العالم العربي مات ولبنان لم يعد أولويةً أمريكيةً

العالم العربي مات ولبنان لم يعد أولويةً أمريكيةً

 

المرجع السيد محمد حسين فضل الله:

العالم العربي مات ولبنان لم يعد أولويةً أمريكيةً

 

الحلقة الخامسة من الحوار الشامل الذي أجرته مجلة "الشراع" مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، تمحورت حول انعكاس انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد، باراك أوباما، على المنطقة وعلى الداخل الأمريكي، وهذا نصّ الحوار:

س: ما هي قراءتكم لانتخاب الرئيس الأمريكي الجديد، باراك أوباما، ودلالاتها الداخلية، وانعكاساتها الخارجية؟

ج: هناك جانب إيجابي لهذه الانتخابات يتعلق بالحركة الإنسانية التي انطلقت في أمريكا مع أبراهام لنكولن، والتي استمرت في مرحلة لاحقة مع مارتن لوثر كينع ودعوته إلى إلغاء التفرقة العنصرية. وانتخاب أوباما، استطاع في نهاية المطاف أن يحقق نتائج إيجابية لتلك الحركة، وخصوصاً أن الأكثرية التي انتخبته هي من البيض، وهذا يدلّ على أن الدعوة إلى إلغاء التفرقة العنصرية لم تنطلق من فريق سياسي معين، بل من الشعب الأمريكي بشكل عام.

 

ونحن نرحب بهذا الأمر، لأن الإسلام يؤكد في مبادئه إلغاء التفرقة العنصرية، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، فهو لم يفرق بين شعب وشعب أو بين قبيلة وقبيلة، بل إنّه أكد أنّ الشعوب وإن اختلفت في عناصرها، إلا أنها ينبغي أن تتلاقى وتتعارف وأن يستفيد كل شعب من تجربة الشعب الآخر. كما أننا نروي عن رسول الله(ص): "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".

ففي التفكير الإسلامي، لا نتوقف أمام نوعية العرق في تقويمنا للإنسان، بل نتحرك في عملية التقويم على أساس دراسة خصائصه الثقافية والروحية والأخلاقية والسلوكية. ولذلك فإن هذا الأمر الإيجابي نسجله للشعب الأمريكي.

ولكن هناك نقطة سلبية بدأت تبرز، والتي تجعلنا نخشى من الجهاز الذي يحيط بهذا الرئيس الجديد، لأن خطابه الذي سمعناه في مؤتمر "إيباك" الصهيوني في أمريكا كان يزايد فيه على اليهود، إذ إنه يعطي اليهود أكثر مما يطلبونه، وقيل في وقتها إن خطاب المرشح يختلف عن خطاب الرئيس، ولكننا وجدنا أن أوباما بعدما أصبح رئيساً عيّن في البيت الأبيض شخصاً يهودياً يحمل الجنسية الإسرائيلية، وكان جندياً في الجيش الإسرائيلي، وأبوه أيضاً كان من الأشخاص الذين شاركوا في المجازر ضد الفلسطينيين.

 

وقد قرأت تصريحاً له يقول فيه إنه يعمل من أجل تقريب الرئاسة الأمريكية بإدارتها الجديدة من مصالح إسرائيل، كما لاحظنا أنّه يقول أيضاً في أحد تصريحاته إنه يتبع رأي الرئيس بوش فيما يخصّ التعاطي مع حركة حماس، باعتبارها حركة إرهابية، وإنه سوف يحاربها. ولو استحضر أوباما فكر الرئيس ويلسون في مسألة حرية الشعوب، لرأى أن "حماس" وبقية القوى الفلسطينية، بما فيها حركة "فتح" وفصائلها الجهادية المقاومة، تدافع عن حرية بلدها وشعبها، وتقف ضد الاحتلال، وليست منظمة إرهابية تقتل الأبرياء كما تقتلهم إسرائيل التي تستخدم الطائرات الحربية، التي لا تستخدم إلا في الحروب الكبيرة مثل الـ"اف16" وما شابهها، وتقصف بها المدنيين الأبرياء. وأيضاً ممّا صرّح به أوباما، إنه سيقوم بحوارٍ مع إيران، لكنه الآن وبعد انتخابه، بدأ يتحدث بطريقة أخرى، لأن المسؤولين الإسرائيليين، ومنهم وزيرة الخارجية (تسيبي ليفني) اتصلت بنائبه، وطلبت أن تقف الإدارة الأمريكية الجديدة إلى جانبها ضد "حماس" وإيران.

ولذلك نحن لا نريد أن نحكم على أوباما من الآن، لأنه لم يتسلم مسؤولياته بعد، ولكننا نسلّم بحقيقة في الواقع السياسي الأمريكي، وهي أن هذا الرجل هو أحد شخصيات الحزب الديموقراطي الذي عانى العرب من سياسته الداعمة للحروب الإسرائيلية ضدهم، أكثر مما عاناه من الحزب الجمهوري.

 

أمريكا الجديدة إلى عزلة أو إلى حرب؟

س: هل ترون ما يراه البعض من أن أمريكا بعد انتخاب أوباما ستذهب إما باتجاه عزلة تستعيد ما كان في مطلع القرن العشرين، وإما باتجاه تجديد نفسها تمهيداً للمزيد من الحروب مستقبلاً؟

ج: من الطبيعي أن انتخاب هذا الرئيس يعطي الفكرة التي تؤكد سقوط تجربة الإدارة الأمريكية الجمهورية الحالية، وخصوصاً سياسة المحافظين الجدد التي كانت تعمل لدعم إسرائيل أكثر مما تعمل لنفسها، ولكنني أتصور أن الإدارة المقبلة سوف توجه كل نشاطها وبرامجها باتجاه معالجة الوضع الداخلي الأمريكي، سواء في مواجهة الأزمة المالية الحالية التي وصلت إلى مستوى الكارثة التي لم تقتصر أضرارها على أمريكا وحدها، إنما امتدت إلى أكثر من مكان في العالم، ولاسيما العالم العربي، أو في معالجة المشاكل التي يعيشها الشعب الأمريكي، ومن بينها قضية مصير الجنود الأمريكيين في العراق وأفغانستان، باعتبار أن الشعب الأمريكي يعيش حالاً من القلق بسبب الخسائر التي تصيب قواته في هذين البلدين على ضوء فشل السياسة الأمريكية في المنطقة.

 

وأتصور أيضاً، أنه سوف يهتم بمعالجة المشاكل الداخلية التي وعد الأمريكيين بمعالجتها خلال حملته الانتخابية أكثر من اهتمامه بالمشاكل الخارجية كأولوية. ونلاحظ أن هناك مسألة ما زالت ضبابية وغير واضحة عند هذا الرئيس، وهي مسألة مكافحة الإرهاب. فما هو مفهومه للإرهاب؟ هل يتبنى رأي سلفه بوش وإدارته في أن الذين يحاربون من أجل تحرير بلدهم، كما في المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية والمقاومة العراقية هم إرهابيون؟ وهل سيستغل عنوان مكافحة الإرهاب كما استغله سلفه بوش للسيطرة على كل مناطق العالم الثالث، أو أنه سيواجه قضية الإرهاب الحاصل في العالم ـ وأمريكا تتحمل مسؤولية وجوده في أكثر من مجال ـ باستراتيجية عقلانية واقعية بعد فشل منطق القوة الذي زاد الإرهاب في العالم؟

س: هل تتوقع انسحاباً أمريكياً من العراق مع أوباما، أم استمراراً للاحتلال والحرب؟

ج: أعتقد أن الرأي العام الأمريكي أصبح لا يشجع على خيار الحرب، ولن يطلب من إدارته الجديدة الاستمرار في الحرب، أما مسألة انسحاب القوات الأمريكية من العراق أو من أفغانستان، فهي مسألة معقدة تحتاج إلى دراسة الظروف المحيطة بهذين البلدين وعلاقة أمريكا بالدول المحيطة بهما، ودراسة النتائج السلبية التي قد تترتب على هذا الانسحاب وأثره على السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية. ولذا أعتقد أنه من الصعب جداً أن تدخل الإدارة الأمريكية الجديدة في عملية حرب كما فعلت الإدارة الراحلة، بل سوف تغير سياستها، ولكن بشكل يسمح لها بالإبقاء على الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، وهي السيطرة على العالم.

 

إمكانية الحوار الأمريكي ـ الإيراني

س: هل تتوقع أن تقيم الإدارة الجديدة حواراً مع إيران وسوريا؟

ج: الظروف المقبلة قد تنتهي إلى هذه النتيجة، ولكن علينا أن نراقب إسرائيل التي تصر على إبقاء أسلوب الإدارة الحالية في التعاطي مع المسألة الإيرانية ومع حماس، وإبقاء الضغوط قائمة على سوريا. ولكنني أتصور أن التطورات السياسية الموجودة في المنطقة قد لا تسمح للإدارة الجديدة بأن تخوض الحرب بطريقة أو أخرى، أو بالبقاء في خط العداوة لهاتين الدولتين، أنا أستبعد ذلك، لأن ذلك أضر بأمريكا وبعلاقة شعوب المنطقة بها سابقاً، وسوف يضرها أكثر في المستقبل في حال استمرت بذلك.

 

س: هناك خشية عربية من صفقة أمريكية ـ إيرانية قد تنتج من مثل ذاك الحوار تكون نتائجها كارثيةً على النظام العربي ككل؟

ج: السؤال هو: هل هناك نظام عربي؟ نحن أعلنا منذ سنين أن العالم العربي قد مات منذ عقد مؤتمر مدريد، حيث امتنعت إسرائيل عن أن تفاوض العرب مجتمعين، وأصرّت على أن تكون المفاوضات ثنائيةً، وحتى عندما تمّ تعيين مراقبين في هذا المؤتمر، فإنه تم تعيين ممثلين عن مجلس التعاون الخليجي، وعن الاتحاد المغاربي الذي ولد ميتاً، وعن الأمم المتحدة، ولم يتم تعيين ممثلين عن الجامعة العربية، مع أن الجامعة العربية هي المنظمة الأم التي تهتم بالقضية الفلسطينية؛ القضية العربية الأساسية! ومعنى ذلك، أن العالم العربي قد فقد موقعه بتبعيته للواقع الدولي، ولاسيما الواقع الأمريكي.

وقد رأينا أيضاً الردّ الإسرائيلي على مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في بيروت، والذي قدم فيه العرب تنازلاتٍ لإسرائيل من أجل سلام عربي شامل معها، حيث ردّت إسرائيل على العرب بلسان رئيس وزرائها آنذاك، بأن هذه المبادرة لا تساوي ثمن الورق الذي كتبت عليه، وحتى الإدارة الأمريكية لم تعتبر قرارات قمة بيروت قرارات صالحة للتنفيذ، إنما اعتبرتها قرارات صالحة للمفاوضات، وأما حديث شيمون بيريس مؤخراً عن تشجيعه إعادة النقاش في تلك المبادرة، فإنه لا يمثل الموقف الرسمي، لأنّ بيريس لا يمثل شيئاً كبيراً في السياسة الإسرائيلية، حتى إننا لم نسمع من الجهات السياسية القوية الفاعلة أي قرار جدي إيجابي في مسألة القبول بتلك المبادرة.

 

ضعف النظام العربي

س: وكأن في كلامكم عن ضعف النظام العربي تشجيعاً لحصول صفقة أمريكية ـ إيرانية؟

ج: لا أتصور أن المسألة تتعلق بصفقة بالمعنى الدقيق للصفقة، لأن أمريكا دولة ذات مصالح، وإيران دولة ذات مصالح أيضاً، ومن الطبيعي أن المصالح قد تتقاطع وقد تتباعد. ولذلك فإن العلاقة بين أمريكا وإيران هي من العلاقات المعقدة التي تحتاج إلى وقت طويل وإلى الكثير من العناصر التي من الممكن أن تسد الثغرات الموجودة بينهما، مع ملاحظة أن أمريكا لا يمكن أن تترك العالم العربي، لأن مصلحتها الاقتصادية فيه، وخصوصاً في السيطرة على النفط، وهذه المصلحة هي أولوية لأمريكا منذ مطلع القرن العشرين، وقد سمي القرن العشرون قرن البترول للسياسة الأمريكية، وعندما احتلت أمريكا العراق، قال أحد كبار ضباط الجيش الأمريكي وهو جون أبو زيد: "دخلنا العراق من أجل النفط". ونحن نعلم أن أمريكا تخطط من أجل أن يكون لها دور حتى في النفط الإيراني أيضاً، لأنها تريد في سعيها للسيطرة على العالم أن تأخذ بخناق أوروبا والصين واليابان من خلال هذا النفط الذي يشكل شرياناً حيوياً لاقتصاد تلك الدول.

 

تقسيم المنطقة

س: مع المرحلة الجديدة، نسمع من جديد عن خرائط لإعادة تقسيم المنطقة، ونائب الرئيس الأمريكي الجديد معروف عنه أنه من دعاة تقسيم العراق، فهل الخشية ما زالت موجودةً من "سايكس بيكو" جديد؟

ج: لا أعتقد أن هناك أي فرصة في المرحلة الحاضرة لتقسيم المنطقة، لسبب بسيط جداً، وهو أن مسألة التقسيم انطلقت أساساً من أجل تبرير وجود إسرائيل كدولة يهودية تضم إلى جانبها دولة سنية، ودولة شيعية، ودولة كردية الخ... ولكن إسرائيل أصبحت دولة معترفاً بها في كل أنحاء العالم، وحتى الدول العربية في أكثريتها اعترفت بإسرائيل، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد لاحظنا واقع هذا التطبيع العربي ـ الإسرائيلي في مؤتمر حوار الأديان، والذي مثل فيه شيمون بيريس الحاخام الأكبر الذي يقدم في هذا المؤتمر على أساس أنه الشخص المتخصص والضليع في الدين اليهودي! وهذه نكتة ثقافية وسياسية؟!

 

فإذاً، أنا أعتقد أن أمريكا لا تحتاج إلى تقسيم المنطقة الآن، لأنها تسيطر على كل المنطقة بشكل أو بآخر، كما أن إسرائيل لا تحتاج إلى تقسيم المنطقة بعد أن فرضت نفسها على المنطقة كأقوى دولة فيها.

س: وما هو موقع سوريا في المرحلة المقبلة؟

ج: سوريا ما تزال رقماً مميزاً في المنطقة، ومن الصعب الاستغناء عنها، بقطع النظر عن السلبيات المحيطة بها من خلال علاقتها بلبنان أو علاقتها بالعراق وغير ذلك، ولعل إقبال الأوروبيين على إعادة العلاقات مع سوريا، يدل على أنهم شعروا بأنه لا يمكنهم الاستغناء عنها إذا أرادوا الدخول إلى المنطقة.

انفتاح أمريكي ـ أوروبي على سوريا

 

س: وهل خرجت سوريا من دائرة العزلة والاستهداف المباشر؟

ج: إنّ لقاء وزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) الأخير مع وليد المعلم في أمريكا، يدل على أن أمريكا بدأت تفتح خطاً وإن دقيقاً معها، خصوصاً أن هناك بعض التصريحات التي تتحدث بإيجابية عن الموقف السوري تجاه الوضع على الحدود مع العراق، وعن أنه تحسن كثيراً، وإن كانت أمريكا قد قصفت منطقة البوكمال داخل سوريا، إلا أن هذا القصف كان موجّهاً إلى أكثر من هدف.

س: ما انعكاسات مثل هذا التطور في العلاقات الأمريكية ـ السورية على الوضع في لبنان؟

ج: لبنان لم يعد أولويةً للسياسة الأمريكية، لكنه ما زال يمثل الموقع الذي يمكنها أن تلعب فيه دون أن يكون أولوية في استراتيجيتها، ولاسيما بعد التطورات التي حصلت فيه، وربما يكون لبنان موقعاً من مواقع الاهتمام الأمريكي من خلال ما أثير مؤخراً من وجود للقاعدة أو لفتح الإسلام، خصوصاً بعد ما لاحظناه في الموقف الأوروبي الذي أصبح يتحدث بحذر عن الأوضاع اللبنانية، ولاسيما في طرابلس ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين.

 

س: لم يخرج شيء من جلسة الحوار الوطني الثانية، فهذا الحوار برأيكم إلى أين؟

ج: الحوار إلى الحوار.

س: بانتظار ماذا؟

ج: بانتظار الانتخابات النيابية التي يسعى كل فريق من خلالها إلى الحفاظ على مواقعه، ولعل ما يُطرح في جلسات الحوار من إثارات، قد يستفيد منها هذا الفريق أو ذاك عند قاعدته الشعبية والانتخابية.

 

حوار: زين حمود ـ أحمد الموسوي

 

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 19 ذو القعدة 1429 هـ  الموافق: 17/11/2008 م

 

المرجع السيد محمد حسين فضل الله:

العالم العربي مات ولبنان لم يعد أولويةً أمريكيةً

 

الحلقة الخامسة من الحوار الشامل الذي أجرته مجلة "الشراع" مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، تمحورت حول انعكاس انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد، باراك أوباما، على المنطقة وعلى الداخل الأمريكي، وهذا نصّ الحوار:

س: ما هي قراءتكم لانتخاب الرئيس الأمريكي الجديد، باراك أوباما، ودلالاتها الداخلية، وانعكاساتها الخارجية؟

ج: هناك جانب إيجابي لهذه الانتخابات يتعلق بالحركة الإنسانية التي انطلقت في أمريكا مع أبراهام لنكولن، والتي استمرت في مرحلة لاحقة مع مارتن لوثر كينع ودعوته إلى إلغاء التفرقة العنصرية. وانتخاب أوباما، استطاع في نهاية المطاف أن يحقق نتائج إيجابية لتلك الحركة، وخصوصاً أن الأكثرية التي انتخبته هي من البيض، وهذا يدلّ على أن الدعوة إلى إلغاء التفرقة العنصرية لم تنطلق من فريق سياسي معين، بل من الشعب الأمريكي بشكل عام.

 

ونحن نرحب بهذا الأمر، لأن الإسلام يؤكد في مبادئه إلغاء التفرقة العنصرية، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، فهو لم يفرق بين شعب وشعب أو بين قبيلة وقبيلة، بل إنّه أكد أنّ الشعوب وإن اختلفت في عناصرها، إلا أنها ينبغي أن تتلاقى وتتعارف وأن يستفيد كل شعب من تجربة الشعب الآخر. كما أننا نروي عن رسول الله(ص): "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".

ففي التفكير الإسلامي، لا نتوقف أمام نوعية العرق في تقويمنا للإنسان، بل نتحرك في عملية التقويم على أساس دراسة خصائصه الثقافية والروحية والأخلاقية والسلوكية. ولذلك فإن هذا الأمر الإيجابي نسجله للشعب الأمريكي.

ولكن هناك نقطة سلبية بدأت تبرز، والتي تجعلنا نخشى من الجهاز الذي يحيط بهذا الرئيس الجديد، لأن خطابه الذي سمعناه في مؤتمر "إيباك" الصهيوني في أمريكا كان يزايد فيه على اليهود، إذ إنه يعطي اليهود أكثر مما يطلبونه، وقيل في وقتها إن خطاب المرشح يختلف عن خطاب الرئيس، ولكننا وجدنا أن أوباما بعدما أصبح رئيساً عيّن في البيت الأبيض شخصاً يهودياً يحمل الجنسية الإسرائيلية، وكان جندياً في الجيش الإسرائيلي، وأبوه أيضاً كان من الأشخاص الذين شاركوا في المجازر ضد الفلسطينيين.

 

وقد قرأت تصريحاً له يقول فيه إنه يعمل من أجل تقريب الرئاسة الأمريكية بإدارتها الجديدة من مصالح إسرائيل، كما لاحظنا أنّه يقول أيضاً في أحد تصريحاته إنه يتبع رأي الرئيس بوش فيما يخصّ التعاطي مع حركة حماس، باعتبارها حركة إرهابية، وإنه سوف يحاربها. ولو استحضر أوباما فكر الرئيس ويلسون في مسألة حرية الشعوب، لرأى أن "حماس" وبقية القوى الفلسطينية، بما فيها حركة "فتح" وفصائلها الجهادية المقاومة، تدافع عن حرية بلدها وشعبها، وتقف ضد الاحتلال، وليست منظمة إرهابية تقتل الأبرياء كما تقتلهم إسرائيل التي تستخدم الطائرات الحربية، التي لا تستخدم إلا في الحروب الكبيرة مثل الـ"اف16" وما شابهها، وتقصف بها المدنيين الأبرياء. وأيضاً ممّا صرّح به أوباما، إنه سيقوم بحوارٍ مع إيران، لكنه الآن وبعد انتخابه، بدأ يتحدث بطريقة أخرى، لأن المسؤولين الإسرائيليين، ومنهم وزيرة الخارجية (تسيبي ليفني) اتصلت بنائبه، وطلبت أن تقف الإدارة الأمريكية الجديدة إلى جانبها ضد "حماس" وإيران.

ولذلك نحن لا نريد أن نحكم على أوباما من الآن، لأنه لم يتسلم مسؤولياته بعد، ولكننا نسلّم بحقيقة في الواقع السياسي الأمريكي، وهي أن هذا الرجل هو أحد شخصيات الحزب الديموقراطي الذي عانى العرب من سياسته الداعمة للحروب الإسرائيلية ضدهم، أكثر مما عاناه من الحزب الجمهوري.

 

أمريكا الجديدة إلى عزلة أو إلى حرب؟

س: هل ترون ما يراه البعض من أن أمريكا بعد انتخاب أوباما ستذهب إما باتجاه عزلة تستعيد ما كان في مطلع القرن العشرين، وإما باتجاه تجديد نفسها تمهيداً للمزيد من الحروب مستقبلاً؟

ج: من الطبيعي أن انتخاب هذا الرئيس يعطي الفكرة التي تؤكد سقوط تجربة الإدارة الأمريكية الجمهورية الحالية، وخصوصاً سياسة المحافظين الجدد التي كانت تعمل لدعم إسرائيل أكثر مما تعمل لنفسها، ولكنني أتصور أن الإدارة المقبلة سوف توجه كل نشاطها وبرامجها باتجاه معالجة الوضع الداخلي الأمريكي، سواء في مواجهة الأزمة المالية الحالية التي وصلت إلى مستوى الكارثة التي لم تقتصر أضرارها على أمريكا وحدها، إنما امتدت إلى أكثر من مكان في العالم، ولاسيما العالم العربي، أو في معالجة المشاكل التي يعيشها الشعب الأمريكي، ومن بينها قضية مصير الجنود الأمريكيين في العراق وأفغانستان، باعتبار أن الشعب الأمريكي يعيش حالاً من القلق بسبب الخسائر التي تصيب قواته في هذين البلدين على ضوء فشل السياسة الأمريكية في المنطقة.

 

وأتصور أيضاً، أنه سوف يهتم بمعالجة المشاكل الداخلية التي وعد الأمريكيين بمعالجتها خلال حملته الانتخابية أكثر من اهتمامه بالمشاكل الخارجية كأولوية. ونلاحظ أن هناك مسألة ما زالت ضبابية وغير واضحة عند هذا الرئيس، وهي مسألة مكافحة الإرهاب. فما هو مفهومه للإرهاب؟ هل يتبنى رأي سلفه بوش وإدارته في أن الذين يحاربون من أجل تحرير بلدهم، كما في المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية والمقاومة العراقية هم إرهابيون؟ وهل سيستغل عنوان مكافحة الإرهاب كما استغله سلفه بوش للسيطرة على كل مناطق العالم الثالث، أو أنه سيواجه قضية الإرهاب الحاصل في العالم ـ وأمريكا تتحمل مسؤولية وجوده في أكثر من مجال ـ باستراتيجية عقلانية واقعية بعد فشل منطق القوة الذي زاد الإرهاب في العالم؟

س: هل تتوقع انسحاباً أمريكياً من العراق مع أوباما، أم استمراراً للاحتلال والحرب؟

ج: أعتقد أن الرأي العام الأمريكي أصبح لا يشجع على خيار الحرب، ولن يطلب من إدارته الجديدة الاستمرار في الحرب، أما مسألة انسحاب القوات الأمريكية من العراق أو من أفغانستان، فهي مسألة معقدة تحتاج إلى دراسة الظروف المحيطة بهذين البلدين وعلاقة أمريكا بالدول المحيطة بهما، ودراسة النتائج السلبية التي قد تترتب على هذا الانسحاب وأثره على السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية. ولذا أعتقد أنه من الصعب جداً أن تدخل الإدارة الأمريكية الجديدة في عملية حرب كما فعلت الإدارة الراحلة، بل سوف تغير سياستها، ولكن بشكل يسمح لها بالإبقاء على الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، وهي السيطرة على العالم.

 

إمكانية الحوار الأمريكي ـ الإيراني

س: هل تتوقع أن تقيم الإدارة الجديدة حواراً مع إيران وسوريا؟

ج: الظروف المقبلة قد تنتهي إلى هذه النتيجة، ولكن علينا أن نراقب إسرائيل التي تصر على إبقاء أسلوب الإدارة الحالية في التعاطي مع المسألة الإيرانية ومع حماس، وإبقاء الضغوط قائمة على سوريا. ولكنني أتصور أن التطورات السياسية الموجودة في المنطقة قد لا تسمح للإدارة الجديدة بأن تخوض الحرب بطريقة أو أخرى، أو بالبقاء في خط العداوة لهاتين الدولتين، أنا أستبعد ذلك، لأن ذلك أضر بأمريكا وبعلاقة شعوب المنطقة بها سابقاً، وسوف يضرها أكثر في المستقبل في حال استمرت بذلك.

 

س: هناك خشية عربية من صفقة أمريكية ـ إيرانية قد تنتج من مثل ذاك الحوار تكون نتائجها كارثيةً على النظام العربي ككل؟

ج: السؤال هو: هل هناك نظام عربي؟ نحن أعلنا منذ سنين أن العالم العربي قد مات منذ عقد مؤتمر مدريد، حيث امتنعت إسرائيل عن أن تفاوض العرب مجتمعين، وأصرّت على أن تكون المفاوضات ثنائيةً، وحتى عندما تمّ تعيين مراقبين في هذا المؤتمر، فإنه تم تعيين ممثلين عن مجلس التعاون الخليجي، وعن الاتحاد المغاربي الذي ولد ميتاً، وعن الأمم المتحدة، ولم يتم تعيين ممثلين عن الجامعة العربية، مع أن الجامعة العربية هي المنظمة الأم التي تهتم بالقضية الفلسطينية؛ القضية العربية الأساسية! ومعنى ذلك، أن العالم العربي قد فقد موقعه بتبعيته للواقع الدولي، ولاسيما الواقع الأمريكي.

وقد رأينا أيضاً الردّ الإسرائيلي على مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في بيروت، والذي قدم فيه العرب تنازلاتٍ لإسرائيل من أجل سلام عربي شامل معها، حيث ردّت إسرائيل على العرب بلسان رئيس وزرائها آنذاك، بأن هذه المبادرة لا تساوي ثمن الورق الذي كتبت عليه، وحتى الإدارة الأمريكية لم تعتبر قرارات قمة بيروت قرارات صالحة للتنفيذ، إنما اعتبرتها قرارات صالحة للمفاوضات، وأما حديث شيمون بيريس مؤخراً عن تشجيعه إعادة النقاش في تلك المبادرة، فإنه لا يمثل الموقف الرسمي، لأنّ بيريس لا يمثل شيئاً كبيراً في السياسة الإسرائيلية، حتى إننا لم نسمع من الجهات السياسية القوية الفاعلة أي قرار جدي إيجابي في مسألة القبول بتلك المبادرة.

 

ضعف النظام العربي

س: وكأن في كلامكم عن ضعف النظام العربي تشجيعاً لحصول صفقة أمريكية ـ إيرانية؟

ج: لا أتصور أن المسألة تتعلق بصفقة بالمعنى الدقيق للصفقة، لأن أمريكا دولة ذات مصالح، وإيران دولة ذات مصالح أيضاً، ومن الطبيعي أن المصالح قد تتقاطع وقد تتباعد. ولذلك فإن العلاقة بين أمريكا وإيران هي من العلاقات المعقدة التي تحتاج إلى وقت طويل وإلى الكثير من العناصر التي من الممكن أن تسد الثغرات الموجودة بينهما، مع ملاحظة أن أمريكا لا يمكن أن تترك العالم العربي، لأن مصلحتها الاقتصادية فيه، وخصوصاً في السيطرة على النفط، وهذه المصلحة هي أولوية لأمريكا منذ مطلع القرن العشرين، وقد سمي القرن العشرون قرن البترول للسياسة الأمريكية، وعندما احتلت أمريكا العراق، قال أحد كبار ضباط الجيش الأمريكي وهو جون أبو زيد: "دخلنا العراق من أجل النفط". ونحن نعلم أن أمريكا تخطط من أجل أن يكون لها دور حتى في النفط الإيراني أيضاً، لأنها تريد في سعيها للسيطرة على العالم أن تأخذ بخناق أوروبا والصين واليابان من خلال هذا النفط الذي يشكل شرياناً حيوياً لاقتصاد تلك الدول.

 

تقسيم المنطقة

س: مع المرحلة الجديدة، نسمع من جديد عن خرائط لإعادة تقسيم المنطقة، ونائب الرئيس الأمريكي الجديد معروف عنه أنه من دعاة تقسيم العراق، فهل الخشية ما زالت موجودةً من "سايكس بيكو" جديد؟

ج: لا أعتقد أن هناك أي فرصة في المرحلة الحاضرة لتقسيم المنطقة، لسبب بسيط جداً، وهو أن مسألة التقسيم انطلقت أساساً من أجل تبرير وجود إسرائيل كدولة يهودية تضم إلى جانبها دولة سنية، ودولة شيعية، ودولة كردية الخ... ولكن إسرائيل أصبحت دولة معترفاً بها في كل أنحاء العالم، وحتى الدول العربية في أكثريتها اعترفت بإسرائيل، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد لاحظنا واقع هذا التطبيع العربي ـ الإسرائيلي في مؤتمر حوار الأديان، والذي مثل فيه شيمون بيريس الحاخام الأكبر الذي يقدم في هذا المؤتمر على أساس أنه الشخص المتخصص والضليع في الدين اليهودي! وهذه نكتة ثقافية وسياسية؟!

 

فإذاً، أنا أعتقد أن أمريكا لا تحتاج إلى تقسيم المنطقة الآن، لأنها تسيطر على كل المنطقة بشكل أو بآخر، كما أن إسرائيل لا تحتاج إلى تقسيم المنطقة بعد أن فرضت نفسها على المنطقة كأقوى دولة فيها.

س: وما هو موقع سوريا في المرحلة المقبلة؟

ج: سوريا ما تزال رقماً مميزاً في المنطقة، ومن الصعب الاستغناء عنها، بقطع النظر عن السلبيات المحيطة بها من خلال علاقتها بلبنان أو علاقتها بالعراق وغير ذلك، ولعل إقبال الأوروبيين على إعادة العلاقات مع سوريا، يدل على أنهم شعروا بأنه لا يمكنهم الاستغناء عنها إذا أرادوا الدخول إلى المنطقة.

انفتاح أمريكي ـ أوروبي على سوريا

 

س: وهل خرجت سوريا من دائرة العزلة والاستهداف المباشر؟

ج: إنّ لقاء وزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) الأخير مع وليد المعلم في أمريكا، يدل على أن أمريكا بدأت تفتح خطاً وإن دقيقاً معها، خصوصاً أن هناك بعض التصريحات التي تتحدث بإيجابية عن الموقف السوري تجاه الوضع على الحدود مع العراق، وعن أنه تحسن كثيراً، وإن كانت أمريكا قد قصفت منطقة البوكمال داخل سوريا، إلا أن هذا القصف كان موجّهاً إلى أكثر من هدف.

س: ما انعكاسات مثل هذا التطور في العلاقات الأمريكية ـ السورية على الوضع في لبنان؟

ج: لبنان لم يعد أولويةً للسياسة الأمريكية، لكنه ما زال يمثل الموقع الذي يمكنها أن تلعب فيه دون أن يكون أولوية في استراتيجيتها، ولاسيما بعد التطورات التي حصلت فيه، وربما يكون لبنان موقعاً من مواقع الاهتمام الأمريكي من خلال ما أثير مؤخراً من وجود للقاعدة أو لفتح الإسلام، خصوصاً بعد ما لاحظناه في الموقف الأوروبي الذي أصبح يتحدث بحذر عن الأوضاع اللبنانية، ولاسيما في طرابلس ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين.

 

س: لم يخرج شيء من جلسة الحوار الوطني الثانية، فهذا الحوار برأيكم إلى أين؟

ج: الحوار إلى الحوار.

س: بانتظار ماذا؟

ج: بانتظار الانتخابات النيابية التي يسعى كل فريق من خلالها إلى الحفاظ على مواقعه، ولعل ما يُطرح في جلسات الحوار من إثارات، قد يستفيد منها هذا الفريق أو ذاك عند قاعدته الشعبية والانتخابية.

 

حوار: زين حمود ـ أحمد الموسوي

 

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 19 ذو القعدة 1429 هـ  الموافق: 17/11/2008 م

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير