المذهبية في الإسلام

المذهبية في الإسلام

الولادة والنشأة

اللقاء مع الصدر

الخلاف السني ـ الشيعي الشورى... في زمن الغيبة

الإسلام ... والعروبة

الإسلام.. والديمقراطية.. والشورى

التقليد والتجديد مشروع مستقبلي للمرجعية
ضرورة الاجتهادات لبنان ..الساحة المثالية لحوار الأديان
لا تقسيم.. لا انهيار .. لا استقرار إقليميات

تمثل شخصية السيد محمد حسين فضل الله مرجعية متكاملة في الدين والسياسة والعلم، وتلقى أفكاره الدينية"التنويرية" إقبالا واسعاً من الأجيال الصاعدة ومن جمهور المثقفين، كما أنها تأخذ في لبنان الطابع الوطني بالإضافة إلى طابعها الإسلامي، وبسبب الانفتاح الذي تميز به فضل الله على مدى مسيرته العلمية الطويلة، باتت شخصيته تشكل منطقة جذب لمختلف الطوائف اللبنانية، لكن انفتاح السيد فضل الله يعني أنه حين يتمسك بالثوابت الإسلامية يجعل منها جسوراً للعلاقة مع الآخرين، فلا مشكلة لديه في الحوار مع العلمانيين والقوميين، حتى مع بعض الإسلاميين الذين قد يرمونه ببعض التهم.. لا خطوط حمراء عنده في الحوار، مقابل جرأة في الطرح وصدر واسع في تقبل النقد وحتى الاتهام. وقد قال عنه الكاتب والصحافي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل:"هذا الإنسان لا تستطيع أن تختلف معه"، فيما وصفه بعض الصحافيين الذين التقوه "بالعدو المثالي لكل من أراد النيل منه لأن الذي يعاديه سيجد طريق العودة إليه سهلاً بسيطاً".

زامل فضل الله كبار العلماء كالسيد محمد باقر الصدر، وتتلمذ على يد أساتذة الحوزة العلمية في النجف، لا سيما السيد أبو القاسم الخوئي والسيد محسن الحكيم وغيرهما.

يمضي فضل الله يومه الملي دائماً بدروس علمية يلقيها على طلابه من العلماء صباحاً، وبمراجعة لمختلف الكتب والصحف، ثم يستقبل الدبلوماسيين والصحافيين، ومنزله مفتوح يومياً لكل الناس.. أما محاضراته الأسبوعية الثابتة فهي خمس، ناهيك عن إجاباته على الاستفتاءات التي ترده عبر الفاكس او الهاتف أو الإنترنت، وغالباً ما يلبي مواعيد وسائل الأعلام عند منتصف الليل، أو قبل ذلك بقليل، ليمتد الحوار لساعات دون إرهاق أو كلل.

في هذا " الحوار" مع " الخليج"، تحدث فضل الله عن "باكورة التنوير" في بداياته، وكيف نشأ معاصراً، وعرض لأفكاره التي يدعو فيها للتقارب بين المذاهب الإسلامية مؤكداً أن لا فرق بين السنة والشيعة في العقيدة الاساس، موضحاً ان حراس التخلف والعصبية هم فقط من يثيرون مشكلة واختلافاً بين السنّة والشيعة.

تحدث أيضاً عن القيود التي تحول دون تحقيق الوحدة الإسلامية، والدوافع التي ترمي إلى الوقيعة بين العروبة والإسلام، كما تحدث السيد فضل الله عن مفهومه للدولة الإسلامية وعن " المرجعية" و"ولاية الفقيه" و "الإمامة" و"الديمقراطية" و"الشورى" وعن "حوار الحضارات وصراعها" وعن "التقليد والتجديد". واختتم الحوار بنقاش حول الأوضاع السياسية اللبنانية وخصوصية البنية السياسية وبالذات الطائفية السياسية التي تعرقل انطلاقة لبنان وتقيد مسيرته، وفيما يلي هذا الحوار الذي أجراه د. محمد السعيد إدريس:

الولادة والنشأة

س: نود في بداية حوارنا أن نتعرف على خصوصية نشأتكم العلمية والفقهية في النجف وعلاقاتكم بالسيد محمد باقر الصدر ويالإمام الخمين؟

ج:ولدت في النجف، أبي كان أستاذا في الحوزة العلمية هناك، أنا في الأصل لبناني من المنطقة الحدودية(بنت جبيل)، في النجف تنفست كل التاريخ.. ففيها تشعر بأنك تتحرك في دروب التاريخ، الذي يرقى إلى أكثر من ألف سنة، وعندما تطل هناك على الصحراء التي تتوسد النجف كتفها، تشعر بأرواح الأجيال التي دفنت في(وادي السلام) وهي المقبرة الكبرى، ولذلك أحسست بطعم الموت في طفولتي، في رحابة الصحراء حيث كانت النجف تتنفس حزناً في مواسم عاشوراء. وكانت تتنفس شعرا في كل المناسبات الاجتماعية من فرح وحزن، وكانت تنفتح على ما يعيشه الواقع العربي والإسلامي، ونحن نتذكر في هذا المجال شاعرين كبيرين انطلقا من داخل الحوزة وهما الجواهري والشرقي، ونضيف إليهما محمد رضا الشبيبي، ومن الطبيعي أن النجف حوزة علمية تُدّرس الفقه والأصول والفلسفة.

ودخلت منذ طفولتي الأولى ـ في العاشرة من العمر تقريباً ـ إلى الحوزة وبدأت دراسة مبكرة للفقه نتيجة البيئة التي كنت أعيش فيها والتي كانت تمثل تاريخي العائلي، الذي يضم علماء دين، وقد كنا نعيش في النجف في بداية الطفولة قلق الواقع في أيام العهد الملكي، أيام نورى السعيد وعبد الاله. وكنا نعيش بين وقت وآخر بعض الارتباك السياسي الشعبي عندما كانت بعض الأحزاب تتظاهر وتقابل بالرصاص، ولذلك فقد اخترنا في داخل شخوصنا ووجداننا المعارضة، بقدر ما كنا نفهمها في الوضع العربي الذي كان يحبل بمستقبل واعد جاد.

هكذا عشنا شيئاً من القلق السياسي وبدأنا نفكر بعمليات التغيير، وبدأت منذ البداية أفكر بالإسلام، ربما كانت الصورة لدي غائمة أو ضبابية كمسلم قرأ بعض الأحاديث عن الإسلام في عناوينه الكبرى، فاختزن في شخصيته انه لا بد من الإسلام، وأذكر أنني في أول زيارة لي إلى لبنان عام 1952، عام رحيل أحد كبار علماء الشيعة، وكان مقيماً في دمشق وهو السيد محسن الأمين صاحب كتاب"أعيان الشيعة"، التقيت ببعض الكتاب والشعراء، ومنهم الكاتب حسين مروة وبعض الأدباء، وحينها جرى احتفال تأبيني بأربعين السيد محسن الأمين في بيروت وشاركت في التأبين بقصيدة، وكانت سني ما بين السادسة عشرة والسابعة عشرة، ورأى الناس في ذلك الحفل المهيب شاباً معمماً بعمامة صغيرة يقف ليتحدث، وأذكر أنني في ذلك الوقت دعوت إلى الوحدة الإسلامية، وأذكر من القصيدة الأبيات الآتية:

"والدين وهو عقيدة شعّت على أفق الوجود.

ومبادئ توحي لنا روح التضامن والصمود

عرفتنا فيه الحياة بما حواه من البنود

وأريتنا ان الاخاء من الهدى بيت القصيد

فالمسلمون لبعضهم في الدين كالصرح المشيد

لا طائفية بينهم ترمي العقائد بالجحود

والدين روح برّة تحنو على كل العبيد

تهفو لتوحيد الصفوف ودفع غائلة الحقود

عاش الموحد في ظلال الحق في أفق الخلود".

وتحدثت آنذاك عن "اليقظة الحمراء" وعن الاستعمار وأذكر بيتاً:

"ويد الغريب تبارك الآسي برنّات النقود

ورؤى غد تدعو لها بالنصر والفتح المجيد.

وكان لتلك القصيدة أثر كبير، وبدأت منذ ذلك الوقت أدخل في حوار مع الشيوعيين والقوميين في العراق، وخلال زياراتي إلى لبنان أيضاً، وأفكر في حقيقة المشكلة بين الإسلام والعلمانية، وبمقدار ما كنت املك من ثقافة قد لا تكون غنية آنذاك.

وهكذا عشت هذا الأفق وكنت في ذاك الوقت أتجاوز قراءاتي التقليدية في دراستي حيث كنت في الثانية عشرة أقرا مجلة الرسالة، وأقرا مجلة "الكتاب" ومجلة الكاتب المصري طه حسين "والمصور" و"آخر ساعة"، كنت معنياً بأن أقرا، لم أكن أتقن لغات أخرى غير العربية ولكن كنت أقرأ لـ"لامارتين" مترجماً ولغيره من الكتاب الأجانب، ولذلك نشأت معاصراً ولم انشأ تقليدياً منذ بداياتي. نشأت إنساناً يعيش كثيرا من قلق الفكر والبحث أفتش وأحاور، وكانت لي تجارب شعرية، لأنني دخلت مبكّرا في نظم الشعر، فقد نظمته بالفطرة في العاشرة من دون أن املك ثقافة شعرية آنذاك، وشاركت كثيراً في الجو الأدبي إلى جانب الجو الفقهي والأصولي.

اللقاء مع الصدر

التقيت مع السيد محمد باقر الصدر في طفولتنا المشتركة لأنه يكبرني بسنة واحدة، وعشنا حياة الطلاب مع بعضنا وانفتحنا ما قبل الستينات على الإسلام، وفكرنا بأنه لا بد من أن يتحرك الإسلام وأن يأخذ دوره بطريقة او بأخرى، ولم يكن الإمام الخميني آنذاك قد انطلق بثورته.ولم نلتق بنواب صفوي، وكنا نقرأ لحسن البنا في ذلك الوقت. ولم يكن الإسلام في تلك الفترة متمذهباً، فقد كان ينفتح على الآخر ولكن من دون عمق. وسرعان ما انطلق هذا الإسلام من جديد (الإسلام الحركي) الذي يعتبر الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، وصدرت في النجف في أواخر الخمسينات مجلة أسمها "الأضواء"، وكنا مع السيد محمد باقر الصدر نشرف عليها، فهو كان يكتب افتتاحيتها الأولى، وكنت أكتب افتتاحيتها الثانية، وانطلقنا في هذه الأجواء، وكانت حركة إسلامية ثقافية تتحدث عن السياسة بطريقة ثقافية ولكنها لم تكن حركة سياسية بالمعنى الاصطلاحي للحركة، بل كانت تتحفز لذلك، وهكذا انطلقت الحركة الإسلامية في النجف لتنضم إلى الحركات الإسلامية الأخرى، وإذا أردنا أن نتحدث عن الحركات الإسلامية من الناحية المذهبية، فيمكن القول بأنه لم تكن هناك حركة إسلامية شيعية وحركة إسلامية سنية في ذلك الوقت.

في الواقع لم ألتق بالإمام الخميني لقاءاً مباشرا في النجف، لأنني عدت إلى لبنان بعد مجيئه إلى النجف بسنة او سنتين، ولكنني التقيت به بفكره والتقيته اكثر من مرة في إيران بعد الثورة.

لذلك نستطيع أن نقول أن هذا الفكر الإسلامي الذي أنطلق من الساحات الإسلامية الشيعية، وامتد إلى ما يتجاوزها من الساحات، وأقصد الفكر الذي كنت اتحدث به، كما هو فكر السيد محمد باقر الصدر، لم يكن فكراً يعيش في دائرة مذهبية ضيقة، كان فكراً يتنفس الهواء الطلق ويتحرك في الصحو لأننا كنا، نؤمن بأن المذهبية هي وجهة نظر في فهم الإسلام، وعلينا ان لا نؤطر الإسلام، فالتشيع قد يكون وجهة نظر إسلامية يؤمن بها أصحابها وكذلك التسنن. وإذا كان المسلمون يختلفون في بعض المفردات الكلامية التي قد يعتبرها هذا الفريق عنصراً حيوياً مهماً أو يعتبرها ذاك الفريق كذلك، لكنها لا تمنع المسلمين من اللقاء في 80% على الأقل من العقائد والفقه وفي مناهج الإسلام في الحياة، ولذلك كنا نقول إننا إذا استطعنا ان نبتعد عن التعصب، فإننا نستطيع أن نكتشف إسلاماًمشتركاً متنوراً تماماً، لأننا نؤمن بالوحدة في التنوع، واطلقنا عنواناً لتحركنا في هذا المجال هو "الوحدة في التنوع، والتنوع في الوحدة" باعتبار ان باب الاجتهاد مفتوح في الإسلام، سواء كان اجتهاداً في العقائد، أو الفقه، ونحن لا نعتبر اجتهادات الأقدمين مقدسة، فالأقدمون اجتهدوا من خلال ما كانوا يملكون من ثقافة، وكانوا يختلفون مع بعضهم البعض، فلماذا لا يكون لنا الحق في أن نختلف معهم؟ وما دام الدليل هو الأساس في هذا الرأي أو ذاك، فإذا أكتشفنا خطأ الأقدمين فعلى أي أساس يمكن أن نقدس الخطأ.

الخلاف السني ـ الشيعي:

س: ولكن لماذا وصلنا إلى ما نحن عليه من انقسام بين سنة وشيعة؟

ج: الشيعة لا تختلف عن السنة على الإيمان بالله الواحد بكل صفاته، وهناك جدل أثير في بعض الصفات مثل الجدل حول صفة العدل، ولكنه ليس جدلاً بين السنة والشيعة، بل بين المعتزلة والإمامية معهم والاشاعرة ولكنه ليس خلافاً سنياً شيعياً، هو خلاف كلامي ينطلق من مسألة الحسن والقبح العقليين او مسألة الجبر او ما إلى ذلك من مسائل تتحرك بعيداً عن المعنى المذهبي، بل هي تتحرك من خلال ما يجتهد به المجتهدون، المهم أنه ليس هناك فرق بين السنة والشيعة في العقيدة الأساس، وهي عقيدة التوحيد، ثم النبوة هي أيضاً عقيدة مشتركة بينهما، فكلاهما يؤمن بأن محمداً رسول الله"صلى الله عليه وآله وسلم"، ولكن هناك خلافاً كلامياً قد لا يكون سنياًـ شيعياً، ولكنه حالة فكرية حول هل ان النبي معصوم في التبليغ وفي أشياء أخرى، ام أنه ليس معصوماً إلا في التبليغ؟

الرأي العام لدى الشيعة يرى أن شخصية النبي لا تتجزأ، وأن النبوة مقام غير عادي، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسوله (ص) ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن كان في عقله شيء من الظلمة فكيف يمكن ان يعطي عقول الناس نورا؟ وريما ينطلق بعض الناس من وجهة نظر أنه لا بد أن يكون النبي نورا كليا، فعندما نقول انه ليس معصوماً سوى في التبليغ بهذا يعني أنه يعيش في الظلام، وعندما يخطئ في فكرة أو في عاطفة أو سلوك، فإنه لن يكون نبياً في هذا الجانب من شخصيته، فالشخصية لا تتجزأ كي يكون النبي معصوماً في جانب وغير معصوم في جانب آخر.

لذلك فالشيعة يتبنون عصمة الأنبياء، ويفسرون ما جاء في القرآن من خلال بعض الآيات التي قد توحي بغير ذلك، كالآيات التي تركز على الضعف البشري للأنبياء لإثبات بشريتهم من دون أن يمس هذا الضعف جانب العصمة فيهم، المهم هناك جدل في هذا المجال، وربما نجد الكثير من علماء السنة يرددون حديث "تأبير النخيل" وأن النبي أخطأ عندما أشار إلى ذلك الفلاح بعدم تأبير او تلقيح النخل، وعندما جاء هذا الشخص إلى النبي وأخبره بأن النخل لم يثمر، قال له النبي:أنتم أعلم بأمور دنياكم، إذا أمرتكم بشيء من أمور الدين والآخرة فاعملوا به، وأما ذاك فشأنكم"، هذا هو مضمون الحديث.

ولكننا نناقش هذا الحديث، ونعتبره غير معقول لسببين أولهما: أن جميع اهل الحجاز، وحتى الأطفال منهم، يعرفون النخل والقصة صارت في المدينة وعمر النبي كان يتجاوز الخمسين، فهل يعقل أن يجهل النبي ان النخل يجب أن يلقح حتى يثمر. وثانيهما إذا كان النبي يجهل ذلك فكيف يشير على الآخرين بما لا يملك علمه. لذلك نحن قلنا أن هذا حديث موضوع. إذن هناك خلاف فكري في أن النبي معصوم في كله أم لا.

كلنا يؤمن بالسنة، ولكن المسألة هي توثيق السنة، هل قال النبي ذلك أم لا؟ كيف نوثق السنة وما هي قواعد توثيقها؟ أخواننا من أهل السنة يعتبرون أن صحيح اليخاري وصحيح مسلم هما الكتابان اللذان لا يأتيهما الباطل من بين يديهما او من خلفهما، وهذا غير ممكن، فالبخاري ومسلم وثقا بحسب اجتهادهما من الذين رووا عن النبي، ولكنهما قد يخطئان في ما وثقا به، وبالنسبة إلى الشيعة ليس هناك صحاح، هناك كتب"الكافي" و"الاستبصار، و"من لا يحصره الفقيه، ولكن الشيعة تقول إنه يجب أن نوثق كل حديث وليس هناك صحاح، قد نرى أناساً يقولون روي هذا في"الكافي"، والشيعة يقولون هذا حديث ضعيف أو غير موثق حتى لو روي في"الكافي".. ونحن نلتقي مع الأخوان من أهل السنة في مسألة التوثيق والأخذ بالسنة تماماً كالأخذ بالكتاب. ولكننا نختلف في عناصر التوثيق لأنها عملية اجتهادية: أن يكون الراوي موثقاً، أو أن تكون هذه الرواية موثقة. وقد يختلف الناس في عناصر التوثيق وهنالك أمور أخرى تجمعنا مع أهل السنة منها الإيمان باليوم الآخر وكذلك القرآن يجمعنا، ولو طفت في كل العالم فلن تجد قرآنا غير هذا القرآن الذي بين يدي المسلمين من سنة وشيعة.

وفي هذا الإطار قد ينسب إلى الشيعة بأنهم يقولون بتحريف الكتاب، وربما نجد بعض الأحاديث التي قد توحي بذلك، كما نجد بعض الأحاديث في كتب السنة تقول بنقصان الكتاب، ولكن أغلب هذه الأحاديث ضعيفة وبعضها مؤول لكنه وارد مورد التفسير لا مورد الجزئية.

وعلى كل حال فلو كان هناك أي رأي شيعي حاسم بمسألة "نقصان القرآن" أو حول الزيادات الموجودة في الأحاديث، لوجدت هناك على الأقل نسخة واحدة في العالم تقول ذلك؟‍، ويقولون أن هناك "سورة الولاية" وأنا لا يمكن أن أقبل بأن تنسب إلي من الناحية الأدبية، فكيف يمكن ان ننسبها إلى الله سبحانه وتعالى، لذلك فأنا أؤكد بأنه لو جلنا في كل العالم سواء في المناطق الشيعية او السنية لما وجدنا قرأنا يزيد أو ينقص حرفاً واحدا أو حتى ضمة او فتحة على قرآن آخر.

أما "مصحف فاطمة" فهو مجرد كتاب يتحدث عن بعض ما كانت تتحدث هي "ع" به عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم: وفيه أيضاً وصيتها، (وربما تقول بعض الأحاديث أن الله أرسل لها ملكاً يؤانسها ولكن ليس ملكاً يوحي إليها) فكانت تكتب ذلك او كان علي(ع) يكتب ما يثور الجدل حوله. ولكن المهم أنه ليس هناك أي عالم قديم أو حديث يقول بوجود قرآن آخر. فكلمة مصحف مأخوذة من الصحف، ولم تكن هذه الكلمة أساساً معروفة سابقاً كأسم للقرآن، وعلى كل حال ليس هناك كتاب في كل العالم أسمه مصحف فاطمة. وأتحدى ـ بمحبة ـ أي شخص يقول أن هناك كتاباً موجوداً بين يدي الشيعة أو السنة او في أي مكتبة من مكتبات العالم أو لدى الباحثين أو أصحاب الآثارء أسمه مصحف فاطمة، والجدل فيه يدور حول شيء لا وجود له.

نحن نؤكد أنه لا تحريف ولا زيادات في القرآن، وهناك كتب لعلماء كبار أثبتت ذلك، ومنها كتاب"البيان في تفسير القرآن" للمرجع المعروف الذي توفي مؤخراً أبو القاسم الخوئي، وفيه بحث مفصل عن موضوع "التحريف في القرآن" وهو ينفي ذلك.

إذاً لا فرق بين الشيعة والسنة في أن كتاب الله واحد لا ينقص حرفاً ولا يزيد، وأنه هو المرجع في تصحيح الأحاديث، ونحن نروي عن أئمة أهل البيت(ع) انه"ما خالف قول ربنا لم نقله" "وما جاءكم من حديث من بر أو فاجر فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الحائط".

يبقى الخلاف بينهما في مسألة الخلافة، فالشيعة يعتقدون ان الخلافة والإمامة بعد رسول الله(ص) هي لعلي وأولاده، ويستندون في ذلك إلى نصوص موجودة في كتب أهل السنة كما هي في كتب الشيعة، ولكن السنة ينكرون ذلك ويرون أن الخلافة لأبي بكر ومن بعده لعمر ومن ثم لعثمان ثم لعلي. وهذا الجدل فقهي وكلامي كتبت فيه آلاف الكتب ولا تزال تكتب. وقد حمل هذا الخلاف الكثير من عناصر الاختلاف بين ما ورد عن أهل البيت(ع) وعن الآخرين. ولكن ذلك لم يستطيع أن يجعل من التشيع دينا مستقلا عن التسنن. فكلهم مسلمون يحجون إلى بيت الله ويصلون ويصومون معا، وإذا اختلفوا في بداية الصيام ونهايته، فالسنة يختلفون في ما بينهم على ذلك والشيعة كذلك. وحتى لو درسنا كل الأحكام: أحكام الحج والصوم والجهاد والزكاة التي بني عليها الإسلام لما وجدنا فرقاً إلا كما يختلف السنة مع بعضهم البعض والشيعة مع بعضهم البعض.

الشورى... في زمن الغيبة

س: هل يمتد الخلاف حول الامامة إلى فقه الإمام بحد ذاته، بمعنى ان الامامة هي شكل حكم إسلامي؟ وهل أن الامامة شرط أو معلم أساسي من معالم الدولة الإسلامية؟

ج: الإمام هو خليفة النبي (ص) وهو رئيس الدولة الإسلامية ويعطيها شرعيتها، وبحسب العقيدة الشيعية المتداولة، فهم يرون ان الإمام غائب وهو الإمام المهدي(عج) ولذلك فإن هناك من يرى أنه في زمن الغيبة بالإمكان الأخذ بالشورى، وهناك من يقول بولاية الفقيه كالإمام الخميني وقبله بعض العلماء وهي التي تتبناها الان الجمهورية الإسلامية في إيران، وولاية الفقيه هذه لا تتناسب مع فكرة الحكم الألهي الذي كان موجوداً في أوروبا او في الغرب، لأن الفقيه لا يحكم من خلال حالة شخصية بل من خلال ما لديه من مصادر التشريع، بمعنى أنه مجتهد كبقية المجتهدين، ولا بد للفقيه الذي يملك شرعية الحكم أن يكون مجتهداً بالفقه، أي أنه لا يتجاوز في كل ما يُصدر من حكم الأحكام الشرعية التي لا بد من أن يأخذها من الأدلة الاجتهادية المعروفة عند الفقهاء، فإذا أنحرف وأصدر حكما لا يستند إلى قاعدة فقهية في الاستدلال فإنه يسقط تلقائياً، ولا بد له أن يكون عادلاً ومستقيماً في الدين، ولا نقول معصوما، ولكن لا بد له ان يعصم نفسه بمعنى الالتزام الدقيق، وأيضاً لا بد ان يكون خبيراً بالواقع وخصوصاً الواقع الذي يتولى ولايته، وهو ما يعبر عنه بالقول أن يكون "عارفاً بزمانه"، والفقيه ينتخب من مجلس الخبراء، الذين يُنتخبون بدورهم من الشعب، الولي الفقيه عندما يدير حركة الحكم، فإنه يديرها من خلال الاستفتاء الشعبي. فمثلاً في إيران أنتخب الإمام الخميني انتخابا تلقائياً لأن الشعب كان يريده وهذا أعلى أنواع الانتخاب، اما السيد خامنئي فقد انتخبه مجلس الخبراء المؤلف من علماء وأصحاب خبرة من مدنيين وهؤلاء ينتخبهم الشعب الإيراني كما جرى انتخاب مجلس الخبراء الحالي.

إن مجلس الشورى يخضع للانتخاب الشعبي المباشر، وكذلك رئيس الجمهورية ومجلس الخبراء كما يخضع الدستور للاستفتاء الشعبي المباشر، وهذا أمر لعله غير مألوف، لذلك أعتقد أن الجمهورية الإسلامية في إيران هي أكثر الدول الموجودة في العالم الإسلامي وربما في غيره التزاماً برأي الشعب بشكل مباشر ومستقل، وتمارس الاستفتاء بهذه الدقة، حتى أن الدولة لا تتدخل بالتصويت. مثلاً في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ربما لم يكن النظام مع السيد خاتمي، ولكنه ترك الشعب يقترع لمصلحة شخص آخر لا يلتزمه النظام، وهو ما حدث في الانتخابات البلدية الأخيرة.

س: ولاية الفقيه لا تمثل حكماً الهياً فوقياً ولكن في انتخابات المجلس النيابي كانت هناك سلطة تشطب المرشحين؟

ج: هذا أمر موجود في كل الديمقراطيات فهناك شروط للمرشح، قد تختلف من بلد لآخر، ومع أن هناك شروطاً في الانتخابات البلدية الإيرانية التي جرت مؤخراً، فقد وجدنا أن الكثيرين ممن يسمون بالإصلاحيين أو المعتدلين نجحوا، ووجدنا أن إيران التي يقال إنها تحت "حكم القرون الوسطى" نجحت فيها300إمراة في البلديات، وهناك تجارب أخرى في إيران من الممكن أن تترشح فيها امرأة ويترشح عالم دين، فتنجح المرأة ويسقط عالم الدين.

أنا لا أتحدث عن نظام مثالي لا مشكلات فيه، فمن المؤكد أن هناك نقاط ضعف ومشكلات، ولا ندعي أن هناك حرية مطلقة وفوق العادة، فأساساً لا وجود لدولة فيها حرية مطلقة.

لهذا نقول أن ولاية الفقيه، لا تمثل حكماً الهياً فوقياُ، لا يملك الشعب فيه أن يحاكم الحاكم، فمجلس الخبراء يستطيع عزل الولي الفقيه إذا اختلت شروط الولاية في شخصيته أو احكامه. إذا الولي تحت القانون وليس فوقه.

س: ولكن إذا احتكمنا إلى السُنّة، فليس في القرآن ما يقول بمسألة الإمامة أو ولاية الفقيه؟

ج: إن المسلمين من السنة والشيعة يقولون بأن "الخلفاء الأثني عشر كلهم من قريش" والشيعة يقولون أن هذا لا ينطبق إلا على أئمة أهل البيت(ع). والمسألة تخضع لجدل واسع في ما ينقله المسلمون من هنا وهناك عن النبي (ص) أو في الاجتهادات حول فهم الآيات القرآنية ونحن الان في مجال العرض لا في مجال الاستدلال لكي نقول أن الأساس في مسألة الخلاف الشيعي ـ السني هي مسألة الإمامة.

س: وماذا عن مسألة الدعوة إلى تقريب أو توحيد المذاهب؟

ج: أتصور أن تقريب المذاهب سهل، لأن المسألة ليست بتطابق المذاهب لأن هذا لا يحدث حتى عند أهل السنة أو عند الشيعة بسبب اختلاف الاجتهاد عندهم. أن مسألة تقريب المذاهب الذي بدأته"دار التقريب بين المذاهب" هي أن يُعرض الفكر السني والشيعي ليرى الشيعة والسنة أنه ما من رأي فقهي في العبادات والمعاملات ارتآه مجتهد منهم إلا ويوافقه عليه الآخرون من الجهتين أو يقتربون منه في ذلك.

فنحن نجد أن العقائد الأساسية التي يكون بها الإنسان مسلماً وبإنكارها يكون كافراً كالتوحيد والنبوة والإيمان بالكتاب وباليوم الآخر هي عقائد متفق عليها بين السنة وبين الشيعة، اما الإمامة فهي ليست من الأصول التي إذا أنكرها الإنسان كان كافراً. فالسنة كلهم مسلمون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ولذلك نرى مسألة التزاوج بين السنة والشيعة وخصوصاً في لبنان كثيرة جداً، فهذه المسائل قد يراها هذا حقيقة يلتزمها حسب اجتهاده، ولا يراها ذلك حقيقة، فهذه امور خضعت منذ البداية للجدل ولا تزال تخضع له حتى اليوم.

س: يصنفنا الغرب كعالم واحد وحضارة واحدة، ويخوضون الصراع مع الإسلام تحت دعوة صراع الحضارات، ولكننا بين بعضنا البعض لسنا بواحد(كتلة واحدة) كيف يمكن ذلك؟

ج: قلت منذ البداية أن المسألة هي ان يفكر الشيعي كمسلم شيعي ويفكر السني كمسلم سني، وأن لا يكون التشيع دينا من خلال التفاصيل التي تفرضها بعض الخطوط خارج نطاق الإسلام، وكذلك التسنن، ونحن لو فتشنا كثيراً في كتب الشيعة أو السنة لوجدنا الكثير من الخرافات والغرائب، لذلك نحن نريد أن نننطلق من القضايا الأساسية المشتركة، والتي ينطلق منها المفكرون العلماء والمسؤولون الاتقياء، لذلك نجد أن إيران أنشأت دارا للتقريب، وهناك جامعة "السيد قطب" التي تدرس فيها المذاهب الأربعة او الخمسة، ونحن نقول أن مشكلة السنة والشيعة هي مشكلة جهل كل فريق بالفريق الآخر وفي الذين يحرسون التخلف والعصبية، ويفتشون عن نقاط الخلاف بدلا من نقاط الوفاق ويضخمونها، لذلك اقترحنا أن يكون هناك حوار على طاولة مستديرة وان يقول كل منا وجهة نظره حول اخطاء الآخرين. وعندما نسمي الأشياء بأسمائها، ولا نختبئ خلف الكلمات التي لا تحل مشكلة، سوف نصل إلى نتيجة، فمشكلتنا أننا شعب يختبئ وراء الكلمات ولا يصارح بعضه البعض.

س: أي صورة وأي فقه ترونه للنهوض بالأمة الإسلامية في ظل توصيفكم للوضع الدولي والعالمي؟

ج: أتصور أننا نستطيع أن نلتقي على قانون إسلامي في العبادات والمعاملات يلتقي فيه السنة والشيعة على اكثر م 80% وعندما نريد أن نبحث القضايا بحثاً علمياً، ونأتي إلى الفقه الشافعي وفقه أبي حنيفة والمالكي والحنبلي والجعفري، سنجد هناك لقاء بهذا المستوى، أما مسألة الأمامة أو الخلافة فليس لها واقعية بالمعنى المباشر في حياتنا اليومية، والذي بقي من هذه المسألة هو هذا الخط الفكري المنهجي هنا والخط المنهجي الفكري هناك وهما يلتقيان في اكثر من جانب. وحتى نظام الحكم لم يحدد بالمعنى التفصيلي وإنما يخضع للاجتهاد.

فمن الممكن جداً أن نجد في الشورى ملتقى، وحتى في التجربة الإيرانية، نجد أن هناك تزاوجاً بين ولاية الفقيه والشورى، فإذا افترضنا أنه طلب من المسلمين الاختيار بين ان يكون رئيس الدولة شخصاً فقيهاً عادلاً، خبيراً في السياسة ويرجع إلى أهل الخبرة في كل قرار من قراراته في ما لا خبرة له فيه وبين أن يكون شخصاً لا يملك الخبرة الفقهية ولكن لديه خبرة سياسية، نجد أنه من الطبيعي أن يختار الناس ولاية الفقيه الخبير والواعي والتقي الذي يملك الخبرة السياسية. وهذا ليس بالأمر السلبي، فأن يكون الإنسان معمماً أو غير معمم هذه لا تشكل فارقاً في الجانب الثقافي أو في الجانب الشخصي.

وإذا كانت التجربة الإيرانية تزاوج بين ولاية الفقيه والشورى، فإنه يمكن أن يضيف إليها بعض المفكرين الإسلاميين شيئاً أو ينقص منها شيئاً، ولذلك نقول ليس هناك تعقيد في المسألة.

ولكني أتصور أن مسالة الوحدة الإسلامية هي من الممنوعات الدولية من قبل دول الاستكبار العالمي، وكل الوحدات ممنوعة ومنها الوحدة الوطنية أو العربية، لأنا إذا توحدنا وطنياً أو إسلامياً أو قومياً، فلن يستطيع الاستكبار العالمي أن يأخذ حريته، ولا أعتقد أن وضع الساحة الإسلامية معقداً كما يقولون، باعتبار أن هناك إسلامات عدة كإسلام الجزائر او إسلام السودان أو إسلام إيران.

ليست القضية كذلك فهذا كلام للاستهلاك السياسي، صحيح أن هناك اختلافاً في الاساليب، وتخلفاً في فهم الإسلام في بعض المواقع، لكن هذا التخلف لا يمكن أن نسميه إسلاماً، والجهل كذلك. وعندما يجلس العلماء والمفكرون والمثقفون والسياسيون الإسلاميون ويدرسون القضايا فلن يجدوا هناك زوايا مغلقة، والمشكلة أننا حبسنا أنفسنا في كهوف التعصب وتحولت مواقعنا إلى زنزانات يحبس فيها كل إنسان نفسه حتى لا يقترب منه الآخر.

الإسلام ... والعروبة:

س: هل ثمة تعارض بين الدعوة للوحدة العربية والدعوة للوحدة الإسلامية؟

ج: اعتقد أن هذه معركة أقحمت علينا وليست معركة حقيقية، لسبب بسيط هو أن العروبة حالة إنسانية وإطار إنساني ينطلق من اللغة والتقاليد والعادات وإلى غير ذلك مما يتحدث به القوميون من عناصر القومية، والعروبة ليست فكراً ولا قانوناً ولا عقيدة بل حالة إنسانية بشرية تضم فريقاً من الناس يتفقون في بعض الخصائص، اما الإسلام فهو دين، وقيم وفكر وقانون ومنهج فأي مشكلة بين أن تكون عربياً ومسلماً؟! العروبة هي الاطار الذي يبحث عن الصورة، والإسلام هو هذه الصورة ـ هذا على الأقل ما يقوله المسلمون ـ وليس هناك تناف بين الإطار والصورة ولا نحتاج في ذلك إلى ان ندخل في ابحاث.

عندما انطلق الإسلام حكماً عربياً وقرأناً عربياً ونبياً عربياً عاش العرب تجربة الإسلام بشكل عفوي بعد ان آمنوا به وأعطوه من جهدهم وأعطاهم الإسلام من قيمه وحضارته، ولم يعيشوا عقدة الجدل بين العروبة والإسلام وكذلك الفرس والاكرد. ولكن السؤال متى بدا افتعال التناقض بين العروبة والإسلام؟ والجواب هو عندما انطلقت العروبة في الثلاثينات والاربعينات على الطريقة النازية في ظل شعار "العرب فوق الجميع"، وعندما برزت الشعوبية باعتبارها حركة تختزن في ذاتها العداء للإسلام، وتستهدف خلخلة الواقع الإسلامي. لقد انطلقت المشكلة حديثاً حين جرى اعطاء العروبة مضموناً غير إسلامي من خلال "ادلجة" العروبة، فمثلاً عندما تبنى "بعض" العروبيين في الخمسينات الماركسية، كان لا بد ان تختلف هذه القومية العربية الماركسية مع الإسلام ليس لأن العروبة اختلفت مع الإسلام، ولكن لأن هؤلاء احتضنوا الماركسية، فإذا، لا مشكلة بين العروبة أو الوطنية وبين الإسلام أني أقول أنا جنوبي لبناني عربي مسلم شرق أوسطي. والله لم يلغ للإنسان خصوصيته بل أكد هذه الخصوصية واعطاها الأفق الذي تتحرك فيه "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، فالتعارف هو أن التقي بك من خلال حاجتي عندك في خصوصياتك وتلتقي بي ، تعرفني وأعرفك من خلال طبيعة الحاجات الموجودة لدى كل واحد منا ويحتاج إليها الآخر.

الإسلام.. والديمقراطية.. والشورى

س: ما هو موقف الدولة الإسلامية من الديمقراطية والأقليات الدينية الأخرى؟

ج: الديمقراطية تختلف في عمقها الفلسفي او الفكري عن مسألة الدين، فمثلاً عندما نكون مسلمين نؤمن بالإسلام أنه دين الله باعتبار الأسس التي ارتكز عليها هذا الإيمان، سواء قبله الناس أم لم يقبلوه، أما الديمقراطية فتقول أن الأساس في الحق والشرعية هو قرار الأكثرية، فلو أن الأكثرية اختارت الإسلام، صار شرعياً وحقا أما إذا رفضته فالإسلام يصبح في وجهة نظر الديمقراطية في عمقها الفكري ليس له شرعية لأن الناس (أو الأكثرية) لم يقبلوه، وليس هو الحقيقة، بينما أنا كمسلم أشعر بأن الإسلام هو الحقيقة بغض النظر عن رأي الأكثرية.

وإذا أخذنا الديمقراطية من خلال بعدها الفكري والسياسي فهي لا تشترط ولا تعتبر أن هناك أشياء لا تمس، إنما القداسة ـ عندها ـ هي للأكثرية الشعبية، نحن يمكننا أن نأخذ من الديمقراطية ما لا يثير لدينا التحفظات، لذلك نحن نقول أننا مع الديمقراطية ضد الديكتاتورية في قضية الحكم. ولكن عندما تريد الديمقراطية اختراق الثوابت الإسلامية عند ذلك لا بد من أن نتحفظ.

س:إلى إي مدى يمكن المصالحة بين الإسلام والديمقراطية؟

ج: نحن لا نتكلم عن المصالحة، ففي بعض الحالات يدور الحديث عن ان الديمقراطية هي أقل الأنظمة سوءاً، ولذلك علينا أن نبحث عن صيغة مثل الشورى، على أن نؤصل مسالة الشورى، وأنا ممن يقولون بهذا الأمر، وأقول إن هناك وجهة نظر في دائرة معينة يمكن أن نأخذ بها في بعض الاعتبارات،ولكن في رأيي ان كل عنوان من العناوين السياسية ينطلق من مناخ معين يختلف عن المناخ الإسلامي. نحن نستطيع أن نجد بعض الالتقاء مع الديمقراطية، بحيث يمكن لنا أن نوافق على بعض خطوطها، ولكني لاأسميها الديمقراطية بل الأكثرية، وعندما نعبر عن الشورى ليس بالضرورة ان نعبر عن الديمقراطية.

في الخمسينات كانت هناك مجموعة تسمي نفسها"انصار السلام" وفي اجتماع لهم اصدروا عريضة للتوقيع عليها، فبعضهم كتب"انصار السلام" وبعضهم "أحب السلام"، ولكن أحد الوجهاء من السياسيين كتب "أكره الحرب" فسألوه ما الفرق قال"أنصار السلام" أصبحت تعطي ايحاء معيناً وأنا أريد التعبير عن معناه دون الالتزام به.

التقليد والتجديد:

س:عندما يُذكر السيد محمد حسين فضل الله يُذكر كظاهرة ثورية في الفكر الشيعي استقطبت الكثير من المؤيدين والمعارضين، في كتابات مختلفة وبيانات، هل من الممكن الاطلاع على القضايا التجديدية للفكر أو الفقه الشيعي التي أثارت بعض الخلافات سواء داخل لبنان أو مع إيران؟ وهل هذا التجديد هو سبب ما يقال عن خلاف بينكم وبين "إيران" و"حزب الله"؟

ج: الواقع إنني لا أعيش عقدة التجديد والتقليد، لأنني اعتقد أن قضية أنتاج الجديد هي أن تحرك فكرك ليفهم المسائل بشكل مستقل عما يفهمه الآخرون وقد نلتقي مع الآخرين ومع الجديد والتقليد. نحن نريد أن نبحث عن الحقيقة الضائعة. لذلك حاولت ان أفكر بطريقة مستقلة ولكن على الأسس الإسلامية التي يفكر بها كل إسلامي أي على أساس الكتاب والسنة ولكن كيف نفهم الكتاب والسنة وكيف نوثق السنة؟!

أنا مختص في كتاباتي بالحوار وبأسلوب الدعوة، ولدي تفسير للقرآن "من وحي القرآن"(24 مجلداً) بالإضافة إلى كتاب "الحوار في القرآن" "وأسلوب الدعوة في القرآن" وأقول ليس هناك أي سؤال تافه أو محرج، والحقيقة ابنة الحوار، وأطلقت شعار لا مقدسات في الحوار، وأنه بإمكاننا أن نناقش كل شيء، لأنه ليس عندنا في ما نريد ان نؤمن به شيء فوق العقل، فقد آمنا بالله من خلال العقل وأن كنا لا نستطيع أن ندرك ذات الله بالعقل، لأن العقل لا يملك أي وسائل لمعرفة ذلك، ولهذا كنت اقرأ الأمور قراءة مستقلة، ربما اختلف فيها مع الآخرين.

ربما كان هناك في الفكر الشيعي حديث عن قدرات يعطيها الله، بشكل فوق العادة للأنبياء والأولياء او الأئمة، ما قد يسميه البعض "الولاية التكوينية" ولكني كنت أقول ان الله لم يعط الأنبياء والأئمة ألا بمقدار ما يتصل برسالتهم، ويخدمها ويواجه التحديات كما في المعجزات، ولكن الله أعطى المعجزة في ظرف وتجربة محدودين وأعطاهم بعض علم الغيب، ولكن لم يعطهم الولاية على الكون، ولم يعطيهم علم الغيب بشكل مطلق، وهذا نستدل عليه من القرآن مثلا، ومن الطبيعي أن هذه المسألة أثارت الكثير من الجدل في هذا المجال.

وهناك بعض القضايا التاريخية التي يختلف فيها السنة والشيعة، وهناك بعض الفتاوى المشهورة عند الشيعة مثل نجاسة الكافر بشكل مطلق، ويستدل البعض (إنما المشركون نجس) ويلحقون بهم أهل الكتاب، أنا أقول أن الإنسان طاهر أن كان كافراً أم مؤمناً، فالكفر يمثل قذارة معنوية فقوله تعالى"إنما المشركون نجس" يمثل نجاسة معنوية ولا يمثل نجاسة خبيثة حسب التعبير الفقهي.

وهناك فتاوى معروفة مثل إن الغناء محرم وكذلك الموسيقى، أنا أقول أن كل موسيقى لا تثير الغرائز ولا تحطم الأعصاب هي حلال، وأن الغناء إذا لم يشتمل على الباطل هو حلال.

وهناك مسألة تحريم حلق اللحية المعروفة بين الفقهاء السنة والشيعة أما أنا فأفتي بتحليل الحلق من حيث المبدأ، وأن كنا ننصح بالحفاظ عليها لكونها أصبحت "شعيرة إسلامية". وكذلك اختلف معهم في مسألة معرفة أوائل الشهور الهجرية بحيث يستندون إلى "الرؤية" في التحديد، وأنا أرى انه يجب الاستناد إلى الحسابات الفلكية، وهناك مفردات كثيرة من هذا القبيل.

س: ولكنك اقتربت من المسلمات في السير التاريخية؟

ج: أنا أقرا التاريخ بشكل مستقل، ودعوت إلى ذلك كما لو كنا غير متمذهبين، ودعوتي هذه منطلقة من العلم، وقلت إن علينا أن نقرا التاريخ كما لو لم يقراه الآخرون، ولا أريد بذلك أن أهون من دراسات الآخرين بل أقول إن علينا أن نقرأ تجاربهم الثقافية على ان تكون لنا تجربتنا، والمسألة هي هذه: أن تقرأ بشكل مستقل ولا تقدس ما ليس مقدسا.

س: والخلاف على المرجعية؟

ج: المرجعية الشيعية تبدأ بمرجعية فتوائية وتنفتح على قضايا أخرى، وعندما طرح أسمي في المرجعية أصبح هناك امتداد في اكثر من مكان في العالم، وهذا خلق بعض التعقيدات الكثيرة التي تحركت في أماكن عدة وبشكل يشبه الحرب (في بعض الخطوط الموجدة في بعض المواقع)، وكان لهذه الحرب خطوط عدة وخلفيات عدة، وأعتقد أن الكثير من أجهزة المخابرات الدولية استغلت بعض نقاط الضعف هنا وهناك ولكن على الإنسان ان يثبت ويصمد.

س: هل هي السياسة أم لأنكم بتجديدكم تطرحون شيئاً يشبه الثورة ويلقى صدى بين الأجيال الجديدة؟

ج: يمكن أن نقول أن بعض الجهات خافت مني على الصفاء الديني أو المذهبي أو ما إلى ذلك ولم تقراني جيداً، بل قرأتني من مبدأ الغريزة وليس من موقع الفكر، ومن المعروف ان الانفعال في الشرق هو غالباً ما يسيطر وخصوصاً في أمور كهذه تدخلت فيها قضايا مخابراتية بتعقيدات معينة، وأتصور أن الإنسان صاحب الرسالة عليه ان يتابع، ونحن نتابع في هذا الموضوع ودائماً أردد:"اللهم اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون".

مشروع مستقبلي للمرجعية

س: هل الحوزة تتراجع لصالح الدولة في السلطة الإيرانية؟

ج: الطابع الموجود للحوزة هو تقليدي ولكن هناك جيلاً شاباً في الحوزة بدا ينمو ويتحفز ويتحرك مع الدولة ولكنه يحتاج إلى وقت طويل.

س: ألا يساعد وجود السيد خامنئي على رأس الدولة في الحد من الخلاف بين الحوزة في قم والدولة في طهران؟

ج: السيد خامنئي معاصر، لا يقصر في معاصرته عن السيد خاتمي ولكن مركزه في موقع الولاية قد يفرض عليه أسلوباً معيناً أو شكلاً معيناً، ومن الطبيعي أن مرجعيته تعيش في نطاق موقع إيران في العالم الشيعي، يمكن أن يدور التفكير عندما تكون المرجعية في إيران ان العالم الشيعي الذي هو أكثر ارتباطاً بالمرجعية منه إلى ولاية الفقيه يمكن أن يلتقي عند إيران أكثر.

س: وماذا عن "وحدة المرجعية"؟

ج: ذلك من الصعب حتى الآن. (ففي إيران تعدد في المرجعيات وكذلك في النجف ولبنان)، نحن دعونا إلى مشروع المرجعية المؤسسة التي لها أجهزة دراسات، ويكون على رأسها مرجع منتخب من كل العلماء ولكن هذا مشروع مستقبلي.

ضرورة الاجتهادات

س: المسلم الذي يعيش في الغرب يواجه مشكلة كيفية معاشرة الغرب ويبقى مسلما! ألسنا بحاجة لاجتهاد جديد يقدم حلولا لواقع الأقلية المسلمة في الغرب؟

ج: إذا كان الغرب منسجماً مع شعاراته في حرية الإنسان، فلا أعتقد أن هناك مشكلة كبيرة، ولكن عندما لا يكون الغرب منسجماً معها، فمعنى ذلك، أن ليس هناك نظام، وعلى الإنسان أن يحاول ان يكون هو نفسه ويأخذ الضرورات أو المحظورات ولكن بقدر ما، اما عندما يعطى الحرية فمن الممكن جداً أن نلتقي، لأن المسلم يستطيع أن يعيش إسلامه، فالإسلام يحمل عناصر حضارية تمكنه من الالتقاء مع الحضارات الأخرى في بعض جوانبها.

س: ولكن الغرب يعيش أزمة روحية، وهناك صورة سلبية يعطيها الكثير من دعاة الإسلام، ألسنا بحاجة إلى شيء جديد في هذه المسألة؟

ج: مشكلتنا في أساليب الدعوة، أن هناك أشياء في القرآن يمكن ان لا نقراها بعمق مثلاً: "وجادلهم بالتي هي أحسن" والقمة في هذا الموضع "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة، كأنه ولي حميم" اي أن الإسلام يقول عندما تعيش مع الآخرين ليكن هدفك في كل أساليبك تحويل الأعداء إلى أصدقاء سواء أعداء دينك أو وطنك أو فكرك. ولا تكتفي بالحسن والسيء بل المسألة تصاعدية (ابحث عن الاحسن)، وابحث عن الكلمة التي لا تثير أية حساسية، والقرآن يقول:"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وانزل إليكم، والهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون".

لبنان ..الساحة المثالية لحوار الأديان.

س: منذ شهرين أو ثلاثة أصدر الفاتيكان دعوة إلى إعادة إحياء منظمة الكنيسة المضطهدة، ونشرت قائمة باتهام مجموعة من الدول المسلمة بحيث أنه من بين 52 دولة اسلامية صنفت 46دولة على أنها تضطهد المسيحية. بالمقابل هناك دعوة لحوار بين الطرفين(المسيحيين والإسلام) لتصحيح الموقف، ألا تعتقد أن لبنان هو الساحة المثالية لمثل هذا الحوار، هل هذا ممكن؟

ج: في رسالتي أطلقت فكرة الحوار المسيحي ـ الإسلامي وعندي كتاب بهذا الصدد وهو " في آفاق الحوار الإسلامي ـ المسيحي"، من الطبيعي جداً أنه لا بد من الحوار بيننا، والقرآن هو كتاب الحوار، ولكن علينا أن نفرق بين كلمات الحق التي يراد بها باطل وكلمات الحق.

بالعمق الذي أتابعه، أغلب المسيحيين وفي مقدمتهم الفاتيكان، يتناولون مسألة الحريات في البلدان الإسلامية بطرق معينة، ومن خلال بعض الخطوط السياسية التي يتحركون بها، فبالنسبة لمسألة السودان: من المعروف أن هناك مشكلات منها، ولكن السودان المسلم فتح ذراعيه للمسيحية، وحاول أن يعطي المسيحيين الحرية، ودعا البابا إلى زيارة البلد ولكن الحديث عن اضطهاد المسيحيين في السودان لا يزال موجوداً، وحتى الإعلام بقي يستخدم ذلك في مسألة الحركة الانفصالية. نحن نحاور وننطلق بقلب مفتوح في هذا المجال ولكن على ان تسمى الأشياء بأسمائها.

أما في لبنان فالحوار الإسلامي ـ المسيحي يدور في حلقة مفرغة لأن المسألة سياسية. ومع ذلك نقول أن هناك لجان حوار إسلامي ـ مسيحي في لبنان، ولكنها لا تنتج شيئاً إنها تنطلق بالجدية المراد لها أن تحرك بها.

لا تقسيم.. لا انهيار .. لا استقرار

س: ما تقييمكم لما يحدث حالياً في لبنان في ظل العهد الجديد وحكومته، من مسائل تعنى بالتطهير والإصلاح؟

ج: لا أعتقد ان الشخص يصنع عهداً، فالعهد يمثل تغييرا في الرنامج، لذلك يمكن أن نسميه تجربة جديدة او مرحلة حكومية جديدة وليست عهداً جديداً. وهذه المرحلة أعطت عناوين كبيرة للحكم في لبنان: التطهير الإداري، التحرير، العدالة، وما إلى ذلك، ومن الطبيعي ان هناك تعقيدات فوق العادة في لبنان تشبه(الأثقال) التي تمنع من الانطلاق سواء في التعقيدات الإقليمية أو الدولية او حتى اللبنانية المنفتحة على أوضاع خارجية، لأنني أعتقد ان لبنان لم ينشأ ليكون وطناً لبنيه، بل ليكون الرئة التي تتنفس فيها مشكلات المنطقة، وليكون أيضاً المحرقة التي يحترق فيها اللبنانيون لتتدفأ عليها المنطقة، وليكون البلد الذي يثقف المنطقة طائفياً ومذهبياً بين وقت وآخر من خلال الأفكار الطائفية والمذهبية التي تثار فيه، وهو البلد الذي ثقف المنطقة العربية في دائرة المسيحية والإسلام بحركة الصراع، ولبنان ـ في هذه اللعبة السياسية ـ هو المسؤول عن كثير من الأوضاع التي حدثت في مصر عينت بها قضية الاقباط والمسلمين، وكانت تصنع فيه الكثير من الرسائل والخطوات والأساليب، والأوضاع وما حدث في الحرب التي سميت بحرب المسيحيين والمسلمين فيه الدليل الكافي. نعم لم يرد للبنان أن يكون فيه اللبنانيون لبنانيين. لذلك أنا أقول إنني أحمل مصباح ديوجين لافتش عن لبناني في لبنان فلا أرى لبنانياً بل طائفياً، ولبنان يمثل في الطوائف المولودة فيه، ولايات غير متحدة، لأن كل طائفة لها مجلس ملّي ورجال دين وسياسيون ومناطق، يعني أنا الجنوبي لا يحق لي من خلال هذا الخط الموجود في لبنان، وأن كان قد بدأ يشحب الآن، أن أتدخل في ما يجري في كسروان، وخذ مثلاً آخر قضية الاحتلال "الإسرائيلي" إلى وقت طويل كانت تثار على أنها قضية جنوبية وشيعية بالتحديد، لذلك أنا أعتقد أنه من الصعب جداً على لبنان أن يكون وطناً يشعر اللبناني فيه بمعنى المواطنية ما دام النظام الطائفي فيه.

س: وكيف نخرج من ذلك؟

ج:المشكلة ان اللبنانيين كعادتهم، خلقوا جدلاً حول هل يكون إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص أو بالعكس، ويعيشون بهذه الدوامة ولذلك كنت أقول منذ زمن الحرب ان هناك ثلاث "لاءات" تحكم لبنان: "لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار"، وسيبقى لبنان يعيش هذه "اللاءات" وأن أعطي للبنانيين دور السلام الذي لا يخلو من الحرب التي تحمل في داخلها "سلاما جنينياً" لأن الحرب اللبنانية ليست مطلقة وكذلك السلم اللبناني، وعندما نصل إلى صدمة تسمح بالغاء النظام الطائفي يمكن أن يشعر اللبنانيون بأنهم لبنانيون.

س: ألا تعتقدون ان المستقبل في لبنان سيكون للشيعة من حيث تزايد السكان والتزايد في الاندماج الوطني والسياسي وغيره؟

ج: مقارنة مع الطوائف الأخرى، هناك كثرة عددية لدى الشيعة، ولكنهم في السياسة حتى الآن لا يملكون الحضور السياسي في المفاصل الحيوية للبلد، فمثلاً المفاصل الاقتصادية والشركات الكبرى أكثرها بيد المسيحيين، الذين كانوا حاجة في "المسألة الشرقية"، ثم صاروا حاجة في الحرب الباردة في مواجهة اليسار والقومية العربية لأنهم كانوا فريق الغرب وليس كلهم، ولكن أنا أتحدث عن الظاهرة وسقطت الحرب وانتهى اليسار وقصة القومية العربية أصبحت تاريخاً ومجرد حالة نفسية ولم تعد تنطلق بالمعنى السياسي الحركي القومي، وفي الصراع العربي الإسرائيلي دخل اليهود غرف النوم العربية. لذلك لم يبق هناك دور حقيقي للمسيحيين، وأنا قلت لبعض المطارنة، انهم كانوا رقماً صعباً واصبحوا ورقة، وهم في نظر أمريكا حالة أوروبية وأن "تامركوا"، وخيارهم الوحيد هو الالتقاء مع مواطنيهم، والدليل على أن أمريكا تعمل من أجل إلغاء الدور المسيحي اتفاق الطائف الذي عُبر عنه بأنه "اتفاق أمريكي بعقال عربي وطربوش لبناني".

لذلك أنا اتصور بأن تطور الوضع في لبنان سينتهي بإلغاء الطائفية السياسية ولن يبقى للمسيحيين دور مميز، وعليهم أن يعملوا بنصيحة البابا في "الإرشاد الرسولي" الذي قال لهم بأنه عليكم أن تعتبروا أنفسكم جزءاً من المنطقة وليس ضيوفاً عليها، وأنا أشك بأن يعمل الكل بذلك لأن بعضهم يفكر بالتاريخ ويريد تجميده.

س: يقال أنه بعد انتهاء المقاومة اللبنانية أي بعد الانسحاب"الإسرائيلي" وتحرير الجنوب سيضعف "حزب الله" ويتلاشى ما رأيكم في ذلك؟

ج: "حزب الله" دخل النادي السياسي كحركة سياسية، وقد نجح في الاندماج إلى حد ما في الحركة السياسية في البلد، وعلى سبيل المثال في الانتخابات الطلابية أو البلدية او النيابية، كان هنالك تحالف بين حزب الله والشيوعيين والاشتراكيين، وهذه المرونة السياسية الموجودة التي تجاوزت كل الخطوط التقليدية تعني ان هنالك انفتاحاً على الجميع، وعلى المسيحيين فهم يذهبون إليهم في المناسبات والأعياد، لبنان لن يلغي أحد ولكنه قد يحجم لأنه هو المختبر ودوره هو دور المختبر.

إقليميات

س: ألا يفرض التحالف "الإسرائيلي" ـ التركي تحالفاً عربيا ـ إيرانياً؟

ج: الواقع أن هذه المشكلة، أي عدم وجود مثل هذا التحالف المطلوب من العرب وليس من إيران، فإيران فتحت الأبواب مع العرب منذ أن قدمت هي السفارة "الإسرائيلية" في طهران للفلسطينيين، واعتبرت قضية فلسطين القضية الاستراتيجية التي لا يمكن التنازل عنها.

س: ماذا عن العلاقات بين طهران وواشنطن؟

ج: ان من الممكن أن تقيم إيران علاقات مع أمريكا عندما تزول عناصر الخلاف بينهما، ولكن إيران لن تعترف بـ"إسرائيل" ولعل هذا سر مشكلة إيران مع أمريكا وأن هذه الأخيرة قد قدمت لها الكثير من الاغراءات لتجمد حربها مع "إسرائيل" لذلك فهي قد دعت العرب إلى الانفتاح، ودعت عمان إلى حضور المناورات. اما مسألة الجزر الإمارتيه، فالواقع إنها مسألة ورثتها إيران الإسلامية عن إيران الشاهنشاهية ولم يكن هناك موقف عربي حاد من هذه المسألة ما عدا الموقف العراقي الذي رفض وتحدى هذه الخطوة الإيرانية.

إيران تعتبر ان الجزر جزء من الدولة الإيرانية لأنها امبراطورية تشمل قوميات عدة: أتراكا وأكرادا وعربا وغيرهم وهي تطرح الحوار المباشر لأنها لا تثق بمحكمة العدل الدولية وتعتبرها خاضعة للهيمنة الامريكية، ولذلك فهي تعتقد بأنها لا يمكن أن تنصفها.

وأنا أعتقد أن إيران من مصلحتها الانفتاح على الوطن العربي، وهي تعمل على ذلك.

الولادة والنشأة

اللقاء مع الصدر

الخلاف السني ـ الشيعي الشورى... في زمن الغيبة

الإسلام ... والعروبة

الإسلام.. والديمقراطية.. والشورى

التقليد والتجديد مشروع مستقبلي للمرجعية
ضرورة الاجتهادات لبنان ..الساحة المثالية لحوار الأديان
لا تقسيم.. لا انهيار .. لا استقرار إقليميات

تمثل شخصية السيد محمد حسين فضل الله مرجعية متكاملة في الدين والسياسة والعلم، وتلقى أفكاره الدينية"التنويرية" إقبالا واسعاً من الأجيال الصاعدة ومن جمهور المثقفين، كما أنها تأخذ في لبنان الطابع الوطني بالإضافة إلى طابعها الإسلامي، وبسبب الانفتاح الذي تميز به فضل الله على مدى مسيرته العلمية الطويلة، باتت شخصيته تشكل منطقة جذب لمختلف الطوائف اللبنانية، لكن انفتاح السيد فضل الله يعني أنه حين يتمسك بالثوابت الإسلامية يجعل منها جسوراً للعلاقة مع الآخرين، فلا مشكلة لديه في الحوار مع العلمانيين والقوميين، حتى مع بعض الإسلاميين الذين قد يرمونه ببعض التهم.. لا خطوط حمراء عنده في الحوار، مقابل جرأة في الطرح وصدر واسع في تقبل النقد وحتى الاتهام. وقد قال عنه الكاتب والصحافي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل:"هذا الإنسان لا تستطيع أن تختلف معه"، فيما وصفه بعض الصحافيين الذين التقوه "بالعدو المثالي لكل من أراد النيل منه لأن الذي يعاديه سيجد طريق العودة إليه سهلاً بسيطاً".

زامل فضل الله كبار العلماء كالسيد محمد باقر الصدر، وتتلمذ على يد أساتذة الحوزة العلمية في النجف، لا سيما السيد أبو القاسم الخوئي والسيد محسن الحكيم وغيرهما.

يمضي فضل الله يومه الملي دائماً بدروس علمية يلقيها على طلابه من العلماء صباحاً، وبمراجعة لمختلف الكتب والصحف، ثم يستقبل الدبلوماسيين والصحافيين، ومنزله مفتوح يومياً لكل الناس.. أما محاضراته الأسبوعية الثابتة فهي خمس، ناهيك عن إجاباته على الاستفتاءات التي ترده عبر الفاكس او الهاتف أو الإنترنت، وغالباً ما يلبي مواعيد وسائل الأعلام عند منتصف الليل، أو قبل ذلك بقليل، ليمتد الحوار لساعات دون إرهاق أو كلل.

في هذا " الحوار" مع " الخليج"، تحدث فضل الله عن "باكورة التنوير" في بداياته، وكيف نشأ معاصراً، وعرض لأفكاره التي يدعو فيها للتقارب بين المذاهب الإسلامية مؤكداً أن لا فرق بين السنة والشيعة في العقيدة الاساس، موضحاً ان حراس التخلف والعصبية هم فقط من يثيرون مشكلة واختلافاً بين السنّة والشيعة.

تحدث أيضاً عن القيود التي تحول دون تحقيق الوحدة الإسلامية، والدوافع التي ترمي إلى الوقيعة بين العروبة والإسلام، كما تحدث السيد فضل الله عن مفهومه للدولة الإسلامية وعن " المرجعية" و"ولاية الفقيه" و "الإمامة" و"الديمقراطية" و"الشورى" وعن "حوار الحضارات وصراعها" وعن "التقليد والتجديد". واختتم الحوار بنقاش حول الأوضاع السياسية اللبنانية وخصوصية البنية السياسية وبالذات الطائفية السياسية التي تعرقل انطلاقة لبنان وتقيد مسيرته، وفيما يلي هذا الحوار الذي أجراه د. محمد السعيد إدريس:

الولادة والنشأة

س: نود في بداية حوارنا أن نتعرف على خصوصية نشأتكم العلمية والفقهية في النجف وعلاقاتكم بالسيد محمد باقر الصدر ويالإمام الخمين؟

ج:ولدت في النجف، أبي كان أستاذا في الحوزة العلمية هناك، أنا في الأصل لبناني من المنطقة الحدودية(بنت جبيل)، في النجف تنفست كل التاريخ.. ففيها تشعر بأنك تتحرك في دروب التاريخ، الذي يرقى إلى أكثر من ألف سنة، وعندما تطل هناك على الصحراء التي تتوسد النجف كتفها، تشعر بأرواح الأجيال التي دفنت في(وادي السلام) وهي المقبرة الكبرى، ولذلك أحسست بطعم الموت في طفولتي، في رحابة الصحراء حيث كانت النجف تتنفس حزناً في مواسم عاشوراء. وكانت تتنفس شعرا في كل المناسبات الاجتماعية من فرح وحزن، وكانت تنفتح على ما يعيشه الواقع العربي والإسلامي، ونحن نتذكر في هذا المجال شاعرين كبيرين انطلقا من داخل الحوزة وهما الجواهري والشرقي، ونضيف إليهما محمد رضا الشبيبي، ومن الطبيعي أن النجف حوزة علمية تُدّرس الفقه والأصول والفلسفة.

ودخلت منذ طفولتي الأولى ـ في العاشرة من العمر تقريباً ـ إلى الحوزة وبدأت دراسة مبكرة للفقه نتيجة البيئة التي كنت أعيش فيها والتي كانت تمثل تاريخي العائلي، الذي يضم علماء دين، وقد كنا نعيش في النجف في بداية الطفولة قلق الواقع في أيام العهد الملكي، أيام نورى السعيد وعبد الاله. وكنا نعيش بين وقت وآخر بعض الارتباك السياسي الشعبي عندما كانت بعض الأحزاب تتظاهر وتقابل بالرصاص، ولذلك فقد اخترنا في داخل شخوصنا ووجداننا المعارضة، بقدر ما كنا نفهمها في الوضع العربي الذي كان يحبل بمستقبل واعد جاد.

هكذا عشنا شيئاً من القلق السياسي وبدأنا نفكر بعمليات التغيير، وبدأت منذ البداية أفكر بالإسلام، ربما كانت الصورة لدي غائمة أو ضبابية كمسلم قرأ بعض الأحاديث عن الإسلام في عناوينه الكبرى، فاختزن في شخصيته انه لا بد من الإسلام، وأذكر أنني في أول زيارة لي إلى لبنان عام 1952، عام رحيل أحد كبار علماء الشيعة، وكان مقيماً في دمشق وهو السيد محسن الأمين صاحب كتاب"أعيان الشيعة"، التقيت ببعض الكتاب والشعراء، ومنهم الكاتب حسين مروة وبعض الأدباء، وحينها جرى احتفال تأبيني بأربعين السيد محسن الأمين في بيروت وشاركت في التأبين بقصيدة، وكانت سني ما بين السادسة عشرة والسابعة عشرة، ورأى الناس في ذلك الحفل المهيب شاباً معمماً بعمامة صغيرة يقف ليتحدث، وأذكر أنني في ذلك الوقت دعوت إلى الوحدة الإسلامية، وأذكر من القصيدة الأبيات الآتية:

"والدين وهو عقيدة شعّت على أفق الوجود.

ومبادئ توحي لنا روح التضامن والصمود

عرفتنا فيه الحياة بما حواه من البنود

وأريتنا ان الاخاء من الهدى بيت القصيد

فالمسلمون لبعضهم في الدين كالصرح المشيد

لا طائفية بينهم ترمي العقائد بالجحود

والدين روح برّة تحنو على كل العبيد

تهفو لتوحيد الصفوف ودفع غائلة الحقود

عاش الموحد في ظلال الحق في أفق الخلود".

وتحدثت آنذاك عن "اليقظة الحمراء" وعن الاستعمار وأذكر بيتاً:

"ويد الغريب تبارك الآسي برنّات النقود

ورؤى غد تدعو لها بالنصر والفتح المجيد.

وكان لتلك القصيدة أثر كبير، وبدأت منذ ذلك الوقت أدخل في حوار مع الشيوعيين والقوميين في العراق، وخلال زياراتي إلى لبنان أيضاً، وأفكر في حقيقة المشكلة بين الإسلام والعلمانية، وبمقدار ما كنت املك من ثقافة قد لا تكون غنية آنذاك.

وهكذا عشت هذا الأفق وكنت في ذاك الوقت أتجاوز قراءاتي التقليدية في دراستي حيث كنت في الثانية عشرة أقرا مجلة الرسالة، وأقرا مجلة "الكتاب" ومجلة الكاتب المصري طه حسين "والمصور" و"آخر ساعة"، كنت معنياً بأن أقرا، لم أكن أتقن لغات أخرى غير العربية ولكن كنت أقرأ لـ"لامارتين" مترجماً ولغيره من الكتاب الأجانب، ولذلك نشأت معاصراً ولم انشأ تقليدياً منذ بداياتي. نشأت إنساناً يعيش كثيرا من قلق الفكر والبحث أفتش وأحاور، وكانت لي تجارب شعرية، لأنني دخلت مبكّرا في نظم الشعر، فقد نظمته بالفطرة في العاشرة من دون أن املك ثقافة شعرية آنذاك، وشاركت كثيراً في الجو الأدبي إلى جانب الجو الفقهي والأصولي.

اللقاء مع الصدر

التقيت مع السيد محمد باقر الصدر في طفولتنا المشتركة لأنه يكبرني بسنة واحدة، وعشنا حياة الطلاب مع بعضنا وانفتحنا ما قبل الستينات على الإسلام، وفكرنا بأنه لا بد من أن يتحرك الإسلام وأن يأخذ دوره بطريقة او بأخرى، ولم يكن الإمام الخميني آنذاك قد انطلق بثورته.ولم نلتق بنواب صفوي، وكنا نقرأ لحسن البنا في ذلك الوقت. ولم يكن الإسلام في تلك الفترة متمذهباً، فقد كان ينفتح على الآخر ولكن من دون عمق. وسرعان ما انطلق هذا الإسلام من جديد (الإسلام الحركي) الذي يعتبر الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، وصدرت في النجف في أواخر الخمسينات مجلة أسمها "الأضواء"، وكنا مع السيد محمد باقر الصدر نشرف عليها، فهو كان يكتب افتتاحيتها الأولى، وكنت أكتب افتتاحيتها الثانية، وانطلقنا في هذه الأجواء، وكانت حركة إسلامية ثقافية تتحدث عن السياسة بطريقة ثقافية ولكنها لم تكن حركة سياسية بالمعنى الاصطلاحي للحركة، بل كانت تتحفز لذلك، وهكذا انطلقت الحركة الإسلامية في النجف لتنضم إلى الحركات الإسلامية الأخرى، وإذا أردنا أن نتحدث عن الحركات الإسلامية من الناحية المذهبية، فيمكن القول بأنه لم تكن هناك حركة إسلامية شيعية وحركة إسلامية سنية في ذلك الوقت.

في الواقع لم ألتق بالإمام الخميني لقاءاً مباشرا في النجف، لأنني عدت إلى لبنان بعد مجيئه إلى النجف بسنة او سنتين، ولكنني التقيت به بفكره والتقيته اكثر من مرة في إيران بعد الثورة.

لذلك نستطيع أن نقول أن هذا الفكر الإسلامي الذي أنطلق من الساحات الإسلامية الشيعية، وامتد إلى ما يتجاوزها من الساحات، وأقصد الفكر الذي كنت اتحدث به، كما هو فكر السيد محمد باقر الصدر، لم يكن فكراً يعيش في دائرة مذهبية ضيقة، كان فكراً يتنفس الهواء الطلق ويتحرك في الصحو لأننا كنا، نؤمن بأن المذهبية هي وجهة نظر في فهم الإسلام، وعلينا ان لا نؤطر الإسلام، فالتشيع قد يكون وجهة نظر إسلامية يؤمن بها أصحابها وكذلك التسنن. وإذا كان المسلمون يختلفون في بعض المفردات الكلامية التي قد يعتبرها هذا الفريق عنصراً حيوياً مهماً أو يعتبرها ذاك الفريق كذلك، لكنها لا تمنع المسلمين من اللقاء في 80% على الأقل من العقائد والفقه وفي مناهج الإسلام في الحياة، ولذلك كنا نقول إننا إذا استطعنا ان نبتعد عن التعصب، فإننا نستطيع أن نكتشف إسلاماًمشتركاً متنوراً تماماً، لأننا نؤمن بالوحدة في التنوع، واطلقنا عنواناً لتحركنا في هذا المجال هو "الوحدة في التنوع، والتنوع في الوحدة" باعتبار ان باب الاجتهاد مفتوح في الإسلام، سواء كان اجتهاداً في العقائد، أو الفقه، ونحن لا نعتبر اجتهادات الأقدمين مقدسة، فالأقدمون اجتهدوا من خلال ما كانوا يملكون من ثقافة، وكانوا يختلفون مع بعضهم البعض، فلماذا لا يكون لنا الحق في أن نختلف معهم؟ وما دام الدليل هو الأساس في هذا الرأي أو ذاك، فإذا أكتشفنا خطأ الأقدمين فعلى أي أساس يمكن أن نقدس الخطأ.

الخلاف السني ـ الشيعي:

س: ولكن لماذا وصلنا إلى ما نحن عليه من انقسام بين سنة وشيعة؟

ج: الشيعة لا تختلف عن السنة على الإيمان بالله الواحد بكل صفاته، وهناك جدل أثير في بعض الصفات مثل الجدل حول صفة العدل، ولكنه ليس جدلاً بين السنة والشيعة، بل بين المعتزلة والإمامية معهم والاشاعرة ولكنه ليس خلافاً سنياً شيعياً، هو خلاف كلامي ينطلق من مسألة الحسن والقبح العقليين او مسألة الجبر او ما إلى ذلك من مسائل تتحرك بعيداً عن المعنى المذهبي، بل هي تتحرك من خلال ما يجتهد به المجتهدون، المهم أنه ليس هناك فرق بين السنة والشيعة في العقيدة الأساس، وهي عقيدة التوحيد، ثم النبوة هي أيضاً عقيدة مشتركة بينهما، فكلاهما يؤمن بأن محمداً رسول الله"صلى الله عليه وآله وسلم"، ولكن هناك خلافاً كلامياً قد لا يكون سنياًـ شيعياً، ولكنه حالة فكرية حول هل ان النبي معصوم في التبليغ وفي أشياء أخرى، ام أنه ليس معصوماً إلا في التبليغ؟

الرأي العام لدى الشيعة يرى أن شخصية النبي لا تتجزأ، وأن النبوة مقام غير عادي، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسوله (ص) ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن كان في عقله شيء من الظلمة فكيف يمكن ان يعطي عقول الناس نورا؟ وريما ينطلق بعض الناس من وجهة نظر أنه لا بد أن يكون النبي نورا كليا، فعندما نقول انه ليس معصوماً سوى في التبليغ بهذا يعني أنه يعيش في الظلام، وعندما يخطئ في فكرة أو في عاطفة أو سلوك، فإنه لن يكون نبياً في هذا الجانب من شخصيته، فالشخصية لا تتجزأ كي يكون النبي معصوماً في جانب وغير معصوم في جانب آخر.

لذلك فالشيعة يتبنون عصمة الأنبياء، ويفسرون ما جاء في القرآن من خلال بعض الآيات التي قد توحي بغير ذلك، كالآيات التي تركز على الضعف البشري للأنبياء لإثبات بشريتهم من دون أن يمس هذا الضعف جانب العصمة فيهم، المهم هناك جدل في هذا المجال، وربما نجد الكثير من علماء السنة يرددون حديث "تأبير النخيل" وأن النبي أخطأ عندما أشار إلى ذلك الفلاح بعدم تأبير او تلقيح النخل، وعندما جاء هذا الشخص إلى النبي وأخبره بأن النخل لم يثمر، قال له النبي:أنتم أعلم بأمور دنياكم، إذا أمرتكم بشيء من أمور الدين والآخرة فاعملوا به، وأما ذاك فشأنكم"، هذا هو مضمون الحديث.

ولكننا نناقش هذا الحديث، ونعتبره غير معقول لسببين أولهما: أن جميع اهل الحجاز، وحتى الأطفال منهم، يعرفون النخل والقصة صارت في المدينة وعمر النبي كان يتجاوز الخمسين، فهل يعقل أن يجهل النبي ان النخل يجب أن يلقح حتى يثمر. وثانيهما إذا كان النبي يجهل ذلك فكيف يشير على الآخرين بما لا يملك علمه. لذلك نحن قلنا أن هذا حديث موضوع. إذن هناك خلاف فكري في أن النبي معصوم في كله أم لا.

كلنا يؤمن بالسنة، ولكن المسألة هي توثيق السنة، هل قال النبي ذلك أم لا؟ كيف نوثق السنة وما هي قواعد توثيقها؟ أخواننا من أهل السنة يعتبرون أن صحيح اليخاري وصحيح مسلم هما الكتابان اللذان لا يأتيهما الباطل من بين يديهما او من خلفهما، وهذا غير ممكن، فالبخاري ومسلم وثقا بحسب اجتهادهما من الذين رووا عن النبي، ولكنهما قد يخطئان في ما وثقا به، وبالنسبة إلى الشيعة ليس هناك صحاح، هناك كتب"الكافي" و"الاستبصار، و"من لا يحصره الفقيه، ولكن الشيعة تقول إنه يجب أن نوثق كل حديث وليس هناك صحاح، قد نرى أناساً يقولون روي هذا في"الكافي"، والشيعة يقولون هذا حديث ضعيف أو غير موثق حتى لو روي في"الكافي".. ونحن نلتقي مع الأخوان من أهل السنة في مسألة التوثيق والأخذ بالسنة تماماً كالأخذ بالكتاب. ولكننا نختلف في عناصر التوثيق لأنها عملية اجتهادية: أن يكون الراوي موثقاً، أو أن تكون هذه الرواية موثقة. وقد يختلف الناس في عناصر التوثيق وهنالك أمور أخرى تجمعنا مع أهل السنة منها الإيمان باليوم الآخر وكذلك القرآن يجمعنا، ولو طفت في كل العالم فلن تجد قرآنا غير هذا القرآن الذي بين يدي المسلمين من سنة وشيعة.

وفي هذا الإطار قد ينسب إلى الشيعة بأنهم يقولون بتحريف الكتاب، وربما نجد بعض الأحاديث التي قد توحي بذلك، كما نجد بعض الأحاديث في كتب السنة تقول بنقصان الكتاب، ولكن أغلب هذه الأحاديث ضعيفة وبعضها مؤول لكنه وارد مورد التفسير لا مورد الجزئية.

وعلى كل حال فلو كان هناك أي رأي شيعي حاسم بمسألة "نقصان القرآن" أو حول الزيادات الموجودة في الأحاديث، لوجدت هناك على الأقل نسخة واحدة في العالم تقول ذلك؟‍، ويقولون أن هناك "سورة الولاية" وأنا لا يمكن أن أقبل بأن تنسب إلي من الناحية الأدبية، فكيف يمكن ان ننسبها إلى الله سبحانه وتعالى، لذلك فأنا أؤكد بأنه لو جلنا في كل العالم سواء في المناطق الشيعية او السنية لما وجدنا قرأنا يزيد أو ينقص حرفاً واحدا أو حتى ضمة او فتحة على قرآن آخر.

أما "مصحف فاطمة" فهو مجرد كتاب يتحدث عن بعض ما كانت تتحدث هي "ع" به عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم: وفيه أيضاً وصيتها، (وربما تقول بعض الأحاديث أن الله أرسل لها ملكاً يؤانسها ولكن ليس ملكاً يوحي إليها) فكانت تكتب ذلك او كان علي(ع) يكتب ما يثور الجدل حوله. ولكن المهم أنه ليس هناك أي عالم قديم أو حديث يقول بوجود قرآن آخر. فكلمة مصحف مأخوذة من الصحف، ولم تكن هذه الكلمة أساساً معروفة سابقاً كأسم للقرآن، وعلى كل حال ليس هناك كتاب في كل العالم أسمه مصحف فاطمة. وأتحدى ـ بمحبة ـ أي شخص يقول أن هناك كتاباً موجوداً بين يدي الشيعة أو السنة او في أي مكتبة من مكتبات العالم أو لدى الباحثين أو أصحاب الآثارء أسمه مصحف فاطمة، والجدل فيه يدور حول شيء لا وجود له.

نحن نؤكد أنه لا تحريف ولا زيادات في القرآن، وهناك كتب لعلماء كبار أثبتت ذلك، ومنها كتاب"البيان في تفسير القرآن" للمرجع المعروف الذي توفي مؤخراً أبو القاسم الخوئي، وفيه بحث مفصل عن موضوع "التحريف في القرآن" وهو ينفي ذلك.

إذاً لا فرق بين الشيعة والسنة في أن كتاب الله واحد لا ينقص حرفاً ولا يزيد، وأنه هو المرجع في تصحيح الأحاديث، ونحن نروي عن أئمة أهل البيت(ع) انه"ما خالف قول ربنا لم نقله" "وما جاءكم من حديث من بر أو فاجر فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الحائط".

يبقى الخلاف بينهما في مسألة الخلافة، فالشيعة يعتقدون ان الخلافة والإمامة بعد رسول الله(ص) هي لعلي وأولاده، ويستندون في ذلك إلى نصوص موجودة في كتب أهل السنة كما هي في كتب الشيعة، ولكن السنة ينكرون ذلك ويرون أن الخلافة لأبي بكر ومن بعده لعمر ومن ثم لعثمان ثم لعلي. وهذا الجدل فقهي وكلامي كتبت فيه آلاف الكتب ولا تزال تكتب. وقد حمل هذا الخلاف الكثير من عناصر الاختلاف بين ما ورد عن أهل البيت(ع) وعن الآخرين. ولكن ذلك لم يستطيع أن يجعل من التشيع دينا مستقلا عن التسنن. فكلهم مسلمون يحجون إلى بيت الله ويصلون ويصومون معا، وإذا اختلفوا في بداية الصيام ونهايته، فالسنة يختلفون في ما بينهم على ذلك والشيعة كذلك. وحتى لو درسنا كل الأحكام: أحكام الحج والصوم والجهاد والزكاة التي بني عليها الإسلام لما وجدنا فرقاً إلا كما يختلف السنة مع بعضهم البعض والشيعة مع بعضهم البعض.

الشورى... في زمن الغيبة

س: هل يمتد الخلاف حول الامامة إلى فقه الإمام بحد ذاته، بمعنى ان الامامة هي شكل حكم إسلامي؟ وهل أن الامامة شرط أو معلم أساسي من معالم الدولة الإسلامية؟

ج: الإمام هو خليفة النبي (ص) وهو رئيس الدولة الإسلامية ويعطيها شرعيتها، وبحسب العقيدة الشيعية المتداولة، فهم يرون ان الإمام غائب وهو الإمام المهدي(عج) ولذلك فإن هناك من يرى أنه في زمن الغيبة بالإمكان الأخذ بالشورى، وهناك من يقول بولاية الفقيه كالإمام الخميني وقبله بعض العلماء وهي التي تتبناها الان الجمهورية الإسلامية في إيران، وولاية الفقيه هذه لا تتناسب مع فكرة الحكم الألهي الذي كان موجوداً في أوروبا او في الغرب، لأن الفقيه لا يحكم من خلال حالة شخصية بل من خلال ما لديه من مصادر التشريع، بمعنى أنه مجتهد كبقية المجتهدين، ولا بد للفقيه الذي يملك شرعية الحكم أن يكون مجتهداً بالفقه، أي أنه لا يتجاوز في كل ما يُصدر من حكم الأحكام الشرعية التي لا بد من أن يأخذها من الأدلة الاجتهادية المعروفة عند الفقهاء، فإذا أنحرف وأصدر حكما لا يستند إلى قاعدة فقهية في الاستدلال فإنه يسقط تلقائياً، ولا بد له أن يكون عادلاً ومستقيماً في الدين، ولا نقول معصوما، ولكن لا بد له ان يعصم نفسه بمعنى الالتزام الدقيق، وأيضاً لا بد ان يكون خبيراً بالواقع وخصوصاً الواقع الذي يتولى ولايته، وهو ما يعبر عنه بالقول أن يكون "عارفاً بزمانه"، والفقيه ينتخب من مجلس الخبراء، الذين يُنتخبون بدورهم من الشعب، الولي الفقيه عندما يدير حركة الحكم، فإنه يديرها من خلال الاستفتاء الشعبي. فمثلاً في إيران أنتخب الإمام الخميني انتخابا تلقائياً لأن الشعب كان يريده وهذا أعلى أنواع الانتخاب، اما السيد خامنئي فقد انتخبه مجلس الخبراء المؤلف من علماء وأصحاب خبرة من مدنيين وهؤلاء ينتخبهم الشعب الإيراني كما جرى انتخاب مجلس الخبراء الحالي.

إن مجلس الشورى يخضع للانتخاب الشعبي المباشر، وكذلك رئيس الجمهورية ومجلس الخبراء كما يخضع الدستور للاستفتاء الشعبي المباشر، وهذا أمر لعله غير مألوف، لذلك أعتقد أن الجمهورية الإسلامية في إيران هي أكثر الدول الموجودة في العالم الإسلامي وربما في غيره التزاماً برأي الشعب بشكل مباشر ومستقل، وتمارس الاستفتاء بهذه الدقة، حتى أن الدولة لا تتدخل بالتصويت. مثلاً في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ربما لم يكن النظام مع السيد خاتمي، ولكنه ترك الشعب يقترع لمصلحة شخص آخر لا يلتزمه النظام، وهو ما حدث في الانتخابات البلدية الأخيرة.

س: ولاية الفقيه لا تمثل حكماً الهياً فوقياً ولكن في انتخابات المجلس النيابي كانت هناك سلطة تشطب المرشحين؟

ج: هذا أمر موجود في كل الديمقراطيات فهناك شروط للمرشح، قد تختلف من بلد لآخر، ومع أن هناك شروطاً في الانتخابات البلدية الإيرانية التي جرت مؤخراً، فقد وجدنا أن الكثيرين ممن يسمون بالإصلاحيين أو المعتدلين نجحوا، ووجدنا أن إيران التي يقال إنها تحت "حكم القرون الوسطى" نجحت فيها300إمراة في البلديات، وهناك تجارب أخرى في إيران من الممكن أن تترشح فيها امرأة ويترشح عالم دين، فتنجح المرأة ويسقط عالم الدين.

أنا لا أتحدث عن نظام مثالي لا مشكلات فيه، فمن المؤكد أن هناك نقاط ضعف ومشكلات، ولا ندعي أن هناك حرية مطلقة وفوق العادة، فأساساً لا وجود لدولة فيها حرية مطلقة.

لهذا نقول أن ولاية الفقيه، لا تمثل حكماً الهياً فوقياُ، لا يملك الشعب فيه أن يحاكم الحاكم، فمجلس الخبراء يستطيع عزل الولي الفقيه إذا اختلت شروط الولاية في شخصيته أو احكامه. إذا الولي تحت القانون وليس فوقه.

س: ولكن إذا احتكمنا إلى السُنّة، فليس في القرآن ما يقول بمسألة الإمامة أو ولاية الفقيه؟

ج: إن المسلمين من السنة والشيعة يقولون بأن "الخلفاء الأثني عشر كلهم من قريش" والشيعة يقولون أن هذا لا ينطبق إلا على أئمة أهل البيت(ع). والمسألة تخضع لجدل واسع في ما ينقله المسلمون من هنا وهناك عن النبي (ص) أو في الاجتهادات حول فهم الآيات القرآنية ونحن الان في مجال العرض لا في مجال الاستدلال لكي نقول أن الأساس في مسألة الخلاف الشيعي ـ السني هي مسألة الإمامة.

س: وماذا عن مسألة الدعوة إلى تقريب أو توحيد المذاهب؟

ج: أتصور أن تقريب المذاهب سهل، لأن المسألة ليست بتطابق المذاهب لأن هذا لا يحدث حتى عند أهل السنة أو عند الشيعة بسبب اختلاف الاجتهاد عندهم. أن مسألة تقريب المذاهب الذي بدأته"دار التقريب بين المذاهب" هي أن يُعرض الفكر السني والشيعي ليرى الشيعة والسنة أنه ما من رأي فقهي في العبادات والمعاملات ارتآه مجتهد منهم إلا ويوافقه عليه الآخرون من الجهتين أو يقتربون منه في ذلك.

فنحن نجد أن العقائد الأساسية التي يكون بها الإنسان مسلماً وبإنكارها يكون كافراً كالتوحيد والنبوة والإيمان بالكتاب وباليوم الآخر هي عقائد متفق عليها بين السنة وبين الشيعة، اما الإمامة فهي ليست من الأصول التي إذا أنكرها الإنسان كان كافراً. فالسنة كلهم مسلمون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ولذلك نرى مسألة التزاوج بين السنة والشيعة وخصوصاً في لبنان كثيرة جداً، فهذه المسائل قد يراها هذا حقيقة يلتزمها حسب اجتهاده، ولا يراها ذلك حقيقة، فهذه امور خضعت منذ البداية للجدل ولا تزال تخضع له حتى اليوم.

س: يصنفنا الغرب كعالم واحد وحضارة واحدة، ويخوضون الصراع مع الإسلام تحت دعوة صراع الحضارات، ولكننا بين بعضنا البعض لسنا بواحد(كتلة واحدة) كيف يمكن ذلك؟

ج: قلت منذ البداية أن المسألة هي ان يفكر الشيعي كمسلم شيعي ويفكر السني كمسلم سني، وأن لا يكون التشيع دينا من خلال التفاصيل التي تفرضها بعض الخطوط خارج نطاق الإسلام، وكذلك التسنن، ونحن لو فتشنا كثيراً في كتب الشيعة أو السنة لوجدنا الكثير من الخرافات والغرائب، لذلك نحن نريد أن نننطلق من القضايا الأساسية المشتركة، والتي ينطلق منها المفكرون العلماء والمسؤولون الاتقياء، لذلك نجد أن إيران أنشأت دارا للتقريب، وهناك جامعة "السيد قطب" التي تدرس فيها المذاهب الأربعة او الخمسة، ونحن نقول أن مشكلة السنة والشيعة هي مشكلة جهل كل فريق بالفريق الآخر وفي الذين يحرسون التخلف والعصبية، ويفتشون عن نقاط الخلاف بدلا من نقاط الوفاق ويضخمونها، لذلك اقترحنا أن يكون هناك حوار على طاولة مستديرة وان يقول كل منا وجهة نظره حول اخطاء الآخرين. وعندما نسمي الأشياء بأسمائها، ولا نختبئ خلف الكلمات التي لا تحل مشكلة، سوف نصل إلى نتيجة، فمشكلتنا أننا شعب يختبئ وراء الكلمات ولا يصارح بعضه البعض.

س: أي صورة وأي فقه ترونه للنهوض بالأمة الإسلامية في ظل توصيفكم للوضع الدولي والعالمي؟

ج: أتصور أننا نستطيع أن نلتقي على قانون إسلامي في العبادات والمعاملات يلتقي فيه السنة والشيعة على اكثر م 80% وعندما نريد أن نبحث القضايا بحثاً علمياً، ونأتي إلى الفقه الشافعي وفقه أبي حنيفة والمالكي والحنبلي والجعفري، سنجد هناك لقاء بهذا المستوى، أما مسألة الأمامة أو الخلافة فليس لها واقعية بالمعنى المباشر في حياتنا اليومية، والذي بقي من هذه المسألة هو هذا الخط الفكري المنهجي هنا والخط المنهجي الفكري هناك وهما يلتقيان في اكثر من جانب. وحتى نظام الحكم لم يحدد بالمعنى التفصيلي وإنما يخضع للاجتهاد.

فمن الممكن جداً أن نجد في الشورى ملتقى، وحتى في التجربة الإيرانية، نجد أن هناك تزاوجاً بين ولاية الفقيه والشورى، فإذا افترضنا أنه طلب من المسلمين الاختيار بين ان يكون رئيس الدولة شخصاً فقيهاً عادلاً، خبيراً في السياسة ويرجع إلى أهل الخبرة في كل قرار من قراراته في ما لا خبرة له فيه وبين أن يكون شخصاً لا يملك الخبرة الفقهية ولكن لديه خبرة سياسية، نجد أنه من الطبيعي أن يختار الناس ولاية الفقيه الخبير والواعي والتقي الذي يملك الخبرة السياسية. وهذا ليس بالأمر السلبي، فأن يكون الإنسان معمماً أو غير معمم هذه لا تشكل فارقاً في الجانب الثقافي أو في الجانب الشخصي.

وإذا كانت التجربة الإيرانية تزاوج بين ولاية الفقيه والشورى، فإنه يمكن أن يضيف إليها بعض المفكرين الإسلاميين شيئاً أو ينقص منها شيئاً، ولذلك نقول ليس هناك تعقيد في المسألة.

ولكني أتصور أن مسالة الوحدة الإسلامية هي من الممنوعات الدولية من قبل دول الاستكبار العالمي، وكل الوحدات ممنوعة ومنها الوحدة الوطنية أو العربية، لأنا إذا توحدنا وطنياً أو إسلامياً أو قومياً، فلن يستطيع الاستكبار العالمي أن يأخذ حريته، ولا أعتقد أن وضع الساحة الإسلامية معقداً كما يقولون، باعتبار أن هناك إسلامات عدة كإسلام الجزائر او إسلام السودان أو إسلام إيران.

ليست القضية كذلك فهذا كلام للاستهلاك السياسي، صحيح أن هناك اختلافاً في الاساليب، وتخلفاً في فهم الإسلام في بعض المواقع، لكن هذا التخلف لا يمكن أن نسميه إسلاماً، والجهل كذلك. وعندما يجلس العلماء والمفكرون والمثقفون والسياسيون الإسلاميون ويدرسون القضايا فلن يجدوا هناك زوايا مغلقة، والمشكلة أننا حبسنا أنفسنا في كهوف التعصب وتحولت مواقعنا إلى زنزانات يحبس فيها كل إنسان نفسه حتى لا يقترب منه الآخر.

الإسلام ... والعروبة:

س: هل ثمة تعارض بين الدعوة للوحدة العربية والدعوة للوحدة الإسلامية؟

ج: اعتقد أن هذه معركة أقحمت علينا وليست معركة حقيقية، لسبب بسيط هو أن العروبة حالة إنسانية وإطار إنساني ينطلق من اللغة والتقاليد والعادات وإلى غير ذلك مما يتحدث به القوميون من عناصر القومية، والعروبة ليست فكراً ولا قانوناً ولا عقيدة بل حالة إنسانية بشرية تضم فريقاً من الناس يتفقون في بعض الخصائص، اما الإسلام فهو دين، وقيم وفكر وقانون ومنهج فأي مشكلة بين أن تكون عربياً ومسلماً؟! العروبة هي الاطار الذي يبحث عن الصورة، والإسلام هو هذه الصورة ـ هذا على الأقل ما يقوله المسلمون ـ وليس هناك تناف بين الإطار والصورة ولا نحتاج في ذلك إلى ان ندخل في ابحاث.

عندما انطلق الإسلام حكماً عربياً وقرأناً عربياً ونبياً عربياً عاش العرب تجربة الإسلام بشكل عفوي بعد ان آمنوا به وأعطوه من جهدهم وأعطاهم الإسلام من قيمه وحضارته، ولم يعيشوا عقدة الجدل بين العروبة والإسلام وكذلك الفرس والاكرد. ولكن السؤال متى بدا افتعال التناقض بين العروبة والإسلام؟ والجواب هو عندما انطلقت العروبة في الثلاثينات والاربعينات على الطريقة النازية في ظل شعار "العرب فوق الجميع"، وعندما برزت الشعوبية باعتبارها حركة تختزن في ذاتها العداء للإسلام، وتستهدف خلخلة الواقع الإسلامي. لقد انطلقت المشكلة حديثاً حين جرى اعطاء العروبة مضموناً غير إسلامي من خلال "ادلجة" العروبة، فمثلاً عندما تبنى "بعض" العروبيين في الخمسينات الماركسية، كان لا بد ان تختلف هذه القومية العربية الماركسية مع الإسلام ليس لأن العروبة اختلفت مع الإسلام، ولكن لأن هؤلاء احتضنوا الماركسية، فإذا، لا مشكلة بين العروبة أو الوطنية وبين الإسلام أني أقول أنا جنوبي لبناني عربي مسلم شرق أوسطي. والله لم يلغ للإنسان خصوصيته بل أكد هذه الخصوصية واعطاها الأفق الذي تتحرك فيه "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، فالتعارف هو أن التقي بك من خلال حاجتي عندك في خصوصياتك وتلتقي بي ، تعرفني وأعرفك من خلال طبيعة الحاجات الموجودة لدى كل واحد منا ويحتاج إليها الآخر.

الإسلام.. والديمقراطية.. والشورى

س: ما هو موقف الدولة الإسلامية من الديمقراطية والأقليات الدينية الأخرى؟

ج: الديمقراطية تختلف في عمقها الفلسفي او الفكري عن مسألة الدين، فمثلاً عندما نكون مسلمين نؤمن بالإسلام أنه دين الله باعتبار الأسس التي ارتكز عليها هذا الإيمان، سواء قبله الناس أم لم يقبلوه، أما الديمقراطية فتقول أن الأساس في الحق والشرعية هو قرار الأكثرية، فلو أن الأكثرية اختارت الإسلام، صار شرعياً وحقا أما إذا رفضته فالإسلام يصبح في وجهة نظر الديمقراطية في عمقها الفكري ليس له شرعية لأن الناس (أو الأكثرية) لم يقبلوه، وليس هو الحقيقة، بينما أنا كمسلم أشعر بأن الإسلام هو الحقيقة بغض النظر عن رأي الأكثرية.

وإذا أخذنا الديمقراطية من خلال بعدها الفكري والسياسي فهي لا تشترط ولا تعتبر أن هناك أشياء لا تمس، إنما القداسة ـ عندها ـ هي للأكثرية الشعبية، نحن يمكننا أن نأخذ من الديمقراطية ما لا يثير لدينا التحفظات، لذلك نحن نقول أننا مع الديمقراطية ضد الديكتاتورية في قضية الحكم. ولكن عندما تريد الديمقراطية اختراق الثوابت الإسلامية عند ذلك لا بد من أن نتحفظ.

س:إلى إي مدى يمكن المصالحة بين الإسلام والديمقراطية؟

ج: نحن لا نتكلم عن المصالحة، ففي بعض الحالات يدور الحديث عن ان الديمقراطية هي أقل الأنظمة سوءاً، ولذلك علينا أن نبحث عن صيغة مثل الشورى، على أن نؤصل مسالة الشورى، وأنا ممن يقولون بهذا الأمر، وأقول إن هناك وجهة نظر في دائرة معينة يمكن أن نأخذ بها في بعض الاعتبارات،ولكن في رأيي ان كل عنوان من العناوين السياسية ينطلق من مناخ معين يختلف عن المناخ الإسلامي. نحن نستطيع أن نجد بعض الالتقاء مع الديمقراطية، بحيث يمكن لنا أن نوافق على بعض خطوطها، ولكني لاأسميها الديمقراطية بل الأكثرية، وعندما نعبر عن الشورى ليس بالضرورة ان نعبر عن الديمقراطية.

في الخمسينات كانت هناك مجموعة تسمي نفسها"انصار السلام" وفي اجتماع لهم اصدروا عريضة للتوقيع عليها، فبعضهم كتب"انصار السلام" وبعضهم "أحب السلام"، ولكن أحد الوجهاء من السياسيين كتب "أكره الحرب" فسألوه ما الفرق قال"أنصار السلام" أصبحت تعطي ايحاء معيناً وأنا أريد التعبير عن معناه دون الالتزام به.

التقليد والتجديد:

س:عندما يُذكر السيد محمد حسين فضل الله يُذكر كظاهرة ثورية في الفكر الشيعي استقطبت الكثير من المؤيدين والمعارضين، في كتابات مختلفة وبيانات، هل من الممكن الاطلاع على القضايا التجديدية للفكر أو الفقه الشيعي التي أثارت بعض الخلافات سواء داخل لبنان أو مع إيران؟ وهل هذا التجديد هو سبب ما يقال عن خلاف بينكم وبين "إيران" و"حزب الله"؟

ج: الواقع إنني لا أعيش عقدة التجديد والتقليد، لأنني اعتقد أن قضية أنتاج الجديد هي أن تحرك فكرك ليفهم المسائل بشكل مستقل عما يفهمه الآخرون وقد نلتقي مع الآخرين ومع الجديد والتقليد. نحن نريد أن نبحث عن الحقيقة الضائعة. لذلك حاولت ان أفكر بطريقة مستقلة ولكن على الأسس الإسلامية التي يفكر بها كل إسلامي أي على أساس الكتاب والسنة ولكن كيف نفهم الكتاب والسنة وكيف نوثق السنة؟!

أنا مختص في كتاباتي بالحوار وبأسلوب الدعوة، ولدي تفسير للقرآن "من وحي القرآن"(24 مجلداً) بالإضافة إلى كتاب "الحوار في القرآن" "وأسلوب الدعوة في القرآن" وأقول ليس هناك أي سؤال تافه أو محرج، والحقيقة ابنة الحوار، وأطلقت شعار لا مقدسات في الحوار، وأنه بإمكاننا أن نناقش كل شيء، لأنه ليس عندنا في ما نريد ان نؤمن به شيء فوق العقل، فقد آمنا بالله من خلال العقل وأن كنا لا نستطيع أن ندرك ذات الله بالعقل، لأن العقل لا يملك أي وسائل لمعرفة ذلك، ولهذا كنت اقرأ الأمور قراءة مستقلة، ربما اختلف فيها مع الآخرين.

ربما كان هناك في الفكر الشيعي حديث عن قدرات يعطيها الله، بشكل فوق العادة للأنبياء والأولياء او الأئمة، ما قد يسميه البعض "الولاية التكوينية" ولكني كنت أقول ان الله لم يعط الأنبياء والأئمة ألا بمقدار ما يتصل برسالتهم، ويخدمها ويواجه التحديات كما في المعجزات، ولكن الله أعطى المعجزة في ظرف وتجربة محدودين وأعطاهم بعض علم الغيب، ولكن لم يعطهم الولاية على الكون، ولم يعطيهم علم الغيب بشكل مطلق، وهذا نستدل عليه من القرآن مثلا، ومن الطبيعي أن هذه المسألة أثارت الكثير من الجدل في هذا المجال.

وهناك بعض القضايا التاريخية التي يختلف فيها السنة والشيعة، وهناك بعض الفتاوى المشهورة عند الشيعة مثل نجاسة الكافر بشكل مطلق، ويستدل البعض (إنما المشركون نجس) ويلحقون بهم أهل الكتاب، أنا أقول أن الإنسان طاهر أن كان كافراً أم مؤمناً، فالكفر يمثل قذارة معنوية فقوله تعالى"إنما المشركون نجس" يمثل نجاسة معنوية ولا يمثل نجاسة خبيثة حسب التعبير الفقهي.

وهناك فتاوى معروفة مثل إن الغناء محرم وكذلك الموسيقى، أنا أقول أن كل موسيقى لا تثير الغرائز ولا تحطم الأعصاب هي حلال، وأن الغناء إذا لم يشتمل على الباطل هو حلال.

وهناك مسألة تحريم حلق اللحية المعروفة بين الفقهاء السنة والشيعة أما أنا فأفتي بتحليل الحلق من حيث المبدأ، وأن كنا ننصح بالحفاظ عليها لكونها أصبحت "شعيرة إسلامية". وكذلك اختلف معهم في مسألة معرفة أوائل الشهور الهجرية بحيث يستندون إلى "الرؤية" في التحديد، وأنا أرى انه يجب الاستناد إلى الحسابات الفلكية، وهناك مفردات كثيرة من هذا القبيل.

س: ولكنك اقتربت من المسلمات في السير التاريخية؟

ج: أنا أقرا التاريخ بشكل مستقل، ودعوت إلى ذلك كما لو كنا غير متمذهبين، ودعوتي هذه منطلقة من العلم، وقلت إن علينا أن نقرا التاريخ كما لو لم يقراه الآخرون، ولا أريد بذلك أن أهون من دراسات الآخرين بل أقول إن علينا أن نقرأ تجاربهم الثقافية على ان تكون لنا تجربتنا، والمسألة هي هذه: أن تقرأ بشكل مستقل ولا تقدس ما ليس مقدسا.

س: والخلاف على المرجعية؟

ج: المرجعية الشيعية تبدأ بمرجعية فتوائية وتنفتح على قضايا أخرى، وعندما طرح أسمي في المرجعية أصبح هناك امتداد في اكثر من مكان في العالم، وهذا خلق بعض التعقيدات الكثيرة التي تحركت في أماكن عدة وبشكل يشبه الحرب (في بعض الخطوط الموجدة في بعض المواقع)، وكان لهذه الحرب خطوط عدة وخلفيات عدة، وأعتقد أن الكثير من أجهزة المخابرات الدولية استغلت بعض نقاط الضعف هنا وهناك ولكن على الإنسان ان يثبت ويصمد.

س: هل هي السياسة أم لأنكم بتجديدكم تطرحون شيئاً يشبه الثورة ويلقى صدى بين الأجيال الجديدة؟

ج: يمكن أن نقول أن بعض الجهات خافت مني على الصفاء الديني أو المذهبي أو ما إلى ذلك ولم تقراني جيداً، بل قرأتني من مبدأ الغريزة وليس من موقع الفكر، ومن المعروف ان الانفعال في الشرق هو غالباً ما يسيطر وخصوصاً في أمور كهذه تدخلت فيها قضايا مخابراتية بتعقيدات معينة، وأتصور أن الإنسان صاحب الرسالة عليه ان يتابع، ونحن نتابع في هذا الموضوع ودائماً أردد:"اللهم اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون".

مشروع مستقبلي للمرجعية

س: هل الحوزة تتراجع لصالح الدولة في السلطة الإيرانية؟

ج: الطابع الموجود للحوزة هو تقليدي ولكن هناك جيلاً شاباً في الحوزة بدا ينمو ويتحفز ويتحرك مع الدولة ولكنه يحتاج إلى وقت طويل.

س: ألا يساعد وجود السيد خامنئي على رأس الدولة في الحد من الخلاف بين الحوزة في قم والدولة في طهران؟

ج: السيد خامنئي معاصر، لا يقصر في معاصرته عن السيد خاتمي ولكن مركزه في موقع الولاية قد يفرض عليه أسلوباً معيناً أو شكلاً معيناً، ومن الطبيعي أن مرجعيته تعيش في نطاق موقع إيران في العالم الشيعي، يمكن أن يدور التفكير عندما تكون المرجعية في إيران ان العالم الشيعي الذي هو أكثر ارتباطاً بالمرجعية منه إلى ولاية الفقيه يمكن أن يلتقي عند إيران أكثر.

س: وماذا عن "وحدة المرجعية"؟

ج: ذلك من الصعب حتى الآن. (ففي إيران تعدد في المرجعيات وكذلك في النجف ولبنان)، نحن دعونا إلى مشروع المرجعية المؤسسة التي لها أجهزة دراسات، ويكون على رأسها مرجع منتخب من كل العلماء ولكن هذا مشروع مستقبلي.

ضرورة الاجتهادات

س: المسلم الذي يعيش في الغرب يواجه مشكلة كيفية معاشرة الغرب ويبقى مسلما! ألسنا بحاجة لاجتهاد جديد يقدم حلولا لواقع الأقلية المسلمة في الغرب؟

ج: إذا كان الغرب منسجماً مع شعاراته في حرية الإنسان، فلا أعتقد أن هناك مشكلة كبيرة، ولكن عندما لا يكون الغرب منسجماً معها، فمعنى ذلك، أن ليس هناك نظام، وعلى الإنسان أن يحاول ان يكون هو نفسه ويأخذ الضرورات أو المحظورات ولكن بقدر ما، اما عندما يعطى الحرية فمن الممكن جداً أن نلتقي، لأن المسلم يستطيع أن يعيش إسلامه، فالإسلام يحمل عناصر حضارية تمكنه من الالتقاء مع الحضارات الأخرى في بعض جوانبها.

س: ولكن الغرب يعيش أزمة روحية، وهناك صورة سلبية يعطيها الكثير من دعاة الإسلام، ألسنا بحاجة إلى شيء جديد في هذه المسألة؟

ج: مشكلتنا في أساليب الدعوة، أن هناك أشياء في القرآن يمكن ان لا نقراها بعمق مثلاً: "وجادلهم بالتي هي أحسن" والقمة في هذا الموضع "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة، كأنه ولي حميم" اي أن الإسلام يقول عندما تعيش مع الآخرين ليكن هدفك في كل أساليبك تحويل الأعداء إلى أصدقاء سواء أعداء دينك أو وطنك أو فكرك. ولا تكتفي بالحسن والسيء بل المسألة تصاعدية (ابحث عن الاحسن)، وابحث عن الكلمة التي لا تثير أية حساسية، والقرآن يقول:"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وانزل إليكم، والهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون".

لبنان ..الساحة المثالية لحوار الأديان.

س: منذ شهرين أو ثلاثة أصدر الفاتيكان دعوة إلى إعادة إحياء منظمة الكنيسة المضطهدة، ونشرت قائمة باتهام مجموعة من الدول المسلمة بحيث أنه من بين 52 دولة اسلامية صنفت 46دولة على أنها تضطهد المسيحية. بالمقابل هناك دعوة لحوار بين الطرفين(المسيحيين والإسلام) لتصحيح الموقف، ألا تعتقد أن لبنان هو الساحة المثالية لمثل هذا الحوار، هل هذا ممكن؟

ج: في رسالتي أطلقت فكرة الحوار المسيحي ـ الإسلامي وعندي كتاب بهذا الصدد وهو " في آفاق الحوار الإسلامي ـ المسيحي"، من الطبيعي جداً أنه لا بد من الحوار بيننا، والقرآن هو كتاب الحوار، ولكن علينا أن نفرق بين كلمات الحق التي يراد بها باطل وكلمات الحق.

بالعمق الذي أتابعه، أغلب المسيحيين وفي مقدمتهم الفاتيكان، يتناولون مسألة الحريات في البلدان الإسلامية بطرق معينة، ومن خلال بعض الخطوط السياسية التي يتحركون بها، فبالنسبة لمسألة السودان: من المعروف أن هناك مشكلات منها، ولكن السودان المسلم فتح ذراعيه للمسيحية، وحاول أن يعطي المسيحيين الحرية، ودعا البابا إلى زيارة البلد ولكن الحديث عن اضطهاد المسيحيين في السودان لا يزال موجوداً، وحتى الإعلام بقي يستخدم ذلك في مسألة الحركة الانفصالية. نحن نحاور وننطلق بقلب مفتوح في هذا المجال ولكن على ان تسمى الأشياء بأسمائها.

أما في لبنان فالحوار الإسلامي ـ المسيحي يدور في حلقة مفرغة لأن المسألة سياسية. ومع ذلك نقول أن هناك لجان حوار إسلامي ـ مسيحي في لبنان، ولكنها لا تنتج شيئاً إنها تنطلق بالجدية المراد لها أن تحرك بها.

لا تقسيم.. لا انهيار .. لا استقرار

س: ما تقييمكم لما يحدث حالياً في لبنان في ظل العهد الجديد وحكومته، من مسائل تعنى بالتطهير والإصلاح؟

ج: لا أعتقد ان الشخص يصنع عهداً، فالعهد يمثل تغييرا في الرنامج، لذلك يمكن أن نسميه تجربة جديدة او مرحلة حكومية جديدة وليست عهداً جديداً. وهذه المرحلة أعطت عناوين كبيرة للحكم في لبنان: التطهير الإداري، التحرير، العدالة، وما إلى ذلك، ومن الطبيعي ان هناك تعقيدات فوق العادة في لبنان تشبه(الأثقال) التي تمنع من الانطلاق سواء في التعقيدات الإقليمية أو الدولية او حتى اللبنانية المنفتحة على أوضاع خارجية، لأنني أعتقد ان لبنان لم ينشأ ليكون وطناً لبنيه، بل ليكون الرئة التي تتنفس فيها مشكلات المنطقة، وليكون أيضاً المحرقة التي يحترق فيها اللبنانيون لتتدفأ عليها المنطقة، وليكون البلد الذي يثقف المنطقة طائفياً ومذهبياً بين وقت وآخر من خلال الأفكار الطائفية والمذهبية التي تثار فيه، وهو البلد الذي ثقف المنطقة العربية في دائرة المسيحية والإسلام بحركة الصراع، ولبنان ـ في هذه اللعبة السياسية ـ هو المسؤول عن كثير من الأوضاع التي حدثت في مصر عينت بها قضية الاقباط والمسلمين، وكانت تصنع فيه الكثير من الرسائل والخطوات والأساليب، والأوضاع وما حدث في الحرب التي سميت بحرب المسيحيين والمسلمين فيه الدليل الكافي. نعم لم يرد للبنان أن يكون فيه اللبنانيون لبنانيين. لذلك أنا أقول إنني أحمل مصباح ديوجين لافتش عن لبناني في لبنان فلا أرى لبنانياً بل طائفياً، ولبنان يمثل في الطوائف المولودة فيه، ولايات غير متحدة، لأن كل طائفة لها مجلس ملّي ورجال دين وسياسيون ومناطق، يعني أنا الجنوبي لا يحق لي من خلال هذا الخط الموجود في لبنان، وأن كان قد بدأ يشحب الآن، أن أتدخل في ما يجري في كسروان، وخذ مثلاً آخر قضية الاحتلال "الإسرائيلي" إلى وقت طويل كانت تثار على أنها قضية جنوبية وشيعية بالتحديد، لذلك أنا أعتقد أنه من الصعب جداً على لبنان أن يكون وطناً يشعر اللبناني فيه بمعنى المواطنية ما دام النظام الطائفي فيه.

س: وكيف نخرج من ذلك؟

ج:المشكلة ان اللبنانيين كعادتهم، خلقوا جدلاً حول هل يكون إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص أو بالعكس، ويعيشون بهذه الدوامة ولذلك كنت أقول منذ زمن الحرب ان هناك ثلاث "لاءات" تحكم لبنان: "لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار"، وسيبقى لبنان يعيش هذه "اللاءات" وأن أعطي للبنانيين دور السلام الذي لا يخلو من الحرب التي تحمل في داخلها "سلاما جنينياً" لأن الحرب اللبنانية ليست مطلقة وكذلك السلم اللبناني، وعندما نصل إلى صدمة تسمح بالغاء النظام الطائفي يمكن أن يشعر اللبنانيون بأنهم لبنانيون.

س: ألا تعتقدون ان المستقبل في لبنان سيكون للشيعة من حيث تزايد السكان والتزايد في الاندماج الوطني والسياسي وغيره؟

ج: مقارنة مع الطوائف الأخرى، هناك كثرة عددية لدى الشيعة، ولكنهم في السياسة حتى الآن لا يملكون الحضور السياسي في المفاصل الحيوية للبلد، فمثلاً المفاصل الاقتصادية والشركات الكبرى أكثرها بيد المسيحيين، الذين كانوا حاجة في "المسألة الشرقية"، ثم صاروا حاجة في الحرب الباردة في مواجهة اليسار والقومية العربية لأنهم كانوا فريق الغرب وليس كلهم، ولكن أنا أتحدث عن الظاهرة وسقطت الحرب وانتهى اليسار وقصة القومية العربية أصبحت تاريخاً ومجرد حالة نفسية ولم تعد تنطلق بالمعنى السياسي الحركي القومي، وفي الصراع العربي الإسرائيلي دخل اليهود غرف النوم العربية. لذلك لم يبق هناك دور حقيقي للمسيحيين، وأنا قلت لبعض المطارنة، انهم كانوا رقماً صعباً واصبحوا ورقة، وهم في نظر أمريكا حالة أوروبية وأن "تامركوا"، وخيارهم الوحيد هو الالتقاء مع مواطنيهم، والدليل على أن أمريكا تعمل من أجل إلغاء الدور المسيحي اتفاق الطائف الذي عُبر عنه بأنه "اتفاق أمريكي بعقال عربي وطربوش لبناني".

لذلك أنا اتصور بأن تطور الوضع في لبنان سينتهي بإلغاء الطائفية السياسية ولن يبقى للمسيحيين دور مميز، وعليهم أن يعملوا بنصيحة البابا في "الإرشاد الرسولي" الذي قال لهم بأنه عليكم أن تعتبروا أنفسكم جزءاً من المنطقة وليس ضيوفاً عليها، وأنا أشك بأن يعمل الكل بذلك لأن بعضهم يفكر بالتاريخ ويريد تجميده.

س: يقال أنه بعد انتهاء المقاومة اللبنانية أي بعد الانسحاب"الإسرائيلي" وتحرير الجنوب سيضعف "حزب الله" ويتلاشى ما رأيكم في ذلك؟

ج: "حزب الله" دخل النادي السياسي كحركة سياسية، وقد نجح في الاندماج إلى حد ما في الحركة السياسية في البلد، وعلى سبيل المثال في الانتخابات الطلابية أو البلدية او النيابية، كان هنالك تحالف بين حزب الله والشيوعيين والاشتراكيين، وهذه المرونة السياسية الموجودة التي تجاوزت كل الخطوط التقليدية تعني ان هنالك انفتاحاً على الجميع، وعلى المسيحيين فهم يذهبون إليهم في المناسبات والأعياد، لبنان لن يلغي أحد ولكنه قد يحجم لأنه هو المختبر ودوره هو دور المختبر.

إقليميات

س: ألا يفرض التحالف "الإسرائيلي" ـ التركي تحالفاً عربيا ـ إيرانياً؟

ج: الواقع أن هذه المشكلة، أي عدم وجود مثل هذا التحالف المطلوب من العرب وليس من إيران، فإيران فتحت الأبواب مع العرب منذ أن قدمت هي السفارة "الإسرائيلية" في طهران للفلسطينيين، واعتبرت قضية فلسطين القضية الاستراتيجية التي لا يمكن التنازل عنها.

س: ماذا عن العلاقات بين طهران وواشنطن؟

ج: ان من الممكن أن تقيم إيران علاقات مع أمريكا عندما تزول عناصر الخلاف بينهما، ولكن إيران لن تعترف بـ"إسرائيل" ولعل هذا سر مشكلة إيران مع أمريكا وأن هذه الأخيرة قد قدمت لها الكثير من الاغراءات لتجمد حربها مع "إسرائيل" لذلك فهي قد دعت العرب إلى الانفتاح، ودعت عمان إلى حضور المناورات. اما مسألة الجزر الإمارتيه، فالواقع إنها مسألة ورثتها إيران الإسلامية عن إيران الشاهنشاهية ولم يكن هناك موقف عربي حاد من هذه المسألة ما عدا الموقف العراقي الذي رفض وتحدى هذه الخطوة الإيرانية.

إيران تعتبر ان الجزر جزء من الدولة الإيرانية لأنها امبراطورية تشمل قوميات عدة: أتراكا وأكرادا وعربا وغيرهم وهي تطرح الحوار المباشر لأنها لا تثق بمحكمة العدل الدولية وتعتبرها خاضعة للهيمنة الامريكية، ولذلك فهي تعتقد بأنها لا يمكن أن تنصفها.

وأنا أعتقد أن إيران من مصلحتها الانفتاح على الوطن العربي، وهي تعمل على ذلك.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير