حفل تأبين في مكة المكرمة

حفل تأبين في مكة المكرمة

بحضورٍ شعبيٍّ وعلمائيٍّ حاشدٍ:
حفل تأبينٍ عن روح المرجع السيّد فضل الله(رض) في مكّة المكرّمة

صور الحفل التأبيني

أقامت بعثة مؤسّسة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) للحجّ، حفلاً تأبينيّاً ومجلس فاتحة عن روح المرجع الرّاحل، في مقرّ البعثة في مكّة المكرّمة، بمشاركةٍ واسعةٍ من جموع الحجيج، إضافةً إلى مشاركةٍ من بعثات حجٍّ رسميّةٍ وعلمائيّة، وحشدٍ من علماء الدّين.

وقد حضر الحفلَ وفدٌ كبيرٌ من بعثة الحجّ العراقيَّة الرّسميَّة، برئاسة السيِّد علي الميّالي، وحضور الشَّيخ عامر الكفيشي، والشّيخ خالد الملا، ومجموعةٍ من العلماء، كما حضر ممثّل بعثة قائد الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، آية الله السيّد علي الخامنئي، الشّيخ محمد أختري، والسّفير الإيرانيّ السّابق في سوريا، حسين شيخ الإسلام، وسماحة آية الله الشّيخ محمد اليعقوبي على رأس وفدٍ علمائيٍّ كبير، ووفد بعثة سماحة آية الله السيّد كاظم الحائري، ووفد من مكتب الشّهيد محمّد الصّدر ضمّ عدداً من العلماء الأجلاء، إضافةً إلى عددٍ كبيرٍ من الشخصيّات العلمائيّة من دولٍ إسلاميّةٍ مختلفة.

كما حضر الحفل جموعٌ من الحجيج القادمين من بلدان العالم العربيّ والإسلاميّ وبلاد المهجر.

افتتح الحفل بآياتٍ بيّناتٍ من القرآن الكريم تلاها المقرئ الشّيخ علي الخليل.

الشّيخ علي حسن غلوم:

ألقى الشّيخ علي حسن غلوم من الكويت كلمةً تأبينيّةً تناول فيها جوانب من شخصيّة المرجع المقدّس(رض)، فقال:

قد يموت الشَّخص، لكن يستمرّ الخطّ والنَّهج، فهذا ما كرَّسه الأنبياء في حركتهم وفي استمراريَّة رسالتهم الإلهيَّة وامتدادها في الأجيال...

وقد كان مرجعنا الرَّاحل يؤكِّد استمرار الخطِّ الرّساليّ، دون أن يلتفت إلى الشّخص أو الذّات، لكنّ اسمه بات يتردَّد على كلّ الألسن،  وفي امتداد الآفاق، لأنّه حمل همّ الرّسالة حقّاً وذاب فيها.

وكان سماحته يؤكّد أنّ علينا أن نبحث دائماً عن الخطّ، لنتمسّك به ونسير عليه، دون أن نستغرق في ذات الشّخص أو البطل...

لقد عاش سماحة السيِّد همَّ الرِّسالة، كما عاش همَّها الأنبياء ـ والعلماء هم ورثة الأنبياء ـ وقد كان السيِّدُ الإنسانَ الّذي عاش بحقٍّ همَّ الرِّسالة بكلِّ وجوده، وكان يعتبر أنَّه في هذا الزَّمن المليء بالتحدّيات، لا يمكن للإنسان الرّساليّ أن يبحث عن الرَّاحة، وكان يشعر بأنَّ من مسؤوليّته أن يبقى بعطائه المتفجِّر بالخير في كلِّ صوره وتنوّعاته، لم يكن مرجعنا الرّاحل يفكّر في أن يقدّم ما يبزّ به أقرانه من العلماء، أو ليشار إليه بالبنان، أو ليتسنَّم منصب المرجعيَّة...لم يكن ذلك همَّه، بل كان همّه الأوَّل والأخير هو همّ النّاس الّذين يتعطّشون إلى من يوصل إليهم الرّسالة الإلهيَّة النّافعة.

كان  سماحته يؤمن وهو في عطائه المستمرّ، أنّه مهما امتدّ به العمر، فإنّ الزّمن المتاح له في هذه الدّنيا، لن يستطيع أن يستوعب كلّ طاقاته المتفجّرة، وكان يؤمن بأنّ المسؤوليّة الكبيرة الملقاة على عاتقه، لن يستطيع أن يقدِّمها خلال هذه السّنوات القليلة من عمره الشَّريف، ولذا كان يصل ليله بنهاره من أجل راحة الآخرين، فكلّ من عاشر هذا المرجع الّذي قلَّ نظيره، أدرك هذه الصّفة في شخصيَّته.

لقد كانت مرجعيَّة السيِّد فضل الله هي المرجعيَّة الَّتي تستحقُّ أن تمثِّل النّيابة عن الإمام المعصوم، بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من قيادة النَّاس ورعايتهم، وتغطية كلِّ الجوانب الّتي يحتاجون إليها، دون أن يقوقع نفسه في عنوانٍ هنا أو عنوانٍ هناك، وكان يقول: "أشعر بأنّي في الموقع الّذي يجعلني للنّاس جميعاً"، ومن خلال هذا، كان عطاؤه للنّاس جميعاً.

 نسأل الله له عظيم المقام، ولنا حسن الاتّباع، لنستمرّ في حمل هذه المسؤوليّة العظيمة، ولنستمرّ في هذا النّهج وهذا الخطّ الّذي هو امتدادٌ لخطّ الأنبياء، خطّ إبراهيم(ع) ومحمّد(ص)...

الشّيخ عبد الحليم الزّهيري:

ثم ألقى سماحة الشّيخ عبد الحليم الزّهيري من العراق كلمةً جاء فيها:

يعزّ عليّ أن أقف لأؤبّن السيّد بكلمةٍ، وهو الّذي علّمنا كيف تكون الكلمة..

الكلمة الَّتي انطلقت من شفتيه، وسطَّرتها أنامله منذ خمسين عاماً، كانت كلمةً تشعّ بالأضواء من " مجلّة الأضواء"، الّتي كان يكتب افتتاحيّتها تحت عنوان "كلمتنا"، والّتي شكّلت طليعة الوعي الإسلاميّ في العراق، فكانت كلمةً قويّةً مؤثّرة، لذلك أصبحت "كلمتنا" كلمة الأمّة الّتي تنطلق من الأقوياء الّذين لا يخافون في الله لومة لائم، هكذا كانت كلمة السيّد(رض) من أوّلها إلى آخرها، كلمةً واحدةً شاملةً للكون والحياة والإنسان، لقد أراد للكلمة أن تكون قويّةً، فألّف كتابه "الإسلام ومنطق القوّة"، لأنّه أراد أن يؤصِّل للإسلام كلمته المنطقيَّة العلميّة. ولا بدَّ للفكرة القويَّة من أن تنطلق من أسلوبٍ قويّ يتماثل ويتجانس معها، فلا بدَّ من أن يكون الأسلوب إسلاميّاً إلهيّاً قرآنيّاً، فكان "أسلوب الدّعوة في القرآن"، لأنّ الأسلوب جزء من الفكرة الّتي لا بدّ من أن تكون منسجمةً مع الخطّ...

وكانت قضيّة السيد فضل الله قضيّة الإسلام، لا قضيّة الذّات أو الشّخص، لذا كان كتابه "قضايانا على ضوء الإسلام"، وهي بداية تحقّق وعي الأمّة المعاصر، وكان يستوحي القضايا من تجربة الأنبياء، وواجه ما واجهه أبناء الدعوة الأوائل من "أساليب قديمة.. كحكايات أبي جهل اللئيمة"، وكان سماحته يرسم لنا القوّة حتى في شعره العذب، وكلماته الأدبيّة الشفّافة...

كان يرسم القوّة والثّورة، ولم تكن الكلمات عنده أحرفاً تنساب من شفتيه الطّاهرتين ومن أنامله الكريمة، إنما كانت أنشودةً يتغنّى بها ويحمل همّها، لذا حرّم على نفسه الرّاحة، وكان شعاره: "الرّاحة عليَّ حرام"...

كان السيّد(رض) في أسلوبه القرآنيّ، يؤكّد الدّفع بالّتي هي أحسن، وكان داعية حوار، ورفع شعار: "الحقيقة بنت الحوار"، وقد كان أباً للحركات الإسلاميّة جميعها، يهتمّ بأمورها، وخصوصاً في العراق... وقد كان سماحته أوّل من ألّف في الحوار، فكتب "الحوار في القرآن"، و"الحوار الإسلاميّ المسيحيّ"، كما نادى بوحدة المسلمين.

هكذا كان السيّد(رض) في منطلقاته الحواريّة، يخطو خطاه بوعيٍ، فكتب "خطوات على طريق الإسلام"، وهو الكتاب الّذي كان يتناقله شباب العراق وتتثقّف به طلائعه المؤمنة، وقد كانت كلّ خطوات سيّدنا الرّاحل على طريق الإسلام، منطلقاً "من وحي القرآن" الّذي شكّل موسوعته الفكريّة والفقهيّة والعمليّة، فقد كانت كلّ حياته إسلاماً، وكلّ عمره الشّريف من وحي القرآن.

 فسلام عليه في عليائه، وإنّنا إن شاء الله على دربه سائرون.

كلمة سماحة العلامة السيِّد علي فضل الله:

ثم ألقى سماحة السيِّد علي فضل الله كلمةً تأبينيَّةً جاء فيها:

يعزّ، والله، عليَّ أن أقف بينكم، في المكان الّذي أحبّ، في البلد الحرام، في موسم الحجّ الّذي حرص على أن يتواجد فيه، في هذا الأرض الطّاهرة الّتي كان يستذكر فيها انطلاقة الإسلام، بكلِّ فكره وحركته وآفاقه وانفتاحه على قضايا الإنسان والحياة... فيه كان يستهدي رسول الله(ص) داعياً ومحاوراً ومجاهداً صلباً قويّاً في ذات الله، لا تأخذه فيه لومة لائم...

وفيه كان يتحسَّس معاناة أهل البيت(ع)، وكلّ الرّساليّين والدّاعين إلى الله، الّذين بذلوا الدّماء والنّفوس، وقدّموا كلّ حياتهم من أجل أن يستمرّ الإسلام حياً نقيّاً صافياً حاضراً في كلّ مواقع الأجيال، وعلى امتداد حركة الرّسالات... 

وكم كان يستعيد في هذه الأرض آفاق جدّه الإمام الصَّادق(ع)، ومنطقه الحواريّ والإنسانيّ، حيث كان يحاور المختلفين، حتَّى الملاحدة والزّنادقة، حتّى قال أحدهم: ما وجدت شخصاً أكثر إنسانيّةً من جعفر بن محمد.

 في هذا المكان، كان يؤكّد أهميّة هذه الفريضة الّتي لا تقف عند حدود العبادة والذّوبان في الله، بل تمتدُّ شعوراً بالمسؤوليَّة تجاه كلِّ قضايا المسلمين، وتأكيداً لوحدتهم، وتنميةً لعناصر القوَّة الكثيرة الموجودة عندهم..

يعزّ عليَّ أن أقف على منبره، لأتحدَّث عمَّن ملأ حياتي وحياتكم وكلَّ الحياة من حوله حبّاً وعاطفةً وعلماً وحيويَّة، وتجدّداً دائماً، وانفتاحاً لا تعرف عنده الآمال حدوداً.

فهو رضوان الله عليه، أدرك بعمق بصيرته، وثاقب فكره، أنّ الحياة ساحته الّتي زرع فيها وجوده، ضارباً في أعماقها كما الجذور تضربُ في الأعماق، لينتج شجرها أُكُلاً طيّباً كلّ حينٍ بإذن ربّها... وهكذا كان نتاجه وفيراً في الفقه والفكر والأدب والجهاد، وكذلك في العمل المؤسّساتي، وفي رعاية الأيتام والمستضعفين، ومواجهة كلّ ظلمٍ وطغيانٍ وانحراف...

لم يرضَ أن يخوض غمارَ الحياة كما يخوضها طالبو الرّاحة، أو أن يهدأ حيث يهدأ النّاس أو يرتاح حيث يرتاحون، فضَّل أن يكون تيّاراً معاكساً قويّاً، عندما كان يرى التيّارات المتنوّعة لا تنطق بالحقيقة، بل تعاديها، وفضَّل أن يكون ماءُ تيّاره مما يمكث في الأرض وما ينفع النَّاس، لا زبداً رغواً جُفاءً لا يعكس شيئاً من الحقيقة..

كان يعرف أنّ ذلك سيُتعبه، وأنَّ السّير مع التيّار أكثر راحةً وربحاً، ولكنّه كان يؤمن بأنّ الإنسان ينبغي أن يكون هو نفسه، لا أن يكون ظلاً وصدى لإنسانٍ آخر..

ومن هنا، سعى لأنْ يقدّم للأمّة فكراً صافياً بعيداً عن الغلوّ والخرافة والتطرّف، وقف مع قضايا الأمّة في فلسطين والعراق، رفضاً للاحتلال والاستكبار، ووقف مع المقاومة في لبنان داعماً ومؤيّداً ومسدّداً، ودعا الأمّة إلى أن تفكّر، وأن تُطلق فكرها في كلّ شيء، وفي الوقت نفسه، لم يرد أن نفكِّر بناءً على انفعالٍ أو عصبيّة، أو أن نخضع للمجاملات أو للأمر الواقع والاستجابة لمتطلّباته.

دعا إلى تلاقح الأفكار والحوار بين أصحابها، وإلى تواصل الحضارات لا إلى صراعها، وإلى بناء الجسور بين الطّوائف والمذاهب.

وقد انطلق في مسيرته وجهاده، لا يخاف في الله لومة لائم، وقد رفع شعاره على الدّوام: "لا يؤنِسنّك إلاّ الحقّ، ولا يوحشنَّك إلاّ الباطل"، "الذّليلُ عندي عزيزٌ حتَّى آخُذَ الحقّ له، والقويُّ عندي ضعيفٌ حتَّى آخُذَ الحقّ منه". وقد كلَّفه ذلك، وهو يواجه الاستكبار الصَّغير والكبير، محاولات اغتيالٍ وتهديدات، ولكنَّه بقي بعين الله وحفظه، لم يهنْ ولم يضعف، وكان يؤمن باستمرار أنَّ الرّساليّين هم الأعلون..

هذا هو السيِّد.. ولن أجد الكلمات الّتي تفيه حقَّه، والعبارات الّتي تصوِّر عمق شخصيَّته.. تتساقط كلّ الكلمات، وتضعف كلّ العبارات أمام قامته العلميَّة والفكريَّة والإنسانيَّة.. وهو الّذي لم يكن همّه مديحاً ولا ثناءً، كان همّه ونداؤه فينا: الله الله في الإسلام، أبقوه حيّاً.. الله الله في الوحدة الإسلاميَّة، الله الله في حفظ كلِّ مواقعكم، لا تتفرَّقوا ولا تتنازعوا حتَّى لو اختلفت مذاهبكم وأفكاركم وتوجّهاتكم ومواقعكم، لأنَّكم إذا تنازعتم ستفشلون وتذهب ريحكم..

لقد رحل(رض) وترك لنا تراثاً ممتلئاً بالحيويّة والحركيّة والرّساليّة، وسيتابع الفقهاء دراسة فكره الاجتهاديّ، كما أنّ العلماء والمثقّفين ورجال الفكر الّذين واكبوا سماحته في حياته، سيتابعون مسؤوليّة مسيرة الوعي الفكريّ والثّقافيّ الّتي أطلقها وسار في مقدّمها، ليشكّلوا مرجعيّةً فكريّةً أصيلةً وثقافيّةً واعيةً منفتحة...

سيبقى حضوره قويّاً فينا، لأنَّ امتداد حياته بعد وفاته هو من امتداد الرّسالة الّتي عمل من أجلها طوال حياته الشّريفة..

أيّها الأحبّة،كلّ الشّكر لكم، أنتم أيّها الأوفياء الأعزّاء... أنتم في قلب السيّد ووجدانه.. وهو في قلوبكم ووجدانكم، والمسيرة الّتي خطّ معالمها ورسم آفاقها، ستبقى بعون الله وبكم، مسيرةً لن تنطفئ جذوتها...

شكراً لحضوركم جميعاً أيّها الأوفياء، من كلّ البلدان والمواقع...

مجلس عزاء:

وفي الختام، ألقى الخطيب الشَّيخ فيصل الكاظمي مجلس عزاءٍ حسينيّاً، فتناول بدايةً شخصيَّة المرجع فضل الله وامتداد مرجعيّته بشكلٍ لم يسبق له مثيل في المرجعيَّات الّتي انطلقت من جبل عامل، الَّذي لعب على امتداد التَّاريخ الإسلاميّ دوراً رياديّاً على مستوى الفقه والعلم، كما تطرَّق إلى جوانب من شخصيَّة السيِّد(رض) الّذي حمل همّ الإسلام في ما يواجهه من تحدّيات معاصرة، كما عاش همّ المغتربات، وكان يحضر إلى حجّ بيت الله الحرام ليلتقي بالنّاس ويثقّفهم بثقافة الإسلام، حيث يغترف الحجيج من علمه وتقواه، ويحوِّل موسم الحجّ إلى حراكٍ إسلاميّ وفكريّ، فيخطب بالمؤمنين ويجيب عن أسئلتهم، ويملأ الواقع حوله علماً وجهاداً ووعياً..

بحضورٍ شعبيٍّ وعلمائيٍّ حاشدٍ:
حفل تأبينٍ عن روح المرجع السيّد فضل الله(رض) في مكّة المكرّمة

صور الحفل التأبيني

أقامت بعثة مؤسّسة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) للحجّ، حفلاً تأبينيّاً ومجلس فاتحة عن روح المرجع الرّاحل، في مقرّ البعثة في مكّة المكرّمة، بمشاركةٍ واسعةٍ من جموع الحجيج، إضافةً إلى مشاركةٍ من بعثات حجٍّ رسميّةٍ وعلمائيّة، وحشدٍ من علماء الدّين.

وقد حضر الحفلَ وفدٌ كبيرٌ من بعثة الحجّ العراقيَّة الرّسميَّة، برئاسة السيِّد علي الميّالي، وحضور الشَّيخ عامر الكفيشي، والشّيخ خالد الملا، ومجموعةٍ من العلماء، كما حضر ممثّل بعثة قائد الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، آية الله السيّد علي الخامنئي، الشّيخ محمد أختري، والسّفير الإيرانيّ السّابق في سوريا، حسين شيخ الإسلام، وسماحة آية الله الشّيخ محمد اليعقوبي على رأس وفدٍ علمائيٍّ كبير، ووفد بعثة سماحة آية الله السيّد كاظم الحائري، ووفد من مكتب الشّهيد محمّد الصّدر ضمّ عدداً من العلماء الأجلاء، إضافةً إلى عددٍ كبيرٍ من الشخصيّات العلمائيّة من دولٍ إسلاميّةٍ مختلفة.

كما حضر الحفل جموعٌ من الحجيج القادمين من بلدان العالم العربيّ والإسلاميّ وبلاد المهجر.

افتتح الحفل بآياتٍ بيّناتٍ من القرآن الكريم تلاها المقرئ الشّيخ علي الخليل.

الشّيخ علي حسن غلوم:

ألقى الشّيخ علي حسن غلوم من الكويت كلمةً تأبينيّةً تناول فيها جوانب من شخصيّة المرجع المقدّس(رض)، فقال:

قد يموت الشَّخص، لكن يستمرّ الخطّ والنَّهج، فهذا ما كرَّسه الأنبياء في حركتهم وفي استمراريَّة رسالتهم الإلهيَّة وامتدادها في الأجيال...

وقد كان مرجعنا الرَّاحل يؤكِّد استمرار الخطِّ الرّساليّ، دون أن يلتفت إلى الشّخص أو الذّات، لكنّ اسمه بات يتردَّد على كلّ الألسن،  وفي امتداد الآفاق، لأنّه حمل همّ الرّسالة حقّاً وذاب فيها.

وكان سماحته يؤكّد أنّ علينا أن نبحث دائماً عن الخطّ، لنتمسّك به ونسير عليه، دون أن نستغرق في ذات الشّخص أو البطل...

لقد عاش سماحة السيِّد همَّ الرِّسالة، كما عاش همَّها الأنبياء ـ والعلماء هم ورثة الأنبياء ـ وقد كان السيِّدُ الإنسانَ الّذي عاش بحقٍّ همَّ الرِّسالة بكلِّ وجوده، وكان يعتبر أنَّه في هذا الزَّمن المليء بالتحدّيات، لا يمكن للإنسان الرّساليّ أن يبحث عن الرَّاحة، وكان يشعر بأنَّ من مسؤوليّته أن يبقى بعطائه المتفجِّر بالخير في كلِّ صوره وتنوّعاته، لم يكن مرجعنا الرّاحل يفكّر في أن يقدّم ما يبزّ به أقرانه من العلماء، أو ليشار إليه بالبنان، أو ليتسنَّم منصب المرجعيَّة...لم يكن ذلك همَّه، بل كان همّه الأوَّل والأخير هو همّ النّاس الّذين يتعطّشون إلى من يوصل إليهم الرّسالة الإلهيَّة النّافعة.

كان  سماحته يؤمن وهو في عطائه المستمرّ، أنّه مهما امتدّ به العمر، فإنّ الزّمن المتاح له في هذه الدّنيا، لن يستطيع أن يستوعب كلّ طاقاته المتفجّرة، وكان يؤمن بأنّ المسؤوليّة الكبيرة الملقاة على عاتقه، لن يستطيع أن يقدِّمها خلال هذه السّنوات القليلة من عمره الشَّريف، ولذا كان يصل ليله بنهاره من أجل راحة الآخرين، فكلّ من عاشر هذا المرجع الّذي قلَّ نظيره، أدرك هذه الصّفة في شخصيَّته.

لقد كانت مرجعيَّة السيِّد فضل الله هي المرجعيَّة الَّتي تستحقُّ أن تمثِّل النّيابة عن الإمام المعصوم، بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من قيادة النَّاس ورعايتهم، وتغطية كلِّ الجوانب الّتي يحتاجون إليها، دون أن يقوقع نفسه في عنوانٍ هنا أو عنوانٍ هناك، وكان يقول: "أشعر بأنّي في الموقع الّذي يجعلني للنّاس جميعاً"، ومن خلال هذا، كان عطاؤه للنّاس جميعاً.

 نسأل الله له عظيم المقام، ولنا حسن الاتّباع، لنستمرّ في حمل هذه المسؤوليّة العظيمة، ولنستمرّ في هذا النّهج وهذا الخطّ الّذي هو امتدادٌ لخطّ الأنبياء، خطّ إبراهيم(ع) ومحمّد(ص)...

الشّيخ عبد الحليم الزّهيري:

ثم ألقى سماحة الشّيخ عبد الحليم الزّهيري من العراق كلمةً جاء فيها:

يعزّ عليّ أن أقف لأؤبّن السيّد بكلمةٍ، وهو الّذي علّمنا كيف تكون الكلمة..

الكلمة الَّتي انطلقت من شفتيه، وسطَّرتها أنامله منذ خمسين عاماً، كانت كلمةً تشعّ بالأضواء من " مجلّة الأضواء"، الّتي كان يكتب افتتاحيّتها تحت عنوان "كلمتنا"، والّتي شكّلت طليعة الوعي الإسلاميّ في العراق، فكانت كلمةً قويّةً مؤثّرة، لذلك أصبحت "كلمتنا" كلمة الأمّة الّتي تنطلق من الأقوياء الّذين لا يخافون في الله لومة لائم، هكذا كانت كلمة السيّد(رض) من أوّلها إلى آخرها، كلمةً واحدةً شاملةً للكون والحياة والإنسان، لقد أراد للكلمة أن تكون قويّةً، فألّف كتابه "الإسلام ومنطق القوّة"، لأنّه أراد أن يؤصِّل للإسلام كلمته المنطقيَّة العلميّة. ولا بدَّ للفكرة القويَّة من أن تنطلق من أسلوبٍ قويّ يتماثل ويتجانس معها، فلا بدَّ من أن يكون الأسلوب إسلاميّاً إلهيّاً قرآنيّاً، فكان "أسلوب الدّعوة في القرآن"، لأنّ الأسلوب جزء من الفكرة الّتي لا بدّ من أن تكون منسجمةً مع الخطّ...

وكانت قضيّة السيد فضل الله قضيّة الإسلام، لا قضيّة الذّات أو الشّخص، لذا كان كتابه "قضايانا على ضوء الإسلام"، وهي بداية تحقّق وعي الأمّة المعاصر، وكان يستوحي القضايا من تجربة الأنبياء، وواجه ما واجهه أبناء الدعوة الأوائل من "أساليب قديمة.. كحكايات أبي جهل اللئيمة"، وكان سماحته يرسم لنا القوّة حتى في شعره العذب، وكلماته الأدبيّة الشفّافة...

كان يرسم القوّة والثّورة، ولم تكن الكلمات عنده أحرفاً تنساب من شفتيه الطّاهرتين ومن أنامله الكريمة، إنما كانت أنشودةً يتغنّى بها ويحمل همّها، لذا حرّم على نفسه الرّاحة، وكان شعاره: "الرّاحة عليَّ حرام"...

كان السيّد(رض) في أسلوبه القرآنيّ، يؤكّد الدّفع بالّتي هي أحسن، وكان داعية حوار، ورفع شعار: "الحقيقة بنت الحوار"، وقد كان أباً للحركات الإسلاميّة جميعها، يهتمّ بأمورها، وخصوصاً في العراق... وقد كان سماحته أوّل من ألّف في الحوار، فكتب "الحوار في القرآن"، و"الحوار الإسلاميّ المسيحيّ"، كما نادى بوحدة المسلمين.

هكذا كان السيّد(رض) في منطلقاته الحواريّة، يخطو خطاه بوعيٍ، فكتب "خطوات على طريق الإسلام"، وهو الكتاب الّذي كان يتناقله شباب العراق وتتثقّف به طلائعه المؤمنة، وقد كانت كلّ خطوات سيّدنا الرّاحل على طريق الإسلام، منطلقاً "من وحي القرآن" الّذي شكّل موسوعته الفكريّة والفقهيّة والعمليّة، فقد كانت كلّ حياته إسلاماً، وكلّ عمره الشّريف من وحي القرآن.

 فسلام عليه في عليائه، وإنّنا إن شاء الله على دربه سائرون.

كلمة سماحة العلامة السيِّد علي فضل الله:

ثم ألقى سماحة السيِّد علي فضل الله كلمةً تأبينيَّةً جاء فيها:

يعزّ، والله، عليَّ أن أقف بينكم، في المكان الّذي أحبّ، في البلد الحرام، في موسم الحجّ الّذي حرص على أن يتواجد فيه، في هذا الأرض الطّاهرة الّتي كان يستذكر فيها انطلاقة الإسلام، بكلِّ فكره وحركته وآفاقه وانفتاحه على قضايا الإنسان والحياة... فيه كان يستهدي رسول الله(ص) داعياً ومحاوراً ومجاهداً صلباً قويّاً في ذات الله، لا تأخذه فيه لومة لائم...

وفيه كان يتحسَّس معاناة أهل البيت(ع)، وكلّ الرّساليّين والدّاعين إلى الله، الّذين بذلوا الدّماء والنّفوس، وقدّموا كلّ حياتهم من أجل أن يستمرّ الإسلام حياً نقيّاً صافياً حاضراً في كلّ مواقع الأجيال، وعلى امتداد حركة الرّسالات... 

وكم كان يستعيد في هذه الأرض آفاق جدّه الإمام الصَّادق(ع)، ومنطقه الحواريّ والإنسانيّ، حيث كان يحاور المختلفين، حتَّى الملاحدة والزّنادقة، حتّى قال أحدهم: ما وجدت شخصاً أكثر إنسانيّةً من جعفر بن محمد.

 في هذا المكان، كان يؤكّد أهميّة هذه الفريضة الّتي لا تقف عند حدود العبادة والذّوبان في الله، بل تمتدُّ شعوراً بالمسؤوليَّة تجاه كلِّ قضايا المسلمين، وتأكيداً لوحدتهم، وتنميةً لعناصر القوَّة الكثيرة الموجودة عندهم..

يعزّ عليَّ أن أقف على منبره، لأتحدَّث عمَّن ملأ حياتي وحياتكم وكلَّ الحياة من حوله حبّاً وعاطفةً وعلماً وحيويَّة، وتجدّداً دائماً، وانفتاحاً لا تعرف عنده الآمال حدوداً.

فهو رضوان الله عليه، أدرك بعمق بصيرته، وثاقب فكره، أنّ الحياة ساحته الّتي زرع فيها وجوده، ضارباً في أعماقها كما الجذور تضربُ في الأعماق، لينتج شجرها أُكُلاً طيّباً كلّ حينٍ بإذن ربّها... وهكذا كان نتاجه وفيراً في الفقه والفكر والأدب والجهاد، وكذلك في العمل المؤسّساتي، وفي رعاية الأيتام والمستضعفين، ومواجهة كلّ ظلمٍ وطغيانٍ وانحراف...

لم يرضَ أن يخوض غمارَ الحياة كما يخوضها طالبو الرّاحة، أو أن يهدأ حيث يهدأ النّاس أو يرتاح حيث يرتاحون، فضَّل أن يكون تيّاراً معاكساً قويّاً، عندما كان يرى التيّارات المتنوّعة لا تنطق بالحقيقة، بل تعاديها، وفضَّل أن يكون ماءُ تيّاره مما يمكث في الأرض وما ينفع النَّاس، لا زبداً رغواً جُفاءً لا يعكس شيئاً من الحقيقة..

كان يعرف أنّ ذلك سيُتعبه، وأنَّ السّير مع التيّار أكثر راحةً وربحاً، ولكنّه كان يؤمن بأنّ الإنسان ينبغي أن يكون هو نفسه، لا أن يكون ظلاً وصدى لإنسانٍ آخر..

ومن هنا، سعى لأنْ يقدّم للأمّة فكراً صافياً بعيداً عن الغلوّ والخرافة والتطرّف، وقف مع قضايا الأمّة في فلسطين والعراق، رفضاً للاحتلال والاستكبار، ووقف مع المقاومة في لبنان داعماً ومؤيّداً ومسدّداً، ودعا الأمّة إلى أن تفكّر، وأن تُطلق فكرها في كلّ شيء، وفي الوقت نفسه، لم يرد أن نفكِّر بناءً على انفعالٍ أو عصبيّة، أو أن نخضع للمجاملات أو للأمر الواقع والاستجابة لمتطلّباته.

دعا إلى تلاقح الأفكار والحوار بين أصحابها، وإلى تواصل الحضارات لا إلى صراعها، وإلى بناء الجسور بين الطّوائف والمذاهب.

وقد انطلق في مسيرته وجهاده، لا يخاف في الله لومة لائم، وقد رفع شعاره على الدّوام: "لا يؤنِسنّك إلاّ الحقّ، ولا يوحشنَّك إلاّ الباطل"، "الذّليلُ عندي عزيزٌ حتَّى آخُذَ الحقّ له، والقويُّ عندي ضعيفٌ حتَّى آخُذَ الحقّ منه". وقد كلَّفه ذلك، وهو يواجه الاستكبار الصَّغير والكبير، محاولات اغتيالٍ وتهديدات، ولكنَّه بقي بعين الله وحفظه، لم يهنْ ولم يضعف، وكان يؤمن باستمرار أنَّ الرّساليّين هم الأعلون..

هذا هو السيِّد.. ولن أجد الكلمات الّتي تفيه حقَّه، والعبارات الّتي تصوِّر عمق شخصيَّته.. تتساقط كلّ الكلمات، وتضعف كلّ العبارات أمام قامته العلميَّة والفكريَّة والإنسانيَّة.. وهو الّذي لم يكن همّه مديحاً ولا ثناءً، كان همّه ونداؤه فينا: الله الله في الإسلام، أبقوه حيّاً.. الله الله في الوحدة الإسلاميَّة، الله الله في حفظ كلِّ مواقعكم، لا تتفرَّقوا ولا تتنازعوا حتَّى لو اختلفت مذاهبكم وأفكاركم وتوجّهاتكم ومواقعكم، لأنَّكم إذا تنازعتم ستفشلون وتذهب ريحكم..

لقد رحل(رض) وترك لنا تراثاً ممتلئاً بالحيويّة والحركيّة والرّساليّة، وسيتابع الفقهاء دراسة فكره الاجتهاديّ، كما أنّ العلماء والمثقّفين ورجال الفكر الّذين واكبوا سماحته في حياته، سيتابعون مسؤوليّة مسيرة الوعي الفكريّ والثّقافيّ الّتي أطلقها وسار في مقدّمها، ليشكّلوا مرجعيّةً فكريّةً أصيلةً وثقافيّةً واعيةً منفتحة...

سيبقى حضوره قويّاً فينا، لأنَّ امتداد حياته بعد وفاته هو من امتداد الرّسالة الّتي عمل من أجلها طوال حياته الشّريفة..

أيّها الأحبّة،كلّ الشّكر لكم، أنتم أيّها الأوفياء الأعزّاء... أنتم في قلب السيّد ووجدانه.. وهو في قلوبكم ووجدانكم، والمسيرة الّتي خطّ معالمها ورسم آفاقها، ستبقى بعون الله وبكم، مسيرةً لن تنطفئ جذوتها...

شكراً لحضوركم جميعاً أيّها الأوفياء، من كلّ البلدان والمواقع...

مجلس عزاء:

وفي الختام، ألقى الخطيب الشَّيخ فيصل الكاظمي مجلس عزاءٍ حسينيّاً، فتناول بدايةً شخصيَّة المرجع فضل الله وامتداد مرجعيّته بشكلٍ لم يسبق له مثيل في المرجعيَّات الّتي انطلقت من جبل عامل، الَّذي لعب على امتداد التَّاريخ الإسلاميّ دوراً رياديّاً على مستوى الفقه والعلم، كما تطرَّق إلى جوانب من شخصيَّة السيِّد(رض) الّذي حمل همّ الإسلام في ما يواجهه من تحدّيات معاصرة، كما عاش همّ المغتربات، وكان يحضر إلى حجّ بيت الله الحرام ليلتقي بالنّاس ويثقّفهم بثقافة الإسلام، حيث يغترف الحجيج من علمه وتقواه، ويحوِّل موسم الحجّ إلى حراكٍ إسلاميّ وفكريّ، فيخطب بالمؤمنين ويجيب عن أسئلتهم، ويملأ الواقع حوله علماً وجهاداً ووعياً..

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير