ليلة القدر... وكتاب الله

ليلة القدر... وكتاب الله
 

يكفي ليلة القدر قدراً وشرفاً وفخراً أنها ليلة نزول القرآن الكريم، حيث انهمر فيض الوحي على قلب الرّسول(ص) في شهر رمضان المبارك، رسالة السلام والرّحمة، هذه المناسبة الخالدة في السموات والأرض...

يقول تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:3-4]. نزل القرآن الكريم على قلب الرسول(ص) جملة واحدة في تلك اللّيلة، ثم نزل بصورة تدريجيّة طيلة ثلاث وعشرين سنة، لتأخذ المعاني والمفاهيم القرآنيّة أهدافها وموقعها في النّفوس، وتحدث الأثر المطلوب، وليكون الكتاب الّذي يبني حضارة وأمّة ومستقبلاً مشرقاً للإنسانية...

والسؤال: لماذا سميت بليلة القدر؟

يبدو أنّ أهم ما في هذه اللّيلة المباركة، تقدير شؤون الخلائق، فهي ليلة الأقدار المقدّرة. وقال البعض: بل لأنّها ليلة جليلة القدر بنزول كتاب الله العزيز فيها... 

يرى سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، أنّ الآراء قد تنوّعت في معنى كلمة القدر، فمنهم من قال إنّ القدر هو الشّرف والمنزلة، وبعضهم ـ ولعلّ هذا هو الأقرب ـ أنّ القدر هو التّقدير، لأنّ هذه اللّيلة هي اللّيلة التي أرادت حكمة الله تعالى أن تجعلها اللّيلة التي ينظّم فيها الله للنّاس أوضاعهم في أرزاقهم، وفي كلّ أمورهم العامّة والخاصّة، وفي كلّ حركتهم في عالم التحدّيات، وفي عالم الصّراع، وفي عالم الإنتاج، وفي عالم الإبداع، وفي عالم الأعمار...

فالله تعالى هو المدبِّر لهذا الكون، وهو القادر على أن يقول للشّيء كن فيكون، ولكنّ حكمته اقتضت أن يجعل إرادته في نطاق الزّمن، ولذلك خلق الأرض والسّماء في ستّة أيّام، وهو القادر على أن يخلقها في لحظة. أمّا هذه اللّيلة، فإنها اللّيلة التي أودع الله فيها الكثير من الأسرار الّتي تملأ كلّ ساعاتها، تماماً كما يضع الله الأسرار في المكان، فهناك مكان يعظّمه الله كما الكعبة، وفي الزّمان في بعض الأيّام واللّيالي كيوم عرفة، وما إلى ذلك...

كذلك أودع الله في هذه الليلة أسراراً روحية تنظيمية سخية عظيمة، تستوعب الكون كله، وتشرف على كلّ قضايا الإنسان في كلّ حياته، بحيث تحدّد له أجله، وتحدّد له رزقه وصحّته وعافيته ومرضه وموقعه ونصره وهزيمته، فهي اللّيلة التي تدخل في عمق الوجود الإنسانيّ، لأنّ الله سبحانه عندما خلق الكون وخلق الإنسان، أودع فيه عنصر السببيّة {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}[الطلاق:3]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]...

ولذلك، فإنّ الله جعل هذه اللّيلة اليتيمة في السنة، خيراً من ألف شهر، وأراد أن يبيّن لنا أن حجم الزّمن لا يُقاس بطبيعة ساعاته، بل بما يختزن من أسرار، وما يُقام فيه من أعمال، ومن مواقف وطاعات. فالمسألة إذاً هي أنّ الإنسان يستطيع أن يجعل من يومه شهراً، ومن شهره سنة، لأنّ المسألة هي في النوعيّة وليست في الكميّة...

ويشير سماحته(رض) إلى أنّه من المتعارف في الكتب ذكر ليالي القدر، ونحن لا يوجد لدينا ليالي القدر، لدينا ليلة قدر، ويسمونها ليالي تبعاً للرّوايات، رواية تقول إنّها اللّيلة التاسعة عشرة، وأخرى تقول إنّها الواحدة والعشرون، ورواية تقول الثّالثة والعشرون، ورواية تقول السابعة والعشرون عند الإخوان السنّة، فليس لدينا ثلاث ليال حتّى نقول ليالي القدر، بل هي ليلة واحدة، ولكنّ الله أخفاها حتّى يهتمّ النّاس بها...

وطبعاً، نحن نعرف أنّ الخلاف الحاصل في أول الشّهر، جعل البعض يراها في ليلة والبعض الآخر في ليلة أخرى، كلّ ذلك جيّد، لأنّه سواء كانت في هذه اللّيلة أو تلك، ماذا سنفعل بها؟ سندعو الله ونقرأ القرآن، وندعو دعاء الجوشن...1.

وفي موضعٍ آخر، يرى سماحته(رض)، أنّ بإمكان الإنسان أن يلتقي بالله في كلّ وقت، ولكنّ لقاءه به في ليلة القدر شيء آخر، فهي {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: 3]، فالرّحمة فيها تتضاعف، والعمل فيها يكبر، والخير فيها يكثر، وعطايا الله تتزايد، وهي ـ بعد ذلك ـ ليلة السّلام الّتي يعيش فيها الإنسان روحيّة السّلام مع نفسه ومع النّاس، لأنّها تحوّلت إلى معنى السلام المنفتح بكلّ معانيه على الله، ليكون برداً وسلاماً على قلب الإنسان وروحه، ليعود طفل الحياة الباحث عن الله...

وتلك هي ليلة القدر الّتي قد يكون لها موعد معيّن معلوم، لأنّ الله ربما أخفاها في اللّيالي، لينطلق العباد في أيّامه ليصلوا إليها، ليتعبّدوا إلى الله في أكثر من ليلة، لاحتمال أنّها ليلة القدر، حتّى يتعوّدوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر، في العبادة والخضوع والقرب من الله، وذلك ما يريده الله لعباده، أن يقربوا إليه ويلتقوا به ليصلوا إليه بأرواحهم وقلوبهم، لأنهم لا يملكون الوصول إليه بأجسادهم... .

ليلة القدر مناسبة تختصر الزّمن في انفتاح العبد على ربّه وعلى كلّ معاني الخير والرّحمة والسّلام، ولا يكون ذلك إلا بامتلاك سلاح الوعي والمعرفة، ومعايشة مفاهيم الرّسالة في مضمونها لا أشكالها، فعلينا العمل على بناء أنفسنا، وبناء جيلٍ يعي أكثر عناوينه ومحطّاته الإسلاميّة. فكم نحن اليوم بحاجةٍ إلى تهذيب أنفسنا وأجيالنا، وتوجيه طاقاتها الرّوحيّة نحو معاني الخير والسّلام والتّسامح؟!

وكم نحن بحاجةٍ إلى جيلٍ قرآني مثقّف بثقافة القرآن؟

أليس غريباً أن نتحدّث عن ليلة القرآن، ونحن في واقعنا نفتقد إلى روحانيّة القرآن وإنسان القرآن، ومعارف القرآن في علاقاتنا الخاصّة والعامّة؟!

أن نتكلّم عن ليلة القدر، يعني أن نعي الخير والعدل والرّحمة والمعرفة فيه، فأمّة "اقرأ" في ليلة القدر مطالبة بإحياء القرآن وتعاليمه في سبيل تحسين الواقع نحو الأفضل، وإلا ما نفع الإحياء ونحن بعيدون عن كتاب الله والعمل به!!..

1 من محاضرة رمضانيّة ألقيت في ليلة القدر، اللّيلة الثالثة والعشرون المباركة، عام 1430هـ .
2 تفسير من وحي القرآن، ج24، ص:352.


 

يكفي ليلة القدر قدراً وشرفاً وفخراً أنها ليلة نزول القرآن الكريم، حيث انهمر فيض الوحي على قلب الرّسول(ص) في شهر رمضان المبارك، رسالة السلام والرّحمة، هذه المناسبة الخالدة في السموات والأرض...

يقول تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:3-4]. نزل القرآن الكريم على قلب الرسول(ص) جملة واحدة في تلك اللّيلة، ثم نزل بصورة تدريجيّة طيلة ثلاث وعشرين سنة، لتأخذ المعاني والمفاهيم القرآنيّة أهدافها وموقعها في النّفوس، وتحدث الأثر المطلوب، وليكون الكتاب الّذي يبني حضارة وأمّة ومستقبلاً مشرقاً للإنسانية...

والسؤال: لماذا سميت بليلة القدر؟

يبدو أنّ أهم ما في هذه اللّيلة المباركة، تقدير شؤون الخلائق، فهي ليلة الأقدار المقدّرة. وقال البعض: بل لأنّها ليلة جليلة القدر بنزول كتاب الله العزيز فيها... 

يرى سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، أنّ الآراء قد تنوّعت في معنى كلمة القدر، فمنهم من قال إنّ القدر هو الشّرف والمنزلة، وبعضهم ـ ولعلّ هذا هو الأقرب ـ أنّ القدر هو التّقدير، لأنّ هذه اللّيلة هي اللّيلة التي أرادت حكمة الله تعالى أن تجعلها اللّيلة التي ينظّم فيها الله للنّاس أوضاعهم في أرزاقهم، وفي كلّ أمورهم العامّة والخاصّة، وفي كلّ حركتهم في عالم التحدّيات، وفي عالم الصّراع، وفي عالم الإنتاج، وفي عالم الإبداع، وفي عالم الأعمار...

فالله تعالى هو المدبِّر لهذا الكون، وهو القادر على أن يقول للشّيء كن فيكون، ولكنّ حكمته اقتضت أن يجعل إرادته في نطاق الزّمن، ولذلك خلق الأرض والسّماء في ستّة أيّام، وهو القادر على أن يخلقها في لحظة. أمّا هذه اللّيلة، فإنها اللّيلة التي أودع الله فيها الكثير من الأسرار الّتي تملأ كلّ ساعاتها، تماماً كما يضع الله الأسرار في المكان، فهناك مكان يعظّمه الله كما الكعبة، وفي الزّمان في بعض الأيّام واللّيالي كيوم عرفة، وما إلى ذلك...

كذلك أودع الله في هذه الليلة أسراراً روحية تنظيمية سخية عظيمة، تستوعب الكون كله، وتشرف على كلّ قضايا الإنسان في كلّ حياته، بحيث تحدّد له أجله، وتحدّد له رزقه وصحّته وعافيته ومرضه وموقعه ونصره وهزيمته، فهي اللّيلة التي تدخل في عمق الوجود الإنسانيّ، لأنّ الله سبحانه عندما خلق الكون وخلق الإنسان، أودع فيه عنصر السببيّة {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}[الطلاق:3]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]...

ولذلك، فإنّ الله جعل هذه اللّيلة اليتيمة في السنة، خيراً من ألف شهر، وأراد أن يبيّن لنا أن حجم الزّمن لا يُقاس بطبيعة ساعاته، بل بما يختزن من أسرار، وما يُقام فيه من أعمال، ومن مواقف وطاعات. فالمسألة إذاً هي أنّ الإنسان يستطيع أن يجعل من يومه شهراً، ومن شهره سنة، لأنّ المسألة هي في النوعيّة وليست في الكميّة...

ويشير سماحته(رض) إلى أنّه من المتعارف في الكتب ذكر ليالي القدر، ونحن لا يوجد لدينا ليالي القدر، لدينا ليلة قدر، ويسمونها ليالي تبعاً للرّوايات، رواية تقول إنّها اللّيلة التاسعة عشرة، وأخرى تقول إنّها الواحدة والعشرون، ورواية تقول الثّالثة والعشرون، ورواية تقول السابعة والعشرون عند الإخوان السنّة، فليس لدينا ثلاث ليال حتّى نقول ليالي القدر، بل هي ليلة واحدة، ولكنّ الله أخفاها حتّى يهتمّ النّاس بها...

وطبعاً، نحن نعرف أنّ الخلاف الحاصل في أول الشّهر، جعل البعض يراها في ليلة والبعض الآخر في ليلة أخرى، كلّ ذلك جيّد، لأنّه سواء كانت في هذه اللّيلة أو تلك، ماذا سنفعل بها؟ سندعو الله ونقرأ القرآن، وندعو دعاء الجوشن...1.

وفي موضعٍ آخر، يرى سماحته(رض)، أنّ بإمكان الإنسان أن يلتقي بالله في كلّ وقت، ولكنّ لقاءه به في ليلة القدر شيء آخر، فهي {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: 3]، فالرّحمة فيها تتضاعف، والعمل فيها يكبر، والخير فيها يكثر، وعطايا الله تتزايد، وهي ـ بعد ذلك ـ ليلة السّلام الّتي يعيش فيها الإنسان روحيّة السّلام مع نفسه ومع النّاس، لأنّها تحوّلت إلى معنى السلام المنفتح بكلّ معانيه على الله، ليكون برداً وسلاماً على قلب الإنسان وروحه، ليعود طفل الحياة الباحث عن الله...

وتلك هي ليلة القدر الّتي قد يكون لها موعد معيّن معلوم، لأنّ الله ربما أخفاها في اللّيالي، لينطلق العباد في أيّامه ليصلوا إليها، ليتعبّدوا إلى الله في أكثر من ليلة، لاحتمال أنّها ليلة القدر، حتّى يتعوّدوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر، في العبادة والخضوع والقرب من الله، وذلك ما يريده الله لعباده، أن يقربوا إليه ويلتقوا به ليصلوا إليه بأرواحهم وقلوبهم، لأنهم لا يملكون الوصول إليه بأجسادهم... .

ليلة القدر مناسبة تختصر الزّمن في انفتاح العبد على ربّه وعلى كلّ معاني الخير والرّحمة والسّلام، ولا يكون ذلك إلا بامتلاك سلاح الوعي والمعرفة، ومعايشة مفاهيم الرّسالة في مضمونها لا أشكالها، فعلينا العمل على بناء أنفسنا، وبناء جيلٍ يعي أكثر عناوينه ومحطّاته الإسلاميّة. فكم نحن اليوم بحاجةٍ إلى تهذيب أنفسنا وأجيالنا، وتوجيه طاقاتها الرّوحيّة نحو معاني الخير والسّلام والتّسامح؟!

وكم نحن بحاجةٍ إلى جيلٍ قرآني مثقّف بثقافة القرآن؟

أليس غريباً أن نتحدّث عن ليلة القرآن، ونحن في واقعنا نفتقد إلى روحانيّة القرآن وإنسان القرآن، ومعارف القرآن في علاقاتنا الخاصّة والعامّة؟!

أن نتكلّم عن ليلة القدر، يعني أن نعي الخير والعدل والرّحمة والمعرفة فيه، فأمّة "اقرأ" في ليلة القدر مطالبة بإحياء القرآن وتعاليمه في سبيل تحسين الواقع نحو الأفضل، وإلا ما نفع الإحياء ونحن بعيدون عن كتاب الله والعمل به!!..

1 من محاضرة رمضانيّة ألقيت في ليلة القدر، اللّيلة الثالثة والعشرون المباركة، عام 1430هـ .
2 تفسير من وحي القرآن، ج24، ص:352.


اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير