الأسلوب الفقهي مسألة المكروهات في باب السفر، وفي أبواب الأعمال العاديّة المتعلّقة بأوضاع الإنسان العامة والخاصّة، قد يؤدي إلى الكثير من الشلل والجمود على المستوى العمليّ، بحيث تتعطّل مسيرة الحياة العامة للإنسان، فتؤدي إلى كثير من الأضرار النفسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة، وقد تنعكس في بعض الحالات على الأوضاع السياسيّة، عندما تتحوّل الأمة إلى أمّة خائفةٍ من الزمن في نشاطاته العامة والخاصّة.

العمل اليدوي في خطِّ القيمة الإسلاميّة

رُوي في الكافي(58) عن عدّة من أصحابنا عن سهل عن الجاموراني عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه، قال: "رأيت أبا الحسن(ع) ـ الكاظم ـ يعمل في أرضٍ له قد استنقعت قدماه في العَرَق، فقلت: جُعلت فداك، أين الرجال؟ فقال: يا عليّ قد عمل باليد مَن هو خيرٌ مني في أرضه ومن أبي، فقلت: ومَن هو؟ فقال: رسول الله وأمير المؤمنين(ع) وآبائي، وهو من عمل النبيين والأوصياء والصالحين".

إنَّ هذه القضيّة التي أثارها الإمام الكاظم(ع) بعمله وكلامه، تؤكّد القيمة الإسلاميّة للعمل اليدوي في حياة الإنسان المسلم، أيّاً كان موقعه، فليس هناك شخصٌ يرتفع في منزلته الاجتماعية أو الدينيّة عن ذلك، بحيث لا يناسبه ذلك، لتكون المسألة في موقعه أن يعهد بذلك إلى غيره، فيبتعد عن جهد العمل ونتائجه القاسية.. ومن هنا، فإنَّ الإمام(ع) يؤكّد أنَّ ذلك من عمل النبيين والأوصياء والصالحين، ما يجعله أساس القيمة الاجتماعية الدينيّة، بدلاً من أن يكون ضدّ القيمة في النظرة الطبقية العامة التي تجعل العمل اليدوي أمراً دونيّاً.. وهذا هو ما ينبغي للتربية الإسلاميّة أن تركّز عليه، لا سيما في مواقع النّاس الذين يملكون بعض المواقع الدينيّة أو الاجتماعيّة التي لا تستغرق أوقاتهم، فيلجأون بفعل التربية المنحرفة التي ترى في العمل قيمة مضادّةً للموقع، إلى البطالة في أوقات فراغهم، ويعيشون كَلاً (عبئاً) على غيرهم، كما نجد ذلك في بعض الذين يتزيّون بالزيّ الديني، فيقضون عمرهم في الفراغ العابث والبطالة اللاهية، بعيداً عن الدرس والعمل الدينيّ الرساليّ، ويتحوّلون إلى عب‏ءٍ على الأمّة من دون أيّة فائدة لهم في حياتهم، لتقوم الأمّة بالإنفاق عليهم من الحقوق الشرعيّة من دون معنىً ولا أساسٍ من دين.

الفقهاء أمناء الرُّسل ما لم يدخلوا في الدنيا

يحدّد الإمام الكاظم(ع) الموقع الحقيقيَّ للفقهاء، فيروي عن رسول الله(ص) في ما كان يحدّث به أصحابه، فيقول: "الفقهاء أمناء الرُّسُل ـ هم الأمناء على رسالة الرسل، يحفظونها ويبلّغونها للناس ويعرّفونهم كيف يمارسونها ـ ما لم يدخلوا في الدنيا ـ دخول الحريص عليها، المستسلم لها، الخاضع لشهواتها وأطماعها، حتى يؤدّي به الأمر إلى أن يبيع رسالته من أجل أن يحصل عليها ـ قيل: يا رسول الله، ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان ـ وهو أن يكون العالِم في خدمة السلطان الجائر، وأن يكون داخلاً في بطانته، ويؤيّد حكمه وظلمه، ويمنحه الشرعيّة عند الناس ـ فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم"، لأنَّ الإنسان الذي يبيع رسالته وموقفه وخطَّه لسلطان جائر ليقوى بذلك مُلكُه وليدعم ظلمه، فإنَّه لا يكون مؤتمنَاً على الدين، لأنَّ الدين يرفض الظلم كلَّه والجور كلَّه.

لا تستضعفوا أحداً ولا تسخروا من أحد

مثّل الإمام الكاظم(ع) قمّة التواضع، فيُروى عنه أنَّه كان سائراً في الطريق، فرأى شخصاً مستضعفاً دميم المنظر، أسود اللون، فنزل وجلس معه يحادثه، وسأله إذا كان له حاجةٌ عنده أن يرجع إليه فيها، فاستنكر عليه أصحابه ذلك، وقالوا: "يابن رسول الله، أتنزل إلى هذا وتسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج ـ إنَّ هذا الرجل محتاجٌ إليك أكثر، فهو الذي يجب أن يأتيك ويطلب حاجته ـ فقال لهم: عبدٌ من عبيد الله وأخٌ في الله.. يجمعنا وإيّاه خيرُ الاباء ادم، وأفضل الأديان الإسلام، ولعلّ الدهر يردُّ من حاجتنا إليه، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه".

كأنَّه(ع) يريد أن يعطيهم درساً، بألاَّ يستضعفوا أحداً ولا يسخروا من أحد، وألاَّ تكون قضية احترامهم للناس وتواضعهم لهم على أساس ما يملكون من ثروةٍ ومن موقع اجتماعي أو سياسيّ، كأنَّه يقول لهم: تواضعوا لإنسانية الإنسانية، وحاولوا أن تعيشوا مع النّاس، كما كان رسول الله(ص) يعيش مع النّاس كواحدٍ منهم، لا يميّزه شي‏ءٌ عنهم، وهو سيِّدُ وُلْد آدم(ع).

كذّب سمعك وبصرَك عن أخيك

ورُويَ عن أحد أصحابه أنَّه قال له: "جُعلت فداك، الرجل من إخواني يبلغني عنه الشي‏ء الذي أكرهه ـ أسمع عنه شيئاً مكروهاً لا يعجبني ـ فأسأله عنه فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قومٌ ثقاةٌ، فقال(ع): يا محمّد، كذّب سمعك وبصرَك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسّامة ـ يقسمون ويحلفون بالله ـ وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم، لا تذيعنَّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته ـ فلا تنقل ما تسمع عنه لتُسقط أخاك بين الناس ـ فتكونَ من الذين قال الله في كتابه: {إنَّ الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة} [النور:19]، والفاحشة هي كلُّ ما تجاوز الحدَّ مما لا يرضاه الله تعالى.

الصبر على الحسد

ويقول الإمام الكاظم(ع) وهو يشير إلى الذين يحسدون غيرهم، لأنَّ الله تعالى أعطاهم من النِعَم ما لم يعطهم، ويحقدون عليهم، لأنَّ الله جعل لهم فضلاً لم ينعم عليهم به: "اصبر على أعداء النِعَم ـ هؤلاء الذين يعادون نِعَم الله عليك، فيتعقّدون منها ويحاولون أن يثيروا الحقد في أنفسهم ضدّك، فإنَّ من يحقد عليك، إنَّما يحقد على نعمة الله التي أنعمها عليك مما أعطاك الله من علم أو كرم أو خُلُق، أو ما إلى ذلك ـ فإنَّك لن تكافي من عصى اللهَ فيك بأفضل من أن تطيع اللهَ فيه ـ فهو قد عصى الله فيك، فحقد عليك وحسدَك، فأطِعِ الله فيه، بأن تكظم غيظك ـ بكظم الغيظ والعفو عنه، فتكون من المحسنين"(59).

الزيارة لوجه الله

وعن أبي حمزة، قال: "سمعت العبد الصالح الإمام الكاظم(ع) يقول: من زار أخاه المؤمن لله لا لغيره يطلب به ثواب الله وينجز ما وعد الله ـ فالزيارة على قسمين، فتارةً تزور أخاك لغرض في نفسك، أي زيارة تجارية أو مصلحيّة نفعيّة، أو لتحصل على مكسب من خلال زيارتك له، وتارةً تزوره قربةً إلى الله تعالى من أجل أخوّة الإيمان بينك وبينه ـ وكّل به سبعين ألف مَلَك من حين يخرج من منزله حتى يعود إليه، فينادونه: ألا طبتَ وطابت لك الجنّة، تبوّأت من الجنّة منزلاً"(60).

صفة الشيعيّ

ويوجّه(ع) كلامه إلى شيعته، محدّداً صفة الشيعي الذي يمثّل النموذج الذي يحبه الله ورسوله وأهل بيته، فيقول: "ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدَّرات بورعه في خدورهنّ ـ فالذي يصل إلى مرتبة من الورع عن الحرام في قوله وفعله وعلاقاته وموقفه، بحيث إنَّ أمره ينتشر بين الناس، حتى أنَّ المخدّرات المحجبات اللاتي لا يتحرّكن في المجتمع، تصلهنّ أخبارُ ورعه، بحيث يتحدثن عن هذا الورع ـ وليس من أوليائنا من هو في قريةٍ فيها عشرة الاف رجل فيهم مِن خَلْقِ الله مَن هو أورع منه"(61).

ومن هنا نعرف أنَّ التشيّع ليس كلمةً وعاطفة ودمعة وحسب، وإن كان لذلك كلّه دور، ولكنَّ التشيّع هو كما قال الإمام الباقر(ع): "والله ما شيعتنا إلاَّ من اتّقى اللهَ وأطاعه وكانوا يُعرَفون بالتواضع والتخشّع وصدق الحديث وأداء الأمانة، وكانوا أمناء عشائرهم".

وتبقى كلمة..

هذه بعضٌ من حياة الإمام الكاظم(ع) ومواقفه وكلماته، هذا الإمام الذي كان من ألقابه أنَّه باب الحوائج إلى الله، فنحن نعرف أنَّ الكثيرين من الناس الذين يقصدونه ليتوسّلوا إلى الله بكرامته تُقضى حوائجهم من الله تعالى ببركته(ع)، فهو صاحب الكرامات الخالدة، وكاظم الغيظ الذي كان منفتحاً حتى على الذين أساؤوا إليه، وكان له أسلوبه في اجتذاب أعدائه إلى محبته من خلال كرم أخلاقه والروحانية العالية التي عاشها، واستطاع بهذا أن يحصل على ثقة الناس كلّهم ومحبتهم، لأنَّه عاش(ع) حياته نفعاً لهم في قضاياهم الروحيّة والعلميّة والاجتماعية والسياسية.

ونحن إذ نستذكره(ع)، فلكي ننفتح على إمامته في خطِّ تعاليمه ووصاياه وروحانيته وعصمته، لنزداد من خلال معرفتنا به التزاماً بخطِّ أهل البيت(ع) وبإخلاصهم وتضحياتهم في سبيل الله وبمواقفهم أمام الطاغوت.

المصادر:

(54)الروضة، ص:198.

(55)الروضة، ص:198.

(56)الروضة،ص:197.

(57)الفقيه، ج:1، ص:195.

(58)الكافي، ج:2، ص:108.

(59)الكافي، ج:2، ص:117.

(60)الكافي، ج:2، ص:185.

(61)المصدر نفسه، ج:2، ص:84.

رسم الإمام الكاظم(ع)، انطلاقاً من الخطِّ الإسلاميّ العام، منهجاً للإنسان في علاقته بربه وبمجتمعه وبالحياة من حوله.. ونحن إذ نستذكر هذا المنهج، فلكي ننفتح على إمامته في خط تعاليمه ووصاياه وروحانيته وعصمته، لنزداد من خلال معرفتنا التزاماً بخطِّ أهل البيت(ع) وبإخلاصهم وتضحياتهم في سبيل الله، وبمواقفهم أمام الطاغوت.

طاعة الله

يقول الإمام الكاظم(ع) لبعض ولده وهو ينصحه: "يا بنيّ، إيّاك أن يراك الله في معصية نهاك عنها ـ اعرف مواقع معاصي الله لتبتعد عنها، واعرف أيضاً أنَّ الله تعالى يبغض الذين يعصونه، لأنَّهم يبتعدون عن مواقع رضاه، حاول وأنت تعرف مواقع المعصية ألاَّ يراك الله في معصيةٍ نهاك عنها، لا في كلمةٍ ولا في فعل ـ وإيّاك أن يفقدك الله عند طاعةٍ أمَرَك بها"، فالطاعات معروفةٌ في ما أمرك الله به وأوجبه عليك، والله تعالى يريد أن يجدك عند مواقع طاعته لتحصل على مواقع رضاه.

وفي وصية أخرى له(ع) يقول: "يا بنيّ، عليك بالجدّ، فلا تخرجنَّ نفسك من حدِّ التقصير في عبادة الله عزَّ وجلّ وطاعته، فإنَّ الله لا يُعبد حقَّ عبادته ـ مهما صلّيت وصمت، لا تحسبنَّ أنَّك أدّيت لله حقَّه وعبدته حقَّ عبادته ـ وإيّاك والمزاح ـ والمزاح ليس محرّماً، لكنَّ البعض يغلب المزاح على حياته، بحيث لا تجده إلاّ مزّاحاً في طريقته في الحياة ـ فإنَّه يُذهب بنور إيمانك ويستخفّ مروءتَك، وإيّاك والضجر والكسل ـ لا تضجر من عملٍ أو دراسةٍ أو عبادة، وحاول أن تكون الإنسان الذي يجدّد رغبته في ما ينفعه في الدنيا والآخرة فإنَّهما يمنعانك حظَّك من الدنيا والآخرة".

محاسبة النفس

وكان(ع) يراقب الناس، فيراهم يعيشون الغفلة، بحيث يتحرّكون في أعمالهم وأشغالهم وقد نسوا حدود الله وأوامره ونواهيه، وارتكبوا المعاصي في غفلتهم، فكان(ع) يقول: "ليس منا مَن لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم ـ يصبح الصباح عليه فيدرس ما عمل في ليله من خير أو شرّ، ويمسي المساء عليه فيدرس ما فعل في نهاره ـ فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه"، فهو يحدّق في نفسه قبل أن ينسى ما فعل..

ويقول(ع): "لا تستكثروا كثير الخير ـ إذا عملتم خيراً في عالم العطاء والعبادة والجهاد فلا تروه كثيراً ـ ولا تستقلّوا قليل الذنوب، فإنَّ قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا اللهَ في السرِّ حتى تعطوا من أنفسكم النَصَف، وسارعوا إلى طاعة الله ـ قبل أن يأتي الوقت الذي لا تستطيعون فيه الطاعة ـ وأصدقوا الحديث، وأدّوا الأمانة، فإنَّما ذلك لكم، ولا تَدخلوا في ما لا يحلّ، فإنَّما ذلك عليكم".

علم الناس

يقول(ع): "وجدتُ علم الناس في أربع: أولها: أن تعرف ربَّك، الثانية: أن تعرف ما صنع بك، الثالثة: أن تعرف ما أراد منك، الرابعة: أن تعرف ما يُخرجك عن دينك".

يلخّص هذا الحديث مواقع الثقافة الدينيّة التي تعمّق للمسلم معرفته العقيدية، وتوسّع لديه آفاقها، وتحقّق عنده المناعة الفكريّة ضدّ الانحراف.. فلا بدَّ في النقطة الأولى من معرفة الله في آفاق عظمته، وفي حقائق الألوهيّة التوحيديّة في عمقها الفكريّ، وفي رحابتها الوجدانية، ليتأكّد الإيمان به في العقل والقلب وفي الحياة، من خلال الحضور الإلهيّ في كلِّ موقع من مواقع الوجود، وهيمنته المطلقة على كلِّ شي‏ء، حتى لا يغيب عن خاطر الإنسان في شي‏ء، ولا يبتعد عن حركته في أيِّ قولٍ أو فعل.

وإذا كانت معرفة الله تعني المعرفة الشاملة التي تشتمل على كلِّ مواقع حكمة الله وتدبيره، فإنّ إرسال الرُّسل واليوم الآخر يدخلان في ذلك من خلال اقتضاء الحكمة والتدبير في ذلك.

أما النقطة الثانية، فإنَّها تتصل بالانفتاح على الله في دائرة النعمة الواسعة التي تتسع باتساع الكون في كلِّ الظواهر والأشياء التي تتصل بحماية وجود الإنسان في نموّه الجسدي والعقلي والحركيّ وفاعليته في بناء الحياة على الأسس القويّة والخطط المتوازنة، في ما أراده الله منه، ما يجعله مشدوداً إلى الله في كلِّ شي‏ء من خلال الحاجة المطلقة والفقر الشامل، الأمر الذي يثير فيه الشعور بضرورة التفكير في الطريقة الفضلى التي تربطه من ناحية عمليّة بمواقع الشكر الرحبة، بالإضافة إلى ما يربطه به من الناحية التكوينيّة.. وبذلك تتحوّل هذه المعرفة إلى عنصر حيٍّ يمنح الإنسان فكراً موسوعيّاً علميّاً في كلِّ مفردات النِعَم في الحياة من جهة، كما يمنحه حركةً في الانفتاح على الله في موقع الشكر والعبادة من جهةٍ أخرى.

وأمّا النقطة الثالثة، فتتمثل في معرفة الشريعة بكلِّ دقائقها وتفصيلاتها المتصلة بالخطِّ العام للسلوك الإنسانيّ في كلِّ القضايا العامة والخاصّة في حياته، ليتعرّف من خلال ذلك، ما هي أوامر الله ونواهيه على مستوى النظرية والتطبيق معاً.

وأمَّا النقطة الرابعة، فتتحرّك المعرفة من أجل صيانة الإنسان من الخطِّ المنحرف، أو الخطّ المضادّ في ما يمكن أن يتعرّض له المسلم من تضليلٍ أو انحراف بفعل التيارات الفكريّة المتنوّعة التي تختلف عن الفكر الإسلاميّ في الجذور أو في بعض التفاصيل، لا سيما إذا كان من الممكن تحريكها بطريقةٍ مدروسة مضلّلة، بحيث يختلط فيها الحقّ بالباطل من حيث الصورة، فيقع الاشتباه والانحراف، الأمر الذي يجعل من المعرفة أمراً حيويّاً على مستوى سلامة العقيدة في الخطِّ الخاص والعام.

وقد يكون إغفال التربية الإسلاميّة لاستكمال هذه العناصر من المعرفة في تربية الأجيال الإسلاميّة، هو المسؤول عن كثير من حالات الاهتزاز العقيدي، أو الانحراف الفكري، لفقدان الخطّ الفاصل بين الحقِّ والباطل، ولابتعاد الإنسان في وعيه لله عن وعيه لعلاقة حياته في مفرداتها التفصيليّة بالله، أو في محدوديّة معرفته بالإسلام في شريعته، أو في فقدانه لها بالكامل..

وربما كان من المفيد أن ندرس الاقتراح باتخاذ هذه الأمور في المعرفة الإسلاميّة أساساً في المنهج التربوي للإسلام، كما لا بدَّ لنا من إدخال العنصر الرابع في صلب الدراسات الفكريّة لطلاب العلوم الدينيّة في الحوزات العلميّة الإسلاميّة، حيث نجد الكثيرين منهم يجهلون التيارات الفكريّة الماديّة أو الفلسفات الإلحاديّة، أو النظريّات السياسيّة المخالفة للإسلام، ما يجعلهم غير دقيقين في التعرّف على ملامح العقيدة، أو في مواجهة التحديات المتحرّكة من خلال الكفر والضلال، الأمر الذي قد يجعلهم بعيدين عن المستوى المميّز في الدعوة إلى الإسلام، وفي تقديم الحجّة على الآخرين في ساحات الصراع.

ساعات الحياة

يوصي(ع) بعض أولاده بما يفتح عقولهم فيقول: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات؛ ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان الثقاة الذين يعرّفونكم عيوبَكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعةً تُخْلُون فيها للذّاتكم بغير محرّم". يتوجّه الإمام(ع) إلى الإنسان، بأنَّ عليه أن يفرّغ وقتاً للصلاة ومناجاة الله، وساعةً لتحصيل معاشه، وأخرى لمعاشرة الإخوان الذين يدلّونه على عيوبه ولا يضخّمون له شخصيته ويحسِّنون له عيوبه، وتبقى له ساعةٌ لغرائزه وشهواته المحلّلة، حيث لا يريد الله سبحانه أن يكبت هذه الغرائز، ويترك اللذّات التي أحلّها له تعالى: {قُلْ مَنْ حرَّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادِه والطيِّباتِ مِنَ الرزّقِ قُلْ هي للّذين امنُوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة} [الأعراف:32]. فالله سبحانه لا يريد أن نترك طيّبات الحياة الدنيا، بل أن نترك محرّماتها، وليس الزهد ألا نأكل ونلبس جيّداً، ولكنَّ الزهد، هو أن نتجنّب الحرام إذا أقبل علينا، وأن تكون لنا الإرادة في مواجهته.

ثم يتحدّث الإمام(ع) عن الإنسان الذي إذا صلّى وعمل خيراً، فإنَّه يُعْجَبُ بنفسه، فيقول: "العُجْب درجات، منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبُه ويحسب أنَّه يُحسن صُنعاً، ومنها أن يؤمن العبد بربِّه فيمنَّ على الله تبارك وتعالى، وللّه تعالى فيه المنّ"(54)، لأنَّه صلّى وصام وحجَّ بما أعطاه الله من قوّةٍ في جسده.

محاسبة النفس والاستزادة من طلب العلم

وورد عنه(ع) في بعض الروايات أنَّه قال: "ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه"، فكما تحاسب نفسك في آخر النهار على المستوى الماديّ، عليك أن تفكّر قبل أن تنام في كلِّ عملك ومواقفك وكلماتك، فإذا رأيت أنك عملت حَسَناً، دعوتَ الله أن يزيدك من هذا الحسن في أيامك القادمة من أجل أن يتعمق الفعل الحسن في أعماقك، ليتحوّل إلى عنصر فاعل في حركة الذات في الحياة، من خلال تحوّله إلى ملكة كامنة في النفس كطبيعة ثانية له، وإن رأيت أنَّك عملت سيئاً استغفرت الله وتُبت إليه لِتُصلح يومك القادم، فلا تكون فيه سيّئة، لأنَّ عالم السيئات هو كـ"الميكروب" الذي لا بدَّ أن تكتشفه في بداياته لتتخلّص منه قبل أن يتجذّر ويمتدّ في الذات، فلا تتمكن من إزالته.

وفي حديث عنه(ع) يحدّد لنا ما هو العلم الذي يجب علينا أن نتعلّمه، وما هو العمل الذي يجب أن نمارسه في الحياة، فيقول: "أولى العلم بك ما لا يصلح لك العملُ إلاِّ به، وأوجب العلم عليك ما أنت مسؤولٌ عن العمل به، وألْزَمُ العلم لك ما دلَّك على صلاح قلبك وأظهر لك فسادَه، وأحمَدُ العلم عاقبةً ما زاد في علمك العاجل، فلا تشتغلنَّ بعلم ما لا يضرُّك جهلُه ولا تغفلنَّ عن علم ما يزيد في جهلك تركه".

وخلاصة الفكرة، أنَّ الإمام(ع) يريد أن يبيّن لنا أنَّ هناك أشياء تتصل بحياتك ومسؤوليتك وعقيدتك، فهي مما يجب أن تتعلّمها، ومنها ما يتوقف عليه صلاح عملك من خلال توفر عناصر الصلاح في داخله، مما يتعلمه الإنسان من برامج إصلاح العمل، ومنها ما يتوقف عليه القيام بمسؤوليتك في تحويله إلى عمل، ومنها ما يفتح لك أبواب الوعي لما يصلح قلبك أو لما يفسده، لتتعرف منه كيف تصلح قلبك في الفكر والعاطفة والإحساس، وتبتعد عما يؤدي إلى فساده من ذلك كله، ومنها ما ينمي لك طاقتك العلميّة في حياتك، بحيث يترك تأثيره الإيجابي عليها. ثم يعطي الإمام النصيحة الأخيرة في القاعدة الحاكمة على مواقع العلم لدى الإنسان، فلا يتطلب العلم الذي لا علاقة له بمسؤولياته العقيدية والعملية، فلا يضره جهله به، ولا يبتعد عن العلم الذي يدخل في صلب مسؤولياته، بحيث يترك تأثيره السلبي على جهله به.. وخلاصة الفكرة في هذه الكلمة، أنّ قيمة العلم تتحدد بمقدار علاقته بالحياة وبالمصير، أما الأشياء التي لا دخل لها في العقيدة أو المسؤولية الشرعية، فَلِم تصرف وقتَك في الانشغال بها؟

عندما يكون الإنسان أعرف بنفسه

فيما يتصل بثقة الإنسان بنفسه وموقعه، ينبّه الإمام الكاظم(ع) إلى أنَّ الإنسان عندما يُحكم فكره ويُنضج رأيه ويؤكّد موقفه ويرى أنَّه مع الحقّ، فلا داعي لأن يستعير ثقته بنفسه من الناس، بل عليه أن يدرس نفسه، ويعرف رصيده في علمه وفقهه ووعيه ومواقفه، وعند ذلك يكون أعرفَ الناس بنفسه.. ففي حديث رواه الكشّي في رجاله عن حمدويه بن نصير قال: حدّثني محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن، قال: "قال العبد الصالح ـ والمراد به الإمام الكاظم(ع) ـ: يا يونس ارفق بهم، فإنَّ كلامك يدقّ عليهم. قال: قلت: إنّهم يقولون لي: زنديق، قال لي: وما يضرُّك أن يكون في يدك لؤلؤة فيقول الناس هي حصاة، وما ينفعك أن تكون في يدك حصاة فيقول الناس إنّها لؤلؤة". وهذه الوصيّة تتحرّك في المواقع التي يقف فيها المفكّرون الإسلاميون أو الدعاة إلى الله، في ما يطلقونه من أفكار، وفي ما يتحرّكون به من مواقف مما قد لا يرتاح الناس إليه، في ما لا يألفونه من أمور العقيدة أو الحياة، فيخيّل إليهم أنَّه زندقة وضلال، لأنّهم لم يأخذوا بالجذور العميقة للعقيدة، ولم يطّلعوا على الخطِّ المستقيم في نظرة الإسلام إلى الحياة، فكيف يتصرّف هؤلاء المفكّرون أو الدعاة أمام ذلك؟ هل ينسحبون من الميدان تاركين الناس في جهلهم وفي تخيّلاتهم وأوهامهم، أو يبقون على إصرارهم في ما يعتقدون ويقرّرون مهما كانت النتائج؟

إنَّ الإمام الكاظم(ع) يريد لهم ـ في ما قاله ليونس ـ أن يرفقوا بالناس، فيأخذوا بأساليب البساطة، ليقرّبوا لهم الفكرة بالطريقة التي تتناسب مع عقولهم بعيداً عن كلِّ عناصر الإثارة التي تثير الحساسيّات الخاصة على مستوى عقليّة الجماهير المملوءة بالكثير من الأوهام والخيالات، مما يحتاج إلى الكثير من الجهد الفكري من أجل إثارته والسيطرة عليه، لأنَّ المواجهة المباشرة، والإثارة العنيفة، قد تزيد الموقف تعقيداً، وقد تثير عصبياتهم بطريقة عدوانية، وتعمّق ضلالهم، وتحوّلهم إلى شخصيات هائجة من مواقع الجهل والتخلّف.

وهذا هو خطُّ الحكمة في معالجة حالات الانحراف الجماهيري، فيما تعيشه الجماهير من التصوّرات التي تمتزج فيها الحقيقة بالخرافة، واليقين بالوهم، مما يضيفونه من تقاليدهم وأوضاعهم بطريقة معقّدة.. فإنَّ المسألة المطروحة هي أن نصل إلى قناعاتهم لا إلى إثارتهم، وربما كان ذلك مقتضياً لدراسة معمّقةٍ واقعيّة للذهنيّة العامة للأمة، وللأفكار المطروحة في داخلها، وللوسائل العمليّة المؤثّرة في الانفتاح عليها، الأمر الذي يجعل الداعية معنيّاً بأن يبحث عن مفاتيح العقول والقلوب للأفراد والجماعات.

ويريد لهم(ع) في ما قاله ليونس ألاَّ يسقطوا أمام الكلمات القاسية في ما يرميهم به الجاهلون والمتخلّفون، ولا يتعقّدوا منها لينسحبوا من المسؤوليّة في الاستمرار على الخطِّ وفي الثبات في صعيد المواجهة، لأنَّ الإنسان المؤمن لا يستعير ثقته بنفسه من خلال كلمات الناس عنه، ليبقى في موقف المترقّب لما يقولونه عنه، ليقوى أو يضعف تَبَعَاً للكلمات الإيجابيّة أو للكلمات السلبيّة عنه، بل ينطلق في ثقته بنفسه من نظرةٍ موضوعيّة جادّة إلى كلِّ العناصر الواقعيّة التي تمثّل حجم طاقاته، فيما هو الكمّ والكيف، ليحكم لنفسه أو عليها تَبَعاً لذلك، من دون ملاحظةٍ لأيِّ شي‏ءٍ خارجٍ عن طبيعته الذاتية.. وبذلك يمكنه أن يحافظ على توازنه في جميع الحالات المحيطة به، فلا يغترّ بالكلمات التي تمنحه ضخامة في الشخصيّة لا يملكها في ما يعرفه عن نفسه، ولا يسقط أمام الكلمات التي تسلبه صفاته الحقيقيّة مما يملكه في وجوده.

وهذا هو الخطُّ العمليّ الذي يمثّل القوّة الحقيقية للموقف الثابت الواثق بنفسه المنفتح على الأهداف الكبيرة فيما هي المسيرة الإسلامية بعيداً عن كلُِّ حالات الاهتزاز التي قد يثيرها الآخرون من أعداء الإسلام والمسلمين، فيما يحاولون أن يحرّكوها في أجهزة إعلامهم المعادي الذي يستهدف إسقاط مستويات الأمّة وإيجاد حالةٍ من فقدان الثقة بقدرتها على الثبات في مواجهة التحديات، وذلك من خلال الإيحاء الدائم بنقاط الضعف التي يخترعونها وبالاتهامات التي يصوغونها ويحرّكونها كذباً وافتراءً، وبالعناوين المثيرة التي يضعونها على كثير من أوضاع الأمّة، مما يمكن أن يخضع لأكثر من عنوان، كما نلاحظه في عناوين التعصّب والتطرّف التي يطلقونها على الإسلاميّين الحركيين، وفي عنوان الإرهاب الذي يحرّكونه في سلوك المجاهدين من أجل الحريّة على خطِّ الإسلام ضدّ المستكبرين الذين يضطهدون حريّة الشعوب المستضعفة، أو عناوين التكفير والضلال التي يطلقها المتخلّفون المتعصبون على دعاة الإصلاح.

إنَّ الإمام(ع) يقول لكلِّ العاملين والمجاهدين: ادرسوا كلَّ المعطيات المتوفّرة لديكم مما تملكونه من حقائق، وحاولوا أن تركّزوا مسألة التقويم للذات الفردية أو الجماعية بشكل موضوعيّ واقعي لا يتأثّر بالانفعالات التي تخضع لتضخيم الموقع أو تقزيمه بفعل بعض المؤثّرات الداخلية أو الخارجيّة، الأمر الذي يضع المواقع والمواقف في نصابها الصحيح.

وإذا كان الإمام الكاظم(ع) يؤكِّد على العاملين الإسلاميّين ألاَّ يسقطوا عندما يقول الناس عما يملكونه من اللؤلؤ الفكري والروحيّ والعلميّ، إنَّه "حصى"، وألاّ ينتفخوا غروراً عندما يقول الناس عن الحصى الذي يملكونه إنَّه لؤلؤاً، فلا بدَّ أن يبقوا مع الواقع كيفما كان، وإذا كان هذا التأكيد موجّهاً إلى الذات في أنفسهم، فإنَّنا نستوحي منه توجيهاً إليهم في تقييم الآخرين من قياداتهم أو أتباعهم، ليكون الحقّ هو الأساس، والعقل هو المنطلق، لا الباطل الذي يتغذّى بالعاطفة، ولا الانفعال الذي يقود إلى الضلال..

وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين عليٌّ(ع): "لا يخدعنّك سواد الناس عن نفسك، لأنَّ الأمر يصل إليك دونهم"، أي لو أتى النّاس وضخّموا لك شخصيّتك، وقالوا أنت العظيم الذي ليس أحدٌ مثله، وأنت تعرف أنَّ علمك مثلاً أو موقعك يمثّل عشرةً أو عشرين بالمائة، فلا تنخدع بكلام النّاس، لأنَّك إذا خُدِعت ستسقط.. ونحن نقتدي بعليٍّ(ع) الذي كان إذا مدحه الناس يقول: "اللهم اجعلني خيراً مما يظنّون واغفرْ لي ما لا يعلمون"، ونحن نعرف أنَّ علياً(ع) فوق النقص وفوق العيب، ولكنّه يتواضع لله، لأنَّه(ع) يعلّمنا عندما يمدحنا النّاس أن ننزل إلى داخل أنفسنا لنكتشف عيوبنا، وفي هذا يقول الإمام زين العابدين(ع) في دعاء مكارم الأخلاق: "اللهم لا ترفعني في النّاسِ درجةً إلاَّ حططتني عند نفسي مثلَها، ولا تُحدثْ لي عِزَّاً ظاهراً إلاَّ أحدثْتَ لي ذِلّةً باطنةً عند نفسي بِقَدَرِها".

ومن هنا، فإنَّ الإمام الكاظم(ع) أراد للإنسان أن يدرس نفسه بنفسه، ليعرف موازين نفسه من نفسه لا من النّاس، لأنَّه هو الذي يعرف حجمَ فكره وطاقاته وطبيعة نواياه، سيئة أم حسنة، فالنّاس لا يعرفون الكثير من ذلك، فإذا فهم الإنسان نفسه، ورأى فيها خيراً وصدقاً، ورأى النّاس غير ذلك، فإنَّ هذا لا يضرّه ولا يُسقطه ولو شتموه وسبُّوه، لأنَّه يشعر بالأصالة والقوّة والصلابة، وإذا رأى في نفسه غير ذلك ومدحه النّاس، وهو ليس بمستوى المدح، فإنَّه لا يعظِّم شخصيته أبداً.

النهي عن الخوض مع الخائضين

جاء في الحديث عن الإمام الكاظم(ع) في ما أوصى به أحد أصحابه الفضل بن يونس قال: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة، قال ما الإمّعة؟ قال لا تقل: أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس، إنَّ رسول الله(ص) قال: إنَّما هما نجدان (طريقان) نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير".

وهذا خطٌّ واضحٌ في تحديد الموقف الحاسم من خلال الدراسة العميقة الواعية المنفتحة على الواقع كلِّه من جميع جوانبه، لتكون عمليّة الاختيار ناتجةً من استعراض كلِّ الاحتمالات، حيث يتحدّد الرأي الشخصيّ للإنسان بالمستوى الذي يتحمّل فيه مسؤوليّة كلِّ النتائج المترتبة عليه من خلال قناعاته المبنيّة على الفكر المسؤول، فلا ينبغي للإنسان، بل لا يجوز له أن يخضع في موقفه للجوِّ العام من حوله، ليكون مجرّد صدىً للآخرين في ما يقولونه أو في ما يتخذونه من الموقف، لأنَّ في ذلك انتقاصاً من كرامة عقله، وحطّاً من منزلة إنسانيته، وابتعاداً عن احترام إرادته، إذ لا معنى لخضوع الإنسان لقرارات الآخرين الذين لا يملكون العصمة في فكرهم من دون أن يعرف الأساس في هذا القرار أو في هذا الموقف، ليكون على بيّنةٍ من أمره، عندما يكون على بيّنةٍ من الجذور الفكريّة لذلك الأمر.

وكيف يأمن لهؤلاء الذين قد تتحكّم فيهم شهواتهم، وقد تحكم عليهم نقاط ضعفهم، وقد ينطلقون فيها من مواقع انفعاليّة وعاطفيّة، ما قد يعرّض القضايا التي ترتبط بهم للخطر، عندما يكون القرار الصادر منهم شرّاً وفساداً وخللاً في مواقع الحقّ.

إنَّ الإسلام، في ما يتحدّث به الإمام(ع)، لا يريد للإنسان أن يتهرّب من مسؤولية فكره في تحديد موقفه، وفي تأكيد قناعاته، بل يريد له أن يحرّكه في كلِّ موقع من مواقع الحركة في حياته، فإنَّ الله لم يجعل فكر الآخرين عذراً له إذا كان في موقع الخطأ، ما لم يكونوا في مستوى العصمة، أو في مستوى الثقافة الاجتهاديّة التي تُلزم الآخرين أو تجيز لهم الالتزام بمضمونها الفكريِّ والعلميّ.. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإنَّ الله يريد للإنسان أن يربّي عقله، كما يربّي جسمه، حتى يستطيع بعقله أن يتحرّك في المواقع القياديّة للحياة، ليمنح الساحة من إبداعاته، وليفتح لها أبواب التقدّم والتطوّر في ما يمكن أن ينتجه فكرُه. وكما أراد للنّاس أن يفكّروا مع قياداتهم ومع النّاس الآخرين، فقد أراد للقيادة أن تفكّر مع النّاس، وذلك في ما نستوحيه من قوله تعالى لنبيِّه محمد(ص): {وشَاوِرهم في الأمرِ فإذا عزمتَ فتوكّلْ على الله} [آل عمران:159]. فإنَّ الظاهر أنَّ المقصود من ذلك، هو تعويد النبيِّ(ص) لأصحابه بأن يفكّروا معه في ما يطرحه معهم من الأمور العامة أو الخاصّة، ليعتادوا على تحريك فكرهم، حتى يتعلّموا كيف يكونون قادةً للفكر في المستقبل.

إنَّ الإسلام يريد للأمة كلِّها أن تفكّر بحسب الحجم الثقافيّ الذي يملكه الأفراد، لأنَّ التدريب على إثارة الفكر في العقل يعطي القوّة والنموَّ والانفتاح، في ما يغني التجربة العامة للأمة ويحوّلها إلى طاقات متحرّكة تتنامى وتتلاقح وتُنتج الكثير من عناصر الخير والحياة، ويكشف لنا عن كثير مما لا نستطيع اكتشافه في حالات السكون والركود.

وقد وضع الإمام الكاظم(ع) العنوان العام للمسألة في الدعوة إلى إبلاغ الخير للناس، وإلى قول الخير في واقع حياتهم، ما يجعل القضية تحمل معنى المسؤولية في تحديد الخير في مواقعه في الحياة، مما لا يستطيع معرفته إلاَّ من خلال الرجوع إلى القاعدة الفكريّة التي يرتكز عليها عقله في حركته نحو اكتشاف المجهول..

وفي ضوء هذا، لا بدَّ من أن يواجه الموقف على أساس أنَّه يملك الفكر المستقلّ الذي يتحرّك بأصالةٍ ليحدّد النتائج في ما تتضمنه من الخير أو الشرّ.. فلا معنى لأن يقول أنا مع الناس في ما يتحرّكون به، وأنا كواحد من الناس في ما يتخذونه من موقف، تماماً كما هي الورقة في مهبِّ الريح، وكما هي الخشبة في مجرى التيار، فإنَّ أمثال هذا النموذج يعانون الضعف الشديد للشخصيّة، لأنّهم لا يطيقون الانفراد بالموقف عن النّاس، أو يخافون الوحشة في ذلك، أو يرفضون التعب في مسألة التفكير، ولذلك، فهم يتركون للآخرين أن يقرّروا أو يفكّروا أو يتخذوا المواقف ويحدّدوا المواقع، من دون اعتبار لطبيعة أفكارهم وقراراتهم ومواقفهم، فيما يمكن أن يكون فيها من خير أو شرّ، تماماً كما يقول الشاعر:

وما أنا إلا من غزيّةٍ إن غوت غويْتُ وإن تُرْشَدْ غزيّة أرْشَدِ

فقد رفض رسول الله(ص) ذلك من كلِّ الناس، لأنَّ الحياة في جميع ساحاتها تخطّط لطريقين، طريق الخير وطريق الشرّ، ولا بدَّ للإنسان أن يميّز أحدهما عن الآخر، ليلتزم طريق الخير الذي أراد الله منه أن يلتزمه، ويرفض طريق الشرّ الذي أراد له أن يرفضه، فلا يبقى حائراً بينهما، ولا يتخذ موقف اللامبالاة أو السلبيّة في التحديد من ذلك كلِّه.

معالجة التشاؤم

جاء في الفقيه، في ما رواه محمد بن علي بن الحسين، بإسناده عن سليمان بن جعفر الجعفري، عن الحسن موسى بن جعفر الكاظم(ع)، قال: "الشؤم للمسافر في طريقه في خمسة: الغراب الناعق عن يمينه، والكلب الناشر لِذَنبهِ، والذئب العاوي الذي يسوي في وجه الرجل وهو مقعٍ على ذنبه، ثم يعوي، ثم يرتفع، ثم ينخفض ثلاثاً، والظبي السانح عن يمين إلى شمال، والبومة الصارخة، والمرأة الشمطاء تلقى فرجها، والأتان العضباء، يعني الجدعاء، فمن أوجس في نفسه منهنّ شيئاً، فليقل: "اعتصمت بك يا ربِّ من شرّ ما أجدُ في نفسي فاعصمني من ذلك"، فَيُعْصَمُ من ذلك".

إنَّ الظاهر من هذا الحديث، أنَّ الإمام(ع) لا يريد أن يؤكّد وجود حقيقة للتشاؤم في هذه الأمور، باعتبار أنَّها نذيرٌ طبيعيٌّ للشؤم في خصائصها الذاتية، بل يريد أن يشير إليها من حيث الحالة الشعبيّة الجارية على التشاؤم بها، في ما يرونه فيها من خصائص معيّنة في طبيعتها، أو في ما غلب العادة عندهم في مصاحبتها لبعض حالات الشؤم، ولو بطريق الصدفة، ما جعل تصوّرها مقارناً لاستحضار صورة الشؤم معها.

ولما كان التشاؤم غريباً عن الذهنيّة الإسلاميّة المنفتحة على الله من موقع الثقة به والتوكّل عليه، فلا بدَّ من أن يرجع الإنسان المسلم أمام هذه الأمور إلى إيمانه بالله، فلا يهزّه الخوف، أو يُسقطه التطيّر، ولا يتجمّد في مشاريعه العمليّة من سفر أو غيره تحت تأثير ذلك، بل يعمل على أن يقوم بطريقة إيحائية، في الإيحاء لنفسه بأنَّ هذه الأمور مهما كانت تحمل في صورتها أو طبيعتها من التهاويل المخيفة، فإنَّ الله الذي خلقها يملك أمرها، كما يملك أمرَ الإنسان في جميع قضاياه، ولذلك فلا بدَّ من مواجهة الموقف بالتحدّي العنيف للخوف في حركة المشاعر بالاعتصام بالله، الذي يعصم عباده المؤمنين من كلِّ شرّ.. ويؤكّد الإمام الكاظم(ع) أنَّ الله يعصمه من ذلك، فيُلقي في نفسه الشعور العميق بالقوّة، ويُثير في موقفه الثبات بالثقة، ويدفع عنه في حركة الأوضاع المحيطة به من كلِّ سوء.

وقد نلاحظ في التدقيق في التعبير، قولَ الإمام(ع): "فمن أوجس في نفسه منها شيئاً"، أنَّ المسألة تدخل في نطاق المشاعر النفسيّة التي قد تتحرّك نتيجة التربية الذاتية القائمة على أساس التقاليد الشعبيّة التي يلتصق بها الإنسان في مشاعره وخطواته العمليّة بشكل لا شعوريّ، بحيث يختزن تأثيراتها في داخله عفويّاً من دون أيّة محاكمة عقليّة أو تفكير موضوعيّ.. وهذا هو الذي يؤكّد المعنى الذي قدّمناه من عدم ارتباط المسألة بالواقع، ما يجعل للمعالجة النفسيّة الإيمانيّة دورها الكبير، لأنَّ القضيّة ليست قضيّة فكريّةً لتُعالج بالأسلوب الفكريّ، لأنَّ الناس لا تعيش هذا الأفق في ارتباطها بهذه الأمور، بل هي قضيةٌ نفسيّةٌ لا بدَّ من معالجتها بالوسائل النفسيّة المتصلة بالعمق الإيمانيّ في العقيدة بالله القادر على كلِّ شي‏ء، والمهيمن على كلِّ شي‏ء.. وهذا هو الذي نلاحظه في الحديث الشريف الذي يؤكّد على أنَّ "كفارة الطِيرَة التوكّل"(55)، وعلى أنَّ الطيرة التشاؤم من الأمور التي تختزنها الذات في ما تختزنه من عناصر التأثُّر بكلِّ ما حولها من التهاويل الناشِئة من ضغط الواقع، أو من التصورات الشعبيّة العامة التي تُلقي ظلالها عليه، وذلك في الحديث الشريف الذي يقول: ثلاثٌ لم يعرفها نبيّ، وعدَّ منها الطيرة، وأراد للإنسان أن يمضي عند عروض الطيرة له، فلا يتوقّف أمام مشاعر الخوف التي تتحرّك في داخله.

ولعلَّ هذا هو ما نستوحيه من الحديث المرويّ عن الإمام جعفر الصادق(ع)، حيث يقول: "الطيرة على ما تجعلها، إن هوّنتها تهوّنت، وإن شددتها تشدّدت، وإن لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئاً"(56). والحديث المرويّ عن الإمام الرضا(ع)، حيث كتب إليه بعض البغداديين يسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا يدور، فكتب(ع): "مَن خرج يوم الأربعاء لا يدور خلافاً على أهل الطيرة، وُقِيَ من كلِّ آفة، وعُوفِيَ من كلِّ عاهة، وقضى الله له حاجته"(57).

إنَّ الفكرة التي تحكم كلَّ هذه الأحاديث، هي أنَّ التطيّر لا ينطلق من واقع موضوعيّ في الأمور التي يتطيّر الناس منها، بل هناك عاداتٌ معيّنة تحوّلت إلى سلوك بشريٍّ عام، وإلى أوضاع نفسيّة داخليّة صعبة، ولا بدَّ من مواجهتها بالموقف المضادّ الذي يمثّل صدمةً قويّةً للمشاعر، وبالوسائل الإيمانية التي تفتح قلب الإنسان على مواقع الثقة بالله في كلِّ شي‏ء، والتوكّل عليه في كلِّ أمر.

وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نواجه الأفكار التي أثارتها بعض الأحاديث في التأكيد على نحوسات الأيام والأبراج ونحوها، لنخضعها للقاعدة العامة التي تنفي التشاؤم من الأساس كسلوكٍ عام، وتوجِّه الإنسان المسلم إلى عدم التوقُّف أمام كلِّ الأوضاع والأزمان التي تحمل في داخلها بعض التهاويل الشعوريّة من خلال العادات الشعبيّة المتخلّفة.

إنَّنا نريد أن نؤكِّد على ذلك، لأنَّ الطريقة التي يُثير فيها الأسلوب الفقهي مسألة المكروهات في باب السفر، وفي أبواب الأعمال العاديّة المتعلّقة بأوضاع الإنسان العامة والخاصّة، قد يؤدي إلى الكثير من الشلل والجمود على المستوى العمليّ، بحيث تتعطّل مسيرة الحياة العامة للإنسان، فتؤدي إلى كثير من الأضرار النفسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة، وقد تنعكس في بعض الحالات على الأوضاع السياسيّة، عندما تتحوّل الأمة إلى أمّة خائفةٍ من الزمن في نشاطاته العامة والخاصّة.

العمل اليدوي في خطِّ القيمة الإسلاميّة

رُوي في الكافي(58) عن عدّة من أصحابنا عن سهل عن الجاموراني عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه، قال: "رأيت أبا الحسن(ع) ـ الكاظم ـ يعمل في أرضٍ له قد استنقعت قدماه في العَرَق، فقلت: جُعلت فداك، أين الرجال؟ فقال: يا عليّ قد عمل باليد مَن هو خيرٌ مني في أرضه ومن أبي، فقلت: ومَن هو؟ فقال: رسول الله وأمير المؤمنين(ع) وآبائي، وهو من عمل النبيين والأوصياء والصالحين".

إنَّ هذه القضيّة التي أثارها الإمام الكاظم(ع) بعمله وكلامه، تؤكّد القيمة الإسلاميّة للعمل اليدوي في حياة الإنسان المسلم، أيّاً كان موقعه، فليس هناك شخصٌ يرتفع في منزلته الاجتماعية أو الدينيّة عن ذلك، بحيث لا يناسبه ذلك، لتكون المسألة في موقعه أن يعهد بذلك إلى غيره، فيبتعد عن جهد العمل ونتائجه القاسية.. ومن هنا، فإنَّ الإمام(ع) يؤكّد أنَّ ذلك من عمل النبيين والأوصياء والصالحين، ما يجعله أساس القيمة الاجتماعية الدينيّة، بدلاً من أن يكون ضدّ القيمة في النظرة الطبقية العامة التي تجعل العمل اليدوي أمراً دونيّاً.. وهذا هو ما ينبغي للتربية الإسلاميّة أن تركّز عليه، لا سيما في مواقع النّاس الذين يملكون بعض المواقع الدينيّة أو الاجتماعيّة التي لا تستغرق أوقاتهم، فيلجأون بفعل التربية المنحرفة التي ترى في العمل قيمة مضادّةً للموقع، إلى البطالة في أوقات فراغهم، ويعيشون كَلاً (عبئاً) على غيرهم، كما نجد ذلك في بعض الذين يتزيّون بالزيّ الديني، فيقضون عمرهم في الفراغ العابث والبطالة اللاهية، بعيداً عن الدرس والعمل الدينيّ الرساليّ، ويتحوّلون إلى عب‏ءٍ على الأمّة من دون أيّة فائدة لهم في حياتهم، لتقوم الأمّة بالإنفاق عليهم من الحقوق الشرعيّة من دون معنىً ولا أساسٍ من دين.

الفقهاء أمناء الرُّسل ما لم يدخلوا في الدنيا

يحدّد الإمام الكاظم(ع) الموقع الحقيقيَّ للفقهاء، فيروي عن رسول الله(ص) في ما كان يحدّث به أصحابه، فيقول: "الفقهاء أمناء الرُّسُل ـ هم الأمناء على رسالة الرسل، يحفظونها ويبلّغونها للناس ويعرّفونهم كيف يمارسونها ـ ما لم يدخلوا في الدنيا ـ دخول الحريص عليها، المستسلم لها، الخاضع لشهواتها وأطماعها، حتى يؤدّي به الأمر إلى أن يبيع رسالته من أجل أن يحصل عليها ـ قيل: يا رسول الله، ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان ـ وهو أن يكون العالِم في خدمة السلطان الجائر، وأن يكون داخلاً في بطانته، ويؤيّد حكمه وظلمه، ويمنحه الشرعيّة عند الناس ـ فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم"، لأنَّ الإنسان الذي يبيع رسالته وموقفه وخطَّه لسلطان جائر ليقوى بذلك مُلكُه وليدعم ظلمه، فإنَّه لا يكون مؤتمنَاً على الدين، لأنَّ الدين يرفض الظلم كلَّه والجور كلَّه.

لا تستضعفوا أحداً ولا تسخروا من أحد

مثّل الإمام الكاظم(ع) قمّة التواضع، فيُروى عنه أنَّه كان سائراً في الطريق، فرأى شخصاً مستضعفاً دميم المنظر، أسود اللون، فنزل وجلس معه يحادثه، وسأله إذا كان له حاجةٌ عنده أن يرجع إليه فيها، فاستنكر عليه أصحابه ذلك، وقالوا: "يابن رسول الله، أتنزل إلى هذا وتسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج ـ إنَّ هذا الرجل محتاجٌ إليك أكثر، فهو الذي يجب أن يأتيك ويطلب حاجته ـ فقال لهم: عبدٌ من عبيد الله وأخٌ في الله.. يجمعنا وإيّاه خيرُ الاباء ادم، وأفضل الأديان الإسلام، ولعلّ الدهر يردُّ من حاجتنا إليه، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه".

كأنَّه(ع) يريد أن يعطيهم درساً، بألاَّ يستضعفوا أحداً ولا يسخروا من أحد، وألاَّ تكون قضية احترامهم للناس وتواضعهم لهم على أساس ما يملكون من ثروةٍ ومن موقع اجتماعي أو سياسيّ، كأنَّه يقول لهم: تواضعوا لإنسانية الإنسانية، وحاولوا أن تعيشوا مع النّاس، كما كان رسول الله(ص) يعيش مع النّاس كواحدٍ منهم، لا يميّزه شي‏ءٌ عنهم، وهو سيِّدُ وُلْد آدم(ع).

كذّب سمعك وبصرَك عن أخيك

ورُويَ عن أحد أصحابه أنَّه قال له: "جُعلت فداك، الرجل من إخواني يبلغني عنه الشي‏ء الذي أكرهه ـ أسمع عنه شيئاً مكروهاً لا يعجبني ـ فأسأله عنه فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قومٌ ثقاةٌ، فقال(ع): يا محمّد، كذّب سمعك وبصرَك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسّامة ـ يقسمون ويحلفون بالله ـ وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم، لا تذيعنَّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته ـ فلا تنقل ما تسمع عنه لتُسقط أخاك بين الناس ـ فتكونَ من الذين قال الله في كتابه: {إنَّ الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة} [النور:19]، والفاحشة هي كلُّ ما تجاوز الحدَّ مما لا يرضاه الله تعالى.

الصبر على الحسد

ويقول الإمام الكاظم(ع) وهو يشير إلى الذين يحسدون غيرهم، لأنَّ الله تعالى أعطاهم من النِعَم ما لم يعطهم، ويحقدون عليهم، لأنَّ الله جعل لهم فضلاً لم ينعم عليهم به: "اصبر على أعداء النِعَم ـ هؤلاء الذين يعادون نِعَم الله عليك، فيتعقّدون منها ويحاولون أن يثيروا الحقد في أنفسهم ضدّك، فإنَّ من يحقد عليك، إنَّما يحقد على نعمة الله التي أنعمها عليك مما أعطاك الله من علم أو كرم أو خُلُق، أو ما إلى ذلك ـ فإنَّك لن تكافي من عصى اللهَ فيك بأفضل من أن تطيع اللهَ فيه ـ فهو قد عصى الله فيك، فحقد عليك وحسدَك، فأطِعِ الله فيه، بأن تكظم غيظك ـ بكظم الغيظ والعفو عنه، فتكون من المحسنين"(59).

الزيارة لوجه الله

وعن أبي حمزة، قال: "سمعت العبد الصالح الإمام الكاظم(ع) يقول: من زار أخاه المؤمن لله لا لغيره يطلب به ثواب الله وينجز ما وعد الله ـ فالزيارة على قسمين، فتارةً تزور أخاك لغرض في نفسك، أي زيارة تجارية أو مصلحيّة نفعيّة، أو لتحصل على مكسب من خلال زيارتك له، وتارةً تزوره قربةً إلى الله تعالى من أجل أخوّة الإيمان بينك وبينه ـ وكّل به سبعين ألف مَلَك من حين يخرج من منزله حتى يعود إليه، فينادونه: ألا طبتَ وطابت لك الجنّة، تبوّأت من الجنّة منزلاً"(60).

صفة الشيعيّ

ويوجّه(ع) كلامه إلى شيعته، محدّداً صفة الشيعي الذي يمثّل النموذج الذي يحبه الله ورسوله وأهل بيته، فيقول: "ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدَّرات بورعه في خدورهنّ ـ فالذي يصل إلى مرتبة من الورع عن الحرام في قوله وفعله وعلاقاته وموقفه، بحيث إنَّ أمره ينتشر بين الناس، حتى أنَّ المخدّرات المحجبات اللاتي لا يتحرّكن في المجتمع، تصلهنّ أخبارُ ورعه، بحيث يتحدثن عن هذا الورع ـ وليس من أوليائنا من هو في قريةٍ فيها عشرة الاف رجل فيهم مِن خَلْقِ الله مَن هو أورع منه"(61).

ومن هنا نعرف أنَّ التشيّع ليس كلمةً وعاطفة ودمعة وحسب، وإن كان لذلك كلّه دور، ولكنَّ التشيّع هو كما قال الإمام الباقر(ع): "والله ما شيعتنا إلاَّ من اتّقى اللهَ وأطاعه وكانوا يُعرَفون بالتواضع والتخشّع وصدق الحديث وأداء الأمانة، وكانوا أمناء عشائرهم".

وتبقى كلمة..

هذه بعضٌ من حياة الإمام الكاظم(ع) ومواقفه وكلماته، هذا الإمام الذي كان من ألقابه أنَّه باب الحوائج إلى الله، فنحن نعرف أنَّ الكثيرين من الناس الذين يقصدونه ليتوسّلوا إلى الله بكرامته تُقضى حوائجهم من الله تعالى ببركته(ع)، فهو صاحب الكرامات الخالدة، وكاظم الغيظ الذي كان منفتحاً حتى على الذين أساؤوا إليه، وكان له أسلوبه في اجتذاب أعدائه إلى محبته من خلال كرم أخلاقه والروحانية العالية التي عاشها، واستطاع بهذا أن يحصل على ثقة الناس كلّهم ومحبتهم، لأنَّه عاش(ع) حياته نفعاً لهم في قضاياهم الروحيّة والعلميّة والاجتماعية والسياسية.

ونحن إذ نستذكره(ع)، فلكي ننفتح على إمامته في خطِّ تعاليمه ووصاياه وروحانيته وعصمته، لنزداد من خلال معرفتنا به التزاماً بخطِّ أهل البيت(ع) وبإخلاصهم وتضحياتهم في سبيل الله وبمواقفهم أمام الطاغوت.

المصادر:

(54)الروضة، ص:198.

(55)الروضة، ص:198.

(56)الروضة،ص:197.

(57)الفقيه، ج:1، ص:195.

(58)الكافي، ج:2، ص:108.

(59)الكافي، ج:2، ص:117.

(60)الكافي، ج:2، ص:185.

(61)المصدر نفسه، ج:2، ص:84.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير