تقييم حركة ومواجهة خناجر في ظهر الإسلام

تقييم حركة ومواجهة خناجر في ظهر الإسلام
   

تعود ذكرى وفاة المرحوم السيد محمد حسين فضل الله وهي تطرق عامها الثاني عشر، ليس لكي نتذكّر إنساناً انتقل إلى رحمة الله تعالى، بل لنعيد تقييم ومراجعة تجربة إسلاميّة تحركت في خطّ التطبيق والتنفيذ الساعية إلى إنشاء دولة ومجتمع وفرد يعيش ويتنفَّس الإسلام المحمدي الأصيل، الرافض للظلم في كلّ مكان، والساعي إلى إقامة ما هو غير موجود وغائب عن الواقع العربي، وهي النهضة الحضاريَّة الصَّانعة للإبداع الفردي والمجتمعي في خطّ التنمية الحقيقيّة الاستقلاليّة عمَّن يريد أن يستمر في استعبادنا، من الحلف الطاغوتي الربوي العالمي الَّذين يريدون إلغاء شخصيَّتنا العربية الإسلامية لتحقيق ليبراليَّة جديدة منحطَّة ساقطة سرطانيَّة خبيثة تعيش بيننا لتدمِّر ما تبقَّى من العروبة والإسلام، وهي "ثنائية القيم" الَّتي تخلق لنا شخصيَّتنا، والتي يراد لها الإلغاء والاستبدال بما هو غريب ومنحرف وشاذّ. يقول الكسندر دوغين: "الغرب ليسَ مُجرَّد هيكلٍ سياسي عَسكري وَاقتِصادي، إِنَّه حضارة تمتَلِكُ شفرةَ بَرنامجٍ أَساسي وَتَأصيلي، كُلُّ شيءٍ آخر يَكون مُشتَقًّا مِن هذهِ الشّفرة؛ الأَسلِحَة وَالاقتِصاد وَالسِّياسات وَالثَّقَافَة وَالتَّعلِيم والعِلم والإِعلام، وإلى آخرهِ."

"إِنَّ الدولةَ الحضاريَّة قد تتفاعلُ معَ العالم الخارجي، لكنَّها لا تصبحُ معتمداً عليها، ودائمًا تُحافِظُ على كفاءتِها الذاتيَّة وحُكمِها الذاتيِّ واكتفائها الذاتيِّ، هِيَ شيءٌ أكثرُ من كونهِ دولةً من النَّاحيتين المكانيَّة والزمنية (التاريخية)."

"إنَّ النموذجَ المسيطرَ والمُتَسَيَّدَ في الغَربِ هو الليبراليَّة التي تُنكِر أيَّ سِيادةٍ وحكمًا ذاتيًّا، تَدفعُ لإلغاءِ الحضاراتِ والأديان والإثنيات والثَّقافات، وتستبدلهم بأيديولوجيةٍ ليبراليّةٍ، وتفرِض مفهوم "حقوق الإنسانِ" والفردانية (التي تأخذُ السياسات الجندرية والعابرة للجنسانيَّة إلى أقصى حَدٍّ تَطرّفًا)، والمادوية والتطوّر التِّقني أكثر قيمة ارتفاعاً (الذكاء الاصطناعي)، إِنَّ هَدفَ الليبراليّة يَتَمَثَلُّ في إلغاءِ وإنهاءِ الدول القوميَّةِ، وإرساءِ حكومةٍ عالميَّةٍ مبنيَّةٍ على الأعراقٍ والقواعدِ الغربيَّةِ."

"على الصَّعيدِ الجيوسياسي والجيو - استراتيجي، تَتَجلَّى العنصرية الغربيّة ممثَّلة بواسطة نموذج أُحادي قطبي، وإنَّ سيطرة (أمريكا – النَّاتو) على الإنسانيَّة تكون على أساس هيمنة طيفيَّة كاملة (عسكرياً – اقتصادياً – دبلوماسياً – معلوماتياً – ثقافياً)، وإِنَّ كلَّ شخص ودولة يستطيع أن يتَّفق مع ادّعاء الغرب حول أَنَّه يُمثِّل الكونيَّة (وهذا يعني الأُحادِيَّةَ القطبيَّة)، وقد لا يتَّفق معه ويرفضه، وإِنَّ الخيار ما بين التعدّدية أو الأحاديّة القطبيّة متاحٌ بعطاءٍ، وَهو دومًا مفتوح".

"كلّ روسيّ وصينيّ ومسلمٍ وهندي وأفريقي أو أميركي لاتيني يستطيع أن يستشعر هيمنة الغرب، وقد يستطيع أن يحزم على قول "لا!" لها، مُقسِماً على الوقوف مع هويته الحضارية. فإذاً، كلّ شيء يتوقف على الموقف الذي نتّخذهُ، إنْ كنا سنقبل بكونية الغرب وهيمنته الاستراتيجية والاقتصادية، سنكون بالمحصلة عوامِلَ نفوذٍ للناتو، وإِنْ رفضنا، فهذا يعني بِأَنَّنا نشهد انفجار هيمنته العالمية، وهذا يجعلنا بالتالي في صراعٍ مع الغربِ والناتو، وكلُّ من يقول نعم للغرب".

"من المستحيل أن تتمّ محاربة أيديولوجيا معيَّنة دون أيديولوجيا، لأنَّ هذه الحالة تعني أن أحداً لن يستطيع أن يفهم أو يشرح لماذا يوجد هذا الصِّراع أساساً، وأنَّ الطريق الوحيد للخروج من هذا هو رفض الغرب وحضارته كشيء كوني، والعودة إلى جذورنا وتاريخنا، إلى نظرتنا الأساسية تجاه العالم، إلى تقاليدنا".

أهميّة مشروع فضل الله

وهنا أهمية مشروع السيِّد محمد حسين فضل الله كصاحب نظرية إسلامية قرآنية ثورية انقلابية حركية ساعية للنهضة العربية والإسلامية، لأنها "أيديولوجيا" أو عقيدة أو انتماء صانع للشخصية العربية الإسلامية في مقابل الآخر، كلّ الآخر. وهذه الأيديولوجيا الإسلامية الحركية القرآنية التطبيقية الواقعية التي قدَّمها المرحوم السيِّد فضل الله، هي كما ذكرنا، ساعية للتنمية الفردية والمجتمعية، تأسيساً على إقامة دولة إسلاميّة كمنتج نهائيّ لها، والقبول في دولة العدالة الاجتماعية كحالة انتقالية إليها.

السيِّد محمد حسين فضل الله صاحب نظرية إسلامية قرآنية ثورية انقلابية حركية ساعية للنهضة العربية والإسلامية

إذاً، هذه ليست تنمية "زائفة" من استهلاك وشراء، بل تنمية "حقيقيَّة" من استثمار وبناء وتفكير إبداعيّ في معرفة كيفيَّة صناعة الآلة وتطويرها، وليس شراءها وتوظيف الأجنبي الذي يشغلها ويصلحها.

إنّ العرب، كلّ العرب، يحتاجون إلى نهضة وإلى عودة كهذه إلى خطّ صناعة الحضارة، وأن يعودوا إلى القدرة على صناعة التاريخ، وليس أن يعيشوا على هامشه وحوافه، غارقين في استحمارهم الذاتيّ الداخليّ، وتحت سيطرة الاستعباد الخارجي للحلف الطاغوتي الربوي العالمي.

مراجعة في ذكرى رحيله

هي "ذكرى وفاة" تعود لكي نراجع ما حدث وما جرى لتلك الحركة الإسلاميّة، والتي كان المرحوم السيِّد محمد حسين فضل الله أحد أهمّ المنظِّرين لها، ولعلَّه كان السبَّاق لتقديم نظرية حركية تفصيلية، بعيداً من شعارات "إثارة عاطفيَّة" بدون تفاصيل معرفية تطبيقية تقدم الثقافة وخارطة الطريق للسؤال الشّهير ما العمل؟ وكيف نعمل؟ وبأيّ منهج نتحرك؟ وكيف نتعامل مع الآخر؟ فما هو الحوار؟ وكيف السَّبيل إليه؟ وكيف نفكّر في الآيات القرآنيّة وكيف نفهمها؟ وماذا علينا عمله لنكتشف نفاق من كانوا مخلصين أو تقييم انحراف المؤمنين؟ هو قدَّم نظرية للإسلام العابر للطوائف كمتخصّص في القرآن الكريم وفقيه ديني "علَّامة" و"مرجعيَّة" في مجاله، فالمسألة عند المرحوم السيِّد محمد حسين فضل الله لم تكن مشروع زعامة لشخص، أو محاولة صناعة "بيك" لبناني جديد، هي كانت محاولة الانطلاقة الإسلاميَّة في ظلّ واقع سقوط عربي كان ولا بزال مستمراً في الانحدار مع نجاح الصَّهاينة والحلف الطاغوتي الربوي العالمي في الاقتحام والتَّأثير والضرب والسَّيطرة، حيث انحرف من انحرف، وسقط في بئر الخيانة من سقط، وهناك من تحوَّل من قمَّة الثوريَّة إلى عفونة العمالة وخدمة الصهيونيَّة، مع شعار إسلامي أو خطاب طائفي، بعد أن كانوا يؤمنون بالإسلام الثوري، ولكن ما إن علَّق لهم الحلف الطاغوتي الربوي العالمي الجزرة، فما أسرع ما لحقوا الجزرة وتحركوا في ساقية الاستحمار والإسلام الأميركي، بعيداً من الإسلام المحمدي الأصيل، ونماذج ما حدث في العراق الجريح وتركيا والسودان ومصر شاهدة على ذلك.

أين الإسلام؟ وما حدث له؟ ليس له بوليس يحميه، ولا أجهزة أمن تردع من ينحرفون عنه، إنَّ الحامي الأكبر له هو ربّ العالمين، ومعجزته المستمرّة ليوم الدِّين "القرآن الكريم"، كشاهد وشهيد على أمّة أضاعت مشيتها في الاستحمار الداخلي الذّاتيّ، والسقوط في الاستعباد الخارجيّ وخدمة الحلف الطَّاغوتي الربويّ العالميّ.

تجربة فكريَّة رائدة

إنَّ المرحوم السيِّد محمد حسين فضل الله قال "لا"، واستمر فيها إلى يوم وفاته، وقدَّم تجربة فكرية حركية حاول أن يكون فيها منظِّراً ومفكِّراً في الإسلام المستند إلى القرآن الكريم كقاعدة للحياة، والساعي للحركة في خطّ التطبيق بعيداً من الأوهام و"ترف الكلمة" الَّتي لا تستطيع الحياة في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ومن هنا، كانت إحدى أهمّ كتاباته التي - للأسف الشديد - لم تأخذ حقَّها في التقييم والمتابعة والاهتمام والنَّشر والقراءة والدراسة، وهي كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل"، حيث قدَّم خارطة طريق حيويَّة جداً للتعامل مع النصّ القرآنيّ المقدَّس كآليّة فهم وطريقة تفكير وأسلوب حياة لمن يريد التدبّر والفهم والدراسة في القرآن الكريم المقدَّس، والذي هو كلام ربّ العالمين الخالق لنا، وهو كتاب الهداية للصراط المستقيم.

إنَّ كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل" هو الإصدار الغائب عن نقاشات الواقع الإسلامي العربي، بمعنى أنَّه لم يأخذ حقَّه إذا صحَّ التَّعبير، على العكس من "جبال الورق" من مشاريع قراءة التراث العربي، والتي انطلقت منذ الهزيمة العسكرية لمشروع النهضة العربية الَّذي قدَّمه المرحوم جمال عبدالناصر، وهي التجربة التي منذ أن سقطت لم تعد إلَّا مع صمود سوريا القومية البعثية اليسارية مع قيادة المرحوم حافظ الأسد، وهذا موضوع متشعّب له مواقع أخرى للنقاش والتحليل والمتابعة.

ولكن بالعودة إلى ما نريد أن نقوله ونركّز عليه: هو أنَّ جبال مشاريع قراءة التراث العربي لم تنفع العرب شيئاً إلَّا صناعة طلاسميات كتابيَّة لا يفهمها أحد، أو أنَّ جزءاً كبيراً منها كان يتحرك لإعادة تقديم كتابات المستشرقين الفرنسيّين والأوربيّين باللّغة العربيّة، أو في رفع القداسة عن النص القرآني، أو فرض التعامل مع سيِّدنا محمد رسول الله كحالة بشريّة تاريخيّة، ورفع صفة النبوَّة عنه، وهذه كلّها قراءات فكريّة منحرفة ساقطة في خطّ العمالة المدفوعة الثَّمن، أو في خط "السذاجة الفكرية" الَّتي تعتقد أنها إذا قدَّمت خطاباً جدليّاً غريب الأطوار، يضرب في قداسة الرسول والرسالة الإلهيَّة القرآنيَّة، فإنهم في ذلك سيحقّقون الشّهرة والاعتبار الاجتماعي، أو أنهم سيتمّ تصويرهم كـ "تنويريين" أو "حضاريين"، وغيرها من مصطلحات الفخامة الفارغة، أو أنّ الغرب سيرضى عنهم، وهو لن يرضى عنهم بأيّ حال من الأحوال.

إنَّ الحركة الإسلامية عندما تكبر، فإن مشاكلها ستكبر معها، وخصوصاً مع دخول مرتزقة من هنا ونصّابين من هناك ومستفيدين مالياً من هنالك، ناهيك بالعناصر الاستخباراتية التي يتم زرعها التي تؤدي دوراً تخريبياً وانحرافياً، وناهيك بالأسباب الذاتية عندما يتمّ فقدان كوادر مؤمنة بالشهادة وبقاء "ساقطين أخلاقياً" لا إيمان لديهم ولا ضمير ولا خطّ قرآنيّاً يلتزمون به، وهنا هو دور الضمير المجتمعي والعقلية الفردية الاجتماعية الناقدة، والتي تحلل الحركة من أيّ خلل أو انحراف أو سقوط في بئر الخيانة.

إنّ النقد والاستقلالية في التفكير والحركة في خطّ رضى الله هو العمود الفقريّ الّذي يجب أن يكون اللقاح الواقي للحركة الإسلاميّة وبقائها بعيداً من عبادة الشخصيات، فاعرف الحقّ تعرف أهله، كما قال الإمام عليّ بن أبي طالب، فمن كان مخلصاً مؤمناً، قد ينقلب في حركته التطبيقية بعيداً من الصراط المستقيم.

الحركة الإسلامية وآلية الدولة

في واقع الحركة الإسلاميَّة، هناك اتهام يتمّ إطلاقه ضدَّها يتعلَّق في عدم امتلاكها "آليّة دولة!"، وهو اتهام غير صحيح لمن يقرأ التاريخ، وكذلك لمن يعيش الحاضر، فهناك تجارب دينية تحركت على أرض الواقع؛ منها التجربة النبوية، وحركة الحكَّام من بعده، إلى سقوط الحركة الإسلامية في فخّ الحكم العائلي من ملوك وسلاطين وأمراء. ولكن علينا الإشارة إلى أنَّه أيضاً هذه الملكيات والإمبراطوريات العائلية المنحرفة، لم تستطيع إقامة دولها وتنظيماتها الأسريَّة إلَّا بالاستناد إلى كلام ديني، وأنهم انطلقوا كـ "منحرفين" و"ظلمة" و"فاسدين سلطويّين" مع وعاظ السلاطين أنفسهم، ولكن احتاجوا كلّهم إلى تنظير وثقافة دينية لكي يقدّموا التبرير والعذر لأنفسهم لتجاوز النصّ القرآني نفسه، وإلغاء التجربة النبويّة ذاتها من الواقع.

يقول ألكسندر دوغين: "إِنَّ تاريخ الإسلامِ قد شهد دولًا حضاريةً من أنواعٍ مختلفةٍ (الأمويّون والعباسيّون…)، إضافةً إلى الأجزاءِ الثلاث من إمبراطوريّة جنكيز خان الذين تحولوا إلى الإسلامِ (القبيلةُ الذهبيَّةُ والإيليخانيون وخانيَّةُ تشاجاتي)، إلى القوَّةِ الفارسيَّةِ لِلصَفَويّين، إلى الدولةِ المغوليَّةِ الهنديَّةِ، وانتهاءً بالإمبراطوريّة العثمانيّة، وَإِنَّ الحدودَ الَّتي قد رُسِمَت ذاتَ مرةٍ في نواحٍ عديدةِ لا زالت ذات صلة بواقعِ اليوم، ولكن، إِنَّ عمليَّةَ تَجميعهم في تركيبةٍ واحدةٍ تَتَطَلَّبُ وقتًا وجهدًا مُعتَبرينِ."

هذا عن التاريخ والحاضر الحالي، هناك تجربة النموذج الأساس المتمثل في الجمهورية الإسلامية المقامة على أرض إيران، وأيضاً النظام الإسلامي الذي تمَّ إقامته في السودان وسقط، مروراً بتجارب الإسلاميّين في مصر وتونس وتركيا، وهي نماذج ناقشناها في كتبنا المنشورة بالتحليل والنقاش والنقد بما هو إيجابي وسلبي، وهذا موضوع متشعب وفيه كلام ونقاش طويل.

إذاً، من واقع التجربة العملية الحركية، تمّ تحقيق الهدف العام من إقامة دولة إداريّة تنظيميّة، ولعلّ الإسلام يقدِّم الخطوط العامَّة، وهو المهمّ، والأهمّ عدم تناقض التفاصيل مع الخطوط العامَّة، وهذا الأمر فيه واقعيّة تطبيقيَّة إذا صحَّ التَّعبير، فكلّ شيء مباح ما دام لا يتعارض مع مبادئ الإسلام، وفي الواقع الإداري السياسي ينطلق الدين من إقامة القسط والعدالة:

- ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً﴾[النساء: 58].

- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرً﴾[النساء: 135].

- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[المائدة: 8].

- ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[المائدة: 41، 42].

- ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[الأنعام: 152].

- ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 29، 30].

- ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾[الأعراف: 181].

- ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[النحل: 76].

- ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل: 90].

- ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾[النحل: 126].

- ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾[ص: 21، 22].

- ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[ص: 26].

- ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[الشورى: 15].

- ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الحجرات: 9].

- ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾[الرَّحمن: 7 – 9].

- ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[الحديد: 25].

- ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8].

ومن الجانب الاقتصادي التجاري، ينطلق من تحريم الربا:

- {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 277 – 275].

يقول المفكّر محمد سلمان غانم بهذا الخصوص في كتاب "نحو نظرية قرآنية":

" إن الذين يستولون على القيمة الرابية من عمل الفقير الكادح، إنما يستغلون جزءاً من عمله عن طريق الإقراض لما بأيديهم من الأموال، للمعوز والمحروم المجرَّد من وسائل العمل والإنتاج، فالمقترض مضطرّ أن يكدّ ويكدح لكي يتمكَّن من ردّ الدَّين بالتمام والكمال، مع زيادة على أصل الدَّين دون وجه حقّ. وأكل هذه الزيادة يعني الأخذ. فكأنهم ينهشون لحمه ويمتصون دمه".

"لقد شدَّد الإسلام على تحريم الربا ودعا إلى إبطاله، وبلغ في التهديد والوعيد في أمره أكثر من أيّ أمر آخر من موبقات الحياة الدنيا، فهو شرّ ووبال في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للحرث والنَّسل. وقد كانت له آثار مدمِّرة في الجاهليَّة".

"وكذلك، فإن الإقراض بالربا يحول دون استثمار المال لخلق فرص عمل جديدة أو كافية، وبالتّالي، لا يحصل أيّ تطوّر أو تنمية اقتصادية أو اجتماعية، وهذا هو سرّ الركود والجمود، بل والتخلّف".

ومن الجانب الثقافي، ينطلق من الابتعاد عن اللغو والكلام البعيد من الأهداف.

• ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾[المؤمنون: ٣].

• ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾[القصص: ٥٥].

• ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾[البقرة: ٢٢٥].

• ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾[المائدة: ٨٩].

• ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّ﴾[مريم: ٦٢].

• ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامً﴾[الفرقان: ٧٢].

• ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾[فصِّلت: ٢٦].

• ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾[الطور: ٢٣].

• ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمً﴾[الواقعة: ٢٥].

• ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابً﴾[النَّبإ: ٣٥].

• ﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾[الغاشية: ١١].

إنَّ الحركة الإسلاميَّة ليست حالة إلهيّة، بل هي حالة بشرية، فيها سقوط وصعود، وتتأثر بقوانين الاجتماع ومسارات التاريخ، وتنجح وتفشل ضمن الشروط الموضوعية، وليست حالة سينمائية عاطفية فيها نهايات سعيدة دائماً وأبداً.

حالة بشريَّة

إن الحركة الإسلامية هي حالة بشرية إنسانية، وإن استندت إلى المقدَّس القرآني لمن يؤمن بهذا المقدَّس، وضمن هذه الحالة البشرية، هناك من يرفع الشعار الإسلامي، ولكن انطلاقته بعيدة عن هذا الشعار، ويستندون إلى قاعدة خاطئة معكوسة، فهناك أعداد كبيرة من الحركات الإسلاميَّة على مختلف مستويات العالم، تبدأ أفكارها من الموروث الاجتماعي، أو حتى مما هو أسوأ من أحلام وقصص وخرافات ومن حكايات قال فلان وعليتان، ومن ثم يبدأون بربط هذا الموروث والأحلام والقصص بما يتوافق معها من تراث تاريخي، والَّذي هو أيضاً يتضمَّن الصحيح والخاطئ أو المنحرف أو المدسوس أو المخلوط، ومن ثمَّ يتمّ البحث عن تفسير لكلّ هذا من آيات القران!

وهذه معادلة مغلوطة مقلوبة، حيث يتمّ وضع المقدَّس القرآني الإلهي تحت حاكميّة بشريّة روائية قصصية اجتماعية وراثية، والمفروض وما هو صحيح، أن تكون الحاكميَّة هي للقرآن الكريم؛ فالبداية والانطلاقة تبدأ منه نزولاً إلى الهدى النبويّ، أي حركة رسول الله التطبيقية الحركية لهذا المقدَّس في واقع المجتمع الجاهلي المكي أو مجتمع المدينة، وإيحاءاتها المرتبطة مع حاضرنا الحالي.

ذكرى السيِّد محمَّد حسين فضل الله تعود لتقول لنا لا تنسوا الإسلام، ولا ترموا القرآن الكريم، لا تجعلوه غريباً، بل كونوا له أصدقاء

إنَّ عمل وتفاعل نهج هذه الحركية الإسلامية المحمدية الأصيلة مع الواقع الاقتصادي الاجتماعي الثقافي حسب ما يريده القرآن الكريم وليس أيّ أمر آخر، فكتاب الله هو الحاكم والمرجعية والأساس والمنطلق، وهو الثابت المقدَّس المرجع، وهو من يجب أن يفرض نفسه.

إذاً، هناك انطلاقة معكوسة خاطئة يمارسها البعض من الإسلاميّين إذا صحَّ التَّعبير، وهذا الانحراف أثره وتأثيره عميق عند محاولة تطبيق ما يتمّ عدّه فكراً وثقافة إسلاميّة على الواقع، فهذا التطبيق سيكون صعباً ومتكلّساً وغير قابل للحركة، وستتحوَّل المسألة آنذاك إلى إحباط أو إلى "علمانية غير معلنة"، أو إلى تحوّل الحركة الإسلاميّة إلى الانغلاق و"التمحور على الذّات"، و"التوحّد" ضمن المجموعة الحزبيَّة، أي ضمن "جماعة مغلقة"، بعيداً من الحياة والتَّأثير فيها، مع فقدان الرابط بين الفكرة والحركة في خطّ التطبيق.

يقول المرحوم السيّد محمد حسين فضل الله بهذه المسألة:

"مشكلة الفقهاء بشكل عامّ، أنّهم لا يملكون الثقافة القرآنيَّة، ومن كان يملك هذه الثقافة، فإنّه يملكها في دائرة ضيّقة، هي دائرة بيئته الثقافيَّة والاجتماعيَّة، ولذلك، لم يدخل القرآن في عالم الاجتهاد من الباب الواسع، بل اقتصروا على بعض آيات الأحكام الَّتي كانت منذ أكثر من ألف سنة، ولم يحاولوا أن يتعمَّقوا في القرآن لاكتشاف كثير من آيات الأحكام التي قد تؤكِّد المفاهيم والقواعد العامَّة، وخصوصاً عالم المقاصد."

"نحن نعتقد أنَّ على المفسِّر أن يجعل القرآن إمامه، لا أن يكون هو إمام القرآن. علينا أن نأخذ عقيدتنا من القرآن، ولا نُخضِع القرآن لعقائدنا. فعندما يكون القرآن ظاهراً في شيء يوجد دليل عقلي قطعي على خلافه، فهنا لا نأخذ بهذا الظّاهر، كالآيات الظاهرة في الجبر والتجسيم، وغير ذلك. وكما نعتقد بالتَّوحيد، فإنَّنا كذلك نعتقد بالنبوَّة، ولكن من أين نأخذ مفاهيمنا عن التوحيد والنبوَّة؟ لا بدَّ أن نأخذها من القرآن. النبيّ عنده نقاط ضعف، أوليس عنده؟ هذا يجب أن يؤخذ من القرآن، فإذا ورد في القرآن ما ظاهره ذلك، لا بدّ من الالتزام به، إذا لم يكن منافياً للعصمة؛ لأنَّ الدليل العقلي القطعي دلّ على العصمة، ولم يدلّ على عدم وجود نقاط ضعف، وأنا أذكر هذا كمثالٍ، ولا أريد أن أثبت أو أنفي.

إننا، وللأسف، نُخضِع القرآن لمفاهيمنا في كثير من الأحيان، وكذلك نخضعه لحديثٍ هنا وروايةٍ هناك. أنا عندي تحفُّظ حول البحث الأصولي القائل إنَّ القرآن يمكن أنّ يخصَّص بخبر الواحد، لأنَّ القرآن أطلق للناس جميعاً، فلا بدَّ أن يكون مخصَّص القرآن أطلق للناس جميعاً، وإلا فالقرآن موجود يدلّ على العموم، وتأتي رواية تهمس في أذن رجل من البادية، أنَّ المراد من القرآن هو كذا، من دون أن تُبيَّن وتُقال للنَّاس، لا يمكن أن يكون هذا تخصيصاً."

لا تنسوا الإسلام

ذكرى السيِّد محمد حسين فضل الله تعود لتقول لنا "لا" تنسوا الإسلام، و"لا" ترموا القرآن الكريم، "لا" تجعلوه غريباً، بل كونوا له أصدقاء، فادرسوه وتدبّروه، وعيشوا آياته في واقعكم الفردي والمجتمعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، وإنّ عليكم أن تفهموا القرآن حركياً وتطبيقياً ضمن نظام معرفي يريد الحياة وصناعة النهضة للفرد والسعادة للمجتمع، وأن يتم تأسيس نظام اقتصادي إسلامي ضدّ الربا والفائدة، ليعيد "تأسيس مجتمع جديد"، بعيداً من سيطرة الحلف الطاغوتي الربوي العالمي الذي يريد اقتحام واقعنا العربي والإسلامي مع ليبراليته الجديدة، وهنا علينا أداء التكليف الشرعي، والعمل على دراسة القرآن الكريم حركياً، ونبدأ مع آياته المقدَّسة كأساس فوقيّ نبدأ به العمل.

من ناحيتنا، نحن سنستمرّ في أداء التكليف الشّرعي وقول "لا"، وإن تراجع من تراجع، وإن انسحب من انسحب، وإن انحرف من انحرف، فالمرجعية القرآنية هي الحكم والحاكميَّة لها، ويوم القيامة هو موقع الحساب، والبعث بعد الموت هو الحقّ والحقيقة الّتي ستظهر معها كلّ الأسرار، ولن ينفع أحداً سلطة من هنا أو بوليس سرّيّ من هناك أو تعليق مشانق من هنالك.

رحم الله السيِّد محمد حسين فضل الله الإنسان والفقيه، وعلى الدرب سائرون، وملتزمون بالإسلام كقاعدة للحياة ضدّ الطاغوت، وأن نقول "لا"، ونسأل الله العفو والعافية، وأن يقبلنا في رحمته الواسعة، حين لا ينفع أيّ أحد منا إلّا عمل الصالحات، والسير على الصراط المستقيم.

* المقال منشور على الانترنت، بتاريخ: 20 – 6 – 2022م.

   

تعود ذكرى وفاة المرحوم السيد محمد حسين فضل الله وهي تطرق عامها الثاني عشر، ليس لكي نتذكّر إنساناً انتقل إلى رحمة الله تعالى، بل لنعيد تقييم ومراجعة تجربة إسلاميّة تحركت في خطّ التطبيق والتنفيذ الساعية إلى إنشاء دولة ومجتمع وفرد يعيش ويتنفَّس الإسلام المحمدي الأصيل، الرافض للظلم في كلّ مكان، والساعي إلى إقامة ما هو غير موجود وغائب عن الواقع العربي، وهي النهضة الحضاريَّة الصَّانعة للإبداع الفردي والمجتمعي في خطّ التنمية الحقيقيّة الاستقلاليّة عمَّن يريد أن يستمر في استعبادنا، من الحلف الطاغوتي الربوي العالمي الَّذين يريدون إلغاء شخصيَّتنا العربية الإسلامية لتحقيق ليبراليَّة جديدة منحطَّة ساقطة سرطانيَّة خبيثة تعيش بيننا لتدمِّر ما تبقَّى من العروبة والإسلام، وهي "ثنائية القيم" الَّتي تخلق لنا شخصيَّتنا، والتي يراد لها الإلغاء والاستبدال بما هو غريب ومنحرف وشاذّ. يقول الكسندر دوغين: "الغرب ليسَ مُجرَّد هيكلٍ سياسي عَسكري وَاقتِصادي، إِنَّه حضارة تمتَلِكُ شفرةَ بَرنامجٍ أَساسي وَتَأصيلي، كُلُّ شيءٍ آخر يَكون مُشتَقًّا مِن هذهِ الشّفرة؛ الأَسلِحَة وَالاقتِصاد وَالسِّياسات وَالثَّقَافَة وَالتَّعلِيم والعِلم والإِعلام، وإلى آخرهِ."

"إِنَّ الدولةَ الحضاريَّة قد تتفاعلُ معَ العالم الخارجي، لكنَّها لا تصبحُ معتمداً عليها، ودائمًا تُحافِظُ على كفاءتِها الذاتيَّة وحُكمِها الذاتيِّ واكتفائها الذاتيِّ، هِيَ شيءٌ أكثرُ من كونهِ دولةً من النَّاحيتين المكانيَّة والزمنية (التاريخية)."

"إنَّ النموذجَ المسيطرَ والمُتَسَيَّدَ في الغَربِ هو الليبراليَّة التي تُنكِر أيَّ سِيادةٍ وحكمًا ذاتيًّا، تَدفعُ لإلغاءِ الحضاراتِ والأديان والإثنيات والثَّقافات، وتستبدلهم بأيديولوجيةٍ ليبراليّةٍ، وتفرِض مفهوم "حقوق الإنسانِ" والفردانية (التي تأخذُ السياسات الجندرية والعابرة للجنسانيَّة إلى أقصى حَدٍّ تَطرّفًا)، والمادوية والتطوّر التِّقني أكثر قيمة ارتفاعاً (الذكاء الاصطناعي)، إِنَّ هَدفَ الليبراليّة يَتَمَثَلُّ في إلغاءِ وإنهاءِ الدول القوميَّةِ، وإرساءِ حكومةٍ عالميَّةٍ مبنيَّةٍ على الأعراقٍ والقواعدِ الغربيَّةِ."

"على الصَّعيدِ الجيوسياسي والجيو - استراتيجي، تَتَجلَّى العنصرية الغربيّة ممثَّلة بواسطة نموذج أُحادي قطبي، وإنَّ سيطرة (أمريكا – النَّاتو) على الإنسانيَّة تكون على أساس هيمنة طيفيَّة كاملة (عسكرياً – اقتصادياً – دبلوماسياً – معلوماتياً – ثقافياً)، وإِنَّ كلَّ شخص ودولة يستطيع أن يتَّفق مع ادّعاء الغرب حول أَنَّه يُمثِّل الكونيَّة (وهذا يعني الأُحادِيَّةَ القطبيَّة)، وقد لا يتَّفق معه ويرفضه، وإِنَّ الخيار ما بين التعدّدية أو الأحاديّة القطبيّة متاحٌ بعطاءٍ، وَهو دومًا مفتوح".

"كلّ روسيّ وصينيّ ومسلمٍ وهندي وأفريقي أو أميركي لاتيني يستطيع أن يستشعر هيمنة الغرب، وقد يستطيع أن يحزم على قول "لا!" لها، مُقسِماً على الوقوف مع هويته الحضارية. فإذاً، كلّ شيء يتوقف على الموقف الذي نتّخذهُ، إنْ كنا سنقبل بكونية الغرب وهيمنته الاستراتيجية والاقتصادية، سنكون بالمحصلة عوامِلَ نفوذٍ للناتو، وإِنْ رفضنا، فهذا يعني بِأَنَّنا نشهد انفجار هيمنته العالمية، وهذا يجعلنا بالتالي في صراعٍ مع الغربِ والناتو، وكلُّ من يقول نعم للغرب".

"من المستحيل أن تتمّ محاربة أيديولوجيا معيَّنة دون أيديولوجيا، لأنَّ هذه الحالة تعني أن أحداً لن يستطيع أن يفهم أو يشرح لماذا يوجد هذا الصِّراع أساساً، وأنَّ الطريق الوحيد للخروج من هذا هو رفض الغرب وحضارته كشيء كوني، والعودة إلى جذورنا وتاريخنا، إلى نظرتنا الأساسية تجاه العالم، إلى تقاليدنا".

أهميّة مشروع فضل الله

وهنا أهمية مشروع السيِّد محمد حسين فضل الله كصاحب نظرية إسلامية قرآنية ثورية انقلابية حركية ساعية للنهضة العربية والإسلامية، لأنها "أيديولوجيا" أو عقيدة أو انتماء صانع للشخصية العربية الإسلامية في مقابل الآخر، كلّ الآخر. وهذه الأيديولوجيا الإسلامية الحركية القرآنية التطبيقية الواقعية التي قدَّمها المرحوم السيِّد فضل الله، هي كما ذكرنا، ساعية للتنمية الفردية والمجتمعية، تأسيساً على إقامة دولة إسلاميّة كمنتج نهائيّ لها، والقبول في دولة العدالة الاجتماعية كحالة انتقالية إليها.

السيِّد محمد حسين فضل الله صاحب نظرية إسلامية قرآنية ثورية انقلابية حركية ساعية للنهضة العربية والإسلامية

إذاً، هذه ليست تنمية "زائفة" من استهلاك وشراء، بل تنمية "حقيقيَّة" من استثمار وبناء وتفكير إبداعيّ في معرفة كيفيَّة صناعة الآلة وتطويرها، وليس شراءها وتوظيف الأجنبي الذي يشغلها ويصلحها.

إنّ العرب، كلّ العرب، يحتاجون إلى نهضة وإلى عودة كهذه إلى خطّ صناعة الحضارة، وأن يعودوا إلى القدرة على صناعة التاريخ، وليس أن يعيشوا على هامشه وحوافه، غارقين في استحمارهم الذاتيّ الداخليّ، وتحت سيطرة الاستعباد الخارجي للحلف الطاغوتي الربوي العالمي.

مراجعة في ذكرى رحيله

هي "ذكرى وفاة" تعود لكي نراجع ما حدث وما جرى لتلك الحركة الإسلاميّة، والتي كان المرحوم السيِّد محمد حسين فضل الله أحد أهمّ المنظِّرين لها، ولعلَّه كان السبَّاق لتقديم نظرية حركية تفصيلية، بعيداً من شعارات "إثارة عاطفيَّة" بدون تفاصيل معرفية تطبيقية تقدم الثقافة وخارطة الطريق للسؤال الشّهير ما العمل؟ وكيف نعمل؟ وبأيّ منهج نتحرك؟ وكيف نتعامل مع الآخر؟ فما هو الحوار؟ وكيف السَّبيل إليه؟ وكيف نفكّر في الآيات القرآنيّة وكيف نفهمها؟ وماذا علينا عمله لنكتشف نفاق من كانوا مخلصين أو تقييم انحراف المؤمنين؟ هو قدَّم نظرية للإسلام العابر للطوائف كمتخصّص في القرآن الكريم وفقيه ديني "علَّامة" و"مرجعيَّة" في مجاله، فالمسألة عند المرحوم السيِّد محمد حسين فضل الله لم تكن مشروع زعامة لشخص، أو محاولة صناعة "بيك" لبناني جديد، هي كانت محاولة الانطلاقة الإسلاميَّة في ظلّ واقع سقوط عربي كان ولا بزال مستمراً في الانحدار مع نجاح الصَّهاينة والحلف الطاغوتي الربوي العالمي في الاقتحام والتَّأثير والضرب والسَّيطرة، حيث انحرف من انحرف، وسقط في بئر الخيانة من سقط، وهناك من تحوَّل من قمَّة الثوريَّة إلى عفونة العمالة وخدمة الصهيونيَّة، مع شعار إسلامي أو خطاب طائفي، بعد أن كانوا يؤمنون بالإسلام الثوري، ولكن ما إن علَّق لهم الحلف الطاغوتي الربوي العالمي الجزرة، فما أسرع ما لحقوا الجزرة وتحركوا في ساقية الاستحمار والإسلام الأميركي، بعيداً من الإسلام المحمدي الأصيل، ونماذج ما حدث في العراق الجريح وتركيا والسودان ومصر شاهدة على ذلك.

أين الإسلام؟ وما حدث له؟ ليس له بوليس يحميه، ولا أجهزة أمن تردع من ينحرفون عنه، إنَّ الحامي الأكبر له هو ربّ العالمين، ومعجزته المستمرّة ليوم الدِّين "القرآن الكريم"، كشاهد وشهيد على أمّة أضاعت مشيتها في الاستحمار الداخلي الذّاتيّ، والسقوط في الاستعباد الخارجيّ وخدمة الحلف الطَّاغوتي الربويّ العالميّ.

تجربة فكريَّة رائدة

إنَّ المرحوم السيِّد محمد حسين فضل الله قال "لا"، واستمر فيها إلى يوم وفاته، وقدَّم تجربة فكرية حركية حاول أن يكون فيها منظِّراً ومفكِّراً في الإسلام المستند إلى القرآن الكريم كقاعدة للحياة، والساعي للحركة في خطّ التطبيق بعيداً من الأوهام و"ترف الكلمة" الَّتي لا تستطيع الحياة في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ومن هنا، كانت إحدى أهمّ كتاباته التي - للأسف الشديد - لم تأخذ حقَّها في التقييم والمتابعة والاهتمام والنَّشر والقراءة والدراسة، وهي كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل"، حيث قدَّم خارطة طريق حيويَّة جداً للتعامل مع النصّ القرآنيّ المقدَّس كآليّة فهم وطريقة تفكير وأسلوب حياة لمن يريد التدبّر والفهم والدراسة في القرآن الكريم المقدَّس، والذي هو كلام ربّ العالمين الخالق لنا، وهو كتاب الهداية للصراط المستقيم.

إنَّ كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل" هو الإصدار الغائب عن نقاشات الواقع الإسلامي العربي، بمعنى أنَّه لم يأخذ حقَّه إذا صحَّ التَّعبير، على العكس من "جبال الورق" من مشاريع قراءة التراث العربي، والتي انطلقت منذ الهزيمة العسكرية لمشروع النهضة العربية الَّذي قدَّمه المرحوم جمال عبدالناصر، وهي التجربة التي منذ أن سقطت لم تعد إلَّا مع صمود سوريا القومية البعثية اليسارية مع قيادة المرحوم حافظ الأسد، وهذا موضوع متشعّب له مواقع أخرى للنقاش والتحليل والمتابعة.

ولكن بالعودة إلى ما نريد أن نقوله ونركّز عليه: هو أنَّ جبال مشاريع قراءة التراث العربي لم تنفع العرب شيئاً إلَّا صناعة طلاسميات كتابيَّة لا يفهمها أحد، أو أنَّ جزءاً كبيراً منها كان يتحرك لإعادة تقديم كتابات المستشرقين الفرنسيّين والأوربيّين باللّغة العربيّة، أو في رفع القداسة عن النص القرآني، أو فرض التعامل مع سيِّدنا محمد رسول الله كحالة بشريّة تاريخيّة، ورفع صفة النبوَّة عنه، وهذه كلّها قراءات فكريّة منحرفة ساقطة في خطّ العمالة المدفوعة الثَّمن، أو في خط "السذاجة الفكرية" الَّتي تعتقد أنها إذا قدَّمت خطاباً جدليّاً غريب الأطوار، يضرب في قداسة الرسول والرسالة الإلهيَّة القرآنيَّة، فإنهم في ذلك سيحقّقون الشّهرة والاعتبار الاجتماعي، أو أنهم سيتمّ تصويرهم كـ "تنويريين" أو "حضاريين"، وغيرها من مصطلحات الفخامة الفارغة، أو أنّ الغرب سيرضى عنهم، وهو لن يرضى عنهم بأيّ حال من الأحوال.

إنَّ الحركة الإسلامية عندما تكبر، فإن مشاكلها ستكبر معها، وخصوصاً مع دخول مرتزقة من هنا ونصّابين من هناك ومستفيدين مالياً من هنالك، ناهيك بالعناصر الاستخباراتية التي يتم زرعها التي تؤدي دوراً تخريبياً وانحرافياً، وناهيك بالأسباب الذاتية عندما يتمّ فقدان كوادر مؤمنة بالشهادة وبقاء "ساقطين أخلاقياً" لا إيمان لديهم ولا ضمير ولا خطّ قرآنيّاً يلتزمون به، وهنا هو دور الضمير المجتمعي والعقلية الفردية الاجتماعية الناقدة، والتي تحلل الحركة من أيّ خلل أو انحراف أو سقوط في بئر الخيانة.

إنّ النقد والاستقلالية في التفكير والحركة في خطّ رضى الله هو العمود الفقريّ الّذي يجب أن يكون اللقاح الواقي للحركة الإسلاميّة وبقائها بعيداً من عبادة الشخصيات، فاعرف الحقّ تعرف أهله، كما قال الإمام عليّ بن أبي طالب، فمن كان مخلصاً مؤمناً، قد ينقلب في حركته التطبيقية بعيداً من الصراط المستقيم.

الحركة الإسلامية وآلية الدولة

في واقع الحركة الإسلاميَّة، هناك اتهام يتمّ إطلاقه ضدَّها يتعلَّق في عدم امتلاكها "آليّة دولة!"، وهو اتهام غير صحيح لمن يقرأ التاريخ، وكذلك لمن يعيش الحاضر، فهناك تجارب دينية تحركت على أرض الواقع؛ منها التجربة النبوية، وحركة الحكَّام من بعده، إلى سقوط الحركة الإسلامية في فخّ الحكم العائلي من ملوك وسلاطين وأمراء. ولكن علينا الإشارة إلى أنَّه أيضاً هذه الملكيات والإمبراطوريات العائلية المنحرفة، لم تستطيع إقامة دولها وتنظيماتها الأسريَّة إلَّا بالاستناد إلى كلام ديني، وأنهم انطلقوا كـ "منحرفين" و"ظلمة" و"فاسدين سلطويّين" مع وعاظ السلاطين أنفسهم، ولكن احتاجوا كلّهم إلى تنظير وثقافة دينية لكي يقدّموا التبرير والعذر لأنفسهم لتجاوز النصّ القرآني نفسه، وإلغاء التجربة النبويّة ذاتها من الواقع.

يقول ألكسندر دوغين: "إِنَّ تاريخ الإسلامِ قد شهد دولًا حضاريةً من أنواعٍ مختلفةٍ (الأمويّون والعباسيّون…)، إضافةً إلى الأجزاءِ الثلاث من إمبراطوريّة جنكيز خان الذين تحولوا إلى الإسلامِ (القبيلةُ الذهبيَّةُ والإيليخانيون وخانيَّةُ تشاجاتي)، إلى القوَّةِ الفارسيَّةِ لِلصَفَويّين، إلى الدولةِ المغوليَّةِ الهنديَّةِ، وانتهاءً بالإمبراطوريّة العثمانيّة، وَإِنَّ الحدودَ الَّتي قد رُسِمَت ذاتَ مرةٍ في نواحٍ عديدةِ لا زالت ذات صلة بواقعِ اليوم، ولكن، إِنَّ عمليَّةَ تَجميعهم في تركيبةٍ واحدةٍ تَتَطَلَّبُ وقتًا وجهدًا مُعتَبرينِ."

هذا عن التاريخ والحاضر الحالي، هناك تجربة النموذج الأساس المتمثل في الجمهورية الإسلامية المقامة على أرض إيران، وأيضاً النظام الإسلامي الذي تمَّ إقامته في السودان وسقط، مروراً بتجارب الإسلاميّين في مصر وتونس وتركيا، وهي نماذج ناقشناها في كتبنا المنشورة بالتحليل والنقاش والنقد بما هو إيجابي وسلبي، وهذا موضوع متشعب وفيه كلام ونقاش طويل.

إذاً، من واقع التجربة العملية الحركية، تمّ تحقيق الهدف العام من إقامة دولة إداريّة تنظيميّة، ولعلّ الإسلام يقدِّم الخطوط العامَّة، وهو المهمّ، والأهمّ عدم تناقض التفاصيل مع الخطوط العامَّة، وهذا الأمر فيه واقعيّة تطبيقيَّة إذا صحَّ التَّعبير، فكلّ شيء مباح ما دام لا يتعارض مع مبادئ الإسلام، وفي الواقع الإداري السياسي ينطلق الدين من إقامة القسط والعدالة:

- ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً﴾[النساء: 58].

- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرً﴾[النساء: 135].

- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[المائدة: 8].

- ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[المائدة: 41، 42].

- ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[الأنعام: 152].

- ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 29، 30].

- ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾[الأعراف: 181].

- ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[النحل: 76].

- ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل: 90].

- ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾[النحل: 126].

- ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾[ص: 21، 22].

- ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[ص: 26].

- ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[الشورى: 15].

- ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الحجرات: 9].

- ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾[الرَّحمن: 7 – 9].

- ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[الحديد: 25].

- ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8].

ومن الجانب الاقتصادي التجاري، ينطلق من تحريم الربا:

- {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 277 – 275].

يقول المفكّر محمد سلمان غانم بهذا الخصوص في كتاب "نحو نظرية قرآنية":

" إن الذين يستولون على القيمة الرابية من عمل الفقير الكادح، إنما يستغلون جزءاً من عمله عن طريق الإقراض لما بأيديهم من الأموال، للمعوز والمحروم المجرَّد من وسائل العمل والإنتاج، فالمقترض مضطرّ أن يكدّ ويكدح لكي يتمكَّن من ردّ الدَّين بالتمام والكمال، مع زيادة على أصل الدَّين دون وجه حقّ. وأكل هذه الزيادة يعني الأخذ. فكأنهم ينهشون لحمه ويمتصون دمه".

"لقد شدَّد الإسلام على تحريم الربا ودعا إلى إبطاله، وبلغ في التهديد والوعيد في أمره أكثر من أيّ أمر آخر من موبقات الحياة الدنيا، فهو شرّ ووبال في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للحرث والنَّسل. وقد كانت له آثار مدمِّرة في الجاهليَّة".

"وكذلك، فإن الإقراض بالربا يحول دون استثمار المال لخلق فرص عمل جديدة أو كافية، وبالتّالي، لا يحصل أيّ تطوّر أو تنمية اقتصادية أو اجتماعية، وهذا هو سرّ الركود والجمود، بل والتخلّف".

ومن الجانب الثقافي، ينطلق من الابتعاد عن اللغو والكلام البعيد من الأهداف.

• ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾[المؤمنون: ٣].

• ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾[القصص: ٥٥].

• ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾[البقرة: ٢٢٥].

• ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾[المائدة: ٨٩].

• ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّ﴾[مريم: ٦٢].

• ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامً﴾[الفرقان: ٧٢].

• ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾[فصِّلت: ٢٦].

• ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾[الطور: ٢٣].

• ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمً﴾[الواقعة: ٢٥].

• ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابً﴾[النَّبإ: ٣٥].

• ﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾[الغاشية: ١١].

إنَّ الحركة الإسلاميَّة ليست حالة إلهيّة، بل هي حالة بشرية، فيها سقوط وصعود، وتتأثر بقوانين الاجتماع ومسارات التاريخ، وتنجح وتفشل ضمن الشروط الموضوعية، وليست حالة سينمائية عاطفية فيها نهايات سعيدة دائماً وأبداً.

حالة بشريَّة

إن الحركة الإسلامية هي حالة بشرية إنسانية، وإن استندت إلى المقدَّس القرآني لمن يؤمن بهذا المقدَّس، وضمن هذه الحالة البشرية، هناك من يرفع الشعار الإسلامي، ولكن انطلاقته بعيدة عن هذا الشعار، ويستندون إلى قاعدة خاطئة معكوسة، فهناك أعداد كبيرة من الحركات الإسلاميَّة على مختلف مستويات العالم، تبدأ أفكارها من الموروث الاجتماعي، أو حتى مما هو أسوأ من أحلام وقصص وخرافات ومن حكايات قال فلان وعليتان، ومن ثم يبدأون بربط هذا الموروث والأحلام والقصص بما يتوافق معها من تراث تاريخي، والَّذي هو أيضاً يتضمَّن الصحيح والخاطئ أو المنحرف أو المدسوس أو المخلوط، ومن ثمَّ يتمّ البحث عن تفسير لكلّ هذا من آيات القران!

وهذه معادلة مغلوطة مقلوبة، حيث يتمّ وضع المقدَّس القرآني الإلهي تحت حاكميّة بشريّة روائية قصصية اجتماعية وراثية، والمفروض وما هو صحيح، أن تكون الحاكميَّة هي للقرآن الكريم؛ فالبداية والانطلاقة تبدأ منه نزولاً إلى الهدى النبويّ، أي حركة رسول الله التطبيقية الحركية لهذا المقدَّس في واقع المجتمع الجاهلي المكي أو مجتمع المدينة، وإيحاءاتها المرتبطة مع حاضرنا الحالي.

ذكرى السيِّد محمَّد حسين فضل الله تعود لتقول لنا لا تنسوا الإسلام، ولا ترموا القرآن الكريم، لا تجعلوه غريباً، بل كونوا له أصدقاء

إنَّ عمل وتفاعل نهج هذه الحركية الإسلامية المحمدية الأصيلة مع الواقع الاقتصادي الاجتماعي الثقافي حسب ما يريده القرآن الكريم وليس أيّ أمر آخر، فكتاب الله هو الحاكم والمرجعية والأساس والمنطلق، وهو الثابت المقدَّس المرجع، وهو من يجب أن يفرض نفسه.

إذاً، هناك انطلاقة معكوسة خاطئة يمارسها البعض من الإسلاميّين إذا صحَّ التَّعبير، وهذا الانحراف أثره وتأثيره عميق عند محاولة تطبيق ما يتمّ عدّه فكراً وثقافة إسلاميّة على الواقع، فهذا التطبيق سيكون صعباً ومتكلّساً وغير قابل للحركة، وستتحوَّل المسألة آنذاك إلى إحباط أو إلى "علمانية غير معلنة"، أو إلى تحوّل الحركة الإسلاميّة إلى الانغلاق و"التمحور على الذّات"، و"التوحّد" ضمن المجموعة الحزبيَّة، أي ضمن "جماعة مغلقة"، بعيداً من الحياة والتَّأثير فيها، مع فقدان الرابط بين الفكرة والحركة في خطّ التطبيق.

يقول المرحوم السيّد محمد حسين فضل الله بهذه المسألة:

"مشكلة الفقهاء بشكل عامّ، أنّهم لا يملكون الثقافة القرآنيَّة، ومن كان يملك هذه الثقافة، فإنّه يملكها في دائرة ضيّقة، هي دائرة بيئته الثقافيَّة والاجتماعيَّة، ولذلك، لم يدخل القرآن في عالم الاجتهاد من الباب الواسع، بل اقتصروا على بعض آيات الأحكام الَّتي كانت منذ أكثر من ألف سنة، ولم يحاولوا أن يتعمَّقوا في القرآن لاكتشاف كثير من آيات الأحكام التي قد تؤكِّد المفاهيم والقواعد العامَّة، وخصوصاً عالم المقاصد."

"نحن نعتقد أنَّ على المفسِّر أن يجعل القرآن إمامه، لا أن يكون هو إمام القرآن. علينا أن نأخذ عقيدتنا من القرآن، ولا نُخضِع القرآن لعقائدنا. فعندما يكون القرآن ظاهراً في شيء يوجد دليل عقلي قطعي على خلافه، فهنا لا نأخذ بهذا الظّاهر، كالآيات الظاهرة في الجبر والتجسيم، وغير ذلك. وكما نعتقد بالتَّوحيد، فإنَّنا كذلك نعتقد بالنبوَّة، ولكن من أين نأخذ مفاهيمنا عن التوحيد والنبوَّة؟ لا بدَّ أن نأخذها من القرآن. النبيّ عنده نقاط ضعف، أوليس عنده؟ هذا يجب أن يؤخذ من القرآن، فإذا ورد في القرآن ما ظاهره ذلك، لا بدّ من الالتزام به، إذا لم يكن منافياً للعصمة؛ لأنَّ الدليل العقلي القطعي دلّ على العصمة، ولم يدلّ على عدم وجود نقاط ضعف، وأنا أذكر هذا كمثالٍ، ولا أريد أن أثبت أو أنفي.

إننا، وللأسف، نُخضِع القرآن لمفاهيمنا في كثير من الأحيان، وكذلك نخضعه لحديثٍ هنا وروايةٍ هناك. أنا عندي تحفُّظ حول البحث الأصولي القائل إنَّ القرآن يمكن أنّ يخصَّص بخبر الواحد، لأنَّ القرآن أطلق للناس جميعاً، فلا بدَّ أن يكون مخصَّص القرآن أطلق للناس جميعاً، وإلا فالقرآن موجود يدلّ على العموم، وتأتي رواية تهمس في أذن رجل من البادية، أنَّ المراد من القرآن هو كذا، من دون أن تُبيَّن وتُقال للنَّاس، لا يمكن أن يكون هذا تخصيصاً."

لا تنسوا الإسلام

ذكرى السيِّد محمد حسين فضل الله تعود لتقول لنا "لا" تنسوا الإسلام، و"لا" ترموا القرآن الكريم، "لا" تجعلوه غريباً، بل كونوا له أصدقاء، فادرسوه وتدبّروه، وعيشوا آياته في واقعكم الفردي والمجتمعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، وإنّ عليكم أن تفهموا القرآن حركياً وتطبيقياً ضمن نظام معرفي يريد الحياة وصناعة النهضة للفرد والسعادة للمجتمع، وأن يتم تأسيس نظام اقتصادي إسلامي ضدّ الربا والفائدة، ليعيد "تأسيس مجتمع جديد"، بعيداً من سيطرة الحلف الطاغوتي الربوي العالمي الذي يريد اقتحام واقعنا العربي والإسلامي مع ليبراليته الجديدة، وهنا علينا أداء التكليف الشرعي، والعمل على دراسة القرآن الكريم حركياً، ونبدأ مع آياته المقدَّسة كأساس فوقيّ نبدأ به العمل.

من ناحيتنا، نحن سنستمرّ في أداء التكليف الشّرعي وقول "لا"، وإن تراجع من تراجع، وإن انسحب من انسحب، وإن انحرف من انحرف، فالمرجعية القرآنية هي الحكم والحاكميَّة لها، ويوم القيامة هو موقع الحساب، والبعث بعد الموت هو الحقّ والحقيقة الّتي ستظهر معها كلّ الأسرار، ولن ينفع أحداً سلطة من هنا أو بوليس سرّيّ من هناك أو تعليق مشانق من هنالك.

رحم الله السيِّد محمد حسين فضل الله الإنسان والفقيه، وعلى الدرب سائرون، وملتزمون بالإسلام كقاعدة للحياة ضدّ الطاغوت، وأن نقول "لا"، ونسأل الله العفو والعافية، وأن يقبلنا في رحمته الواسعة، حين لا ينفع أيّ أحد منا إلّا عمل الصالحات، والسير على الصراط المستقيم.

* المقال منشور على الانترنت، بتاريخ: 20 – 6 – 2022م.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير