الإمام الكاظم(ع) بحر العلم الزاخر

الإمام الكاظم(ع) بحر العلم الزاخر

كانت المرحلة التي عاشها الإمام الكاظم(ع) مرحلة وعي ثقافي أغناها بعلمه، واستفاد منها أساتذة المجتمع كلّه.. كانت رسالته ـ التي هي رسالة الإسلام ـ وكما بينّا في مستهلّ البحث، أن يرصد حركة الناس في الأمور الصغيرة والكبيرة، ولا يتركهم يسيرون على هواهم ويخضعون لتيارت الانحراف، سواء كان انحرافاً عقيديّاً أو اجتماعياً أو سياسيّاً، فكان يوجّههم ليتمكّنوا من تجاوز هذا الانحراف، وكان من خلال ذلك يُوحي إلى كلِّ العلماء من بعده أن يتحرّكوا في علمهم وحركتهم في قلب المجتمع، ليدرسوا حركة سيره هل هي في خطِّ الاستقامة أو في خط الانحراف؟ لأنَّ الله تعالى لم يعطِ الإنسان علماً إلا من أجل أن يوظّفه في إصلاح المجتمع وهدايته.

وعلى الرغم مما عاشه الإمام(ع) من ظروف قاسية وصلت حدَّ المأساة، إلا أنّه لم يهن أو يضعف أو يسقط، بل كان يزداد قوّة وروحانية، وهو ينتقل من سجن إلى سجن بأمرٍ من الخليفة العباسيّ هارون الرشيد، الذي عرف تأثير الإمام الكاظم(ع) في الواقع الإسلاميّ، وكيف حصل على الثقة الكبيرة في المجتمع الإسلاميّ بعلمه وروحانيته وأخلاقه، فضيّق عليه، وما زاده حنقاً عليه هو أنَّ الناس لا يقدّرون الإمام(ع) كعالِم وحسب، شأنه شأن بقية العلماء الآخرين، بل كانوا يعتقدون بإمامته وينفعلون بقداسته.

"وقد روى الناسُ عن أبي الحسن موسى(ع) فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله وأحسنهم صوتاً بالقرآن، وكان إذا قرأ يَحْدُرُ ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته، وكان الناس بالمدينة يسمّونه زين المتهجِّدين، وسمّي بالكاظم لما كظمه من الغيظ وصبرَ عليه من فعل الظالمين به"(13).

وروى عنه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد)(14) والسمعاني في (الرسالة القواميّة) وأبو صالح أحمد المؤذن في (الأربعين) وأبو عبد الله بن بطّة في (الإبانة) والثعلبي في (الكشف والبيان)(15).

وكان أحمد بن حنبل ممن روى عنه، قال: "حدّثني موسى بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمّد، وهكذا إلى النبيِّ(ص) ثم قال أحمد: "وهذا إسنادٌ لو قُرِى‏ء على المجنون لأفاق"(16)، لأنَّه إسنادٌ رفيعٌ ينفتح على هذه الرموز المعصومة كلِّها التي تمثِّلُ الغنى العلمي والروحيّ كلَّه في مواقع الحياة كلِّها وفي خطوط المسؤوليّة كلِّها. وقد كان الإمام(ع) معنيّاً بأن يوجِّه الناس إلى أن يسألوا عمّا جهلوه في مواقع مسؤولياتهم المعرفيّة كلِّها، سواء في ما يجب أن يعتقدوه، أو في ما يجب أن يعيشوه من المفاهيم العامة التي تحكم نظرتهم إلى الكون والحياة وإلى الواقع كلِّه، وتحكم أيضاً تصوّراتهم لله تعالى وللنبيِّ(ص) ولخطوط الإسلام الكبرى كلِّها.

وقد سُئِل(ع): "هل يَسَعُ الناسَ تركُ المسألة عمَّا يحتاجون ـ إليه يعني هل للناس الحريّة إذا جهلوا شيئاً مما يتصل بمسؤولياتهم في حركتهم في الحياة، هل لهم الحريّة في أن يبقوا على جهلهم ـ قال : لا"(17فليس لك الحريّة أن تبقى جاهلاً، فإذا جهلت فتعلّم، ونحن نعرف أنَّ الإسلام جعل القيمة للعلماء، بأنَّهم الذين يخشون الله، كما في قوله سبحانه: {إنَّما يخشى الّلهَ من عباده العلماءُ}[فاطر:28]،وفي قوله عزَّ وجلَّ: {قُلْ هَلْ يستوي الّذينَ يعلمونَ والّذينَ لا يعلمون}[الزمر:9]، وقوله سبحانه: {إنَّما يتذكَّرُ أولو الألباب} [الزمر:9].. وهكذا ورد في الحديث: "إنَّ الله أخذ على الجُهّال أن يتعلّموا كما أخذ على العلماء أن يعلّموا".

وقد نقل عنه الرواة من الفقه والتفسير والمواعظ والوصايا الكثيرة ما يوحي بالنشاط الكبير في إغناء المجتمع الإسلاميّ بالفكر والتربية والتفقّه، كوسيلة من وسائل الارتفاع بالمستوى الفكري الذي يركّز الوجود الإسلاميّ على أساسٍ ثابت، انطلاقاً من الخطِّ الإسلاميّ الذي يحمّل العلماء مسؤولية نشر العلم، لا سيما في حالات سيطرة الانحراف والبِدَع على المجتمع، وذلك بالقوّة نفسها التي حمّل فيها الجهّال مسؤولية التعلّم.

تصحيح المفاهيم

كانت الحركة الثقافيّة في زمن الإمام الكاظم(ع) تنطلق لتثير الكثير من علامات الاستفهام حول مفردات العقيدة من جهة، وحول خطوط الشريعة من جهة أخرى، وحول الواقع السياسيّ من جهة ثالثة.. إذاً، كما سبق وقلنا، عاش الإمام الكاظم(ع) هذه المرحلة، واستطاع أن يملأها علماً وفكراً وروحانية، وأن يرصد الانحرافات التي فرضت نفسها على حركة الفكر، فعمل على تصحيحها والأخذ بها نحو الاتجاه الصحيح.

التوحيد كما يراه الكاظم(ع)

على المستوى الثقافي، قامت حركة تتحدّث عن الله وعن صفاته: هل هو جسمٌ كبقيّة الأجسام، أو هو جسم لا كالأجسام، أي أنَّه جسمٌ من نوعٍ لا نعقله، وليس كالأجسام التي يعرفها الناس في الموجودات الماديّة؟

وقد دخل الإمام الكاظم(ع) هذه المعركة تصحيحاً للمفاهيم الخاطئة، فتحدّث بأكثر من أسلوب وأكثر من فكرة.. ففي الحديث عن محمد بن حكيم قال: "كتب أبو الحسن موسى بن جعفر إلى أبي: إن الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كُنْة صفته، فصفوه بما وصف به نفسه وكفّوا عما سوى ذلك".

في هذا الحديث، يشير الإمام إلى أنَّنا لن نستطيع أن نعرف الله في صفاته إلا من خلاله، لأنَّه لا يعرفُ الله سبحانه حقَّ معرفته إلا هو تعالى، فهو الذي أحاط بذاته ولم يحط بذاته أحد إلا من خلاله، لأنَّ الله سبحانه هو المطلق الذي لا حدود لأيّة صفةٍ من صفاته.. ولهذا، فإنَّ المحدود مهما كانت عظمته لا يستطيع أن يفهم حقيقة الله.. وعلى ضوء هذا، فإنَّ الإمام(ع) يقول لنا، إذا أردتم أن تعرفوا الله في صفاته فاعرفوه بما وصف به نفسه، فإنَّ وصفه لذاته سبحانه هو الذي نتعرّف من خلاله على الحقيقة الكامنة في صفات الله، أما أنتم فقد تصفون الله من خلال ما تتخيلونه وتنظّرونه.

وما تجدر الإشارة إليه، أنَّنا عندما نريد أن ننفذ إلى صفات الله، فإنَّ علينا ألا نأخذ بأساليب الفلسفة، لا سيما إذا عرفنا أنَّ بعض الفلاسفة المسلمين استندوا في كثير من المفردات على الفلسفة اليونانية، وبهذا فقد تختلط جذور الفلسفة اليونانية التي فرضت نفسها على كثير من مناهج الفلاسفة المسلمين، بفلسفة هؤلاء المسلمين، ولا أقول الفلسفة الإسلاميّة في امتداد الواقع الإسلاميّ.. فنحن عندما نقرأ فلسفة هؤلاء، يُخيّل إلينا أنَّنا نقرأ فلسفة إسلاميّة في عناوين الإسلام، ولكنها في العمق والمنهج قد تأخذ الكثير من ملامح الفلسفة اليونانية التي وُلِدت في بيئةٍ ثقافية أخرى تختلف عن البيئة التي وُلدت فيها الفلسفة الإسلاميّة.. وفي الوقت الذي نقدّر فيه الفلاسفة المسلمين الذين درسوا الفلسفة اليونانية، وحاولوا أن يسجّلوا ملاحظاتٍ عليها، نرى أنَّ المنهج بقي يفرض نفسه على مدى التفكير.. ولذلك، أراد الإمام(ع) من خلال ما نستوحيه من حديثه، أن يقول لنا إنه إذا أردتم أن تأخذوا عقائدكم فخذوها من القرآن: {وَمَا آتاكُم الرسولُ فخذوه ومَا نهاكُم عَنْهُ فانتهوا}[الحشر:7].

وفي حديث آخر عن الحسن بن عبد الرحمن الحمّاني قال: "قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر(ع): إنَّ هشام بن الحكم زعم أنَّ الله جسمٌ ليس كمثله شي‏ء ـ أي أنَّه جسمٌ ليس كالأجسام التي يراها الناسُ في الموجودات الماديّة، ولكنه جسمٌ من نوع آخر، ويُقال بأنَّ هشام قد ترك هذا المنهج إلى منهج آخر بعد أن صحّح له الأئمة(ع) المفهوم ـ عالمٌ بصيرٌ قادرٌ متكلّم ناطقٌ، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحداً ليس شي‏ء منها مخلوقاً، فحتى الكلام كأنَّما هو شي‏ءٌ في ذاته، وكذلك القدرة والعلم فلا فرق، فكأنه لا يقول بخلق الكلام فقال الإمام(ع): أمَا علم أنَّ الجسم ـ محدود والكلام هنا موجَّه إلى الفكرة لا إلى الذات ـ والكلام غير المتكلّم فلا يمكن أن يكون الكلام صفةً في الذات، بمعنى أن يكون داخلاً في تكوين الذات كما يظهر من كلام هشام ـ معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد، وكلّ شي‏ء سواه مخلوق، إنَّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردّد في نفس ولا نطق بلسان"(18)، فليست كالكلمات التي تخطر في الذهن، وتتردّد في الفكر ثم تنطلق بعد ذلك.. فالإمام(ع) يريد أن يصحّح هذه الفكرة المنحرفة التي تبتعد عن صفاء التوحيد في صفات الله.

تصحيح بعض الأدعية

وكان(ع) يصحّح حتى الدعاء، ومن ذلك يمكننا أن نرصد نقطة مهمّة، وهي ألا نأخذ كلَّ دعاء أخذاً مُسلّماً، لأنَّ المشكلة هي أنَّ كتب الأدعية امتلأت بالكثير من الأدعية التي لا نعرف مصادرها، حتى أنَّ السيّد ابن طاووس رحمه الله في كتاب (الإقبال) يتحدّث ويقول: وجدت في كتاب عتيق، وقل كذا، وادعُ كذا، وما إلى ذلك مما قد يكون من تأليفه، فيقبله الناس كما لو كان هذا الدعاء قد صدر عن المعصوم.. ونحن إذ نتوقف عند هذه المسألة، فلأننا نرى أنَّ الأدعية تمثّل الثقافة الروحيّة التي تنطلق منها المفاهيم الإسلاميّة، فعندما ندعو الله ونتحدّث عنه وعن صفاته، وعن النبي وصفاته، وعن الإمام وصفاته، فذلك يمثّل بمجمله منظومة المفاهيم الإسلاميّة.

ولهذا، فإنَّ علينا ألا نأخذ من الأدعية إلا ما ثبت لنا صحّته، إمَّا من القرآن أو من النبيّ(ص) أو من الأئمة(ع) بشكل دقيق.. فالأدعية وحتى الزيارات بحاجة إلى توثيق، كما نوثّق الأحكام الشرعيّة، فكما أنَّ لدينا أحكاماً شرعيّة تحتاج إلى بحث وتمحيص، كذلك لدينا مفاهيم إسلامية تحتاج إلى ذلك، وهذه المفاهيم تمثّل أساس التصوّر الإسلاميّ.. ولذلك نعتقد بأنَّ تراثنا كلَّه، سواء في باب الواجبات أو المستحبّات، أو باب الأدعية والزيارات والحِكَم والأمثال، لا بدَّ أن نخضعه للدراسة العلميّة، حتى لا ينفذ إلينا مفهومٌ غير إسلاميّ من خلال تراث يُعَنْوَن بأنَّه تراثٌ إسلاميٌ، وهو لم يدقّق في صحّة انتمائه إلى المصادر الأصليّة للإسلام..

فعن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: "كتبت إلى أبي الحسن في دعاء: الحمد لله منتهى علمه، فكتب إليَّ: لا تقولنَّ منتهى علمه، فليس لعلمه منتهى، ولكن قل: منتهى رضاه"(19). فكم هي دقيقةٌ هذه الملاحظة، ولعلنا ندعو فنقول: "الحمد لله منتهى علمه"، غير عارفين أنَّ ذلك يجعل علم الله محدّداً فيما بين البداية والنهاية.. والحال أنَّ علمَ الله تعالى يتحرّك في خطِّ اللانهاية، لأنَّه العلم اللامحدود، فينبغي أن نقول: "منتهى رضاه"، لأنَّ رضاه يتصل بالمخلوقين في درجاتٍ تتحرّك حتى تبلغ منتهاها، ولا يتعلّق ذلك في ذاته وصفته.

مواجهة آراء المجسِّمة

وعن يعقوب بن جعفر الجعفري عن أبي إبراهيم(ع) ـ وهذه كناية الإمام الكاظم(ع) ـ قال: "ذكر عنده قومٌ يزعمون أنَّ الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا وهذه الفكرة كانت موجودةً عند بعض المجسِّمة وتصل إلى حدِّ الخرافة في وصف الله تعالى ـ فهم يقولون ـ تقدّس عن ذلك ـ إنَّه ينـزل على حمار بصورة شاب أمرد، فقال: إنَّ الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنَّما بنظره ـ يعني بمراقبته للأشياء بالعلم والإحاطة ـوفي القرب والبُعد سواء، لم يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج إلى شي‏ء، بل يُحتاج إليه، وهو ذو الطَوْل لا إله إلا هو العزيز الحكيم، أمَّا قول الواصفين إنَّه ينزل ـ تبارك وتعالى عن ذلك ـ فإنَّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص وزيادة ـ لأنَّ الحاجة إلى النزول وإلى الارتفاع، إنَّما تكون في الممكن الذي ينقص، فيحتاج إلى أن يكمِّل نقصه، والذي يزيد فيحتاج إلى أن يستزيد من زيادته أو يعتدل ـ وكلُّ متحرِّك محتاجٌ إلى مَنْ يحرّكه أو يتحرّك به، فمن ظنّ بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا على حدٍّ تحدّونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرّك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود، فإنَّ الله جلّ وعزّ عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهّم المتوهمين، وتوكّلْ على العزيز الرحيم الذي يراك وتقلّبك في الساجدين"(20).

من هنا نلاحظ كيف أنَّ الإمام(ع) رصد وواجه الانحراف في تصوّر الناس للّه سبحانه وتعالى، وكيف وضع المسألة في نصابها التوحيديّ بالدرجة التي تنفي عن الله صفات الممكن، التي تجعل تصوّرهم له كتصوّرهم للمخلوق في الحاجة إلى الحركة المحدودة في الارتفاع والانخفاض والزيادة والنقصان، وفي الاستعانة بغيره في ذلك كله، مما يبتعد به عن معنى المطلق وعن صفة الربوبية والغنى عن كل شي‏ء، فهو الغني بذاته عما سوى ذاته، فوجّه الناس ألا يخوضوا في صفاته بما لا يملكون معرفته وعمقه.. مما لا تتوافر لديهم أدواته، لأنه فوق الحسّ الذي لا يدركه البصر ولا يحيط به الوجدان، بل إنَّ عليهم أن يصفوه بما وصف به نفسه، فإنَّه سبحانه أعرف بنفسه من مخلوقاته كلِّها.

مفهوم الرزق والقضاء

ويتحدّث الإمام(ع) عن موقف الإنسان المؤمن من الله عندما يعيش بعض الضيق في رزقه، وعندما يعيش المشكلة في قضائه، فنحن يلمّ بنا ضيق العيش، كما نتضايق من بعض القضاء الذي يمثّل لوناً من ألوان الشدّة في حياتنا الخاصة والعامة.. فعن صفوان الجمّال عن أبي الحسن(ع) قال: "ينبغي لمن عقل عن الله ـ أي دعاه وعرفه واستطاع أن يعرف صفاته في حكمته وقدرته ورحمته ـ أن لا يستبطئه في رزقه ـ فإذا أبطأ عليه الرزق، فلا يشعر بالسلبيّة في ذلك، لأنَّ الله عندما يقدّر عليك رزقك، أو يوسّع عليك رزقك، فإنَّ ذلك ينطلق من معرفته سبحانه بمصلحتك، فقد لا يُصلحك إلا الضيق في بعض مراحل حياتك، وقد لا يصلحك إلا السَعَة في بعض هذه المراحل ـ ولا يتهمه في قضائه"، أي لا يتهمه بالظلم، ولا بأيِّ شي‏ءٍ لا يتناسب مع حكمته ورحمته وعظمته ولطفه ورعايته لعباده..

الخروج من حدِّ التقصير

وكان(ع) يعلّم بعض أصحابه كيف يدعون في القضايا التي تتصل بالجانب الحيويّ من حياتهم، فعن الفضل بن يونس عن أبي الحسن الكاظم(ع) قال: "قال: أَكثرْ من أن تقول: اللهم لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من حدِّ التقصير، قال: قلت: أمَّا المعارون فقد عرفتُ أنَّ الرجل يُعار الدين ثم يخرج منه ـ فالمُعَار في إيمانه، هو الرجل الذي يعار الدين ثم يخرج منه، فالبعض من الناس لا يثبتُ الدين في عقولهم وقلوبهم، بل إنَّ الدين يدخل في شخصياتهم كشي‏ءٍ مُسْتَعار يحصل عليه الإنسان، ثم لا يلبث أن يعيده إلى موقعه.. قال صفوان ـ فما معنى لا تخرجني من التقصير؟ ـ وكأنَّ هذه الكلمة غامضة عنده، فقال(ع): ـ كلّ عمل تريد به الله عزَّ وجلَّ فكن به مقصِّراً عند نفسك"، فلا تشعر بأنَّك أدّيت إلى الله حقَّه مهما عبدته وقدّمت له من ألوان الطاعة، بل عليك أن تشعر أنَّه لا يمكن للإنسان أن يبلغ حقَّ الله في كلِّ ما يعمل من عمل أو يطيع من طاعة ـ فإنَّ النّاس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصّرون إلا من عصمه الله عزَّ وجلّ"(21).

وفي حديث آخر عنه(ع) قال: "فإنَّ الله لا يُعْبَد حقَّ عبادته"(22)، فنحن لو درسنا ذلك لرأينا أنَّ ذلك أمرٌ طبيعيّ، فلو فكّرنا في ما أعطانا الله من نِعَمِه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، لرأينا أنَّه قد أعطانا الوجود، فهو سبحانه سرُّ الوجود، وقد أعطانا كلَّ مفردات هذا الوجود، ما جعل وجودنا وجوداً كاملاً في أكثر مواقعه، بحيث ننطلق فيه من مواقع الراحة والطمأنينة.

ثم إنّنا عندما نعمل الخير، لنسأل أنفسنا هذا السؤال: ما هي الوسائل التي نستخدمها لعمل الخير؟ إنَّها كلُّ أعضائنا وجوارحنا، فحتى العقل الذي نستلهم منه الخير، لو سألنا: من الذي خلق العقل الذي تنطلق منه فكرة الخير، ومن الذي خلق اللسان الذي تنطلق به كلمات الخير، ومن الذي خلق لنا أعضاءنا كلَّها التي نحرّكها في عمل الخير، ومَن الذي هيّأ لنا الأدوات المحيطة بنا، وسخّر لنا الظواهر الكونيّة، ومن الذي أعطانا ذلك كلَّه؟

الله سبحانه، هو الذي أعطانا ذلك، وليس لنا ـ نحن البشر ـ أيّ شي‏ء حتى في عبادته، فنحن نعبده سبحانه بما أعطانا، فليس هناك شي‏ءٌ منا بحيث نستقلُّ فيه مما لا دخل لله فيه، لنقول، إنَّنا أدّينا حقَّ الله، فعمل الخير الذي يمثّل طاعة الله، هو عمل ينبغي أن نشكر الله عليه.. ولذا، فمهما عملنا نبقى مقصِّرين أمام ما أعطانا سبحانه من نعمه ولطفه ورضوانه ورحمته.

المصادر:

(13)الإرشاد، ص:235.

(14)تاريخ بغداد، ج:13، ص:27.

(15)بحار الأنوار، ج:48، ص:70.

(16)الكافي، ج:1، ص:77.

(17)الكافي، ج:1، ص:155.

(18)الكافي، ج:1، ص:158.

(19)الكافي، ج:1، ص:159.

(20)الكافي، ج:1، ص:176.

(21)الكافي، ج:2، ص:79.

(22)الكافي، ج:2، ص:78.

كانت المرحلة التي عاشها الإمام الكاظم(ع) مرحلة وعي ثقافي أغناها بعلمه، واستفاد منها أساتذة المجتمع كلّه.. كانت رسالته ـ التي هي رسالة الإسلام ـ وكما بينّا في مستهلّ البحث، أن يرصد حركة الناس في الأمور الصغيرة والكبيرة، ولا يتركهم يسيرون على هواهم ويخضعون لتيارت الانحراف، سواء كان انحرافاً عقيديّاً أو اجتماعياً أو سياسيّاً، فكان يوجّههم ليتمكّنوا من تجاوز هذا الانحراف، وكان من خلال ذلك يُوحي إلى كلِّ العلماء من بعده أن يتحرّكوا في علمهم وحركتهم في قلب المجتمع، ليدرسوا حركة سيره هل هي في خطِّ الاستقامة أو في خط الانحراف؟ لأنَّ الله تعالى لم يعطِ الإنسان علماً إلا من أجل أن يوظّفه في إصلاح المجتمع وهدايته.

وعلى الرغم مما عاشه الإمام(ع) من ظروف قاسية وصلت حدَّ المأساة، إلا أنّه لم يهن أو يضعف أو يسقط، بل كان يزداد قوّة وروحانية، وهو ينتقل من سجن إلى سجن بأمرٍ من الخليفة العباسيّ هارون الرشيد، الذي عرف تأثير الإمام الكاظم(ع) في الواقع الإسلاميّ، وكيف حصل على الثقة الكبيرة في المجتمع الإسلاميّ بعلمه وروحانيته وأخلاقه، فضيّق عليه، وما زاده حنقاً عليه هو أنَّ الناس لا يقدّرون الإمام(ع) كعالِم وحسب، شأنه شأن بقية العلماء الآخرين، بل كانوا يعتقدون بإمامته وينفعلون بقداسته.

"وقد روى الناسُ عن أبي الحسن موسى(ع) فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله وأحسنهم صوتاً بالقرآن، وكان إذا قرأ يَحْدُرُ ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته، وكان الناس بالمدينة يسمّونه زين المتهجِّدين، وسمّي بالكاظم لما كظمه من الغيظ وصبرَ عليه من فعل الظالمين به"(13).

وروى عنه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد)(14) والسمعاني في (الرسالة القواميّة) وأبو صالح أحمد المؤذن في (الأربعين) وأبو عبد الله بن بطّة في (الإبانة) والثعلبي في (الكشف والبيان)(15).

وكان أحمد بن حنبل ممن روى عنه، قال: "حدّثني موسى بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمّد، وهكذا إلى النبيِّ(ص) ثم قال أحمد: "وهذا إسنادٌ لو قُرِى‏ء على المجنون لأفاق"(16)، لأنَّه إسنادٌ رفيعٌ ينفتح على هذه الرموز المعصومة كلِّها التي تمثِّلُ الغنى العلمي والروحيّ كلَّه في مواقع الحياة كلِّها وفي خطوط المسؤوليّة كلِّها. وقد كان الإمام(ع) معنيّاً بأن يوجِّه الناس إلى أن يسألوا عمّا جهلوه في مواقع مسؤولياتهم المعرفيّة كلِّها، سواء في ما يجب أن يعتقدوه، أو في ما يجب أن يعيشوه من المفاهيم العامة التي تحكم نظرتهم إلى الكون والحياة وإلى الواقع كلِّه، وتحكم أيضاً تصوّراتهم لله تعالى وللنبيِّ(ص) ولخطوط الإسلام الكبرى كلِّها.

وقد سُئِل(ع): "هل يَسَعُ الناسَ تركُ المسألة عمَّا يحتاجون ـ إليه يعني هل للناس الحريّة إذا جهلوا شيئاً مما يتصل بمسؤولياتهم في حركتهم في الحياة، هل لهم الحريّة في أن يبقوا على جهلهم ـ قال : لا"(17فليس لك الحريّة أن تبقى جاهلاً، فإذا جهلت فتعلّم، ونحن نعرف أنَّ الإسلام جعل القيمة للعلماء، بأنَّهم الذين يخشون الله، كما في قوله سبحانه: {إنَّما يخشى الّلهَ من عباده العلماءُ}[فاطر:28]،وفي قوله عزَّ وجلَّ: {قُلْ هَلْ يستوي الّذينَ يعلمونَ والّذينَ لا يعلمون}[الزمر:9]، وقوله سبحانه: {إنَّما يتذكَّرُ أولو الألباب} [الزمر:9].. وهكذا ورد في الحديث: "إنَّ الله أخذ على الجُهّال أن يتعلّموا كما أخذ على العلماء أن يعلّموا".

وقد نقل عنه الرواة من الفقه والتفسير والمواعظ والوصايا الكثيرة ما يوحي بالنشاط الكبير في إغناء المجتمع الإسلاميّ بالفكر والتربية والتفقّه، كوسيلة من وسائل الارتفاع بالمستوى الفكري الذي يركّز الوجود الإسلاميّ على أساسٍ ثابت، انطلاقاً من الخطِّ الإسلاميّ الذي يحمّل العلماء مسؤولية نشر العلم، لا سيما في حالات سيطرة الانحراف والبِدَع على المجتمع، وذلك بالقوّة نفسها التي حمّل فيها الجهّال مسؤولية التعلّم.

تصحيح المفاهيم

كانت الحركة الثقافيّة في زمن الإمام الكاظم(ع) تنطلق لتثير الكثير من علامات الاستفهام حول مفردات العقيدة من جهة، وحول خطوط الشريعة من جهة أخرى، وحول الواقع السياسيّ من جهة ثالثة.. إذاً، كما سبق وقلنا، عاش الإمام الكاظم(ع) هذه المرحلة، واستطاع أن يملأها علماً وفكراً وروحانية، وأن يرصد الانحرافات التي فرضت نفسها على حركة الفكر، فعمل على تصحيحها والأخذ بها نحو الاتجاه الصحيح.

التوحيد كما يراه الكاظم(ع)

على المستوى الثقافي، قامت حركة تتحدّث عن الله وعن صفاته: هل هو جسمٌ كبقيّة الأجسام، أو هو جسم لا كالأجسام، أي أنَّه جسمٌ من نوعٍ لا نعقله، وليس كالأجسام التي يعرفها الناس في الموجودات الماديّة؟

وقد دخل الإمام الكاظم(ع) هذه المعركة تصحيحاً للمفاهيم الخاطئة، فتحدّث بأكثر من أسلوب وأكثر من فكرة.. ففي الحديث عن محمد بن حكيم قال: "كتب أبو الحسن موسى بن جعفر إلى أبي: إن الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كُنْة صفته، فصفوه بما وصف به نفسه وكفّوا عما سوى ذلك".

في هذا الحديث، يشير الإمام إلى أنَّنا لن نستطيع أن نعرف الله في صفاته إلا من خلاله، لأنَّه لا يعرفُ الله سبحانه حقَّ معرفته إلا هو تعالى، فهو الذي أحاط بذاته ولم يحط بذاته أحد إلا من خلاله، لأنَّ الله سبحانه هو المطلق الذي لا حدود لأيّة صفةٍ من صفاته.. ولهذا، فإنَّ المحدود مهما كانت عظمته لا يستطيع أن يفهم حقيقة الله.. وعلى ضوء هذا، فإنَّ الإمام(ع) يقول لنا، إذا أردتم أن تعرفوا الله في صفاته فاعرفوه بما وصف به نفسه، فإنَّ وصفه لذاته سبحانه هو الذي نتعرّف من خلاله على الحقيقة الكامنة في صفات الله، أما أنتم فقد تصفون الله من خلال ما تتخيلونه وتنظّرونه.

وما تجدر الإشارة إليه، أنَّنا عندما نريد أن ننفذ إلى صفات الله، فإنَّ علينا ألا نأخذ بأساليب الفلسفة، لا سيما إذا عرفنا أنَّ بعض الفلاسفة المسلمين استندوا في كثير من المفردات على الفلسفة اليونانية، وبهذا فقد تختلط جذور الفلسفة اليونانية التي فرضت نفسها على كثير من مناهج الفلاسفة المسلمين، بفلسفة هؤلاء المسلمين، ولا أقول الفلسفة الإسلاميّة في امتداد الواقع الإسلاميّ.. فنحن عندما نقرأ فلسفة هؤلاء، يُخيّل إلينا أنَّنا نقرأ فلسفة إسلاميّة في عناوين الإسلام، ولكنها في العمق والمنهج قد تأخذ الكثير من ملامح الفلسفة اليونانية التي وُلِدت في بيئةٍ ثقافية أخرى تختلف عن البيئة التي وُلدت فيها الفلسفة الإسلاميّة.. وفي الوقت الذي نقدّر فيه الفلاسفة المسلمين الذين درسوا الفلسفة اليونانية، وحاولوا أن يسجّلوا ملاحظاتٍ عليها، نرى أنَّ المنهج بقي يفرض نفسه على مدى التفكير.. ولذلك، أراد الإمام(ع) من خلال ما نستوحيه من حديثه، أن يقول لنا إنه إذا أردتم أن تأخذوا عقائدكم فخذوها من القرآن: {وَمَا آتاكُم الرسولُ فخذوه ومَا نهاكُم عَنْهُ فانتهوا}[الحشر:7].

وفي حديث آخر عن الحسن بن عبد الرحمن الحمّاني قال: "قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر(ع): إنَّ هشام بن الحكم زعم أنَّ الله جسمٌ ليس كمثله شي‏ء ـ أي أنَّه جسمٌ ليس كالأجسام التي يراها الناسُ في الموجودات الماديّة، ولكنه جسمٌ من نوع آخر، ويُقال بأنَّ هشام قد ترك هذا المنهج إلى منهج آخر بعد أن صحّح له الأئمة(ع) المفهوم ـ عالمٌ بصيرٌ قادرٌ متكلّم ناطقٌ، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحداً ليس شي‏ء منها مخلوقاً، فحتى الكلام كأنَّما هو شي‏ءٌ في ذاته، وكذلك القدرة والعلم فلا فرق، فكأنه لا يقول بخلق الكلام فقال الإمام(ع): أمَا علم أنَّ الجسم ـ محدود والكلام هنا موجَّه إلى الفكرة لا إلى الذات ـ والكلام غير المتكلّم فلا يمكن أن يكون الكلام صفةً في الذات، بمعنى أن يكون داخلاً في تكوين الذات كما يظهر من كلام هشام ـ معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد، وكلّ شي‏ء سواه مخلوق، إنَّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردّد في نفس ولا نطق بلسان"(18)، فليست كالكلمات التي تخطر في الذهن، وتتردّد في الفكر ثم تنطلق بعد ذلك.. فالإمام(ع) يريد أن يصحّح هذه الفكرة المنحرفة التي تبتعد عن صفاء التوحيد في صفات الله.

تصحيح بعض الأدعية

وكان(ع) يصحّح حتى الدعاء، ومن ذلك يمكننا أن نرصد نقطة مهمّة، وهي ألا نأخذ كلَّ دعاء أخذاً مُسلّماً، لأنَّ المشكلة هي أنَّ كتب الأدعية امتلأت بالكثير من الأدعية التي لا نعرف مصادرها، حتى أنَّ السيّد ابن طاووس رحمه الله في كتاب (الإقبال) يتحدّث ويقول: وجدت في كتاب عتيق، وقل كذا، وادعُ كذا، وما إلى ذلك مما قد يكون من تأليفه، فيقبله الناس كما لو كان هذا الدعاء قد صدر عن المعصوم.. ونحن إذ نتوقف عند هذه المسألة، فلأننا نرى أنَّ الأدعية تمثّل الثقافة الروحيّة التي تنطلق منها المفاهيم الإسلاميّة، فعندما ندعو الله ونتحدّث عنه وعن صفاته، وعن النبي وصفاته، وعن الإمام وصفاته، فذلك يمثّل بمجمله منظومة المفاهيم الإسلاميّة.

ولهذا، فإنَّ علينا ألا نأخذ من الأدعية إلا ما ثبت لنا صحّته، إمَّا من القرآن أو من النبيّ(ص) أو من الأئمة(ع) بشكل دقيق.. فالأدعية وحتى الزيارات بحاجة إلى توثيق، كما نوثّق الأحكام الشرعيّة، فكما أنَّ لدينا أحكاماً شرعيّة تحتاج إلى بحث وتمحيص، كذلك لدينا مفاهيم إسلامية تحتاج إلى ذلك، وهذه المفاهيم تمثّل أساس التصوّر الإسلاميّ.. ولذلك نعتقد بأنَّ تراثنا كلَّه، سواء في باب الواجبات أو المستحبّات، أو باب الأدعية والزيارات والحِكَم والأمثال، لا بدَّ أن نخضعه للدراسة العلميّة، حتى لا ينفذ إلينا مفهومٌ غير إسلاميّ من خلال تراث يُعَنْوَن بأنَّه تراثٌ إسلاميٌ، وهو لم يدقّق في صحّة انتمائه إلى المصادر الأصليّة للإسلام..

فعن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: "كتبت إلى أبي الحسن في دعاء: الحمد لله منتهى علمه، فكتب إليَّ: لا تقولنَّ منتهى علمه، فليس لعلمه منتهى، ولكن قل: منتهى رضاه"(19). فكم هي دقيقةٌ هذه الملاحظة، ولعلنا ندعو فنقول: "الحمد لله منتهى علمه"، غير عارفين أنَّ ذلك يجعل علم الله محدّداً فيما بين البداية والنهاية.. والحال أنَّ علمَ الله تعالى يتحرّك في خطِّ اللانهاية، لأنَّه العلم اللامحدود، فينبغي أن نقول: "منتهى رضاه"، لأنَّ رضاه يتصل بالمخلوقين في درجاتٍ تتحرّك حتى تبلغ منتهاها، ولا يتعلّق ذلك في ذاته وصفته.

مواجهة آراء المجسِّمة

وعن يعقوب بن جعفر الجعفري عن أبي إبراهيم(ع) ـ وهذه كناية الإمام الكاظم(ع) ـ قال: "ذكر عنده قومٌ يزعمون أنَّ الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا وهذه الفكرة كانت موجودةً عند بعض المجسِّمة وتصل إلى حدِّ الخرافة في وصف الله تعالى ـ فهم يقولون ـ تقدّس عن ذلك ـ إنَّه ينـزل على حمار بصورة شاب أمرد، فقال: إنَّ الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنَّما بنظره ـ يعني بمراقبته للأشياء بالعلم والإحاطة ـوفي القرب والبُعد سواء، لم يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج إلى شي‏ء، بل يُحتاج إليه، وهو ذو الطَوْل لا إله إلا هو العزيز الحكيم، أمَّا قول الواصفين إنَّه ينزل ـ تبارك وتعالى عن ذلك ـ فإنَّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص وزيادة ـ لأنَّ الحاجة إلى النزول وإلى الارتفاع، إنَّما تكون في الممكن الذي ينقص، فيحتاج إلى أن يكمِّل نقصه، والذي يزيد فيحتاج إلى أن يستزيد من زيادته أو يعتدل ـ وكلُّ متحرِّك محتاجٌ إلى مَنْ يحرّكه أو يتحرّك به، فمن ظنّ بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا على حدٍّ تحدّونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرّك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود، فإنَّ الله جلّ وعزّ عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهّم المتوهمين، وتوكّلْ على العزيز الرحيم الذي يراك وتقلّبك في الساجدين"(20).

من هنا نلاحظ كيف أنَّ الإمام(ع) رصد وواجه الانحراف في تصوّر الناس للّه سبحانه وتعالى، وكيف وضع المسألة في نصابها التوحيديّ بالدرجة التي تنفي عن الله صفات الممكن، التي تجعل تصوّرهم له كتصوّرهم للمخلوق في الحاجة إلى الحركة المحدودة في الارتفاع والانخفاض والزيادة والنقصان، وفي الاستعانة بغيره في ذلك كله، مما يبتعد به عن معنى المطلق وعن صفة الربوبية والغنى عن كل شي‏ء، فهو الغني بذاته عما سوى ذاته، فوجّه الناس ألا يخوضوا في صفاته بما لا يملكون معرفته وعمقه.. مما لا تتوافر لديهم أدواته، لأنه فوق الحسّ الذي لا يدركه البصر ولا يحيط به الوجدان، بل إنَّ عليهم أن يصفوه بما وصف به نفسه، فإنَّه سبحانه أعرف بنفسه من مخلوقاته كلِّها.

مفهوم الرزق والقضاء

ويتحدّث الإمام(ع) عن موقف الإنسان المؤمن من الله عندما يعيش بعض الضيق في رزقه، وعندما يعيش المشكلة في قضائه، فنحن يلمّ بنا ضيق العيش، كما نتضايق من بعض القضاء الذي يمثّل لوناً من ألوان الشدّة في حياتنا الخاصة والعامة.. فعن صفوان الجمّال عن أبي الحسن(ع) قال: "ينبغي لمن عقل عن الله ـ أي دعاه وعرفه واستطاع أن يعرف صفاته في حكمته وقدرته ورحمته ـ أن لا يستبطئه في رزقه ـ فإذا أبطأ عليه الرزق، فلا يشعر بالسلبيّة في ذلك، لأنَّ الله عندما يقدّر عليك رزقك، أو يوسّع عليك رزقك، فإنَّ ذلك ينطلق من معرفته سبحانه بمصلحتك، فقد لا يُصلحك إلا الضيق في بعض مراحل حياتك، وقد لا يصلحك إلا السَعَة في بعض هذه المراحل ـ ولا يتهمه في قضائه"، أي لا يتهمه بالظلم، ولا بأيِّ شي‏ءٍ لا يتناسب مع حكمته ورحمته وعظمته ولطفه ورعايته لعباده..

الخروج من حدِّ التقصير

وكان(ع) يعلّم بعض أصحابه كيف يدعون في القضايا التي تتصل بالجانب الحيويّ من حياتهم، فعن الفضل بن يونس عن أبي الحسن الكاظم(ع) قال: "قال: أَكثرْ من أن تقول: اللهم لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من حدِّ التقصير، قال: قلت: أمَّا المعارون فقد عرفتُ أنَّ الرجل يُعار الدين ثم يخرج منه ـ فالمُعَار في إيمانه، هو الرجل الذي يعار الدين ثم يخرج منه، فالبعض من الناس لا يثبتُ الدين في عقولهم وقلوبهم، بل إنَّ الدين يدخل في شخصياتهم كشي‏ءٍ مُسْتَعار يحصل عليه الإنسان، ثم لا يلبث أن يعيده إلى موقعه.. قال صفوان ـ فما معنى لا تخرجني من التقصير؟ ـ وكأنَّ هذه الكلمة غامضة عنده، فقال(ع): ـ كلّ عمل تريد به الله عزَّ وجلَّ فكن به مقصِّراً عند نفسك"، فلا تشعر بأنَّك أدّيت إلى الله حقَّه مهما عبدته وقدّمت له من ألوان الطاعة، بل عليك أن تشعر أنَّه لا يمكن للإنسان أن يبلغ حقَّ الله في كلِّ ما يعمل من عمل أو يطيع من طاعة ـ فإنَّ النّاس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصّرون إلا من عصمه الله عزَّ وجلّ"(21).

وفي حديث آخر عنه(ع) قال: "فإنَّ الله لا يُعْبَد حقَّ عبادته"(22)، فنحن لو درسنا ذلك لرأينا أنَّ ذلك أمرٌ طبيعيّ، فلو فكّرنا في ما أعطانا الله من نِعَمِه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، لرأينا أنَّه قد أعطانا الوجود، فهو سبحانه سرُّ الوجود، وقد أعطانا كلَّ مفردات هذا الوجود، ما جعل وجودنا وجوداً كاملاً في أكثر مواقعه، بحيث ننطلق فيه من مواقع الراحة والطمأنينة.

ثم إنّنا عندما نعمل الخير، لنسأل أنفسنا هذا السؤال: ما هي الوسائل التي نستخدمها لعمل الخير؟ إنَّها كلُّ أعضائنا وجوارحنا، فحتى العقل الذي نستلهم منه الخير، لو سألنا: من الذي خلق العقل الذي تنطلق منه فكرة الخير، ومن الذي خلق اللسان الذي تنطلق به كلمات الخير، ومن الذي خلق لنا أعضاءنا كلَّها التي نحرّكها في عمل الخير، ومَن الذي هيّأ لنا الأدوات المحيطة بنا، وسخّر لنا الظواهر الكونيّة، ومن الذي أعطانا ذلك كلَّه؟

الله سبحانه، هو الذي أعطانا ذلك، وليس لنا ـ نحن البشر ـ أيّ شي‏ء حتى في عبادته، فنحن نعبده سبحانه بما أعطانا، فليس هناك شي‏ءٌ منا بحيث نستقلُّ فيه مما لا دخل لله فيه، لنقول، إنَّنا أدّينا حقَّ الله، فعمل الخير الذي يمثّل طاعة الله، هو عمل ينبغي أن نشكر الله عليه.. ولذا، فمهما عملنا نبقى مقصِّرين أمام ما أعطانا سبحانه من نعمه ولطفه ورضوانه ورحمته.

المصادر:

(13)الإرشاد، ص:235.

(14)تاريخ بغداد، ج:13، ص:27.

(15)بحار الأنوار، ج:48، ص:70.

(16)الكافي، ج:1، ص:77.

(17)الكافي، ج:1، ص:155.

(18)الكافي، ج:1، ص:158.

(19)الكافي، ج:1، ص:159.

(20)الكافي، ج:1، ص:176.

(21)الكافي، ج:2، ص:79.

(22)الكافي، ج:2، ص:78.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير