العداوة لحركة الأنبياء: تجربة النبيّ نوح(ع) نموذجاً

العداوة لحركة الأنبياء: تجربة النبيّ نوح(ع) نموذجاً

ما زال الحديث عن العداوة على الصعيد الاجتماعي والفكري والسياسي، واليوم نتابعه على مستوى حركة الأنبياء، وذلك لمعرفة طبيعة الصراع بين حركة الأنبياء وحركة أعدائهم، وكيف كانت تجربة الأنبياء مع هؤلاء الأعداء الذين تحدّثنا عنهم فيما سبق، وما هو منطقهم الذي واجهوا به أساليبهم العدوانيّة، مما كان يواجه فيه بعضهم بعضاً من خلال زخرف القول، وكيف صوّر لنا القرآن ذلك كلّه.

هذا الحديث يستوحيه الدّعاة إلى الله في ثقافتهم الحركيّة من أساليب القوى المضادّة، التي لا زالت تتمثّل في أكثر من أسلوب مما يثيره أعداء الرّسالة في هذا العصر، بالرغم من اختلاف المفردات التي تختلف باختلاف الناس والذهنيّات السائدة والقضايا المثارة، فكأنّ التاريخ يعيد نفسه من خلال المنهج في عملية المواجهة، باعتبار أنّ المسألة الغرائزية في الإنسان في العقدة الغريزية، واحدة في ردّ الفعل أمام الأفكار أو العادات غير المنسجمة مع تفكيره وعاداته.

تجربة النبيّ نوح(ع)

نلتقي بدايةً بتجربة النبي نوح(ع)، الذي كان أول نبي يواجه صراعاً عنيفاً مع قومه، الذين أعلنوا العداء لرسالته بمختلف الطروحات المثيرة والأساليب القاسية. وقد تحدث القرآن عنه في أكثر من سورة، ولكن أجمع حديث عنه كان في سورة (هود)؛ فقد أعلن لهم الخطَّ التوحيديَّ كمنهجٍ للرسالة، وأنذرهم بعذاب الله، تأكيداً لخطورة الانحراف عن توحيده ورسالته، ليؤكد لهم أن المسألة في هذا الاتجاه الفكري والعملي، ليست مسألة ترف ذاتي، بل هي مسألة تنطلق من خلال المسؤولية الإنسانية المرتبطة بعلاقة الإنسان بربه، ما يفرض عليه الالتزام بدينه وشريعته: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}[1]، فقد اختصر المنهج كله بوحدانية العبادة التي تضم وحدانية الألوهية والطاعة، وبالإيمان باليوم الآخر بكلمة {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}، فماذا كان ردّ فعل قومه؟

الردود السلبية

لقد أثاروا أمامه بعض النقاط؛ النقطة الأولى، كما في قوله تعالى: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}[2]، فقد أنكروا على أتباعه الذين يمثلون الطبقة السفلى في المجتمع، أن تكون لهم المميزات الشخصيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، الَّتي تمكّنهم من الوصول إلى مراكز القيادة العامة في المجتمع، الذي يضمُّ الوجهاء والمترفين وأرباب القوّة ومراكز السّلطة، وأعلنوا لهم في النهاية أنهم يرجِّحون وصفهم بالكذب في دعوتهم، كأسلوبٍ من أجل إسقاط معنوياتهم النفسيّة في ذلك كلّه. فما كان جواب نوح(ع) لهم؟ {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}[3]. لقد تحدَّث إليهم بمنطق العقل الَّذي يمتدُّ في خطِّ الرّسالة، ردّاً على حديثهم الانفعالي.

ففي مسألة الرسالة، قال لهم إنها ليست مسألة ذاتية تتصل بتجربتي أو طموحاتي الشخصية، بل هي رحمة من الله يخصّ بها من اصطفى من عباده لرسالته، وقد مكَّنني انفتاحي على الله من امتلاك البيّنة الواضحة التي منَّ بها عليّ، فلم أشكّ فيها لحظة، ولم أغفل عن مكنوناتها الفكرية الغنية ساعة، فهي خافيةٌ عليكم، لأنكم لم تحاولوا الانفتاح عليها في حوار موضوعي معي حولها، لأعطيكم ملامح البيّنة التي منحني الله إياها. لذلك، لم أتحرك بينكم من أجل إلزامكم بها مع كراهيتكم لها، بل كلّ ما عندي، أنني دعوتكم إليها، وبيّنت لكم الأخطار المترتّبة على ابتعادكم عنها.

ثم ادرسوا المسألة دراسة واعية في دوافع هذه الدّعوة، تروا أني لم أطلب منكم مالاً كأجر على الرسالة، لتفسروا المسألة تفسيراً مالياً في رغبة الإنسان في التوصل إلى المال، فإن أجري على الله، وما أنا إلا رسول من قبله، وهو الذي يعطي رسله أجرهم من عنده. أما هؤلاء المؤمنون الذين تطالبونني ـ بأسلوبكم الخاص ـ بأن أطردهم، فإن علاقتهم بالله، وهو الَّذي يملك أمرهم، وسوف يلاقونه ليمنحهم الجزاء الحسن على التزامهم العقيدي والعملي، وليست علاقتهم بي علاقة شخصية بالدرجة التي أملك فيها أمرهم ـ كما تريدون ـ بل إنني أخاف من الله أن يعاقبني على طردهم لو استجبت لكم في ذلك، فهل تنصرونني من الله، وهو الذي يملك القوة كلها؟ فالمشكلة هي أنكم مستغرقون في الجهل الذي يمنعكم من معرفة حقائق الأمور، وفي الغفلة التي تمنعكم من تذكر النتائج السلبية التي تنتظركم في سلوككم العدواني ضدَّ الرسالة.

رسول الحقّ والعقل

ثم قدَّم لهم نفسه كرسول لا صفة له خارج نطاق الرسالة، فهو لا يريد أن يجتذب مطامع الناس في دعوته، ليحدثهم عن ضخامة شخصيته في ذاتيته، بما يخرج عن المألوف في صفة البشر، فهو لا يملك خزائن الله ليوزّعها على الناس بلا حساب، ولا يعلم الغيب ليحدّثهم عن خفايا الحاضر وتطلّعات المستقبل في حياتهم الخاصَّة والعامَّة، ولا يقول إنّه ملك من الملائكة، بل هو بشر مثلهم، ولا ينظر إلى أتباعه من المؤمنين بما ينظرون به إليهم، ليقول إن مستواهم الاجتماعي في الدرجة السفلى التي تجعلهم بعيدين عن لطف الله ورحمته، بحيث لا يعطيهم الخير والدرجة الرفيعة عنده، فالله هو الذي يعرف إخلاصهم له وتوحيدهم له، وهو الأعلم بما في نفوسهم، فلو استجبت لكم في النظرة والعمل كنت ظالماً لهم، وهذا مما لا يمكن أن أفعله، لأنني أرفض الظلم كلّه، من نفسي ومن الآخرين.

إنه منطق الرسالة التي لا تتعقّد من منطق العداوة، لأنّ المسألة ليست مسألة الشخص، بل هي مسألة الرسالة التي تخاطب الآخرين من موقع إنسانيّتهم، التي يراد لها أن ترقَّ وتلين وتنفتح وتعي الخطّ العامّ للرّسالة والروح الرسالية للرسول، ولهذا، يبقى أسلوبها هادئاً رقيقاً، فإذا أخذ بالعنف في جانب، انطلق باللّين في جانب آخر.

النقطة الثانية، ما جاء في قوله تعالى: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[4]، إنهم لم يملكوا منطقاً يناقش منطقه الهادئ المرتكز على الحجّة، ولذلك، قابلوه بالأسلوب الذي يريد إنهاء الجدل، وواجهوه بأن جداله معهم لن يؤدّي إلى أية نتيجة، لأنهم ليسوا مستعدّين لمناقشته، وتحدّوه أن ينزل بهم العذاب إذا كان صادقاً فيما أنذرهم به إذا لم يستجيبوا له في توحيدهم لله في العبادة.

ولم يفقد نوح(ع) أسلوبه الإنساني الهادئ الذي يفيض بالمحبّة، {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}[5]، فإني لا أملك إنزال العذاب، بل الله وحده هو الّذي يملك ذلك كله، فإذا أراد أنزله عليكم، فهو الذي يقدِّر وقته وحجمه، وعندها لن تملكوا ردَّه عنكم، ولن تعجزوا الله فيما يريد، لأنّ له الحكم والأمر، {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[6]، فقد حاولت أن أقدّم لكم النصح لتختاروا خطّ الإيمان بالله، ولتعبدوه في موقع وحدانيّته، ولكني لا أملك فرضه عليكم إذا ما امتنعتم من قبول النصيحة وتمرّدتم على الله، فسلب عنكم رحمته وهدايته بعد أن هيّأ لكم سبل الهداية، فهو ربكم الذي بدأ الخلق، وقد خلقكم ولم تكونوا شيئاً، وإليه ترجعون، لتواجهوا الموقف المسؤول في يوم الحساب أمامه.

النقطة الثالثة، الأسلوب الساخر، حين أخذوا يسخرون منه عندما أراد الله له أن يصنع الفلك، ربما لأن بلادهم لم تكن واقعة على ساحل بحر أو نهر، لأنهم تصوروا أنه ربما خولط في عقله.. ولكن الله أراد له في هذه المرحلة أن يبادلهم سخرية بسخرية، كأسلوب من أساليب الإيحاء بالقوّة الخفية التي يملكها في التحدّي بلحاظ المستقبل، وذلك هو قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}[7].

تصعيد الموقف

النقطة الرابعة، الأسلوب القويّ الذي واجههم به نوح(ع) في بعض مراحل الدعوة، وذلك في قوله تعالى في سورة يونس: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ}، إنه يتحداهم في مراكز قوّتهم، ويعلن لهم استعداده للمواجهة بموقفه القويّ الذي لا يضعف، من خلال التسليم الكلّي لله، {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[8]، وسأتبع أمر الله، وأسلّم أمري له في أموري كلّها.

النقطة الخامسة، أنّه لم يؤمن له إلا قليل من الناس، وبقيت الأكثرية على الكفر، وأخبره الله بأن التجربة قد استكملت عندما أصرّوا على الكفر، وأراد منه ألا يتألم، وألا يشعر بالإحباط، لأنه صبر كما لم يصبر نبيّ مثله في الإصرار على الدّعوة كلّ هذه المدّة الطويلة التي عاشها معهم، وأدّى رسالته كاملة غير منقوصة، وذلك هو قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[9]، وكان نوح(ع) قد قدَّم تقريره النهائي إلى ربّه بعد أن استنفد كلّ الأساليب، وخاض كلّ التجارب، وهذا هو ما تحدّث عنه الله في سورة نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً}[10]. وهذه هي الصورة السلبيّة الّتي واجهت نوح(ع) في موقفهم منه، فقد كانوا يفرّون من أمامه عندما يبدأ دعوته، فيجعلون أصابعهم في آذانهم، كمظهر من مظاهر رفضهم لدعوته، ويغطّون وجوههم بثيابهم لئلا يروه، تدليلاً على أنهم لا يرغبون في الإقبال عليه، حتى بمستوى النظر إليه، ويعلنون الإصرار على الكفر، ويتصرّفون معه بمنطق الاستكبار الّذي يمارس الاستعلاء على المستضعفين.. إنها العقدة المرضيّة في الموقف العدواني ضده، ولم ييأس نوح من قومه، وأخذ يختلق الأساليب المناسبة للدّعوة.

{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً}، بأعلى صوتي في الدعوة في مجتمعاتهم العامة، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} في المجالس الخاصة، وكان أسلوبي في الدعوة تذكيرهم بمغفرة الله ورحمته، إذا أنابوا إليه وتابوا، وعرّفتهم عظمته في خلق السماء والأرض، ونعمته في تسخير القمر والشمس، وفي تمهيد الأرض والسير فيها، وذكرت لهم كيف خلقوا من الأرض، وكيف يعودون إليها عندما يموتون، وكيف يخرجون منها عندما يبعثون، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك. عندها قال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً * مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً * قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}. وهكذا، كانت الجماعة التي تقود حركة العداوة ضد النبي نوح(ع) هي جماعة الأغنياء، الذين يملكون المال الوفير، والأقوياء الذين يملكون القوة العددية من أولادهم، لأنهم يخافون على امتيازاتهم، فتحركوا في خطّ المكر المتنوِّع وإثارة الناس الوثنيّين لحماية أوثانهم من هذا الإنسان القادم من أجل تحطيمها وإبعاد الناس عنها، {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً}[11]، لأنهم اختاروا الضّلال، واستغرقوا فيه.

وكانت النهاية الدعاء عليهم بالهلاك: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}، ولم تكن المسألة عنده تنطلق من عقدة ذاتية من جرّاء اضطهادهم له، بل من أجل حماية الأجيال الجديدة من تأثيرهم القويِّ فيهم، {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}، لإحاطتهم به، وسيطرتهم عليه، ومنع الرسل من السعي إلى هدايته.

وفي نهاية المطاف، يبتهل إلى الله قائلاً: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً}[12]، هلاكاً ودماراً، واستجاب الله دعاءه وأهلكهم بالطّوفان.

قمّة المأساة

وكانت مأساة نوح(ع)، أنّ امرأته كانت في صفّ الأعداء، وربما كانت تساعدهم عليه، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى عنها وعن امرأة لوط: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}[13]، فإنّ الظّاهر من الخيانة، أنها خيانة الرّسالة في موقفهما المضادّ منها، وعدم الانسجام مع طبيعة موقعهما الزوجي، الذي يفرض عليهما أن تكونا من أوائل المؤمنين بالرّسالة، لأنهما تعرفان من استقامة زوجيهما وأمانتهما وصدقهما ما لا يعرفه الآخرون.

وتجلّت قمّة المأساة في الابتلاء بولده، الذي كان ـ كما يبدو ـ خاضعاً لأمّه ولأهلها الكافرين، متمرّداً على أبيه. وعندما جاء الطوفان، {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}[14]. وحار نوح(ع) في أمره، وكان يتمنّى أن يكون ولده من النّاجين، وربما كان يظنّ أنه من المؤمنين، فناجى ربه قائلاً: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}، فعرّفني يا ربّ طبيعة المسألة، فقد رأيت ولدي يغرق في الطّوفان، {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، لأنّ أهلك هم المؤمنون، وهو ممن استثناهم الوعد، إلا من سبق عليه القول، {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}[15].

وهكذا، تتمثّل شخصيّة النبيّ نوح(ع) في حكمة أسلوبه، وقوّته في موقفه، وصبره في خطّ الدّعوة في مدّة الزّمن، {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً}[16]، ومن خلال طريقته في مواجهته للأعداء، من موقع العقل المفتوح، والقلب الطيّب، والكلمة الواضحة، والحجَّة القويّة، ليتمثّل الرساليّون هذا الأسلوب في حركتهم في الدّعوة إلى الله، في كلّ ساحة التحدّيات ومواقف الأعداء.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [هود: 25، 26].

[2]  [هود: 27].

[3]  [هود: 28 ـ 31].

[4]  [هود: 32].

[5]  [هود: 33].

[6]  [هود: 34].

[7]  [هود: 37، 38].

[8]  [يونس: 71، 72].

[9]  [هود: 36].

[10] [نوح: 5 ـ 7].

[11]  [نوح: 8 ـ 24].

[12]  [نوح: 26 ـ 28].

[13]  [التحريم: 10].

[14]  [هود: 42، 43].

[15]  [45 ـ 47].

[16]  [العنكبوت: 14].


ما زال الحديث عن العداوة على الصعيد الاجتماعي والفكري والسياسي، واليوم نتابعه على مستوى حركة الأنبياء، وذلك لمعرفة طبيعة الصراع بين حركة الأنبياء وحركة أعدائهم، وكيف كانت تجربة الأنبياء مع هؤلاء الأعداء الذين تحدّثنا عنهم فيما سبق، وما هو منطقهم الذي واجهوا به أساليبهم العدوانيّة، مما كان يواجه فيه بعضهم بعضاً من خلال زخرف القول، وكيف صوّر لنا القرآن ذلك كلّه.

هذا الحديث يستوحيه الدّعاة إلى الله في ثقافتهم الحركيّة من أساليب القوى المضادّة، التي لا زالت تتمثّل في أكثر من أسلوب مما يثيره أعداء الرّسالة في هذا العصر، بالرغم من اختلاف المفردات التي تختلف باختلاف الناس والذهنيّات السائدة والقضايا المثارة، فكأنّ التاريخ يعيد نفسه من خلال المنهج في عملية المواجهة، باعتبار أنّ المسألة الغرائزية في الإنسان في العقدة الغريزية، واحدة في ردّ الفعل أمام الأفكار أو العادات غير المنسجمة مع تفكيره وعاداته.

تجربة النبيّ نوح(ع)

نلتقي بدايةً بتجربة النبي نوح(ع)، الذي كان أول نبي يواجه صراعاً عنيفاً مع قومه، الذين أعلنوا العداء لرسالته بمختلف الطروحات المثيرة والأساليب القاسية. وقد تحدث القرآن عنه في أكثر من سورة، ولكن أجمع حديث عنه كان في سورة (هود)؛ فقد أعلن لهم الخطَّ التوحيديَّ كمنهجٍ للرسالة، وأنذرهم بعذاب الله، تأكيداً لخطورة الانحراف عن توحيده ورسالته، ليؤكد لهم أن المسألة في هذا الاتجاه الفكري والعملي، ليست مسألة ترف ذاتي، بل هي مسألة تنطلق من خلال المسؤولية الإنسانية المرتبطة بعلاقة الإنسان بربه، ما يفرض عليه الالتزام بدينه وشريعته: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}[1]، فقد اختصر المنهج كله بوحدانية العبادة التي تضم وحدانية الألوهية والطاعة، وبالإيمان باليوم الآخر بكلمة {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}، فماذا كان ردّ فعل قومه؟

الردود السلبية

لقد أثاروا أمامه بعض النقاط؛ النقطة الأولى، كما في قوله تعالى: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}[2]، فقد أنكروا على أتباعه الذين يمثلون الطبقة السفلى في المجتمع، أن تكون لهم المميزات الشخصيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، الَّتي تمكّنهم من الوصول إلى مراكز القيادة العامة في المجتمع، الذي يضمُّ الوجهاء والمترفين وأرباب القوّة ومراكز السّلطة، وأعلنوا لهم في النهاية أنهم يرجِّحون وصفهم بالكذب في دعوتهم، كأسلوبٍ من أجل إسقاط معنوياتهم النفسيّة في ذلك كلّه. فما كان جواب نوح(ع) لهم؟ {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}[3]. لقد تحدَّث إليهم بمنطق العقل الَّذي يمتدُّ في خطِّ الرّسالة، ردّاً على حديثهم الانفعالي.

ففي مسألة الرسالة، قال لهم إنها ليست مسألة ذاتية تتصل بتجربتي أو طموحاتي الشخصية، بل هي رحمة من الله يخصّ بها من اصطفى من عباده لرسالته، وقد مكَّنني انفتاحي على الله من امتلاك البيّنة الواضحة التي منَّ بها عليّ، فلم أشكّ فيها لحظة، ولم أغفل عن مكنوناتها الفكرية الغنية ساعة، فهي خافيةٌ عليكم، لأنكم لم تحاولوا الانفتاح عليها في حوار موضوعي معي حولها، لأعطيكم ملامح البيّنة التي منحني الله إياها. لذلك، لم أتحرك بينكم من أجل إلزامكم بها مع كراهيتكم لها، بل كلّ ما عندي، أنني دعوتكم إليها، وبيّنت لكم الأخطار المترتّبة على ابتعادكم عنها.

ثم ادرسوا المسألة دراسة واعية في دوافع هذه الدّعوة، تروا أني لم أطلب منكم مالاً كأجر على الرسالة، لتفسروا المسألة تفسيراً مالياً في رغبة الإنسان في التوصل إلى المال، فإن أجري على الله، وما أنا إلا رسول من قبله، وهو الذي يعطي رسله أجرهم من عنده. أما هؤلاء المؤمنون الذين تطالبونني ـ بأسلوبكم الخاص ـ بأن أطردهم، فإن علاقتهم بالله، وهو الَّذي يملك أمرهم، وسوف يلاقونه ليمنحهم الجزاء الحسن على التزامهم العقيدي والعملي، وليست علاقتهم بي علاقة شخصية بالدرجة التي أملك فيها أمرهم ـ كما تريدون ـ بل إنني أخاف من الله أن يعاقبني على طردهم لو استجبت لكم في ذلك، فهل تنصرونني من الله، وهو الذي يملك القوة كلها؟ فالمشكلة هي أنكم مستغرقون في الجهل الذي يمنعكم من معرفة حقائق الأمور، وفي الغفلة التي تمنعكم من تذكر النتائج السلبية التي تنتظركم في سلوككم العدواني ضدَّ الرسالة.

رسول الحقّ والعقل

ثم قدَّم لهم نفسه كرسول لا صفة له خارج نطاق الرسالة، فهو لا يريد أن يجتذب مطامع الناس في دعوته، ليحدثهم عن ضخامة شخصيته في ذاتيته، بما يخرج عن المألوف في صفة البشر، فهو لا يملك خزائن الله ليوزّعها على الناس بلا حساب، ولا يعلم الغيب ليحدّثهم عن خفايا الحاضر وتطلّعات المستقبل في حياتهم الخاصَّة والعامَّة، ولا يقول إنّه ملك من الملائكة، بل هو بشر مثلهم، ولا ينظر إلى أتباعه من المؤمنين بما ينظرون به إليهم، ليقول إن مستواهم الاجتماعي في الدرجة السفلى التي تجعلهم بعيدين عن لطف الله ورحمته، بحيث لا يعطيهم الخير والدرجة الرفيعة عنده، فالله هو الذي يعرف إخلاصهم له وتوحيدهم له، وهو الأعلم بما في نفوسهم، فلو استجبت لكم في النظرة والعمل كنت ظالماً لهم، وهذا مما لا يمكن أن أفعله، لأنني أرفض الظلم كلّه، من نفسي ومن الآخرين.

إنه منطق الرسالة التي لا تتعقّد من منطق العداوة، لأنّ المسألة ليست مسألة الشخص، بل هي مسألة الرسالة التي تخاطب الآخرين من موقع إنسانيّتهم، التي يراد لها أن ترقَّ وتلين وتنفتح وتعي الخطّ العامّ للرّسالة والروح الرسالية للرسول، ولهذا، يبقى أسلوبها هادئاً رقيقاً، فإذا أخذ بالعنف في جانب، انطلق باللّين في جانب آخر.

النقطة الثانية، ما جاء في قوله تعالى: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[4]، إنهم لم يملكوا منطقاً يناقش منطقه الهادئ المرتكز على الحجّة، ولذلك، قابلوه بالأسلوب الذي يريد إنهاء الجدل، وواجهوه بأن جداله معهم لن يؤدّي إلى أية نتيجة، لأنهم ليسوا مستعدّين لمناقشته، وتحدّوه أن ينزل بهم العذاب إذا كان صادقاً فيما أنذرهم به إذا لم يستجيبوا له في توحيدهم لله في العبادة.

ولم يفقد نوح(ع) أسلوبه الإنساني الهادئ الذي يفيض بالمحبّة، {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}[5]، فإني لا أملك إنزال العذاب، بل الله وحده هو الّذي يملك ذلك كله، فإذا أراد أنزله عليكم، فهو الذي يقدِّر وقته وحجمه، وعندها لن تملكوا ردَّه عنكم، ولن تعجزوا الله فيما يريد، لأنّ له الحكم والأمر، {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[6]، فقد حاولت أن أقدّم لكم النصح لتختاروا خطّ الإيمان بالله، ولتعبدوه في موقع وحدانيّته، ولكني لا أملك فرضه عليكم إذا ما امتنعتم من قبول النصيحة وتمرّدتم على الله، فسلب عنكم رحمته وهدايته بعد أن هيّأ لكم سبل الهداية، فهو ربكم الذي بدأ الخلق، وقد خلقكم ولم تكونوا شيئاً، وإليه ترجعون، لتواجهوا الموقف المسؤول في يوم الحساب أمامه.

النقطة الثالثة، الأسلوب الساخر، حين أخذوا يسخرون منه عندما أراد الله له أن يصنع الفلك، ربما لأن بلادهم لم تكن واقعة على ساحل بحر أو نهر، لأنهم تصوروا أنه ربما خولط في عقله.. ولكن الله أراد له في هذه المرحلة أن يبادلهم سخرية بسخرية، كأسلوب من أساليب الإيحاء بالقوّة الخفية التي يملكها في التحدّي بلحاظ المستقبل، وذلك هو قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}[7].

تصعيد الموقف

النقطة الرابعة، الأسلوب القويّ الذي واجههم به نوح(ع) في بعض مراحل الدعوة، وذلك في قوله تعالى في سورة يونس: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ}، إنه يتحداهم في مراكز قوّتهم، ويعلن لهم استعداده للمواجهة بموقفه القويّ الذي لا يضعف، من خلال التسليم الكلّي لله، {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[8]، وسأتبع أمر الله، وأسلّم أمري له في أموري كلّها.

النقطة الخامسة، أنّه لم يؤمن له إلا قليل من الناس، وبقيت الأكثرية على الكفر، وأخبره الله بأن التجربة قد استكملت عندما أصرّوا على الكفر، وأراد منه ألا يتألم، وألا يشعر بالإحباط، لأنه صبر كما لم يصبر نبيّ مثله في الإصرار على الدّعوة كلّ هذه المدّة الطويلة التي عاشها معهم، وأدّى رسالته كاملة غير منقوصة، وذلك هو قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[9]، وكان نوح(ع) قد قدَّم تقريره النهائي إلى ربّه بعد أن استنفد كلّ الأساليب، وخاض كلّ التجارب، وهذا هو ما تحدّث عنه الله في سورة نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً}[10]. وهذه هي الصورة السلبيّة الّتي واجهت نوح(ع) في موقفهم منه، فقد كانوا يفرّون من أمامه عندما يبدأ دعوته، فيجعلون أصابعهم في آذانهم، كمظهر من مظاهر رفضهم لدعوته، ويغطّون وجوههم بثيابهم لئلا يروه، تدليلاً على أنهم لا يرغبون في الإقبال عليه، حتى بمستوى النظر إليه، ويعلنون الإصرار على الكفر، ويتصرّفون معه بمنطق الاستكبار الّذي يمارس الاستعلاء على المستضعفين.. إنها العقدة المرضيّة في الموقف العدواني ضده، ولم ييأس نوح من قومه، وأخذ يختلق الأساليب المناسبة للدّعوة.

{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً}، بأعلى صوتي في الدعوة في مجتمعاتهم العامة، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} في المجالس الخاصة، وكان أسلوبي في الدعوة تذكيرهم بمغفرة الله ورحمته، إذا أنابوا إليه وتابوا، وعرّفتهم عظمته في خلق السماء والأرض، ونعمته في تسخير القمر والشمس، وفي تمهيد الأرض والسير فيها، وذكرت لهم كيف خلقوا من الأرض، وكيف يعودون إليها عندما يموتون، وكيف يخرجون منها عندما يبعثون، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك. عندها قال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً * مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً * قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}. وهكذا، كانت الجماعة التي تقود حركة العداوة ضد النبي نوح(ع) هي جماعة الأغنياء، الذين يملكون المال الوفير، والأقوياء الذين يملكون القوة العددية من أولادهم، لأنهم يخافون على امتيازاتهم، فتحركوا في خطّ المكر المتنوِّع وإثارة الناس الوثنيّين لحماية أوثانهم من هذا الإنسان القادم من أجل تحطيمها وإبعاد الناس عنها، {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً}[11]، لأنهم اختاروا الضّلال، واستغرقوا فيه.

وكانت النهاية الدعاء عليهم بالهلاك: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}، ولم تكن المسألة عنده تنطلق من عقدة ذاتية من جرّاء اضطهادهم له، بل من أجل حماية الأجيال الجديدة من تأثيرهم القويِّ فيهم، {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}، لإحاطتهم به، وسيطرتهم عليه، ومنع الرسل من السعي إلى هدايته.

وفي نهاية المطاف، يبتهل إلى الله قائلاً: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً}[12]، هلاكاً ودماراً، واستجاب الله دعاءه وأهلكهم بالطّوفان.

قمّة المأساة

وكانت مأساة نوح(ع)، أنّ امرأته كانت في صفّ الأعداء، وربما كانت تساعدهم عليه، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى عنها وعن امرأة لوط: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}[13]، فإنّ الظّاهر من الخيانة، أنها خيانة الرّسالة في موقفهما المضادّ منها، وعدم الانسجام مع طبيعة موقعهما الزوجي، الذي يفرض عليهما أن تكونا من أوائل المؤمنين بالرّسالة، لأنهما تعرفان من استقامة زوجيهما وأمانتهما وصدقهما ما لا يعرفه الآخرون.

وتجلّت قمّة المأساة في الابتلاء بولده، الذي كان ـ كما يبدو ـ خاضعاً لأمّه ولأهلها الكافرين، متمرّداً على أبيه. وعندما جاء الطوفان، {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}[14]. وحار نوح(ع) في أمره، وكان يتمنّى أن يكون ولده من النّاجين، وربما كان يظنّ أنه من المؤمنين، فناجى ربه قائلاً: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}، فعرّفني يا ربّ طبيعة المسألة، فقد رأيت ولدي يغرق في الطّوفان، {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، لأنّ أهلك هم المؤمنون، وهو ممن استثناهم الوعد، إلا من سبق عليه القول، {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}[15].

وهكذا، تتمثّل شخصيّة النبيّ نوح(ع) في حكمة أسلوبه، وقوّته في موقفه، وصبره في خطّ الدّعوة في مدّة الزّمن، {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً}[16]، ومن خلال طريقته في مواجهته للأعداء، من موقع العقل المفتوح، والقلب الطيّب، والكلمة الواضحة، والحجَّة القويّة، ليتمثّل الرساليّون هذا الأسلوب في حركتهم في الدّعوة إلى الله، في كلّ ساحة التحدّيات ومواقف الأعداء.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [هود: 25، 26].

[2]  [هود: 27].

[3]  [هود: 28 ـ 31].

[4]  [هود: 32].

[5]  [هود: 33].

[6]  [هود: 34].

[7]  [هود: 37، 38].

[8]  [يونس: 71، 72].

[9]  [هود: 36].

[10] [نوح: 5 ـ 7].

[11]  [نوح: 8 ـ 24].

[12]  [نوح: 26 ـ 28].

[13]  [التحريم: 10].

[14]  [هود: 42، 43].

[15]  [45 ـ 47].

[16]  [العنكبوت: 14].

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير