الفقيه والعالم في نظر الإمام الصادق(ع)

الفقيه والعالم في نظر الإمام الصادق(ع)

ونحن نريد من خلال التزامنا بخطِّ الإمامة، أن نعيش قضايانا ومفاهيمنا الإسلامية، في نطاق تعاليم الرسول(ص) وأهل البيت(ع)، لأنّهم "أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنـزيل"، فهم الذين عرفوا القرآن بكلِّ أسراره، وهم الذين انفتحوا على علم رسول الله(ص) بكلِّ مواقعهم.. ومن هنا، فإنَّ الإمام الصادق(ع) رسم المنهج الفكري والأخلاقي والاجتماعي والتربويّ للأمة من خلال الإسلام، ونطلُّ على هذا المنهج من خلال مواقفه وكلماته ومواعظه.

الفقيه في نظر الإمام الصادق(ع)

كيف كان(ع) يتمثّل الفقيه الذي يريد له أن يكون في الموقع القيادي في المجتمع، وهل الفقيه مجرّد إنسان يعيش في داخل فقهه ليستغرق فيه بعيداً عن حركية الرسالة في وعي الناس؟ وهل أنَّ الفقيه هو الإنسان الذي يحفظ ما يأتيه دون أن يحرّكه في دراسة ما في داخل الإنسان والمجتمع؟ لأنَّ القضية ليست هي أن تحفظ آيةً من هنا وآيةً من هناك، وحديثاً من هنا وحديثاً من هناك.. هنا يروي الإمام الصادق(ع) حديثاً عن أمير المؤمنين عليٍّ(ع) في هذا المجال، يقول: "ألا أخبركم بالفقيه حقّ الفقيه ـ الفقيه الذي يعيش حقَّ الفقه وحقّ رساليته وحركيته ـ مَن لم يقنط الناس من رحمة الله"(1)، الذي إذا أراد أن يحدّث الناس عن عذاب الله، فإنَّه لا يصوّر لهم المسألة كما لو كان الله تعالى يريد أن يرصد الإنسان ليكتشفه على معصية وليعاقبه عليها، كما يفعل بعض النّاس عندما يمارسون أسلوب الوعظ، فإنَّهم يصوّرون اللهَ لك في الصورة التي تشعر فيها أنَّ عليك أن لا تتحسّس شيئاً من رحمته، فإنَّه تعالى ينتظرك على معصية ليعذّبك بها فوراً.

"الفقيه مَنْ لم يُقنط الناسَ من رحمة الله ـ حدّثهم عن عذاب الله لتثير في نفوسهم شيئاً من الخوف الذي يجعلهم ينضبطون أمام الإحساس بالخطر، ولكن لا بدَّ لك من أن تتحدّث عن العذاب، لتتحدّث في الوقت نفسه عن المغفرة والرحمة، حتى يتوازن الأمر أ ولم يؤمنهم من عذاب الله ـ ليتحدّث إليهم عن أنَّ الله غفورٌ رحيم، ويوحي إليهم بألا يتعقّدوا من المعصية، ويشجّعهم على أخذ حريتهم في المعصية، وهذا ما يدفع البعض وعلى الطريقة الشعبيّة ـ لأن يقولوا: "ليوم الله يهوّن الله"، وهذا ما يجعلهم يستهينون بعذاب الله ـ ولم يرخّص لهم في معاصي الله ـ بحيث يهوّن عليهم المعاصي ويسهّلها لهم ـ ولم يترك القرآن رغبةً عنه إلى غيره".

الفقيه والكتاب

والفقيه هو الذي ينطلق فقهه من كتاب الله، بحيث يعتبر أنَّ كتابَ الله هو الأساس، لا كما يفعل بعض النّاس في أنَّهم يطرحون كتاب الله جانباً ليأخذوا بحديث هنا وحديث هناك.. نحن لا ننكر أنَّ علينا أن نقرأ أحاديث رسول الله(ص)، لأنَّ الله تعالى يقول: {ما آتاكُم الرَّسولُ فخُذُوه وَمَا نَهَاكُم عَنْهُ فانْتَهوا}[الحشر:7]. وأن نأخذ بالحديث الصحيح ونترك غير الصحيح، وكتاب الله هو الأساس الذي تتلمذ عليه الرسول(ص) والأئمة(ع) من بعده، وما زلنا نستوحي أنَّ كلام الله يجمع الإسلام كلَّه من خلال الخطوط العامة "ألا لا خيرَ في علم ليس فيه تفهّم ـ لا بدَّ لك من ألا يكون علمك مجرّد حفظ واستظهار، بل أن يكون وعياً وثقافة، بحيث يكون جزءاً من عقلك وشعورك وشخصيتك ـ ألا لا خير في قراءةٍ ليس فيها تدبّر"(2)، والقرآن يقول: {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها} [محمد:24]، "ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه"، ينبغي للإنسان أن يعبد ربَّه بوعي العبادة في كلِّ ما يتمثّله في العبادة مما يفعل ومما يقرأ.

التأكيد على ضرورة المعرفة

وهكذا نرى الإمام الصادق(ع) يؤكّد على المعرفة من خلال أن تكون الإنسان الذي يملك المعرفة التي تمنحك الوعي لحركتك، وعنه(ع) يقول: "لا يقبل الله عزَّ وجلَّ عملاً إلا بمعرفة"، فهل تريد أن يقبل الله صلاتك؟ ادرس ما هو وعيك لصلاتك، وما هو فهمك ومعرفتك لما تقرأ من سور، وما تذكر من أذكار، وما تفعل من ركوعٍ وسجود ووقوف بين يديّ الله؟ "لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة ـ لأنَّ مسألة العبادة كالصلاة ليست حركاتٍ رياضيّة، إنَّها حركة روحيّة. لذا، لا بدَّ أن تنطلق صلاتُك لتهدي روحك، ولتجعل إحساسك وشعورك في حالة صفاء ونقاء، ولتفتح أمامك كلّ مواقع الصراع، لتنهاك عن الفحشاء والمنكر.

وهكذا بالنسبة إلى الصوم، ألاّ يظمأ أو يجوع جسدك وحسب مما تحرمه من طعام وشراب، ولكن أن يظمأ جسدك ويجوع من أكل الحرام وشرب الحرام وشهوة الحرام.. إنّ عليك أن تحوِّل هذا الظمأ إلى ريٍّ للروح عندما تصوم عمّا أراده لك أن تصومه في العمر كلِّه، وهو الصوم الكبير، الصوم عن الحرام ـ ومَنْ لم يعمل فلا معرفة له ـ لأنَّ المعرفة هي التي تقود إلى العمل ـ إنَّ الإيمان بعضه من بعض.."(3)، فالإيمان الحقّ هو الذي يقوِّي فيه جانبُ الفكر جانبَ العمل، والذي يتحرّك فيه الفكر والعمل ليحددا لك الطريق والأهداف في الدنيا والآخرة..

أهميّة السؤال

كان الإمام الصادق(ع) يريد للناس أن يسألوا، فإذا كنت لا تعلم، عليك أن تسأل ولا تتجمّد عند جهلك، لأنَّ جهلك ليس عذراً لك أمام الله، ما دمت تستطيع أن تحوّل جهلك إلى علم، فالله تعالى يقول: {فاسألوا أهلَ الذّكرِ إنْ كُنتُمْ لا تعلمون} [النحل:43]، والحديث يقول: "إنَّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة أكنتَ عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلَّمت حتى تعمل"(4)، وذلك هو معنى {فللهِ الحجّةُ البالِغَةُ} [الأنعام:149]، فإذا كنت تستطيع أن تتعلّم ولم تتعلّم، فإنَّ جهلك لا يمثّل عذراً لك أمام الله، ولذلك، قال الإمام الصادق(ع) لحمران بن أعين، وهو أحد أصحابه: "إنّما يهلك الناس ـ ولندقّق في كلمة "إنَّما يهلك" ـ لأنّهم لا يسألون"(5). يهلكون لأنّهم جهلوا تكاليفهم وعقيدتهم، فانحرفوا من موقع جهلهم، وكانوا القادرين على أن يسألوا العلماء وأهل المعرفة، ولكنهم أحجموا عن ذلك ولم يتحسّسوا أهميّة الأمر، فارتطموا بالمعصية من حيث إنهم عاشوا الجهل وابتعدوا عن خطِّ الاستقامة، ولم يعرفوا الصراط المستقيم، ولم يميّزوا بينه وبين صراط المغضوب عليهم وصراط الضالّين، فتاهوا وضاعوا وهلكوا.

أهميّة الكتابة

وكان(ع) يريد للناس أن يكتبوا، كما كان يريد لأصحابه أن يكتبوا ما يسمعونه، فلربما عرض لهم النسيان، وضاع العلم بالنسبة إليهم وللآخرين، فإنَّما تكون الكتابة حفظاً للعلم، وذلك لمنفعة النفس والآخرين، وعن أحد أصحاب الإمام الصادق(ع) قال: قال أبو عبد الله الصادق(ع) : "اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فإنْ متَّ فأورث كتبك بنيك، فإنَّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم"، لأنَّهم قد لا يجدون مَن يعلّمهم، وقد تضيع عندهم الحقيقة وتختلف السُبُل أمامهم، فإذا كانت لهم كتبٌ تحدّد لهم خطوط الاستقامة وآفاق المعرفة فإنَّهم لا يضيعون.

وعن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله(ع): "احتفظوا بكتبكم، فإنَّكم سوف تحتاجون إليها"، وبهذا خطط(ع) لأن يكتب الناس ويؤلفوا ويدرسوا ويحقّقوا، لتمتدّ الثقافة من جيل إلى جيل، بحيث يشعر الإنسان أنَّه مسؤولٌ عن مستقبل الأجيال من بعده في ما يملكه من علم، كما هو مسؤولٌ عن مستقبل الأجيال التي تعيش معه في زمانه.. فكم من العلماء الذين أبدعوا في الفكر وارتفعوا في مستوى العلم، ضاع علمهم عندما دُفنوا في التراب، لأنَّهم لم يكتبوا شيئاً، ولأنَّ مَن سمعهم لم يكتب عنهم شيئاً، فكانت حياتهم ضياعاً على مستوى العلم.

العلم مسؤولية العالِم

من هنا نستوحي، أنَّه ينبغي لكلِّ عالم ومفكّر أن يتحمّل مسؤولية الأجيال التي تأتي من بعده، ليترك لها علمه لتستفيد منه، كما يهتمُّ بمستقبل الجيل الذي يعيش معه، وتلك هي مسؤولية العلم: "إذا ظهرت البِدع في أمتي فليظهرِ العالِمُ علمَه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله"(6).. هذا هو حديث رسول الله(ص)، ولذلك، فإنَّ علمك ليس ملكك، أو شيئاً يخصك وحدك، إنَّه يخصُّ الإسلامَ في مواجهة كلِّ التحديات التي تواجهه، إنَّه يخصُّ الناس الذين يطلبون الهدى، وقد لا يكون الهدى إلا عندك، لذلك، ليس من حقِّك أن تقبع في زاوية لتحجب عن الناس علمك، بل لا بدَّ لك أن تبذل العلم، تماماً كما تبذل المال، فإنَّ للعلم زكاته، كما للمال زكاته.. ومن هنا، ينبغي أن نفكّر بهذه الطريقة، وقد ورد في الحديث عن عليٍّ(ع) والصادق(ع): "ما أخذ الله على الجهّال أن يتعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا"(7). فلا يمكن للعالِم أن يكون حيادياً أمام الجهل، ولا يمكن أن يكون انعزالياً عن المجتمع إذا كان يعيش مسؤولية العلم.

التركيز على القرآن

ثم كان الإمام الصادق(ع) يركّز على القرآن، بأن نقرأه ونستوحيه ونتعلّم منه ونتدبره، ونستنبط منه مفاهيمنا وأحكامنا وخطوطنا ومناهجنا، فيقول لراوٍ من أصحابه اسمه (مرازم): "إنَّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلِّ شي‏ء، حتى والله ما ترك شيئاً يُحتاج إليه حتى بيّنه للناس، حتى لا يستطيع عبدٌ أن يقول لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه"(8). فالقرآن اشتمل على تبيان كلِّ شي‏ء في مستوى الخطوط والمفاهيم العامة وفي مستوى القواعد {أفلا يتدبرون القران} [محمد:24]. ينبغي ألا تقرأ القران قراءةً سطحيّة، كما عرضنا ذلك في الأبحاث السابقة، بل أن تقرأ القرآن قراءة تنفتح فيها على كلِّ حياتك، وعلى كلِّ ما يريده الله منك.

مخالطـة النـاس

كان(ع) يريد للناس أن يعيشوا داخل المجتمع وفيه ليتعلّموا منه، وقد رُوي عن أحد المعصومين أنَّ أحد أصحابه سأله: "جُعلت فداك، قال رجلٌ عرف هذا الأمر ـ يعني أصبح موالياً ومنتسباً إلى خطِّ أهل البيت ـ لزم بيته ولم يتعرّف إلى أحد من إخوانه، قال(ع) : كيف يتفقّه هذا في دينه"(9)، وهذا معناه أنَّ الإمام يريد للناس أن يندمجوا في المجتمع الذي يعطيهم علماً وفقهاً ووعياً، وكان يقول: "وددتُ أنَّ أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا". وعن عليّ بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) ، يقول: "تفقّهوا في الدين، فإنَّه مَنْ لم يتفقّه منكم فهو أعرابي"(10)، والأعرابي كنايةٌ عن الإنسان الذي لا يعرف الدين جيِّداً، بل يأخذه بشكل سطحيّ {قالَتِ الأعرابُ آمنَّا قلْ لم تُؤمِنوا ولكنْ قُولُوا أسلَمْنا وَلمَّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلوبِكُم} [الحجرات:14]، إنَّ الله تعالى يقول: {ليتفقّهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون} [التوبة:122].

المصادر:

(1)بحار الأنوار، ج:2، ص:48ـ49.

(2)بحار الأنوار، ج:2، ص:48.

(3)بحار الأنوار، ج:1، ص:206.

(4)بحار الأنوار، ج:1، ص:177.

(5)بحار الأنوار، ج:1، ص:198.

(6)الكافي، ج:1، ص:54.

(7)بحار الأنوار، ج:2، ص:78.

(8)بحار الأنوار، ج:89، ص:81.

(9)المصدر نفسه، ج:1، ص:520.

(10)بحار الأنوار، ج:1، ص:215.

ونحن نريد من خلال التزامنا بخطِّ الإمامة، أن نعيش قضايانا ومفاهيمنا الإسلامية، في نطاق تعاليم الرسول(ص) وأهل البيت(ع)، لأنّهم "أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنـزيل"، فهم الذين عرفوا القرآن بكلِّ أسراره، وهم الذين انفتحوا على علم رسول الله(ص) بكلِّ مواقعهم.. ومن هنا، فإنَّ الإمام الصادق(ع) رسم المنهج الفكري والأخلاقي والاجتماعي والتربويّ للأمة من خلال الإسلام، ونطلُّ على هذا المنهج من خلال مواقفه وكلماته ومواعظه.

الفقيه في نظر الإمام الصادق(ع)

كيف كان(ع) يتمثّل الفقيه الذي يريد له أن يكون في الموقع القيادي في المجتمع، وهل الفقيه مجرّد إنسان يعيش في داخل فقهه ليستغرق فيه بعيداً عن حركية الرسالة في وعي الناس؟ وهل أنَّ الفقيه هو الإنسان الذي يحفظ ما يأتيه دون أن يحرّكه في دراسة ما في داخل الإنسان والمجتمع؟ لأنَّ القضية ليست هي أن تحفظ آيةً من هنا وآيةً من هناك، وحديثاً من هنا وحديثاً من هناك.. هنا يروي الإمام الصادق(ع) حديثاً عن أمير المؤمنين عليٍّ(ع) في هذا المجال، يقول: "ألا أخبركم بالفقيه حقّ الفقيه ـ الفقيه الذي يعيش حقَّ الفقه وحقّ رساليته وحركيته ـ مَن لم يقنط الناس من رحمة الله"(1)، الذي إذا أراد أن يحدّث الناس عن عذاب الله، فإنَّه لا يصوّر لهم المسألة كما لو كان الله تعالى يريد أن يرصد الإنسان ليكتشفه على معصية وليعاقبه عليها، كما يفعل بعض النّاس عندما يمارسون أسلوب الوعظ، فإنَّهم يصوّرون اللهَ لك في الصورة التي تشعر فيها أنَّ عليك أن لا تتحسّس شيئاً من رحمته، فإنَّه تعالى ينتظرك على معصية ليعذّبك بها فوراً.

"الفقيه مَنْ لم يُقنط الناسَ من رحمة الله ـ حدّثهم عن عذاب الله لتثير في نفوسهم شيئاً من الخوف الذي يجعلهم ينضبطون أمام الإحساس بالخطر، ولكن لا بدَّ لك من أن تتحدّث عن العذاب، لتتحدّث في الوقت نفسه عن المغفرة والرحمة، حتى يتوازن الأمر أ ولم يؤمنهم من عذاب الله ـ ليتحدّث إليهم عن أنَّ الله غفورٌ رحيم، ويوحي إليهم بألا يتعقّدوا من المعصية، ويشجّعهم على أخذ حريتهم في المعصية، وهذا ما يدفع البعض وعلى الطريقة الشعبيّة ـ لأن يقولوا: "ليوم الله يهوّن الله"، وهذا ما يجعلهم يستهينون بعذاب الله ـ ولم يرخّص لهم في معاصي الله ـ بحيث يهوّن عليهم المعاصي ويسهّلها لهم ـ ولم يترك القرآن رغبةً عنه إلى غيره".

الفقيه والكتاب

والفقيه هو الذي ينطلق فقهه من كتاب الله، بحيث يعتبر أنَّ كتابَ الله هو الأساس، لا كما يفعل بعض النّاس في أنَّهم يطرحون كتاب الله جانباً ليأخذوا بحديث هنا وحديث هناك.. نحن لا ننكر أنَّ علينا أن نقرأ أحاديث رسول الله(ص)، لأنَّ الله تعالى يقول: {ما آتاكُم الرَّسولُ فخُذُوه وَمَا نَهَاكُم عَنْهُ فانْتَهوا}[الحشر:7]. وأن نأخذ بالحديث الصحيح ونترك غير الصحيح، وكتاب الله هو الأساس الذي تتلمذ عليه الرسول(ص) والأئمة(ع) من بعده، وما زلنا نستوحي أنَّ كلام الله يجمع الإسلام كلَّه من خلال الخطوط العامة "ألا لا خيرَ في علم ليس فيه تفهّم ـ لا بدَّ لك من ألا يكون علمك مجرّد حفظ واستظهار، بل أن يكون وعياً وثقافة، بحيث يكون جزءاً من عقلك وشعورك وشخصيتك ـ ألا لا خير في قراءةٍ ليس فيها تدبّر"(2)، والقرآن يقول: {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها} [محمد:24]، "ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه"، ينبغي للإنسان أن يعبد ربَّه بوعي العبادة في كلِّ ما يتمثّله في العبادة مما يفعل ومما يقرأ.

التأكيد على ضرورة المعرفة

وهكذا نرى الإمام الصادق(ع) يؤكّد على المعرفة من خلال أن تكون الإنسان الذي يملك المعرفة التي تمنحك الوعي لحركتك، وعنه(ع) يقول: "لا يقبل الله عزَّ وجلَّ عملاً إلا بمعرفة"، فهل تريد أن يقبل الله صلاتك؟ ادرس ما هو وعيك لصلاتك، وما هو فهمك ومعرفتك لما تقرأ من سور، وما تذكر من أذكار، وما تفعل من ركوعٍ وسجود ووقوف بين يديّ الله؟ "لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة ـ لأنَّ مسألة العبادة كالصلاة ليست حركاتٍ رياضيّة، إنَّها حركة روحيّة. لذا، لا بدَّ أن تنطلق صلاتُك لتهدي روحك، ولتجعل إحساسك وشعورك في حالة صفاء ونقاء، ولتفتح أمامك كلّ مواقع الصراع، لتنهاك عن الفحشاء والمنكر.

وهكذا بالنسبة إلى الصوم، ألاّ يظمأ أو يجوع جسدك وحسب مما تحرمه من طعام وشراب، ولكن أن يظمأ جسدك ويجوع من أكل الحرام وشرب الحرام وشهوة الحرام.. إنّ عليك أن تحوِّل هذا الظمأ إلى ريٍّ للروح عندما تصوم عمّا أراده لك أن تصومه في العمر كلِّه، وهو الصوم الكبير، الصوم عن الحرام ـ ومَنْ لم يعمل فلا معرفة له ـ لأنَّ المعرفة هي التي تقود إلى العمل ـ إنَّ الإيمان بعضه من بعض.."(3)، فالإيمان الحقّ هو الذي يقوِّي فيه جانبُ الفكر جانبَ العمل، والذي يتحرّك فيه الفكر والعمل ليحددا لك الطريق والأهداف في الدنيا والآخرة..

أهميّة السؤال

كان الإمام الصادق(ع) يريد للناس أن يسألوا، فإذا كنت لا تعلم، عليك أن تسأل ولا تتجمّد عند جهلك، لأنَّ جهلك ليس عذراً لك أمام الله، ما دمت تستطيع أن تحوّل جهلك إلى علم، فالله تعالى يقول: {فاسألوا أهلَ الذّكرِ إنْ كُنتُمْ لا تعلمون} [النحل:43]، والحديث يقول: "إنَّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة أكنتَ عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلَّمت حتى تعمل"(4)، وذلك هو معنى {فللهِ الحجّةُ البالِغَةُ} [الأنعام:149]، فإذا كنت تستطيع أن تتعلّم ولم تتعلّم، فإنَّ جهلك لا يمثّل عذراً لك أمام الله، ولذلك، قال الإمام الصادق(ع) لحمران بن أعين، وهو أحد أصحابه: "إنّما يهلك الناس ـ ولندقّق في كلمة "إنَّما يهلك" ـ لأنّهم لا يسألون"(5). يهلكون لأنّهم جهلوا تكاليفهم وعقيدتهم، فانحرفوا من موقع جهلهم، وكانوا القادرين على أن يسألوا العلماء وأهل المعرفة، ولكنهم أحجموا عن ذلك ولم يتحسّسوا أهميّة الأمر، فارتطموا بالمعصية من حيث إنهم عاشوا الجهل وابتعدوا عن خطِّ الاستقامة، ولم يعرفوا الصراط المستقيم، ولم يميّزوا بينه وبين صراط المغضوب عليهم وصراط الضالّين، فتاهوا وضاعوا وهلكوا.

أهميّة الكتابة

وكان(ع) يريد للناس أن يكتبوا، كما كان يريد لأصحابه أن يكتبوا ما يسمعونه، فلربما عرض لهم النسيان، وضاع العلم بالنسبة إليهم وللآخرين، فإنَّما تكون الكتابة حفظاً للعلم، وذلك لمنفعة النفس والآخرين، وعن أحد أصحاب الإمام الصادق(ع) قال: قال أبو عبد الله الصادق(ع) : "اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فإنْ متَّ فأورث كتبك بنيك، فإنَّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم"، لأنَّهم قد لا يجدون مَن يعلّمهم، وقد تضيع عندهم الحقيقة وتختلف السُبُل أمامهم، فإذا كانت لهم كتبٌ تحدّد لهم خطوط الاستقامة وآفاق المعرفة فإنَّهم لا يضيعون.

وعن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله(ع): "احتفظوا بكتبكم، فإنَّكم سوف تحتاجون إليها"، وبهذا خطط(ع) لأن يكتب الناس ويؤلفوا ويدرسوا ويحقّقوا، لتمتدّ الثقافة من جيل إلى جيل، بحيث يشعر الإنسان أنَّه مسؤولٌ عن مستقبل الأجيال من بعده في ما يملكه من علم، كما هو مسؤولٌ عن مستقبل الأجيال التي تعيش معه في زمانه.. فكم من العلماء الذين أبدعوا في الفكر وارتفعوا في مستوى العلم، ضاع علمهم عندما دُفنوا في التراب، لأنَّهم لم يكتبوا شيئاً، ولأنَّ مَن سمعهم لم يكتب عنهم شيئاً، فكانت حياتهم ضياعاً على مستوى العلم.

العلم مسؤولية العالِم

من هنا نستوحي، أنَّه ينبغي لكلِّ عالم ومفكّر أن يتحمّل مسؤولية الأجيال التي تأتي من بعده، ليترك لها علمه لتستفيد منه، كما يهتمُّ بمستقبل الجيل الذي يعيش معه، وتلك هي مسؤولية العلم: "إذا ظهرت البِدع في أمتي فليظهرِ العالِمُ علمَه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله"(6).. هذا هو حديث رسول الله(ص)، ولذلك، فإنَّ علمك ليس ملكك، أو شيئاً يخصك وحدك، إنَّه يخصُّ الإسلامَ في مواجهة كلِّ التحديات التي تواجهه، إنَّه يخصُّ الناس الذين يطلبون الهدى، وقد لا يكون الهدى إلا عندك، لذلك، ليس من حقِّك أن تقبع في زاوية لتحجب عن الناس علمك، بل لا بدَّ لك أن تبذل العلم، تماماً كما تبذل المال، فإنَّ للعلم زكاته، كما للمال زكاته.. ومن هنا، ينبغي أن نفكّر بهذه الطريقة، وقد ورد في الحديث عن عليٍّ(ع) والصادق(ع): "ما أخذ الله على الجهّال أن يتعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا"(7). فلا يمكن للعالِم أن يكون حيادياً أمام الجهل، ولا يمكن أن يكون انعزالياً عن المجتمع إذا كان يعيش مسؤولية العلم.

التركيز على القرآن

ثم كان الإمام الصادق(ع) يركّز على القرآن، بأن نقرأه ونستوحيه ونتعلّم منه ونتدبره، ونستنبط منه مفاهيمنا وأحكامنا وخطوطنا ومناهجنا، فيقول لراوٍ من أصحابه اسمه (مرازم): "إنَّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلِّ شي‏ء، حتى والله ما ترك شيئاً يُحتاج إليه حتى بيّنه للناس، حتى لا يستطيع عبدٌ أن يقول لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه"(8). فالقرآن اشتمل على تبيان كلِّ شي‏ء في مستوى الخطوط والمفاهيم العامة وفي مستوى القواعد {أفلا يتدبرون القران} [محمد:24]. ينبغي ألا تقرأ القران قراءةً سطحيّة، كما عرضنا ذلك في الأبحاث السابقة، بل أن تقرأ القرآن قراءة تنفتح فيها على كلِّ حياتك، وعلى كلِّ ما يريده الله منك.

مخالطـة النـاس

كان(ع) يريد للناس أن يعيشوا داخل المجتمع وفيه ليتعلّموا منه، وقد رُوي عن أحد المعصومين أنَّ أحد أصحابه سأله: "جُعلت فداك، قال رجلٌ عرف هذا الأمر ـ يعني أصبح موالياً ومنتسباً إلى خطِّ أهل البيت ـ لزم بيته ولم يتعرّف إلى أحد من إخوانه، قال(ع) : كيف يتفقّه هذا في دينه"(9)، وهذا معناه أنَّ الإمام يريد للناس أن يندمجوا في المجتمع الذي يعطيهم علماً وفقهاً ووعياً، وكان يقول: "وددتُ أنَّ أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا". وعن عليّ بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) ، يقول: "تفقّهوا في الدين، فإنَّه مَنْ لم يتفقّه منكم فهو أعرابي"(10)، والأعرابي كنايةٌ عن الإنسان الذي لا يعرف الدين جيِّداً، بل يأخذه بشكل سطحيّ {قالَتِ الأعرابُ آمنَّا قلْ لم تُؤمِنوا ولكنْ قُولُوا أسلَمْنا وَلمَّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلوبِكُم} [الحجرات:14]، إنَّ الله تعالى يقول: {ليتفقّهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون} [التوبة:122].

المصادر:

(1)بحار الأنوار، ج:2، ص:48ـ49.

(2)بحار الأنوار، ج:2، ص:48.

(3)بحار الأنوار، ج:1، ص:206.

(4)بحار الأنوار، ج:1، ص:177.

(5)بحار الأنوار، ج:1، ص:198.

(6)الكافي، ج:1، ص:54.

(7)بحار الأنوار، ج:2، ص:78.

(8)بحار الأنوار، ج:89، ص:81.

(9)المصدر نفسه، ج:1، ص:520.

(10)بحار الأنوار، ج:1، ص:215.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير