الإمام وموقفه من الثائرين على الحكم العباسي في عصره

الإمام وموقفه من الثائرين على الحكم العباسي في عصره

هل كان التشيّع في عهد الإمام الكاظم(ع) حركة إسلاميّة تعمل للوصول إلى الحكم ليكون الأئمة على رأس الدولة من موقع أنّهم يمثّلون الشرعية الوحيدة للولاية الإسلاميّة من خلال عقيدة الشيعة الإماميّة بأنَّهم خلفاء النبي(ص) وأوصياؤُه، ما يجعل من السلطات الحاكمة آنذاك سلطات غير شرعيّة، لأنَّها لا تملك الأساس الشرعيَّ في ذلك؟

ربما كانت المسألة واردة في تفكير البعض من المتحمسين للخطِّ الإمامي في نطاق الحركة الشيعيّة آنذاك، ولذلك، فإنَّهم كانوا يتحدّثون إلى الأئمة في ذلك ويستعجلونهم التحرّك، لا سيما عندما كانوا يعيشون المعاناة الصعبة في اضطهاد السلطات لهم ومحاصرتهم وتشريدهم، أو في ما كانوا يلاحظونه من التضييق على الأئمة(ع) بمختلف الوسائل من السجن والملاحقة المخابراتية، وما إلى ذلك. وكان الأئمة(ع) يربطونهم بالمستقبل، ويحدّثونهم عن قائم آل محمد(ع) بطريقة متنوعة العناوين، من دون أن يحدّدوا لهم تاريخاً معيّناً، ليخفّفوا من غلواء حماستهم التي قد تتحوّل إلى عنصر ضاغط على الواقع، بحيث يدفعهم إلى تصرّفات غير معقولة، قد تقضي على الحركة من الأساس، وقد تهدّد رموزها في وجودهم وكلِّ مواقعهم.

وربما كان الأئمة(ع) لا يرون أيّة فرصة واقعيّة لتحقيق هذا الهدف الكبير، لأنَّ المسألة قد تحتاج إلى إعداد قاعدةٍ كبيرة ملتزمةٍ بالنهج الإسلاميّ في خطِّ أهل البيت(ع)، مع القدرة على التحرّك الفاعل من خلال الإمكانيات الخاصّة، ومن خلال الظروف الموضوعيّة التي تحيط بالواقع الإسلاميّ كلِّه.. ولم تكن هذه القاعدة متوفّرة بالحجم الكبير، ولم تكن الوسائل العمليّة بالمستوى الذي يمكّنها من الاقتراب نحو الهدف، لا سيما إذا عرفنا أنَّ أيّة حركة في مكانٍ ما، لا تستطيع أن تتواصل مع الحركة المساندة لها في موقع آخر، لفقدان وسائل الاتصال السريعة، ما يجعل للحركة موقعاً محدوداً خاضعاً لإمكانات الحصار المتعدّدة، إذا لم يتوفّر لها الإعداد اللازم الطويل، الذي قد يكون الأساس فيه، إيمان الناس بإمامة أئمة أهل البيت(ع) بالدرجة التي تحقّق الارتباط العمليَّ بهم من خلال الارتباط الإيماني بولايتهم.. ولم يكن ذلك متوفّراً في الساحة الإسلاميّة العامة التي كانت تحمل التقدير والتعظيم لأئمة أهل البيت(ع)، في ما تتمثّله فيهم من الدرجة العليا من الإيمان والعلم والعمل والمواقع الرفيعة في القرب من الله.. ولذلك، فإنَّ عملية الاستجابة للحركة الإماميّة لا تحمل الكثير من الفرص الكبيرة، ما يجعل منها في كثير من الحالات حركة انتحاريّة في نطاق المرحلة من دون أن تحقّق أيّة نتيجةٍ على مستوى القضايا الكبيرة المطروحة في ساحة الأئمة(ع) من التوعية الروحية والشرعية والسياسيّة ضدّ خطِّ الانحراف..

ولقد كان الأئمة(ع) بعد مرحلة أمير المؤمنين والحسن والحسين(ع)، يرون أنَّ الأسلوب العمليّ الذي ينسجم مع المرحلة المعاصرة لهم، هو أسلوب التوعية الروحية والثقافية والتعبئة السياسيّة المتحرّكة في خطِّ تكوين القاعدة الإسلامية الرافضة للانحراف في مستوى الواقع.. ولذلك، كان كلُّ جهدهم هو تكوين هذه القاعدة الشعبيّة المعارضة وحمايتها من أيِّ اهتزاز أو ضغط أو انفعال، وغير ذلك من الأوضاع التي تعرّضها للخطر.

وكانت التقيّة بأساليبها المتعدّدة الوسيلة الحركيّة المتنوّعة لحماية القاعدة ورعاية الخطّ، في المحاولة التي تتسامح فيها في التفاصيل للحفاظ على المبدأ، وتتغاضى فيها عن الفروع للمحافظة على الأصول في خطّة مدروسة لا تسمح بالانحراف أو بإيقاع الفساد في الدين.

وقد كانت المكانة الكبيرة التي يتميّز بها الأئمة(ع) لدى المسلمين، والعقيدة التي كان يعتقدها الشيعة بهم، تمثّل هاجساً دائماً للخلفاء في زمانهم، خوفاً من تأثير ذلك، ولو على المدى البعيد، على مواقعهم في الخلافة، أو على قوّتهم فيها، فكانوا يطلقون الجواسيس عليهم ليرصدوا حركاتهم وعلاقاتهم وأقوالهم وأصحابهم، كما كانوا يوظّفون الأموال لإغراء بعض ضعفاء النفوس من أقربائهم لينقلوا إليهم بعض أخبارهم، مما قد يشارك ذلك في اتخاذ بعض الإجراءات القاسية كالحبس والتضييق، وربما أدّى ذلك إلى القتل بطريق السُّم ونحوه. وهذا ما نلاحظه في بعض الأجواء المحيطة بالإمام الكاظم(ع) على أساس الروايات المنقولة في سيرته.

فقد ورد في كتاب (عيون أخبار الرّضا) للشيخ الصدوق، في ما رواه عن عليّ بن محمد النوفلي، قال: "حدّثني أبي أنَّه كان سبب سعاية يحيى بن خالد بموسى بن جعفر(ع) وضع الرشيد ابنه محمد (الأمين) بن زبيدة في حجر جعفر بن محمد الأشعث، فساء ذلك يحيى، وقال: إذا مات الرشيد وأفضى الأمر إلى محمد انقضت دولتي ودولة ولدي وتحوّل الأمر إلى جعفر بن محمد الأشعث وولده، وكان قد عرف مذهب جعفر في التشيّع، فأظهر له أنَّه على مذهبه، فسرَّ به جعفر، وأفضى إليه بجميع أموره، وذكر له ما هو عليه في موسى بن جعفر(ع).. فلما وقف على مذهبه، سعى به إلى الرشيد، فكان الرشيد يرعى له موضعه وموضع أبيه من نُصرة الخلافة، فكان يقدّم في أمره ويؤخّر، ويحيى لا يألو أن يخطب عليه، إلى أن دخل يوماً إلى الرشيد، فأظهر له إكراماً، وجرى بينهما كلامٌ مسّ به جعفر بحرمته وحرمة أم أبيه، فأمر له الرشيد في ذلك اليوم بعشرين ألف دينار، فأمسك يحيى أن يقول فيه شيئاً حتى أمسى، ثم قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، قد كنت أخبرك عن جعفر ومذهبه، فتكذب عنه، وههنا أمر الفصل، قال: وما هو؟ قال: إنَّه لا يصل إليه مالٌ من جهةٍ من الجهات إلا أخرج خُمُسَه، فوجّه به إلى موسى بن جعفر، ولست أشكُّ أنَّه قد فعل ذلك في العشرين ألف دينار التي أمرت بها، فقال هارون: إنَّ في هذا الأمر لفيصلاً، فأرسل إلى جعفر ليلاً، وكان قد عرف سعاية يحيى به، فتباينا وأظهر كلُّ واحد فيهما لصاحبه العداوة، فلما طرق جعفر رسول الرشيد بالليل، خشي أن يكون قد سمع فيه قول يحيى، وأنَّه إنَّما دعاه ليقتله، فأفاض عليه ماءً، ودعا بمسكٍ وكافور فتحنّط بها، ولبس بُردةً فوق ثيابه، وأقبل إلى الرشيد، فلما وقعت عليه عينه وشمَّ رائحة الكافور، ورأى البردة عليه، قال: يا جعفر ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد علمت أنّه قد سُعِي بي عندك، فلما جاءني رسولُك في هذه الساعة لم آمن أن يكون قد قدح في قلبك ما يُقال عليَّ فأرسلتَ إليَّ لتقتلني.

فقال: كلا، ولكن قد خبرت أنَّك تبعث إلى موسى بن جعفر من كلِّ ما يصير إليك بخُمُسِهِ، وأنَّك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار، فأحببت أن أعلم ذلك، فقال جعفر: الله أكبر يا أمير المؤمنين، تأمر بعض خدمك يذهب فيأتيك بها بخواتيمها.

فقال الرشيد لخادم له: خذ خاتم جعفر وانطلق به حتى تأتيني بهذا المال، وسمّى له جعفر جاريته التي عندها المال، فدفعت إليه البدر بخواتيمها، فأتى بها الرشيد، فقال له جعفر: هذا أول ما تعرف به كذبَ مَن سعى بي إليك. قال: صدقت يا جعفر، انصرف آمناً، فإنّي لا أقبل فيك قولَ أحد. قال: وجعل يحيى يحتال في إسقاط جعفر"(46).

وعي الحركة الشيعيّة ومرونتها

ونلاحظ في هذه الرواية عدّة أمور:

1 ـ إنَّ حركة التشيّع قد استطاعت أن تُدخل بعض أفرادها في عمق موقع الخلافة ليكون مربّياً لولد الخليفة، ما يدلُّ على المرونة الواسعة في إمكانات الوصول إلى المواقع المميّزة في السلطة.

2 ـ إنَّ الشيعة كانوا يعملون للامتداد في مراكز السلطة الكبرى، بحيث إنّهم يستفيدون من أيّة حالةٍ تعاطف مع الخطِّ الإمامي، ليؤكّدوا العمل على الارتباط بالإمام في عملية تثقيف وتوعية وانتماء، وهذا ما لاحظناه في الحديث التفصيلي الذي أفاض به جعفر الأشعث ليحيى في خصوصيّات المذهب، وموقع الإمام الكاظم(ع) في مسألة الإمامة، مع ملاحظة سلبيّة، وهي السرعة التي انفتح فيها على يحيى بمجرد أن ذكر له أنَّه على مذهبه، في الوقت الذي كان من المفروض أن يتأكّد ويستوثق لموقفه بشكل أفضل.

3 ـ كان يحيى يعمل على الإيقاع بجعفر خوفاً من السلطة التي قد يحصل عليها في المستقبل من خلال علاقته بمحمد الأمين (ابن هارون الرشيد)، ولذا فقد كان يعمل على الإيقاع به من خلال نسبة التشيّع إليه، وعلاقته بموسى بن جعفر(ع) الذي كان الرشيد يخاف من موقعه الكبير في الأمّة في ما يعتقده فيه الشيعة من شرعية إمامته وتقديمهم حقوقهم الشرعيّة إليه، ما يُوحي بأنَّ المسألة تمثّل درجة كبيرةً من الخطورة، بحيث إنَّ جعفر كان يعتقد بأنَّ اقتناع الرشيد بذلك يكفي في قتله، فاستعدّ لذلك عند إرسال الرشيد خلفه. ونلاحظ أنَّ هذا الرجل كان واعياً لموقفه وموقعه، بعد أن عرف نوايا يحيى ضدّه، ما جعله يحتاط للمسألة في الأمور التي يمكن أن ينفذ منها الشكّ إليه، وهذا هو الذي جعله ينطلق أمام الرشيد في موقع القوّة في الموقف بعد ظهور كذب يحيى في قوله، فطلب من الرشيد أن يمنحه الثقة المطلقة في المستقبل.

عناصر قلقة أربكت الواقع

ويتابع النوفلي روايته، فيقول: "فحدّثني علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي عن بعض مشايخه، وذلك في حجّة (من الحجّ) الرشيد قبل هذه الحجّة، قال: لقيني علي بن إسماعيل ابن جعفر بن محمد، فقال لي: مالك قد أخملت نفسك، مالك لا تدبّر أمر الوزير؟ فقد أرسل إليّ فعادلته وطلبت الحوائج إليه.

وكان سبب ذلك، أنَّ يحيى بن خالد قال ليحيى بن أبي مريم: ألا تدلّني على رجلٍ من آل أبي طالب له رغبته في الدنيا فأوسّع له منها، قال: بلى، أدلّك على رجلٍ بهذه الصفة، وهو عليّ بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد، فأرسل إليه يحيى فقال: أخبرني عن عمِّك وعن شيعته والمال الذي يُحمل إليه، فقال له: عندي الخبر، فسعى بعمِّه، فكان في سعايته أن قال: إنَّ من كثرة المال عنده أنَّه اشترى ضيعة تسمّى البشرية بثلاثين ألف دينار، فلما أحضر المال، قال البائع: لا أريد هذا النقد، أريد نقداً كذا وكذا، فأمر بها فصبّت في بيت ماله، وأخرج ثلاثين ألف دينار من ذلك النقد ووزنه في ثمن الضيعة.. قال النوفلي: قال أبي: وكان موسى بن جعفر(ع) يأمر لعليّ بن إسماعيل بالمال ويثق به، حتى ربَّما خرج الكتاب منه إلى بعض شيعته بخطِّ عليِّ بن إسماعيل، ثم استوحش منه، فلما أراد الرشيد الرحلة إلى العراق، بلغ موسى بن جعفر أنَّ ابن أخيه يريد الخروج مع السلطان إلى العراق، فأرسل إليه: مالك والخروج مع السلطان؟ قال: لأنَّ عليَّ ديناً، فقال: دينك عليَّ، قال: وتدبير عيالي؟ قال: أنا أكفيهم، فأبى إلاّ الخروج، فأرسل إليه مع أخيه محمد بن جعفر بثلاثماية دينار وأربعة آلاف درهم، فقال: اجعل هذا في جهازك ولا توتم ولدي"(47).

وجاء في عيون أخبار الرضا عن عليّ بن إبراهيم عن اليقطيني عن موسى بن القاسم البجلي عن عليِّ بن جعفر قال: "جاءني محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، وذكر لي أنَّ محمد بن جعفر دخل على هارون الرشيد، فسلّم عليه بالخلافة، ثم قال له: ما ظننتُ أنَّ في الأرض خليفتين حتى رأيت أخي موسى بن جعفر يُسلَّم عليه بالخلافة. وكان ممن سعى بموسى بن جعفر(ع) يعقوب بن داود، وكان يرى رأي الزيديّة"(48).

ونلاحظ في هذه النصوص أموراً:

1 ـ إنَّ مواقع النفوذ العليا في سلطة الخلافة كانت تبحث عن العناصر القلقة في محيط الإمام الكاظم(ع)، لتوظّفها في سبيل إيصال المعلومات المخيفة للرشيد التي تؤكّد له خطورة موقع الإمام الكاظم(ع) كمنافس خطير له في الخلافة، وقد استطاع الحصول ـ حسب الرواية ـ على شخص عليّ بن إسماعيل بن جعفر (الصادق)، وهو ابن أخ الإمام الكاظم(ع) الذي كان يعيش عقدة داخليّة كبيرة، بحيث لم ينفع إحسان الإمام إليه وتقريبه إلى خصوصيّاته ومواقع المسؤولية لديه، وَوَعْدُه إيّاه بكلِّ خير، ثم كان الشخص الآخر ـ حسب الرواية الثانية ـ أخاه محمد بن جعفر )الصادق(، الذي فاجأ الرشيد بأنَّ الإمام الكاظم(ع) يتصرّف مع شيعته كما يتصرّف الخليفة مع أتباعه، أو كما يتصرّفون معه، ولم تذكر هذه الرواية ما هي طبيعة الظروف التي أمْلَت عليه هذا السلوك المجرم.

وقد نلاحظ أنَّ الرواية الأولى قد تحدّثت عن موقع الثقة التي يُوليها الإمام الكاظم(ع) لأخيه محمد بن جعفر، حتى أنَّه كان يجعله وسيطاً لإقناع عليّ بن إسماعيل بن جعفر بالعدول عن موقفه، فنتساءل عن مدى دقّة الرواية الثانية في صحتها، ولكنها على أيِّ حال تعطي فكرة عن النظرة التي كانت تسود الذهنيّة التاريخيّة حول الموضوع.

2 ـ إذا صحّت هاتان الروايتان أو إحداهما، فقد نستوحي منهما الفكرة القائلة بأنَّ البيت العظيم الشريف لا يمنح صاحبه مناعةً من الانحراف، ولا يعطيه امتيازاً قدسيّاً في نفوس النّاس، حيث لاحظنا كيف تصرّف هذان الشخصان أو أحدهما ـ حسب الروايتين ـ ضدّ الإمام الكاظم(ع) بالرغم من كلِّ رعايته لهما.

وقد نستفيد من ذلك أنَّ على القياديين الإسلاميّين ألاَّ يستسلموا لأقربائهم في منحهم الثقة المطلقة وإطلاعهم على أسرارهم، فقد يكون من بين هؤلاء من يرتبطون بالمخابرات الاستكباريّة الكافرة، أو بالأجهزة الظالمة، بحيث ينقلون إليهم كلَّ المعلومات والأسرار التي تهدِّد القيادة في سلامتها، والعملَ في حركته.

طموحات ابتعدت عن خطِّ الإمامة

كان الإمام الكاظم(ع) يواجه المشكلة في حركة الثائرين من أهل بيته، أو من الطامحين للموقع القياديّ، في ما يرونه من شرعيتهم الإمامية في ذلك، فكانوا يطلبون منه الانضمام إليهم مما يستطيعون معه الحصول على قوّةٍ كبيرة.

وكان(ع) لا يرى للحركة المسلّحة فرصةً للنجاح، كما لا يجد لها أيّة نتيجة سياسيّة ضاغطة على الواقع على صعيد نتائج المستقبل، الأمر الذي يجعل منها قفزةً في الفراغ، في ما يشبه العملية الانتحاريّة التي قد تختزن مضموناً ثوريّاً، ومفهوماً إسلاميّاً يُبعدها عن العبث الانتحاريّ، ولكنها لا تختزن التأثير في الواقع، حتى على مستوى العلاقة التي تهزُّ مواقع السلطة فيه من الناحية المعنويّة أو من الجانب الشعوريّ.

وكان يرى في بعض تحرّكات الطامحين من هؤلاء نوعاً من النزق القياديّ فيما هي الطموحات، لأنَّهم لا يملكون الشرعية في مواقعهم، لأنَّ الإمامة هي للأئمة المعروفين من أهل البيت(ع)، ومنهم الإمام الكاظم(ع)، كما أنَّهم لا يستطيعون الوصول إلى النتائج الحاسمة في حركة الطموحات وفي خطِّ القضايا الكبيرة.

فكان يرفض الدخول معهم في ذلك ويحتاط لموقعه في خطابه لهم، كردِّ فعلٍ على خطابهم له، حتى لا يتحمّل النتائج السلبيّة المترتبة على ذلك، عندما تتجه الأمور في الاتجاه الخطير.. ولكنه كان يتعاطف مع بعضهم ممن يعرف فيهم الطهارة والإخلاص والاستقامة في خطِّ الحماس للثورة وللأمة من دون أن يكون لهم طموحات ذاتية غير شرعيّة.

وهذا ما لاحظناه في موقفه مع يحيى بن عبد الله بن الحسن الذي كان يطمح للخلافة من موقع أنَّ له الحقَّ فيها.. فقد كتب إلى الإمام(ع) كتاباً قاسياً خارجاً عن اللياقات الأخلاقية، في ما يشبه الشتم والتجنّي، وذلك في ما رُويَ في الكافي بإسناده عن عبد الله الجعفري، قال: "كتب يحيى بن عبد الله بن الحسن إلى موسى بن جعفر(ع): أما بعد، فإني أوصي نفسي بتقوى الله، وبها أُوصيك، فإنَّها وصيّة الله في الأوّلين ووصيته في الآخرين، خبرني مَن ورد عليَّ من أعوان الله على دينه ونشر طاعته، بما كان من تحنّنك مع خذلانك، وقد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد(ص) وقد احتجبتها واحتجبها أبوك من قبلك، وقديماً ادّعيتم ما ليس لكم وبسطتم آمالكم إلى ما لم يعطكم الله، فاستهويتم وأضللتم وأنا محذّرك ما حذّرك الله من نفسه"..

وكتب إليه أبو الحسن موسى بن جعفر(ع): من موسى بن أبي عبد الله جعفر وعليّ مشتركيْن في التذلّل لله وطاعته، إلى يحيى بن عبد الله بن الحسن.. أما بعد، فإنّي أحذّرك الله ونفسي، وأعلمك أليم عذابه، وشديد عقابه، وتكامل نقماته، وأوصيك ونفسي بتقوى الله، فإنَّها زين الكلام وتثبيت النِعم، أتاني كتابُك تذكر فيه أنّي مدّعٍ وأبي من قبل، وما سمعت ذلك منّي، وستكتب شهادتهم ويسألون ولم يَدَع حرص الدنيا ومطالبها لأهلها مطلباً لآخرتهم حتى يُفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم.. وذكرت أني ثبّطت الناسَ عنك لرغبتي فيما في يديك، وما منعني من مدخلك الذي أنت فيه لو كنت راغباً ضعفٌ عن سُنّة، ولا قلّة بصيرة بحجّة، ولكنَّ الله تبارك وتعالى خلق الناس أمشاجاً وغرائب وغرائز، فأخبرني عن حرفين أسألك عنهما: ما العترف في بدنك؟ وما الصهلج في الإنسان؟ ثم اكتب إليَّ بخبر ذلك..

وأنا متقدّمٌ إليك أحذّرك معصية الخليفة، وأحثّك على برِّه وطاعته، وأن تطلب لنفسك أماناً قبل أن تأخذك الأظفار، ويلزمك الخناق من كلِّ مكان، تتروّح إلى النفس من كلِّ مكان فلا تجده، حتى يمنَّ الله عليك بمنِّه وفضله، ورقّة الخليفة أبقاه الله، فيؤمنك ويرحمك، ويحفظ فيك أرحام رسول الله(ص)، والسلام على مَن اتّبع الهوى {إنَّا قد أُوحي إلينا أنَّ العذابَ على مَنْ كذّب وتولّى} [طه: 48].

قال الجعفريُّ: فبلغني أنَّ كتاب موسى بن جعفر وقع في يدي هارون، فلما قرأه، قال: الناس يحملونني على موسى بن جعفر، وهو بري‏ءٌ ممّا يُرمى به"(49).

إننا نلاحظ في كتاب يحيى خروجاً عن الاتزان في الحديث مع الإمام في التهجّم عليه وعلى أبيه الإمام الصادق(ع)، وفي اللهجة التحذيريّة التي توحي بالتهديد وتختزن في داخلها الحالة النفسيّة العنيفة في الموقف السلبيّ الذي يقفه الإمام منه ومن طموحاته الذاتية، ولذلك، كان جواب الإمام موعظة ونصيحة وتحذيراً من النتائج السلبيّة في ما يمكن أن تنتهي إليه حركته من نتائج وخيمة.. وقد يكون في الطريقة التي عالج بها الإمام الحديث عن الخليفة في نصيحته ليحيى بالاعتذار إليه ليصفح عنه، لون من ألوان الاحتياط لموقفه، باعتبار أنَّ مثل هذه التحركات قد توحي للخليفة بأنَّ الإمام يقف وراءها، باعتبار أنَّه يمثّل الشخص الوحيد المؤهّل للخلافة عندما تبتعد عن بني العبّاس إلى أهل البيت من وُلْد عليّ(ع).

وقد نجد في هذا أسلوباً في العمل السياسيّ الأمنيّ عندما تمسّ الحاجة إلى إبعاد الأجهزة المخابراتية المرتبطة بالجاسوسيّة الدوليّة أو الإقليميّة أو المحليّة عن مواقع الحركة الإسلامية، وتوجيهها إلى وجهة أخرى بعيدة عن مواجهة الموقع القيادي بشكل مباشر.

التعاطف مع الثائر والثورة

أما في النموذج الثاني، فنرى الحسين صاحب فخّ، الذي روى صاحب كتاب (مقاتل الطالبيين) أنَّه سأل الإمام موسى بن جعفر في الخروج على الخليفة، فقال له: "إنَّك مقتول فأجد الضراب، فإنَّ القوم فسّاق، يُظهرون إيماناً ويُضمرون نفاقاً وشكّاً، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وعند الله عزَّ وجلَّ أحتسبكم من عصبة"(50).

وروى في موضع آخر بأسانيده عن عنيزة القضباني، قال: رأيت موسى بن جعفر(ع) بعد عتمة، وقد جاء إلى الحسين صاحب فخ( * )، فانكبَّ عليه شبه الركوع وقال: "أحب أن تجعلني في سَعَة وحِلٍّ من تخلّفي عنك، فأطرق الحسين طويلاً لا يجيب ثم رفع رأسه فقال: أنت في سعة"(51).

إننا نلاحظ موقفاً يختلف عن موقف الإمام من يحيى، لأنَّ الحسين لم ينطلق من موقع طموح ذاتيّ، ومن حالة تمرّد على الإمامة والإمام، بل انطلق من موقع الرفض الحاسم للواقع الذي كان يعيشه الناس في ظلِّ الحكم الجائر، وذلك في ما يمثّله خطابه الثوريّ للناس، فقد قال عندما جاء الناس إليه يبايعونه: "أبايعكم على كتاب الله وسنّة رسول الله(ص) وعلى أن يُطاع الله ولا يُعصى وأدعوكم إلى الرِّضا من آل محمد، وعلى أن يعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيِّه(ص) والعدل في الرعيّة والقسم بالسويّة، وعلى أن تقيموا معنا، وتجاهدوا عدوّنا، فإن نحن وَفَيْنَا لكم وَفَيْتُم لنا، وإن نحن لم نفِ لكم فلا بيعة لنا عليكم"(52).

ولما فشلت الحركة وقُتِل الحسين وأصحابه وقف الإمام ليؤبّنه: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وما كان في أهل بيته مثلُه"(53).

إنَّه يعطي الثائر الشرعيّة من خلال صفاته القيادية الإسلاميّة، ولا يعتبر التحرّك انحرافاً عن الخطّ، في الوقت الذي لا يجد ضرورةً له أو فرصةً للنجاح، ما يجعل منه حركة غير مضمونة النتائج على الصعيد الإيجابيّ.. ولكنَّ ذلك لا يمنع من التعاطف مع الثائر والثورة.. وقد نستوحي من ذلك إمكانية الحديث عن شرعيّة المواجهة للحاكم الجائر انطلاقاً من الحماس الإيماني الثائر في الخطِّ الإسلاميّ الثوريّ على أساس القواعد الإسلامية للتغيير، حتى لو لم تنطلق من خلال القيادة الشرعية بشكل مباشر.. فإنَّ الخطأ في عدم الارتباط بالقيادة شي‏ء، والرفض للثائر والثورة من ناحية إسلامية شعوريّة شي‏ءٌ آخر..

دراسة الساحة والظروف

إنّنا من خلال هذا العرض كلِّه، نستطيع التأكيد على نقطة مهمّة في حركة العمل الإسلاميّ في واقع الأمّة، وهي دراسة الظروف الدقيقة التي تحكم الساحة العامة للواقع السياسيّ والاجتماعي والثقافي، للتعرّف على العناصر الحيّة التي تحكم إمكانات العمل ومراحله وأهدافه.

فقد تكون القضية هي أن ينطلق العاملون من أجل تعبئة الذهنيّة الإسلامية العامة بثقافة الرفض للحكم المنحرف الذي لا يملك الشرعية الإسلامية، سواء كان حكماً يتحرّك في مواقع الحكّام المسلمين، أو في مواقع غيرهم، وإيجاد القاعدة النفسيّة ضدّ الاستسلام له أو الانجذاب إليه، أو الارتباط به بشكل عضويّ، وتوجيه الفكر الحركيّ إلى الانطلاق مع القيادة الشرعيّة في مظاهرها ومواقعها المتنوّعة الهادفة إلى العمل، من أجل أن تكون هي البديلة عن القيادة اللاشرعيّة، وأن يكون الإسلام هو البديل عن النظام غير الإسلامي، ليبقى هاجس الانفتاح على مسألة الشرعية في القيادة والنظام، وفي وعي الأمة الإسلاميّة، كوسيلةٍ من وسائل الانفصال عن الانسجام مع شرعيّة الواقع، لأنَّ المسألة الثقافية إذا لم تنطلق في شمولية النظرة إلى تفاصيل الواقع في التخطيط لحركة المسألة السياسيّة، فسوف يتغيّر التصوّر العام للمسلمين لمصلحة الكفر والانحراف، انطلاقاً من الانفتاح على الأمر الواقع الذي ينفذ بفعل امتداد الزمن إلى الفكر والشعور والحركة العمليّة.

وقد تكون القضية المطروحة هي ألاَّ يكون خط التشيّع فيما هو التشيّع وجهة نظر في خطِّ الإسلام معزولة عن الواقع العام للمسلمين، فيبتعد أتباع أهل البيت(ع) عن حركة المجتمع في الحالات التي يبتعد فيها الحكم الإسلاميّ الشرعيّ عن السيطرة على الحياة، بل ينبغي لهم أن يدرسوا موقعهم ومواقع المسلمين الآخرين في كلِّ الساحات المحلية والإقليميّة والدولية، بالطريقة التي تجعل لهم موقعاً فاعلاً في المجالات العامة الحيويّة في ما يحفظ لهم وجودهم وموقعهم وامتدادهم انطلاقاً من المصلحة الإسلامية العامة في ذلك، واستيحاءً لأسلوب الإمام الكاظم(ع) المتحرّك بمرونةٍ في النفوذ إلى مراكز القوّة في الدولة التي لا تتمتع بالشرعية لديه.

وقد تكون القضية المطروحة هي مواكبة الاتجاهات الثوريّة في الدائرة الإسلامية المتحرّكة باستقلالية معيّنة عن خطِّ القيادة العامة التي لا تملك الإمكانات العمليّة الحركية، أو لا ترى مصلحة لموقعها القياديّ بالتحرّك في هذا الاتجاه، ولكنها تحمل الرغبة في تغيير الواقع وفي العمل على اهتزازه وفي تحريك الناس ضدّه، ما يجعل من الثورات المنطلقة من قبل الثائرين الذين يملكون إخلاصاً كبيراً وأمانةً قويّة واجتهاداً معيناً في أسلوب العمل، خطوة متقدمةً في الاقتراب من الهدف الكبير، الأمر الذي يدفعنا إلى تأييدها والتعاطف معها، كما فعل الإمام الكاظم(ع) مع حركة الحسين صاحب فخ حسب الرواية.

وأخيراً.. إننا ندعو إلى دراسة تراث أئمة أهل البيت(ع) ومواقفهم دراسة جديدة منفتحة على حركة الإسلام كلِّه في كلِّ مواقع المسيرة الإسلامية، حتى نجعل من حركتنا الإسلامية حركة مرتبطة بحركتهم في الوسائل والأهداف والمواقف والمواقع، في دراسة شمولية تنفتح على المراحل كلِّها في تاريخ الأئمة(ع)، وعلى الواقع كلِّه في حياتنا الإسلامية العامة..

إننا نحتاج إلى دراسة استيحائية واقعية تبتعد عن الاستغراق في الذات لتقترب من الانطلاق مع الرسالة والحركة والأهداف.

المصادر:

(46)عيون أخبار الرضا، ج:1، ص:69.

(47)المصدر السابق.

(48)المصدر السابق، ج:1، ص:72.

(49)الكافي، ج:1، ص:366.

(50)مقاتل الطالبيين، ص:447.

( * ) فخ: بئر بينه وبين مكّة فرسخٌ تقريباً، والحسين، هو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي(ع)، وخرج في أيام موسى الهادي بن محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور، وخرج معه جماعةٌ كثيرةٌ من العلويين، وكان خروجه بالمدينة في ذي القعدة سنة 169هـ، بعد موت المهدي بمكّة وخلافة الهادي ابنه.

(51)المصدر نفسه، ص:449.

(52)المصدر السابق، ص:449 أيضاً.

(53)المصدر نفسه، ص:453.

هل كان التشيّع في عهد الإمام الكاظم(ع) حركة إسلاميّة تعمل للوصول إلى الحكم ليكون الأئمة على رأس الدولة من موقع أنّهم يمثّلون الشرعية الوحيدة للولاية الإسلاميّة من خلال عقيدة الشيعة الإماميّة بأنَّهم خلفاء النبي(ص) وأوصياؤُه، ما يجعل من السلطات الحاكمة آنذاك سلطات غير شرعيّة، لأنَّها لا تملك الأساس الشرعيَّ في ذلك؟

ربما كانت المسألة واردة في تفكير البعض من المتحمسين للخطِّ الإمامي في نطاق الحركة الشيعيّة آنذاك، ولذلك، فإنَّهم كانوا يتحدّثون إلى الأئمة في ذلك ويستعجلونهم التحرّك، لا سيما عندما كانوا يعيشون المعاناة الصعبة في اضطهاد السلطات لهم ومحاصرتهم وتشريدهم، أو في ما كانوا يلاحظونه من التضييق على الأئمة(ع) بمختلف الوسائل من السجن والملاحقة المخابراتية، وما إلى ذلك. وكان الأئمة(ع) يربطونهم بالمستقبل، ويحدّثونهم عن قائم آل محمد(ع) بطريقة متنوعة العناوين، من دون أن يحدّدوا لهم تاريخاً معيّناً، ليخفّفوا من غلواء حماستهم التي قد تتحوّل إلى عنصر ضاغط على الواقع، بحيث يدفعهم إلى تصرّفات غير معقولة، قد تقضي على الحركة من الأساس، وقد تهدّد رموزها في وجودهم وكلِّ مواقعهم.

وربما كان الأئمة(ع) لا يرون أيّة فرصة واقعيّة لتحقيق هذا الهدف الكبير، لأنَّ المسألة قد تحتاج إلى إعداد قاعدةٍ كبيرة ملتزمةٍ بالنهج الإسلاميّ في خطِّ أهل البيت(ع)، مع القدرة على التحرّك الفاعل من خلال الإمكانيات الخاصّة، ومن خلال الظروف الموضوعيّة التي تحيط بالواقع الإسلاميّ كلِّه.. ولم تكن هذه القاعدة متوفّرة بالحجم الكبير، ولم تكن الوسائل العمليّة بالمستوى الذي يمكّنها من الاقتراب نحو الهدف، لا سيما إذا عرفنا أنَّ أيّة حركة في مكانٍ ما، لا تستطيع أن تتواصل مع الحركة المساندة لها في موقع آخر، لفقدان وسائل الاتصال السريعة، ما يجعل للحركة موقعاً محدوداً خاضعاً لإمكانات الحصار المتعدّدة، إذا لم يتوفّر لها الإعداد اللازم الطويل، الذي قد يكون الأساس فيه، إيمان الناس بإمامة أئمة أهل البيت(ع) بالدرجة التي تحقّق الارتباط العمليَّ بهم من خلال الارتباط الإيماني بولايتهم.. ولم يكن ذلك متوفّراً في الساحة الإسلاميّة العامة التي كانت تحمل التقدير والتعظيم لأئمة أهل البيت(ع)، في ما تتمثّله فيهم من الدرجة العليا من الإيمان والعلم والعمل والمواقع الرفيعة في القرب من الله.. ولذلك، فإنَّ عملية الاستجابة للحركة الإماميّة لا تحمل الكثير من الفرص الكبيرة، ما يجعل منها في كثير من الحالات حركة انتحاريّة في نطاق المرحلة من دون أن تحقّق أيّة نتيجةٍ على مستوى القضايا الكبيرة المطروحة في ساحة الأئمة(ع) من التوعية الروحية والشرعية والسياسيّة ضدّ خطِّ الانحراف..

ولقد كان الأئمة(ع) بعد مرحلة أمير المؤمنين والحسن والحسين(ع)، يرون أنَّ الأسلوب العمليّ الذي ينسجم مع المرحلة المعاصرة لهم، هو أسلوب التوعية الروحية والثقافية والتعبئة السياسيّة المتحرّكة في خطِّ تكوين القاعدة الإسلامية الرافضة للانحراف في مستوى الواقع.. ولذلك، كان كلُّ جهدهم هو تكوين هذه القاعدة الشعبيّة المعارضة وحمايتها من أيِّ اهتزاز أو ضغط أو انفعال، وغير ذلك من الأوضاع التي تعرّضها للخطر.

وكانت التقيّة بأساليبها المتعدّدة الوسيلة الحركيّة المتنوّعة لحماية القاعدة ورعاية الخطّ، في المحاولة التي تتسامح فيها في التفاصيل للحفاظ على المبدأ، وتتغاضى فيها عن الفروع للمحافظة على الأصول في خطّة مدروسة لا تسمح بالانحراف أو بإيقاع الفساد في الدين.

وقد كانت المكانة الكبيرة التي يتميّز بها الأئمة(ع) لدى المسلمين، والعقيدة التي كان يعتقدها الشيعة بهم، تمثّل هاجساً دائماً للخلفاء في زمانهم، خوفاً من تأثير ذلك، ولو على المدى البعيد، على مواقعهم في الخلافة، أو على قوّتهم فيها، فكانوا يطلقون الجواسيس عليهم ليرصدوا حركاتهم وعلاقاتهم وأقوالهم وأصحابهم، كما كانوا يوظّفون الأموال لإغراء بعض ضعفاء النفوس من أقربائهم لينقلوا إليهم بعض أخبارهم، مما قد يشارك ذلك في اتخاذ بعض الإجراءات القاسية كالحبس والتضييق، وربما أدّى ذلك إلى القتل بطريق السُّم ونحوه. وهذا ما نلاحظه في بعض الأجواء المحيطة بالإمام الكاظم(ع) على أساس الروايات المنقولة في سيرته.

فقد ورد في كتاب (عيون أخبار الرّضا) للشيخ الصدوق، في ما رواه عن عليّ بن محمد النوفلي، قال: "حدّثني أبي أنَّه كان سبب سعاية يحيى بن خالد بموسى بن جعفر(ع) وضع الرشيد ابنه محمد (الأمين) بن زبيدة في حجر جعفر بن محمد الأشعث، فساء ذلك يحيى، وقال: إذا مات الرشيد وأفضى الأمر إلى محمد انقضت دولتي ودولة ولدي وتحوّل الأمر إلى جعفر بن محمد الأشعث وولده، وكان قد عرف مذهب جعفر في التشيّع، فأظهر له أنَّه على مذهبه، فسرَّ به جعفر، وأفضى إليه بجميع أموره، وذكر له ما هو عليه في موسى بن جعفر(ع).. فلما وقف على مذهبه، سعى به إلى الرشيد، فكان الرشيد يرعى له موضعه وموضع أبيه من نُصرة الخلافة، فكان يقدّم في أمره ويؤخّر، ويحيى لا يألو أن يخطب عليه، إلى أن دخل يوماً إلى الرشيد، فأظهر له إكراماً، وجرى بينهما كلامٌ مسّ به جعفر بحرمته وحرمة أم أبيه، فأمر له الرشيد في ذلك اليوم بعشرين ألف دينار، فأمسك يحيى أن يقول فيه شيئاً حتى أمسى، ثم قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، قد كنت أخبرك عن جعفر ومذهبه، فتكذب عنه، وههنا أمر الفصل، قال: وما هو؟ قال: إنَّه لا يصل إليه مالٌ من جهةٍ من الجهات إلا أخرج خُمُسَه، فوجّه به إلى موسى بن جعفر، ولست أشكُّ أنَّه قد فعل ذلك في العشرين ألف دينار التي أمرت بها، فقال هارون: إنَّ في هذا الأمر لفيصلاً، فأرسل إلى جعفر ليلاً، وكان قد عرف سعاية يحيى به، فتباينا وأظهر كلُّ واحد فيهما لصاحبه العداوة، فلما طرق جعفر رسول الرشيد بالليل، خشي أن يكون قد سمع فيه قول يحيى، وأنَّه إنَّما دعاه ليقتله، فأفاض عليه ماءً، ودعا بمسكٍ وكافور فتحنّط بها، ولبس بُردةً فوق ثيابه، وأقبل إلى الرشيد، فلما وقعت عليه عينه وشمَّ رائحة الكافور، ورأى البردة عليه، قال: يا جعفر ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد علمت أنّه قد سُعِي بي عندك، فلما جاءني رسولُك في هذه الساعة لم آمن أن يكون قد قدح في قلبك ما يُقال عليَّ فأرسلتَ إليَّ لتقتلني.

فقال: كلا، ولكن قد خبرت أنَّك تبعث إلى موسى بن جعفر من كلِّ ما يصير إليك بخُمُسِهِ، وأنَّك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار، فأحببت أن أعلم ذلك، فقال جعفر: الله أكبر يا أمير المؤمنين، تأمر بعض خدمك يذهب فيأتيك بها بخواتيمها.

فقال الرشيد لخادم له: خذ خاتم جعفر وانطلق به حتى تأتيني بهذا المال، وسمّى له جعفر جاريته التي عندها المال، فدفعت إليه البدر بخواتيمها، فأتى بها الرشيد، فقال له جعفر: هذا أول ما تعرف به كذبَ مَن سعى بي إليك. قال: صدقت يا جعفر، انصرف آمناً، فإنّي لا أقبل فيك قولَ أحد. قال: وجعل يحيى يحتال في إسقاط جعفر"(46).

وعي الحركة الشيعيّة ومرونتها

ونلاحظ في هذه الرواية عدّة أمور:

1 ـ إنَّ حركة التشيّع قد استطاعت أن تُدخل بعض أفرادها في عمق موقع الخلافة ليكون مربّياً لولد الخليفة، ما يدلُّ على المرونة الواسعة في إمكانات الوصول إلى المواقع المميّزة في السلطة.

2 ـ إنَّ الشيعة كانوا يعملون للامتداد في مراكز السلطة الكبرى، بحيث إنّهم يستفيدون من أيّة حالةٍ تعاطف مع الخطِّ الإمامي، ليؤكّدوا العمل على الارتباط بالإمام في عملية تثقيف وتوعية وانتماء، وهذا ما لاحظناه في الحديث التفصيلي الذي أفاض به جعفر الأشعث ليحيى في خصوصيّات المذهب، وموقع الإمام الكاظم(ع) في مسألة الإمامة، مع ملاحظة سلبيّة، وهي السرعة التي انفتح فيها على يحيى بمجرد أن ذكر له أنَّه على مذهبه، في الوقت الذي كان من المفروض أن يتأكّد ويستوثق لموقفه بشكل أفضل.

3 ـ كان يحيى يعمل على الإيقاع بجعفر خوفاً من السلطة التي قد يحصل عليها في المستقبل من خلال علاقته بمحمد الأمين (ابن هارون الرشيد)، ولذا فقد كان يعمل على الإيقاع به من خلال نسبة التشيّع إليه، وعلاقته بموسى بن جعفر(ع) الذي كان الرشيد يخاف من موقعه الكبير في الأمّة في ما يعتقده فيه الشيعة من شرعية إمامته وتقديمهم حقوقهم الشرعيّة إليه، ما يُوحي بأنَّ المسألة تمثّل درجة كبيرةً من الخطورة، بحيث إنَّ جعفر كان يعتقد بأنَّ اقتناع الرشيد بذلك يكفي في قتله، فاستعدّ لذلك عند إرسال الرشيد خلفه. ونلاحظ أنَّ هذا الرجل كان واعياً لموقفه وموقعه، بعد أن عرف نوايا يحيى ضدّه، ما جعله يحتاط للمسألة في الأمور التي يمكن أن ينفذ منها الشكّ إليه، وهذا هو الذي جعله ينطلق أمام الرشيد في موقع القوّة في الموقف بعد ظهور كذب يحيى في قوله، فطلب من الرشيد أن يمنحه الثقة المطلقة في المستقبل.

عناصر قلقة أربكت الواقع

ويتابع النوفلي روايته، فيقول: "فحدّثني علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي عن بعض مشايخه، وذلك في حجّة (من الحجّ) الرشيد قبل هذه الحجّة، قال: لقيني علي بن إسماعيل ابن جعفر بن محمد، فقال لي: مالك قد أخملت نفسك، مالك لا تدبّر أمر الوزير؟ فقد أرسل إليّ فعادلته وطلبت الحوائج إليه.

وكان سبب ذلك، أنَّ يحيى بن خالد قال ليحيى بن أبي مريم: ألا تدلّني على رجلٍ من آل أبي طالب له رغبته في الدنيا فأوسّع له منها، قال: بلى، أدلّك على رجلٍ بهذه الصفة، وهو عليّ بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد، فأرسل إليه يحيى فقال: أخبرني عن عمِّك وعن شيعته والمال الذي يُحمل إليه، فقال له: عندي الخبر، فسعى بعمِّه، فكان في سعايته أن قال: إنَّ من كثرة المال عنده أنَّه اشترى ضيعة تسمّى البشرية بثلاثين ألف دينار، فلما أحضر المال، قال البائع: لا أريد هذا النقد، أريد نقداً كذا وكذا، فأمر بها فصبّت في بيت ماله، وأخرج ثلاثين ألف دينار من ذلك النقد ووزنه في ثمن الضيعة.. قال النوفلي: قال أبي: وكان موسى بن جعفر(ع) يأمر لعليّ بن إسماعيل بالمال ويثق به، حتى ربَّما خرج الكتاب منه إلى بعض شيعته بخطِّ عليِّ بن إسماعيل، ثم استوحش منه، فلما أراد الرشيد الرحلة إلى العراق، بلغ موسى بن جعفر أنَّ ابن أخيه يريد الخروج مع السلطان إلى العراق، فأرسل إليه: مالك والخروج مع السلطان؟ قال: لأنَّ عليَّ ديناً، فقال: دينك عليَّ، قال: وتدبير عيالي؟ قال: أنا أكفيهم، فأبى إلاّ الخروج، فأرسل إليه مع أخيه محمد بن جعفر بثلاثماية دينار وأربعة آلاف درهم، فقال: اجعل هذا في جهازك ولا توتم ولدي"(47).

وجاء في عيون أخبار الرضا عن عليّ بن إبراهيم عن اليقطيني عن موسى بن القاسم البجلي عن عليِّ بن جعفر قال: "جاءني محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، وذكر لي أنَّ محمد بن جعفر دخل على هارون الرشيد، فسلّم عليه بالخلافة، ثم قال له: ما ظننتُ أنَّ في الأرض خليفتين حتى رأيت أخي موسى بن جعفر يُسلَّم عليه بالخلافة. وكان ممن سعى بموسى بن جعفر(ع) يعقوب بن داود، وكان يرى رأي الزيديّة"(48).

ونلاحظ في هذه النصوص أموراً:

1 ـ إنَّ مواقع النفوذ العليا في سلطة الخلافة كانت تبحث عن العناصر القلقة في محيط الإمام الكاظم(ع)، لتوظّفها في سبيل إيصال المعلومات المخيفة للرشيد التي تؤكّد له خطورة موقع الإمام الكاظم(ع) كمنافس خطير له في الخلافة، وقد استطاع الحصول ـ حسب الرواية ـ على شخص عليّ بن إسماعيل بن جعفر (الصادق)، وهو ابن أخ الإمام الكاظم(ع) الذي كان يعيش عقدة داخليّة كبيرة، بحيث لم ينفع إحسان الإمام إليه وتقريبه إلى خصوصيّاته ومواقع المسؤولية لديه، وَوَعْدُه إيّاه بكلِّ خير، ثم كان الشخص الآخر ـ حسب الرواية الثانية ـ أخاه محمد بن جعفر )الصادق(، الذي فاجأ الرشيد بأنَّ الإمام الكاظم(ع) يتصرّف مع شيعته كما يتصرّف الخليفة مع أتباعه، أو كما يتصرّفون معه، ولم تذكر هذه الرواية ما هي طبيعة الظروف التي أمْلَت عليه هذا السلوك المجرم.

وقد نلاحظ أنَّ الرواية الأولى قد تحدّثت عن موقع الثقة التي يُوليها الإمام الكاظم(ع) لأخيه محمد بن جعفر، حتى أنَّه كان يجعله وسيطاً لإقناع عليّ بن إسماعيل بن جعفر بالعدول عن موقفه، فنتساءل عن مدى دقّة الرواية الثانية في صحتها، ولكنها على أيِّ حال تعطي فكرة عن النظرة التي كانت تسود الذهنيّة التاريخيّة حول الموضوع.

2 ـ إذا صحّت هاتان الروايتان أو إحداهما، فقد نستوحي منهما الفكرة القائلة بأنَّ البيت العظيم الشريف لا يمنح صاحبه مناعةً من الانحراف، ولا يعطيه امتيازاً قدسيّاً في نفوس النّاس، حيث لاحظنا كيف تصرّف هذان الشخصان أو أحدهما ـ حسب الروايتين ـ ضدّ الإمام الكاظم(ع) بالرغم من كلِّ رعايته لهما.

وقد نستفيد من ذلك أنَّ على القياديين الإسلاميّين ألاَّ يستسلموا لأقربائهم في منحهم الثقة المطلقة وإطلاعهم على أسرارهم، فقد يكون من بين هؤلاء من يرتبطون بالمخابرات الاستكباريّة الكافرة، أو بالأجهزة الظالمة، بحيث ينقلون إليهم كلَّ المعلومات والأسرار التي تهدِّد القيادة في سلامتها، والعملَ في حركته.

طموحات ابتعدت عن خطِّ الإمامة

كان الإمام الكاظم(ع) يواجه المشكلة في حركة الثائرين من أهل بيته، أو من الطامحين للموقع القياديّ، في ما يرونه من شرعيتهم الإمامية في ذلك، فكانوا يطلبون منه الانضمام إليهم مما يستطيعون معه الحصول على قوّةٍ كبيرة.

وكان(ع) لا يرى للحركة المسلّحة فرصةً للنجاح، كما لا يجد لها أيّة نتيجة سياسيّة ضاغطة على الواقع على صعيد نتائج المستقبل، الأمر الذي يجعل منها قفزةً في الفراغ، في ما يشبه العملية الانتحاريّة التي قد تختزن مضموناً ثوريّاً، ومفهوماً إسلاميّاً يُبعدها عن العبث الانتحاريّ، ولكنها لا تختزن التأثير في الواقع، حتى على مستوى العلاقة التي تهزُّ مواقع السلطة فيه من الناحية المعنويّة أو من الجانب الشعوريّ.

وكان يرى في بعض تحرّكات الطامحين من هؤلاء نوعاً من النزق القياديّ فيما هي الطموحات، لأنَّهم لا يملكون الشرعية في مواقعهم، لأنَّ الإمامة هي للأئمة المعروفين من أهل البيت(ع)، ومنهم الإمام الكاظم(ع)، كما أنَّهم لا يستطيعون الوصول إلى النتائج الحاسمة في حركة الطموحات وفي خطِّ القضايا الكبيرة.

فكان يرفض الدخول معهم في ذلك ويحتاط لموقعه في خطابه لهم، كردِّ فعلٍ على خطابهم له، حتى لا يتحمّل النتائج السلبيّة المترتبة على ذلك، عندما تتجه الأمور في الاتجاه الخطير.. ولكنه كان يتعاطف مع بعضهم ممن يعرف فيهم الطهارة والإخلاص والاستقامة في خطِّ الحماس للثورة وللأمة من دون أن يكون لهم طموحات ذاتية غير شرعيّة.

وهذا ما لاحظناه في موقفه مع يحيى بن عبد الله بن الحسن الذي كان يطمح للخلافة من موقع أنَّ له الحقَّ فيها.. فقد كتب إلى الإمام(ع) كتاباً قاسياً خارجاً عن اللياقات الأخلاقية، في ما يشبه الشتم والتجنّي، وذلك في ما رُويَ في الكافي بإسناده عن عبد الله الجعفري، قال: "كتب يحيى بن عبد الله بن الحسن إلى موسى بن جعفر(ع): أما بعد، فإني أوصي نفسي بتقوى الله، وبها أُوصيك، فإنَّها وصيّة الله في الأوّلين ووصيته في الآخرين، خبرني مَن ورد عليَّ من أعوان الله على دينه ونشر طاعته، بما كان من تحنّنك مع خذلانك، وقد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد(ص) وقد احتجبتها واحتجبها أبوك من قبلك، وقديماً ادّعيتم ما ليس لكم وبسطتم آمالكم إلى ما لم يعطكم الله، فاستهويتم وأضللتم وأنا محذّرك ما حذّرك الله من نفسه"..

وكتب إليه أبو الحسن موسى بن جعفر(ع): من موسى بن أبي عبد الله جعفر وعليّ مشتركيْن في التذلّل لله وطاعته، إلى يحيى بن عبد الله بن الحسن.. أما بعد، فإنّي أحذّرك الله ونفسي، وأعلمك أليم عذابه، وشديد عقابه، وتكامل نقماته، وأوصيك ونفسي بتقوى الله، فإنَّها زين الكلام وتثبيت النِعم، أتاني كتابُك تذكر فيه أنّي مدّعٍ وأبي من قبل، وما سمعت ذلك منّي، وستكتب شهادتهم ويسألون ولم يَدَع حرص الدنيا ومطالبها لأهلها مطلباً لآخرتهم حتى يُفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم.. وذكرت أني ثبّطت الناسَ عنك لرغبتي فيما في يديك، وما منعني من مدخلك الذي أنت فيه لو كنت راغباً ضعفٌ عن سُنّة، ولا قلّة بصيرة بحجّة، ولكنَّ الله تبارك وتعالى خلق الناس أمشاجاً وغرائب وغرائز، فأخبرني عن حرفين أسألك عنهما: ما العترف في بدنك؟ وما الصهلج في الإنسان؟ ثم اكتب إليَّ بخبر ذلك..

وأنا متقدّمٌ إليك أحذّرك معصية الخليفة، وأحثّك على برِّه وطاعته، وأن تطلب لنفسك أماناً قبل أن تأخذك الأظفار، ويلزمك الخناق من كلِّ مكان، تتروّح إلى النفس من كلِّ مكان فلا تجده، حتى يمنَّ الله عليك بمنِّه وفضله، ورقّة الخليفة أبقاه الله، فيؤمنك ويرحمك، ويحفظ فيك أرحام رسول الله(ص)، والسلام على مَن اتّبع الهوى {إنَّا قد أُوحي إلينا أنَّ العذابَ على مَنْ كذّب وتولّى} [طه: 48].

قال الجعفريُّ: فبلغني أنَّ كتاب موسى بن جعفر وقع في يدي هارون، فلما قرأه، قال: الناس يحملونني على موسى بن جعفر، وهو بري‏ءٌ ممّا يُرمى به"(49).

إننا نلاحظ في كتاب يحيى خروجاً عن الاتزان في الحديث مع الإمام في التهجّم عليه وعلى أبيه الإمام الصادق(ع)، وفي اللهجة التحذيريّة التي توحي بالتهديد وتختزن في داخلها الحالة النفسيّة العنيفة في الموقف السلبيّ الذي يقفه الإمام منه ومن طموحاته الذاتية، ولذلك، كان جواب الإمام موعظة ونصيحة وتحذيراً من النتائج السلبيّة في ما يمكن أن تنتهي إليه حركته من نتائج وخيمة.. وقد يكون في الطريقة التي عالج بها الإمام الحديث عن الخليفة في نصيحته ليحيى بالاعتذار إليه ليصفح عنه، لون من ألوان الاحتياط لموقفه، باعتبار أنَّ مثل هذه التحركات قد توحي للخليفة بأنَّ الإمام يقف وراءها، باعتبار أنَّه يمثّل الشخص الوحيد المؤهّل للخلافة عندما تبتعد عن بني العبّاس إلى أهل البيت من وُلْد عليّ(ع).

وقد نجد في هذا أسلوباً في العمل السياسيّ الأمنيّ عندما تمسّ الحاجة إلى إبعاد الأجهزة المخابراتية المرتبطة بالجاسوسيّة الدوليّة أو الإقليميّة أو المحليّة عن مواقع الحركة الإسلامية، وتوجيهها إلى وجهة أخرى بعيدة عن مواجهة الموقع القيادي بشكل مباشر.

التعاطف مع الثائر والثورة

أما في النموذج الثاني، فنرى الحسين صاحب فخّ، الذي روى صاحب كتاب (مقاتل الطالبيين) أنَّه سأل الإمام موسى بن جعفر في الخروج على الخليفة، فقال له: "إنَّك مقتول فأجد الضراب، فإنَّ القوم فسّاق، يُظهرون إيماناً ويُضمرون نفاقاً وشكّاً، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وعند الله عزَّ وجلَّ أحتسبكم من عصبة"(50).

وروى في موضع آخر بأسانيده عن عنيزة القضباني، قال: رأيت موسى بن جعفر(ع) بعد عتمة، وقد جاء إلى الحسين صاحب فخ( * )، فانكبَّ عليه شبه الركوع وقال: "أحب أن تجعلني في سَعَة وحِلٍّ من تخلّفي عنك، فأطرق الحسين طويلاً لا يجيب ثم رفع رأسه فقال: أنت في سعة"(51).

إننا نلاحظ موقفاً يختلف عن موقف الإمام من يحيى، لأنَّ الحسين لم ينطلق من موقع طموح ذاتيّ، ومن حالة تمرّد على الإمامة والإمام، بل انطلق من موقع الرفض الحاسم للواقع الذي كان يعيشه الناس في ظلِّ الحكم الجائر، وذلك في ما يمثّله خطابه الثوريّ للناس، فقد قال عندما جاء الناس إليه يبايعونه: "أبايعكم على كتاب الله وسنّة رسول الله(ص) وعلى أن يُطاع الله ولا يُعصى وأدعوكم إلى الرِّضا من آل محمد، وعلى أن يعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيِّه(ص) والعدل في الرعيّة والقسم بالسويّة، وعلى أن تقيموا معنا، وتجاهدوا عدوّنا، فإن نحن وَفَيْنَا لكم وَفَيْتُم لنا، وإن نحن لم نفِ لكم فلا بيعة لنا عليكم"(52).

ولما فشلت الحركة وقُتِل الحسين وأصحابه وقف الإمام ليؤبّنه: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وما كان في أهل بيته مثلُه"(53).

إنَّه يعطي الثائر الشرعيّة من خلال صفاته القيادية الإسلاميّة، ولا يعتبر التحرّك انحرافاً عن الخطّ، في الوقت الذي لا يجد ضرورةً له أو فرصةً للنجاح، ما يجعل منه حركة غير مضمونة النتائج على الصعيد الإيجابيّ.. ولكنَّ ذلك لا يمنع من التعاطف مع الثائر والثورة.. وقد نستوحي من ذلك إمكانية الحديث عن شرعيّة المواجهة للحاكم الجائر انطلاقاً من الحماس الإيماني الثائر في الخطِّ الإسلاميّ الثوريّ على أساس القواعد الإسلامية للتغيير، حتى لو لم تنطلق من خلال القيادة الشرعية بشكل مباشر.. فإنَّ الخطأ في عدم الارتباط بالقيادة شي‏ء، والرفض للثائر والثورة من ناحية إسلامية شعوريّة شي‏ءٌ آخر..

دراسة الساحة والظروف

إنّنا من خلال هذا العرض كلِّه، نستطيع التأكيد على نقطة مهمّة في حركة العمل الإسلاميّ في واقع الأمّة، وهي دراسة الظروف الدقيقة التي تحكم الساحة العامة للواقع السياسيّ والاجتماعي والثقافي، للتعرّف على العناصر الحيّة التي تحكم إمكانات العمل ومراحله وأهدافه.

فقد تكون القضية هي أن ينطلق العاملون من أجل تعبئة الذهنيّة الإسلامية العامة بثقافة الرفض للحكم المنحرف الذي لا يملك الشرعية الإسلامية، سواء كان حكماً يتحرّك في مواقع الحكّام المسلمين، أو في مواقع غيرهم، وإيجاد القاعدة النفسيّة ضدّ الاستسلام له أو الانجذاب إليه، أو الارتباط به بشكل عضويّ، وتوجيه الفكر الحركيّ إلى الانطلاق مع القيادة الشرعيّة في مظاهرها ومواقعها المتنوّعة الهادفة إلى العمل، من أجل أن تكون هي البديلة عن القيادة اللاشرعيّة، وأن يكون الإسلام هو البديل عن النظام غير الإسلامي، ليبقى هاجس الانفتاح على مسألة الشرعية في القيادة والنظام، وفي وعي الأمة الإسلاميّة، كوسيلةٍ من وسائل الانفصال عن الانسجام مع شرعيّة الواقع، لأنَّ المسألة الثقافية إذا لم تنطلق في شمولية النظرة إلى تفاصيل الواقع في التخطيط لحركة المسألة السياسيّة، فسوف يتغيّر التصوّر العام للمسلمين لمصلحة الكفر والانحراف، انطلاقاً من الانفتاح على الأمر الواقع الذي ينفذ بفعل امتداد الزمن إلى الفكر والشعور والحركة العمليّة.

وقد تكون القضية المطروحة هي ألاَّ يكون خط التشيّع فيما هو التشيّع وجهة نظر في خطِّ الإسلام معزولة عن الواقع العام للمسلمين، فيبتعد أتباع أهل البيت(ع) عن حركة المجتمع في الحالات التي يبتعد فيها الحكم الإسلاميّ الشرعيّ عن السيطرة على الحياة، بل ينبغي لهم أن يدرسوا موقعهم ومواقع المسلمين الآخرين في كلِّ الساحات المحلية والإقليميّة والدولية، بالطريقة التي تجعل لهم موقعاً فاعلاً في المجالات العامة الحيويّة في ما يحفظ لهم وجودهم وموقعهم وامتدادهم انطلاقاً من المصلحة الإسلامية العامة في ذلك، واستيحاءً لأسلوب الإمام الكاظم(ع) المتحرّك بمرونةٍ في النفوذ إلى مراكز القوّة في الدولة التي لا تتمتع بالشرعية لديه.

وقد تكون القضية المطروحة هي مواكبة الاتجاهات الثوريّة في الدائرة الإسلامية المتحرّكة باستقلالية معيّنة عن خطِّ القيادة العامة التي لا تملك الإمكانات العمليّة الحركية، أو لا ترى مصلحة لموقعها القياديّ بالتحرّك في هذا الاتجاه، ولكنها تحمل الرغبة في تغيير الواقع وفي العمل على اهتزازه وفي تحريك الناس ضدّه، ما يجعل من الثورات المنطلقة من قبل الثائرين الذين يملكون إخلاصاً كبيراً وأمانةً قويّة واجتهاداً معيناً في أسلوب العمل، خطوة متقدمةً في الاقتراب من الهدف الكبير، الأمر الذي يدفعنا إلى تأييدها والتعاطف معها، كما فعل الإمام الكاظم(ع) مع حركة الحسين صاحب فخ حسب الرواية.

وأخيراً.. إننا ندعو إلى دراسة تراث أئمة أهل البيت(ع) ومواقفهم دراسة جديدة منفتحة على حركة الإسلام كلِّه في كلِّ مواقع المسيرة الإسلامية، حتى نجعل من حركتنا الإسلامية حركة مرتبطة بحركتهم في الوسائل والأهداف والمواقف والمواقع، في دراسة شمولية تنفتح على المراحل كلِّها في تاريخ الأئمة(ع)، وعلى الواقع كلِّه في حياتنا الإسلامية العامة..

إننا نحتاج إلى دراسة استيحائية واقعية تبتعد عن الاستغراق في الذات لتقترب من الانطلاق مع الرسالة والحركة والأهداف.

المصادر:

(46)عيون أخبار الرضا، ج:1، ص:69.

(47)المصدر السابق.

(48)المصدر السابق، ج:1، ص:72.

(49)الكافي، ج:1، ص:366.

(50)مقاتل الطالبيين، ص:447.

( * ) فخ: بئر بينه وبين مكّة فرسخٌ تقريباً، والحسين، هو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي(ع)، وخرج في أيام موسى الهادي بن محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور، وخرج معه جماعةٌ كثيرةٌ من العلويين، وكان خروجه بالمدينة في ذي القعدة سنة 169هـ، بعد موت المهدي بمكّة وخلافة الهادي ابنه.

(51)المصدر نفسه، ص:449.

(52)المصدر السابق، ص:449 أيضاً.

(53)المصدر نفسه، ص:453.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير