السيد محمد حسين فضل الله ضمن برنامج حوار مفتوح

السيد محمد حسين فضل الله ضمن برنامج حوار مفتوح




أجرى مراسل قناة الجزيرة حواراً ضمن برنامج "حوار مفتوح" مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله. وهذا نصُّ الحوار:

س) سماحة السيد، نحن اليوم في ليلة ميلاد المسيح(ع)، لبنان بلد متعدد الطوائف، وكذلك البلدان العربية، هل هناك حوار جدي يمكن أن يطلقه المسلمون والمسيحيون؟

- عندما ندرس القرآن الكريم، فإننا نجد أنه فتح باب اللقاء على الكلمة السواء التي يلتقي فيها الإسلام مع اليهودية والنصرانية من حيث المبدأ، كما أنه دعا إلى الحوار بين المسلمين وأهل الكتاب، وأراده أن يكون حواراً بالتي هي أحسن يركِّز على نقاط اللّقاء، وعندما تحدَّث عن العلاقات الميدانية الواقعية، فرَّق بين النصارى الذي هم أقرب مودّةً للذين آمنوا، وبين اليهود من الناحية السلوكية، بعيداً عن مسألة التقويم الديني في هذا المجال.

لذلك، نحن نعتقد بأنَّ هناك أكثر من موقعٍ من المواقع الفكرية والقيمية والعقيدية التي يمكن أن يجري الحوار فيها بين المسيحيين والمسلمين، وهذا ما نتصوّر أنّه بدأ في أكثر من موقع في العالم، ولا سيما من خلال المبادرات التي انطلقت من الفاتيكان وبعض المواقع الإسلامية في مصر وإيران. أمّا في لبنان، فإنّ المسألة هي أنّ اللّبنانيّين دأبوا على الحوار حول حقوق المسيحيين مقارنة بحقوق المسلمين من الناحية الرسمية والسياسية، ولم نجد أن الحوار ينطلق بالطريقة القيمية في ما هو الرأي الإسلامي في قضايا الإنسان والحياة، وفي ما هو الرأي المسيحي في هذا المجال. ولذلك، فإنّ الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان على مستوى المواقع السياسية غالباً، هو حوار سياسي وليس حواراً ثقافياً.

س) أليس هو الأجدى؟

نحن لا نعتقد أن هذا هو الأجدى، وإن كان يمثل ضرورة في بلد يعيش فيه المسلمون والمسيحيون معاً، ولكنّني أتصور أنه إذا انطلقت الحوارات على المستوى الثقافي والروحي لتركِّز مواقع اللقاء أمام مواقع الخلاف، فإنّ ذلك يعمق العلاقة المسيحية الإسلامية، بحيث يشعر الجميع من كلِّ الأطياف، وفي كل المواقع، بأنّ هناك قاعدة تحكم هذا اللقاء، وليست المسألة مسألة سياسية من فوق تحدد حقوق هذا وحقوق ذاك، كما تحدد حقوق بعض المذاهب الأخرى.

س) في كلامٍ لكم سماحة السيِّد قلتم: "إنّ لبنان القاعدة التي ينطلق منها التنوّع الثقافي الذي يقبل به الإنسان الآخر في خلافه معه، هو بلد الإشعاع الروحي، والأستاذ غسان تويني في مقالة له في جريدة النّهار، اعتبر أن هذا الأمر يذكِّره بكلام البابا الراحل يوحنَّا بولُس الثاني في الرِّسالة التي وجَّهها في الأوَّل من أيار 1984 إلى أبناء لبنان، إذ قال: «سنوات الحرب الطَّويلة هذه يجب أن لا تنال من ثقتكم بلبنان عينه، فهو قيمة حضارية ثمينة"، هذا ما يدفعني إلى التّساؤل وبكلِّ صراحة ووضوح: هل هناك فرق بين رؤيتكم للمسيحيين العرب، سواء في المنطقة العربية أو أينما كانوا، وبين المسيحيين في الغرب؟

- نحن نتصوّر أنَّ المسيحيين في المنطقة العربية ينفتحون على الجانب الروحي الذي قد يلتقون فيه بالجانب الروحي الإسلامي أكثر من المسيحيين في الغرب، الّذين ربّما أدخلوا في بعض خطوطهم وطريقتهم في التَّفكير شيئاً من الوثنية، وهذا ما نتمثَّله في الطريقة التي يحتفلون بها بميلاد السيد المسيح(ع) وبرأس السنة الميلادية، بعيداً من الجانب الروحي الذي توحي به هذه المناسبة في ما يمثله السيد المسيح من الانفتاح الروحي على الله تعالى وعلى الإنسان والحياة كلِّها.

س) سياسيّاً هل تنظرون إلى العرب المسيحيين كجزء من الواقع السياسي العربي، ومن ثمَّ التحديات السياسية العربية...؟

- إننا نتصوّر أنَّ هناك خطوطاً في المسيحية العربية تنفتح على كثير من قضايا الواقع الإنساني السياسي، كما في القضية الفلسطينية، وفي الموقف من السياسة الأمريكية، في حين أن المسيحيين في الغرب لا ينفتحون على القضايا العربية المصيرية التي تنفتح على أكثر من مأساة إنسانية، لذلك، دعونا إلى الحوار الإسلامي _ المسيحي، عندما خاطبنا البابا الراحل، وقلنا له إنّ علينا كمسلمين ومسيحيين أن نواجه الواقع الديني فيما بيننا، بالعمل على مواجهة الإلحاد لمصلحة الإيمان، وعلى مواجهة الاستكبار لمصلحة الاستضعاف، لأنّ المسيحية والإسلام يرفضان معاً الإلحاد، ويرفضان معاً الاستكبار الذي هو قمَّة الظلم للمستضعفين في العالم. وإذا انطلقنا في هذا، فسوف نثقِّف المسلمين والمسيحيين بأن يكونوا فريقاً واحداً ضدّ الظلم كلّه، سواء كان ظلم الدول الكبرى، أو ظلم الناس بعضهم لبعض، وضد العصبيات الضيِّقة التي يختزنها هذا أو ذاك، والتي تؤسس للانفصال بين الدّينين وبين المجتمعين من دون أن يشعروا بالقاعدة التي يلتقون عليها.

س) نحن في آخر عام 2005، ولبنان على مدى عقود طويلة، مرَّ بأزمات وعواصف شديدة، ولكن هذا العام هو من الأعوام الدراماتيكية في تاريخ لبنان... سماحة السيد، كيف تنظرون إلى هذه الأزمة السياسية القائمة الآن في لبنان؟

- لعلَّ مشكلة لبنان أنه يمثل الساحة التي تلتقي فيها المخابرات الدولية والإقليمية التي لا تجمع الوقائع، بل تصنعها لمصلحة هذا المحور أو ذاك، على مستوى ما يخطَّط من خلال الحركة اللبنانية السياسية ضد هذا البلد في المنطقة أو ضد ذاك البلد. إن خصوصية لبنان هو أنه نافذة الشرق على الغرب، والذي يحمل إلى الغرب كل مشاكل الشرق وكلَّ تطلعاته، كما هو نافذة الغرب على الشرق في هذا المجال، ولذلك، فإنه يمثل ملتقى الخطوط السياسية التي يتوزعها اللبنانيون، سواء من هم في الوطن، أو في المهجر، حيث يتحركون وفق عصبيات تعمل على إرباك الكثير من الأوضاع اللبنانية الداخلية.

وعلى ضوء هذا، فإنّ لبنان الذي كنّا نقول عنه إنه الرئة التي تتنفس فيها مشاكل المنطقة، يمكنه من خلال هذا الانفتاح الدولي والإقليمي، أن يساهم في خلق الكثير من خطوط المأساة التي يعاني فيها اللبناني من أوضاعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما أنّها ربما تسجل نقطة ينطلق فيها هذا المحور الدولي أو الإقليمي ضد محور إقليمي أو دولي آخر، وهذا ما يفسِّر الجرائم التي حصلت في لبنان، والتي انطلقت لتغتال شخصيّاتٍ سياسيةً فاعلةً، أو أقلاماً سياسية منفتحة، وما إلى ذلك في هذا المجال، ما يجعل من لبنان ساحة المحرقة التي يحترق فيها الكثير من اللّبنانيين، والتي تنطلق من خلال هذا التوتر المتحرك في التصريحات والتحليلات والمواقف، حتى لا يشعر اللبنانيون بأن هناك بلداً لا بد لهم من أن يزرعوا فيه المحبة والعفو والتسامح، وأن ينطلقوا فيه لقبول الآخر، لأنّ بلداً لا يقبل فيه الإنسان الإنسان الآخر الذي يختلف معه، سوف يصل إلى مرحلة قد يواجه فيها دماراً إنسانياً، وهو أخطر من دمار الحجر.

س) هل تعتقد أنَّ التّصريحات المنفعلة والمتوتّرة للسياسيّين قد تؤدي إلى توتير الأجواء أم على العكس؟

- نحن في الوقت الذي نقدّر ما يختزنه هؤلاء مما يعتبرونه إخلاصاً لبلدهم، إلاّ أنّنا نرى أنّ التصريحات والتصريحات المضادَّة والمواقف المتشنّجة هنا وهناك، جعلت لبنان يعيش حالة طوارئ، وخلقت الأجواء التي توحي بأنَّ الكثير من الناس يمكن لهم أن يفكروا في ممارسة العنف بطريقة أو بأخرى، بما لا يخدم مصلحة الوفاق الوطني ولا مصلحة الوحدة الوطنية. وهذا ما جعل الكثيرين يتخوَّفون من مشاكل مذهبيّة ومشاكل طائفيّة هنا وهناك، لأنّ الخطورة الكبرى في ذلك، هي أن يتحوّل الخلاف السياسي إلى خلافات مذهبية تحاول أن تُسجِّل لهذا المذهب موقفاً سلبياً ضد المذهب الآخر.

فالمسألة في لبنان لا تنطوي على خلفيَّة دينية أو مذهبية، بل هي تتحرك من مواقع واجتهادات سياسية يمكن أن يجتهد فيها هذا أو ذاك بعيداً عن مذهبيته وبعيداً عن دينه، فقد نجد أنّ بعض السياسيين الذين يحملون شعار الإسلام أو المسيحيّة، هم ملحدون لا يؤمنون بالإسلام ولا بالمسيحية، ولكن المسيحية والإسلام، أو السنية والشيعية، تحوّلت عندهم إلى لافتة، كما قلت، مع الاعتذار، كالطبل الذي يدق عليه هذا وذاك ليجتمع الناس على قرع الطبول التي تعوّدوا عليها في كثير من حفلاتهم ومهرجاناتهم.

س) في ظلّ هذا التصنيف الحزبي السياسي القائم الآن، عندما نتحدث عن الائتلافات على المستوى الحكومي أو البرلماني أو داخل النادي السياسي، فإننا نستحضر الائتلاف الشّيعي (أمل وحزب الله)، كيف تنظر إلى الأداء السياسي لهذا الائتلاف الشّيعيّ؟

- نحن نتصوَّر أنَّ هناك وجهة نظر حول طريقة إدارة القضايا السياسية اللبنانية، التي يعتبر كلُّ فريق بأنّها قضايا تتصل بالمصير أو بالخطوط السياسية الإقليمية والدولية في نطاق تأثيرها على الواقع اللبناني الداخلي. فالمسألة يجب أن تخضع للحوار بعيداً عن مصادرة أيّ فريق للفريق الآخر، ما دامت هذه القضايا لا تمثِّل المصير الذي لا يحتمل الانتظار يوماً أو يومين أو شهراً أو شهرين، بل هي قضايا يمكن أن تؤجَّل للدخول في حوار موضوعي عقلاني، على الطريقة اللبنانية "لا غالب ولا مغلوب".

س) لكن هناك دم وهناك اغتيالات؟

- هناك نقطة لا أزال أؤكّدها، وهي أنّ الحرب اللبنانية _ اللبنانية على مستوى الخلل الأمني بين اللبنانيين قد انتهت، وأدى لبنان دوره في الحرب الماضية، والتي كانت حرب الآخرين على أرض لبنان، لأنّنا نعرف أن الذي أثار هذه الحرب هو الوزير الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، من أجل تصفية القضية الفلسطينية على أرض لبنان.

س) هل هي قناعة لديك سماحة السيد، أنّه لن تعود الحرب الداخلية؟

- هذه قناعة تدعمها المعلومات غير الخاصة، نحن نتصوّر أنه ليست هناك مصلحة لأيّة دولة، حتى لأمريكا وإسرائيل وفرنسا، في إسقاط الاستقرار على المستوى الشعبي العام في لبنان، هناك اغتيالات سياسية تنطلق من خطوط سياسية داخلية أو خارجية في هذا المقام، ولكنَّها لا تصل إلى مستوى الحرب المذهبية والحرب الطائفية، لأنّ هناك ضمانات حقيقية في داخل لبنان من خلال الشعب اللبناني، بعدم الدّخول في حرب جديدة. لذلك، أنا أتصوّر أن على اللبنانيين أن يعرفوا كيف يركِّزون عناوين المحبة والتسامح والحوار والاعتراف بالآخر والشعور بالمواطنة، وأن يعرفوا أيضاً أنّ أيِّ حرب لا تنتهي إلى أية نتيجة لمصلحة هذا الفريق أو ذاك الفريق، بل إنّ الهيكل في الحرب يسقط على رؤوس الجميع، وهذا ما عاشه اللبنانيون في الحرب الماضية، سواء بين مذهب وآخر، بين أتباع دين وآخر، وهكذا رأينا أنّ هذه الحروب تساقطت عند اتفاق الطائف، الذي رأى الجميع فيه مسألة يمكن لهم أن يلتقوا عليها، وإن لم ينفتحوا على كلِّ مفرداتها.

س) قلتم سماحة السيد في إحدى خطبكم أخيراً: ربما تصل الأمور بالواقع اللبناني بفعل إيحاءات الوصاية الدولية البارزة، إلى المطالبة بقوات حماية دولية تحت تأثير مقولة العجز عن حماية لبنان نفسه في الداخل والخارج، فماذا تقصدون؟ وهل هناك فعلاً وصاية دولية؟

- هناك مسألتان في هذا الجانب، المسألة الأولى هي أنَّ الخطاب اللبناني الرسمي، أو الذي يتحدث به فريق كبيرٌ من السياسيين، ولا سيّما الأغلبية، هو الحديث بشكل سلبي عن أيِّ إمكانات للجهاز الأمني اللبناني الجديد أو للقضاء اللبناني، ما يوحي بأنَّ اللّبنانيّين جميعاً يتفقون على عدم قدرة القوة الأمنية على حماية الإنسان في لبنان، سواء كان هذا الإنسان شخصية سياسية، أو إعلامية، أو دينية، أو ما إلى ذلك، وأن القضاء اللبناني لا يملك أمره، فهو لا يملك مناقبية ومصداقية تخوّله إصدار الأحكام وتنفيذها، فماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنَّ هناك إيحاءً ولا أقول خطة، بأن لبنان بحاجة إلى قوات دولية خارجية لتحمي شعبه وتحمي شخصياته، كما أنه بحاجة إلى جهاز قضائي يستطيع أن يحكم في الكثير من الجرائم التي تقع فيه. وهذا ما يفسر طلب الحكومة اللبنانية إنشاء محكمة دوليّة، لأنّ القضاء اللبناني غير قادر على أن يحكم في هذه الجرائم، أو طلب إلحاق الجرائم المستجدة بعد اغتيال الرئيس الحريري بلجنة التحقيق الدولية. إنني أتحدّث بذلك من خلال المناخ الذي خلقته كل هذه الملاحظات أو التصريحات.

المسألة الثانية، والتي ركزت عليها في خطبة الجمعة، هي أننا بحاجة إلى أصدقائنا وإلى أشقائنا، نحن بحاجة إلى الدول العربية لتساعدنا في كل ما نحتاجه من تقنيات يمكننا من خلالها تقوية الجهاز الأمني والجهاز القضائي. وكذلك بالنسبة إلى أصدقائنا في العالم، ولكن نحن نقول إنّ هناك فرقاً بين الوصاية التي تفرض علينا ما يريده الآخرون، وأن نتحرك من خلال مصالح الآخرين، وبين الرعاية أو المساعدة التي تفرضها الصداقة. هناك ملاحظة أخيرة في هذا المجال، لقد لاحظت أن السفير الأمريكي يتدخل مع الحكومة اللبنانية أخيراً، في أنّ عليها أن تستبدل الفريق الذي علق مشاركته في الحكومة اللبنانية بفريق آخر من الطائفة نفسها أو من المذهب نفسه، وهذه مسألة لبنانية خاصة جداً تتصل بعلاقة اللبنانيين بعضهم ببعض، وهذا ما يجعلنا نتساءل: ما هو موقع السفير الأمريكي الذي يتيح له أن يتحرك في هذا الاقتراح الذي يخلق الكثير من المشاكل في هذا السجال اللبناني الدائر بين السياسيين اللبنانيين؟!

س) هذا الشرخ الكبير الذي أصاب العلاقة الأخوية بين لبنان وسوريا، من يتحمل مسؤوليّته؟

- إنني أتصوّر أن هناك نقطة علينا أن نؤكِّدها من دون أن نسجل نقطة لهذا على هذا، وهي أنّ المشكلة في لبنان هي جزء من مشكلة الشرق الأوسط التي انطلقت من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن خلال ما تحدث به الرئيس بوش في الفوضى البنّاءة، لأنّ الأمريكيين في العناوين الكبرى التي يطرحونها للمنطقة، لا يخطّطون للتفاصيل، وإنما يتحركون كما تحركوا في احتلال العراق، فهم اختزنوا إحساسهم بالقوة، فاحتلوا العراق، ولكن لم يفكروا لما بعد الاحتلال. لذلك غرقوا في الوحول العراقية وفي الرمال العراقية المتحركة وفي رمال المنطقة المحيطة بالعراق المتحركة في أكثر من خط سياسي. ولهذا فإنّ القضية الآن في ما أتصوّره من السياسة الأمريكية المتحالفة مع السياسية الإسرائيلية، مع بعض الملحقات، كالسياسة الفرنسية التي تريد أن تستعيد دورها في لبنان، أنّ لبنان تحوّل إلى ورقة في يد أميركا للضغط على سوريا وللوصول إلى أكثر من موقع.

أنا لا أريد الدّخول في تقويم الوجود السوري السابق وما أخطأ فيه أو ما إلى ذلك، لكنّي أتصوَّر أنَّ مسألة لبنان هي مسألة دولية تستغلُّ بعض الخطوط الإقليمية، وليست مسألة إقليمية تتصل بالعلاقات اللبنانية السورية. لذلك فتش عن أمريكا، ما هي العلاقات الأمريكية السورية، عند ذلك تكون القضايا تتحرك في اتجاه آخر.

س) هل هذا يعني أنه إذا صلحت العلاقات الأمريكية السورية، فسوف نجد علاقات لبنانية سورية من نمط آخر، وإذا توترت ستكون بهذه الطريقة؟

- نحن نعرف أنَّ الخطَّ الأمريكي في المنطقة هو الذي وافق على دخول قوات الردع العربية والتي تحوّلت إلى قوات سورية. كانت المسألة بموافقة أمريكية، لذلك أنا أتصوّر أن المشكلة الأمريكية مع سوريا هي مشكلة العراق؛ أن تؤيِّد سوريا الاحتلال الأمريكي، وأن تتصرَّف تصرفاً لا يزعج هذا الاحتلال. وثانياً المسألة الفلسطينية؛ أن تكف سوريا عن دعم الانتفاضة الفلسطينية التي تعتبرها أمريكا إرهابية وما إلى ذلك. عندما تنطلق الأمور في اتجاه العلاقات الأمريكية السورية بشكل إيجابي، فسوف يخفف ذلك من الضغوط، إذا لم نقل إنه يمكن أن ينهيها.

س) هل يعني هذا، في رأيكم، أنّه لا علاقة لهذا الأمر بالتحقيق في الاغتيالات الأخيرة في لبنان؟

- إني أتصوّر أنّ مسألة التحقيق هي مسألة مهمة جداً وحقيقية، لأنّها تتصل بالنسيج اللبناني، وتتصل أيضاً بخلفيات الأمن اللبناني، ولكني لا أعتقد أن أمريكا مخلصة للتحقيق بالطريقة التي تعتبره كلَّ شيء في المسألة اللبنانية، قد تحرك الكثير من خيوطه ومن خطوطه، ولكن الدول الكبرى، كما نعرف، لا تخضع للمشاكل الصغيرة للدول الصغرى، وهذا ما لاحظناه في الطريقة التي أدار بها مجلس الأمن المطالب اللبنانية في قرار مجلس الأمن الأخير.

س) أنتقل إلى العراق لو سمحتم، خصوصاً وأنكم أشرتم إلى هذا الواقع بشكل رئيسي، الآن حصلت انتخابات شارك فيها عدد كبير من الأطراف، بمعزل عن نتائج الانتخابات، هل تعتقدون سماحة السيد بأن محطة الانتخابات ستساهم في معالجة هذا الوضع المتوتّر بين أكثر من فريق داخل الساحة العراقية على مستوى أمني وسياسي، وخصوصاً على مستوى العلاقات المذهبية؟

- عندما نتحدث عن الأطياف العراقية، نجد أن هذه الانتخابات التي شارك فيها من لم يشارك في الانتخابات السابقة ولا سيما على المستوى المذهبي أو الطائفي، يمكن أن توجد الكثير من القواسم المشتركة ونقاط الالتقاء والائتلاف بين هذه الأطياف بطريقة وبأخرى، لأنّ مثل هذا الأمر قد يؤدِّي إلى تقارب أفضل لو عرف كل الأفرقاء كيف يديرون المسألة في حكومة وحدة وطنية، يشعر فيها كل فريق أساسي في العراق بأن الآخرين لا يسقطون موقعه ومصالحه، عندما يبتعد الإحساس الطائفي في المسألة السياسية، وتتحرك القضية في بناء حكومة وطنية عراقية، ولكني أتصوّر أنه ما دام الاحتلال في العراق، والّذي لا يزال يمارس الضغط في خلفيات كل الواقع السياسي العراقي، فمن الصعب أن يستقر العراق من الناحية الأمنية، وقد كنت اقترحت أن تكون القيادة الأمنية السياسية في العراق للأمم المتحدة، بحيث تكون هذه القوات المتعددة الجنسيات هي الفاعلة وليست مجرد هيئة إنسانية، بل هيئة فاعلة، كي لا يكون لأحد، لا للدول المجاورة للعراق، ولا للتكفيريين أو الإرهابيين، أي حجة في العمل الأمني الإرهابي أو السياسي في هذا المجال. ولكن يبدو أن أمريكا، كما سمعت من بعض الشخصيات الأمريكية، سوف تبقى سنوات وسنوات في العراق، لأن الرئيس الأمريكي يقول إنّنا لن ننسحب من العراق قبل أن نسجِّل انتصاراً، والانتصار حسب مصطلحه ليس على الإرهابيين الذين يتحركون في العراق، ولكن الانتصار على المنطقة التي تعارض الخطط الأمريكية، وهذا يعني أنّ الأمريكي مقيم بشكل شبه دائم في العراق.

س) هناك إشكالية شيعية سنية في العراق وفق ما نسمعه، لهذه الإشكالية امتدادات قد تكون خطيرة على المنطقة بكاملها. أولاً، كيف يمكن مواجهة هذا الاحتقان الشيعي السني؟ وما هو دور المرجعيات الدينية في حلّ هذه الإشكاليات؟

- عندما ندرس الواقع العراقي الشعبي، فإننا لا نجد أنّ هناك مشكلة كبرى في هذا التنوّع الشيعي السنّي في العراق. لقد كان هذا التنوع تاريخياً، فقد انطلق في الواقع العراقي منذ عشرات السنين، ومن الطبيعي أن كل تعددية في أي بلد، سواء كانت تعددية مذهبية أو طائفية أو في داخل الطائفة الواحدة، يخلق شيئاً من الحساسية، لكن لا يخلق المشكلة التي تتحوّل إلى فتنة أو إلى حرب، فالذي أوجد مثل هذا التشنّج، سواء في داخل العراق أو خارجها، هو الاستغلال الإعلامي للواقع العراقي، والإيحاء بأنّ هناك حرباً من قبل السنّة ضد الشيعة، وما ينطلق به المحللون السياسيون بأن السنّة فقدوا مواقعهم لحساب الشيعة، وأنّ هناك حرباً ضد هؤلاء، إلى آخر ما هناك في هذا المقام.

ومن الطبيعي جداً أنّ هذا الفعل القاسي قد يخلق بعض ردود الفعل، ولكن على مستوى فردي. إنّ ما نلاحظه هو أن المراجع، وخصوصاً مراجع الشيعة في النجف، أصدروا فتوى تحريمية لمقلِّديهم بعدم القيام بأيّ رد فعل على مستوى الحساسيات المذهبية، لأنّهم يقولون، إذا كان القتلة يستحقون القصاص، فإنّ الناس العاديين من هذا المذهب أبرياء لا يجوز التعرض لهم. وهذا الموقف أوجد حالة من التوازن في الواقع العراقي على مستوى الحالة المذهبيّة. لهذا أنا أتصوّر أنَّ هناك ضمانةً في العراق من خلال المرجعيات الدينية التي تستنكر كل عمل إرهابي أو تفجيري من الجانبين، وهناك أيضاً عقلاء من الشيعة والسنة يمنعون ذلك، ومن المعروف أنّه ما من عشيرة في العراق إلاّ وتحتضن شيعة وسنة في داخلها. إنّ هناك أكثر من ضمانة في الداخل العراقي في أن لا يتحوّل الوضع إلى حرب طائفية سنية وشيعية، وهذا مما نثق فيه على مستوى معلوماتنا من خلال الواقع العراقي.

س) سماحة السيد، أود أن أناقش معكم الجدلية المستحدثة بين من يوصفون بالإسلاميّين المعتدلين الذين يشاركون في الانتخابات، ومن يوصفون بأنهم متشددون، مثال على ذلك الأخوان المسلمون في مصر، هناك من يصفهم بأنهم متشددون وهناك من يصفهم بأنهم معتدلون، ولكنهم شاركوا في الانتخابات بعد أن سمح لهم بالمشاركة، وحصلوا على نتائج كبيرة، أيضاً في فلسطين هناك حركة حماس تقول إنها ستشارك، ولكن الاتحاد الأوروبي قال بوضوح عبر ممثله السيد سولانا إذا أصبح هؤلاء في السلطة فربما سيكون هناك قطيعة. هل يعني هذا بأن هناك قبولاً بشيء اسمه إسلام معتدل ورفض لشيء اسمه إسلام متشدد، أم ماذا؟

- إننا عندما نبعد التكفيريين عن ساحة الحركة الإسلامية، فإنّنا لا نجد أن هناك إسلاميين متشددين وإسلاميين معتدلين، الإسلاميون فريق إسلامي وسياسي بدأ يدرس الواقع بواقعية وينفتح على كثير من حالات الاعتراف بالآخر، حتى إنه انطلق في الديمقراطية تحت عناوين الشورى، التي ربما يفكر فيها فريق بطريقة أو بأخرى.

إنني أتساءل لماذا يُتحدَّث عن تشدد إسلامي واعتدال إسلامي، ولا يتحدث عن تشدد علماني واعتدال علماني؟ فأوروبا التي كنّا نتصور أنها أكثر واقعية وأقل تطرفاً من أمريكا، تهدد السلطة الفلسطينية بأنها إذا دخلت حماس ونجحت في الانتخابات فإنها سوف تمتنع عن إعطاء المساعدات للشعب الفلسطيني، معنى ذلك أنّ _ أوروبا وقبلها أمريكا _ تقول إنّنا سوف نعاقب الشعب الفلسطيني على انتخابه لحماس. والسؤال: أية ديمقراطية هي هذه الدّيمقراطيّة! إن القضية ليست قضية حماس، ولكنّها قضية الشعب الفلسطيني الذي ينتخب نوابه. ثم إنني أقول لكل هؤلاء السياسيين، ولا سيما الأمريكيين، لقد حاورتم الفيتناميين الذين حاربوكم وهزموكم، وحاورتم العراقيين الذين واجهوكم بالسلاح، فلماذا إذا كنتم ديمقراطيين، وإذا كنتم تتحدثون عن حقوق الإنسان، لا تحاورون الفصائل الفلسطينية وفي مقدمها حماس؟ ولعل الحوار، أقولها لأمريكا وللاتحاد الأوروبي، ينتج حداً وسطاً يدخل كل الفلسطينيين في المفاوضات من خلال اللجنة الرباعية، لعله ينتج الحلّ السلمي للمسألة الفلسطينية.

س) ما هي قراءتك للقضية التي طرحها أكثر من مرة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في ما يتعلق بالمحرقة اليهودية؟ وهل التصعيد في هذه المسائل خطأ أم صواب؟

- إن لدينا تعليقين مختصرين على ذلك، التَّعليق الأول: أن هذا الرئيس استطاع أن يرجع القضية الفلسطينية إلى قاعدتها الأساس في الإيديولوجية، وإن كان أثار حوله الكثير من المواقف السياسية الدولية التي تؤيد إسرائيل بلا قيد ولا شرط. والتَّعليق الثاني: أنا أسأل الاتّحاد الأوروبي وأمريكا: إذا كنتم تتحدّثون عن حرية الفكر وحرية الثقافة، فلماذا لا تسمحون لأحد في العالم أن يناقش مجرد مناقشة من النَّاحية التاريخية مسألة المحرقة؟ ما هي الأعداد؛ هل هي مقتصرة على اليهود، أو أنها تضم شعوباً أخرى أحرقهم هتلر أو عذبهم؟ لماذا يحاكم روجيه غارودي لأنه ناقش في الأعداد؟! نحن نقول إنَّ هذا هو المنطق الإسرائيلي الذي يستعمر كلَّ الذهنية الغربية، ويجعلها تعيش عقدة الذنب، ولكنه في الوقت نفسه، لا يمانع باسم الحرية أن يُشتَم النبي محمد(ص)، وأن تُشتَم مقدسات المسلمين. إنني أعتقد أن هناك نفاقاً غربياً في قضية الحرية، فهو يؤمن بالحرية إذا كانت ضد الشعوب الإسلامية وضد المنطق الإسلامي، ولكنه يمنع الحرية إذا كانت تناقش المسألة اليهودية حتى على مستوى سياسة إسرائيل. كما لاحظنا ذلك في فرنسا في هذا المجال. نحن نثمِّن موقف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الذي دعا إلى رفض معاداة الإسلام، كما رفض معاداة السامية، قهذا المنطق هو منطق العدالة، وليس منطق الاستكبار.

س) سماحة السيد، نحن نودّع عاماً ونستقبل عاماً جديداً. ما هي كلمتك الأخيرة؟

- إنّ علينا أن نشعر أنّ الزمن يمثل شاهداً علينا، وهذا ما جاء في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، حيث قال في دعاء الصباح والمساء: "اللّهمّ وهذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنَّا ودّعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذم". إنّ علينا أن ندرس تجربتنا في كلِّ ما عشناه في هذا العام، وما أسلفنا فيه من أخطاء ومن جرائم، وأن نستزيد مما استطعنا أن نحصل عليه من خير، حتى يكون عامنا الجديد عام حرية واستقلال وسلام وإنسانية للإنسان كلّه وللحياة، لأنَّ علينا أن نظلَّ في خطٍّ تصاعدي مع الزمن، ليكون مستقبل أمرنا خيراً من ماضيه.





أجرى مراسل قناة الجزيرة حواراً ضمن برنامج "حوار مفتوح" مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله. وهذا نصُّ الحوار:

س) سماحة السيد، نحن اليوم في ليلة ميلاد المسيح(ع)، لبنان بلد متعدد الطوائف، وكذلك البلدان العربية، هل هناك حوار جدي يمكن أن يطلقه المسلمون والمسيحيون؟

- عندما ندرس القرآن الكريم، فإننا نجد أنه فتح باب اللقاء على الكلمة السواء التي يلتقي فيها الإسلام مع اليهودية والنصرانية من حيث المبدأ، كما أنه دعا إلى الحوار بين المسلمين وأهل الكتاب، وأراده أن يكون حواراً بالتي هي أحسن يركِّز على نقاط اللّقاء، وعندما تحدَّث عن العلاقات الميدانية الواقعية، فرَّق بين النصارى الذي هم أقرب مودّةً للذين آمنوا، وبين اليهود من الناحية السلوكية، بعيداً عن مسألة التقويم الديني في هذا المجال.

لذلك، نحن نعتقد بأنَّ هناك أكثر من موقعٍ من المواقع الفكرية والقيمية والعقيدية التي يمكن أن يجري الحوار فيها بين المسيحيين والمسلمين، وهذا ما نتصوّر أنّه بدأ في أكثر من موقع في العالم، ولا سيما من خلال المبادرات التي انطلقت من الفاتيكان وبعض المواقع الإسلامية في مصر وإيران. أمّا في لبنان، فإنّ المسألة هي أنّ اللّبنانيّين دأبوا على الحوار حول حقوق المسيحيين مقارنة بحقوق المسلمين من الناحية الرسمية والسياسية، ولم نجد أن الحوار ينطلق بالطريقة القيمية في ما هو الرأي الإسلامي في قضايا الإنسان والحياة، وفي ما هو الرأي المسيحي في هذا المجال. ولذلك، فإنّ الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان على مستوى المواقع السياسية غالباً، هو حوار سياسي وليس حواراً ثقافياً.

س) أليس هو الأجدى؟

نحن لا نعتقد أن هذا هو الأجدى، وإن كان يمثل ضرورة في بلد يعيش فيه المسلمون والمسيحيون معاً، ولكنّني أتصور أنه إذا انطلقت الحوارات على المستوى الثقافي والروحي لتركِّز مواقع اللقاء أمام مواقع الخلاف، فإنّ ذلك يعمق العلاقة المسيحية الإسلامية، بحيث يشعر الجميع من كلِّ الأطياف، وفي كل المواقع، بأنّ هناك قاعدة تحكم هذا اللقاء، وليست المسألة مسألة سياسية من فوق تحدد حقوق هذا وحقوق ذاك، كما تحدد حقوق بعض المذاهب الأخرى.

س) في كلامٍ لكم سماحة السيِّد قلتم: "إنّ لبنان القاعدة التي ينطلق منها التنوّع الثقافي الذي يقبل به الإنسان الآخر في خلافه معه، هو بلد الإشعاع الروحي، والأستاذ غسان تويني في مقالة له في جريدة النّهار، اعتبر أن هذا الأمر يذكِّره بكلام البابا الراحل يوحنَّا بولُس الثاني في الرِّسالة التي وجَّهها في الأوَّل من أيار 1984 إلى أبناء لبنان، إذ قال: «سنوات الحرب الطَّويلة هذه يجب أن لا تنال من ثقتكم بلبنان عينه، فهو قيمة حضارية ثمينة"، هذا ما يدفعني إلى التّساؤل وبكلِّ صراحة ووضوح: هل هناك فرق بين رؤيتكم للمسيحيين العرب، سواء في المنطقة العربية أو أينما كانوا، وبين المسيحيين في الغرب؟

- نحن نتصوّر أنَّ المسيحيين في المنطقة العربية ينفتحون على الجانب الروحي الذي قد يلتقون فيه بالجانب الروحي الإسلامي أكثر من المسيحيين في الغرب، الّذين ربّما أدخلوا في بعض خطوطهم وطريقتهم في التَّفكير شيئاً من الوثنية، وهذا ما نتمثَّله في الطريقة التي يحتفلون بها بميلاد السيد المسيح(ع) وبرأس السنة الميلادية، بعيداً من الجانب الروحي الذي توحي به هذه المناسبة في ما يمثله السيد المسيح من الانفتاح الروحي على الله تعالى وعلى الإنسان والحياة كلِّها.

س) سياسيّاً هل تنظرون إلى العرب المسيحيين كجزء من الواقع السياسي العربي، ومن ثمَّ التحديات السياسية العربية...؟

- إننا نتصوّر أنَّ هناك خطوطاً في المسيحية العربية تنفتح على كثير من قضايا الواقع الإنساني السياسي، كما في القضية الفلسطينية، وفي الموقف من السياسة الأمريكية، في حين أن المسيحيين في الغرب لا ينفتحون على القضايا العربية المصيرية التي تنفتح على أكثر من مأساة إنسانية، لذلك، دعونا إلى الحوار الإسلامي _ المسيحي، عندما خاطبنا البابا الراحل، وقلنا له إنّ علينا كمسلمين ومسيحيين أن نواجه الواقع الديني فيما بيننا، بالعمل على مواجهة الإلحاد لمصلحة الإيمان، وعلى مواجهة الاستكبار لمصلحة الاستضعاف، لأنّ المسيحية والإسلام يرفضان معاً الإلحاد، ويرفضان معاً الاستكبار الذي هو قمَّة الظلم للمستضعفين في العالم. وإذا انطلقنا في هذا، فسوف نثقِّف المسلمين والمسيحيين بأن يكونوا فريقاً واحداً ضدّ الظلم كلّه، سواء كان ظلم الدول الكبرى، أو ظلم الناس بعضهم لبعض، وضد العصبيات الضيِّقة التي يختزنها هذا أو ذاك، والتي تؤسس للانفصال بين الدّينين وبين المجتمعين من دون أن يشعروا بالقاعدة التي يلتقون عليها.

س) نحن في آخر عام 2005، ولبنان على مدى عقود طويلة، مرَّ بأزمات وعواصف شديدة، ولكن هذا العام هو من الأعوام الدراماتيكية في تاريخ لبنان... سماحة السيد، كيف تنظرون إلى هذه الأزمة السياسية القائمة الآن في لبنان؟

- لعلَّ مشكلة لبنان أنه يمثل الساحة التي تلتقي فيها المخابرات الدولية والإقليمية التي لا تجمع الوقائع، بل تصنعها لمصلحة هذا المحور أو ذاك، على مستوى ما يخطَّط من خلال الحركة اللبنانية السياسية ضد هذا البلد في المنطقة أو ضد ذاك البلد. إن خصوصية لبنان هو أنه نافذة الشرق على الغرب، والذي يحمل إلى الغرب كل مشاكل الشرق وكلَّ تطلعاته، كما هو نافذة الغرب على الشرق في هذا المجال، ولذلك، فإنه يمثل ملتقى الخطوط السياسية التي يتوزعها اللبنانيون، سواء من هم في الوطن، أو في المهجر، حيث يتحركون وفق عصبيات تعمل على إرباك الكثير من الأوضاع اللبنانية الداخلية.

وعلى ضوء هذا، فإنّ لبنان الذي كنّا نقول عنه إنه الرئة التي تتنفس فيها مشاكل المنطقة، يمكنه من خلال هذا الانفتاح الدولي والإقليمي، أن يساهم في خلق الكثير من خطوط المأساة التي يعاني فيها اللبناني من أوضاعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما أنّها ربما تسجل نقطة ينطلق فيها هذا المحور الدولي أو الإقليمي ضد محور إقليمي أو دولي آخر، وهذا ما يفسِّر الجرائم التي حصلت في لبنان، والتي انطلقت لتغتال شخصيّاتٍ سياسيةً فاعلةً، أو أقلاماً سياسية منفتحة، وما إلى ذلك في هذا المجال، ما يجعل من لبنان ساحة المحرقة التي يحترق فيها الكثير من اللّبنانيين، والتي تنطلق من خلال هذا التوتر المتحرك في التصريحات والتحليلات والمواقف، حتى لا يشعر اللبنانيون بأن هناك بلداً لا بد لهم من أن يزرعوا فيه المحبة والعفو والتسامح، وأن ينطلقوا فيه لقبول الآخر، لأنّ بلداً لا يقبل فيه الإنسان الإنسان الآخر الذي يختلف معه، سوف يصل إلى مرحلة قد يواجه فيها دماراً إنسانياً، وهو أخطر من دمار الحجر.

س) هل تعتقد أنَّ التّصريحات المنفعلة والمتوتّرة للسياسيّين قد تؤدي إلى توتير الأجواء أم على العكس؟

- نحن في الوقت الذي نقدّر ما يختزنه هؤلاء مما يعتبرونه إخلاصاً لبلدهم، إلاّ أنّنا نرى أنّ التصريحات والتصريحات المضادَّة والمواقف المتشنّجة هنا وهناك، جعلت لبنان يعيش حالة طوارئ، وخلقت الأجواء التي توحي بأنَّ الكثير من الناس يمكن لهم أن يفكروا في ممارسة العنف بطريقة أو بأخرى، بما لا يخدم مصلحة الوفاق الوطني ولا مصلحة الوحدة الوطنية. وهذا ما جعل الكثيرين يتخوَّفون من مشاكل مذهبيّة ومشاكل طائفيّة هنا وهناك، لأنّ الخطورة الكبرى في ذلك، هي أن يتحوّل الخلاف السياسي إلى خلافات مذهبية تحاول أن تُسجِّل لهذا المذهب موقفاً سلبياً ضد المذهب الآخر.

فالمسألة في لبنان لا تنطوي على خلفيَّة دينية أو مذهبية، بل هي تتحرك من مواقع واجتهادات سياسية يمكن أن يجتهد فيها هذا أو ذاك بعيداً عن مذهبيته وبعيداً عن دينه، فقد نجد أنّ بعض السياسيين الذين يحملون شعار الإسلام أو المسيحيّة، هم ملحدون لا يؤمنون بالإسلام ولا بالمسيحية، ولكن المسيحية والإسلام، أو السنية والشيعية، تحوّلت عندهم إلى لافتة، كما قلت، مع الاعتذار، كالطبل الذي يدق عليه هذا وذاك ليجتمع الناس على قرع الطبول التي تعوّدوا عليها في كثير من حفلاتهم ومهرجاناتهم.

س) في ظلّ هذا التصنيف الحزبي السياسي القائم الآن، عندما نتحدث عن الائتلافات على المستوى الحكومي أو البرلماني أو داخل النادي السياسي، فإننا نستحضر الائتلاف الشّيعي (أمل وحزب الله)، كيف تنظر إلى الأداء السياسي لهذا الائتلاف الشّيعيّ؟

- نحن نتصوَّر أنَّ هناك وجهة نظر حول طريقة إدارة القضايا السياسية اللبنانية، التي يعتبر كلُّ فريق بأنّها قضايا تتصل بالمصير أو بالخطوط السياسية الإقليمية والدولية في نطاق تأثيرها على الواقع اللبناني الداخلي. فالمسألة يجب أن تخضع للحوار بعيداً عن مصادرة أيّ فريق للفريق الآخر، ما دامت هذه القضايا لا تمثِّل المصير الذي لا يحتمل الانتظار يوماً أو يومين أو شهراً أو شهرين، بل هي قضايا يمكن أن تؤجَّل للدخول في حوار موضوعي عقلاني، على الطريقة اللبنانية "لا غالب ولا مغلوب".

س) لكن هناك دم وهناك اغتيالات؟

- هناك نقطة لا أزال أؤكّدها، وهي أنّ الحرب اللبنانية _ اللبنانية على مستوى الخلل الأمني بين اللبنانيين قد انتهت، وأدى لبنان دوره في الحرب الماضية، والتي كانت حرب الآخرين على أرض لبنان، لأنّنا نعرف أن الذي أثار هذه الحرب هو الوزير الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، من أجل تصفية القضية الفلسطينية على أرض لبنان.

س) هل هي قناعة لديك سماحة السيد، أنّه لن تعود الحرب الداخلية؟

- هذه قناعة تدعمها المعلومات غير الخاصة، نحن نتصوّر أنه ليست هناك مصلحة لأيّة دولة، حتى لأمريكا وإسرائيل وفرنسا، في إسقاط الاستقرار على المستوى الشعبي العام في لبنان، هناك اغتيالات سياسية تنطلق من خطوط سياسية داخلية أو خارجية في هذا المقام، ولكنَّها لا تصل إلى مستوى الحرب المذهبية والحرب الطائفية، لأنّ هناك ضمانات حقيقية في داخل لبنان من خلال الشعب اللبناني، بعدم الدّخول في حرب جديدة. لذلك، أنا أتصوّر أن على اللبنانيين أن يعرفوا كيف يركِّزون عناوين المحبة والتسامح والحوار والاعتراف بالآخر والشعور بالمواطنة، وأن يعرفوا أيضاً أنّ أيِّ حرب لا تنتهي إلى أية نتيجة لمصلحة هذا الفريق أو ذاك الفريق، بل إنّ الهيكل في الحرب يسقط على رؤوس الجميع، وهذا ما عاشه اللبنانيون في الحرب الماضية، سواء بين مذهب وآخر، بين أتباع دين وآخر، وهكذا رأينا أنّ هذه الحروب تساقطت عند اتفاق الطائف، الذي رأى الجميع فيه مسألة يمكن لهم أن يلتقوا عليها، وإن لم ينفتحوا على كلِّ مفرداتها.

س) قلتم سماحة السيد في إحدى خطبكم أخيراً: ربما تصل الأمور بالواقع اللبناني بفعل إيحاءات الوصاية الدولية البارزة، إلى المطالبة بقوات حماية دولية تحت تأثير مقولة العجز عن حماية لبنان نفسه في الداخل والخارج، فماذا تقصدون؟ وهل هناك فعلاً وصاية دولية؟

- هناك مسألتان في هذا الجانب، المسألة الأولى هي أنَّ الخطاب اللبناني الرسمي، أو الذي يتحدث به فريق كبيرٌ من السياسيين، ولا سيّما الأغلبية، هو الحديث بشكل سلبي عن أيِّ إمكانات للجهاز الأمني اللبناني الجديد أو للقضاء اللبناني، ما يوحي بأنَّ اللّبنانيّين جميعاً يتفقون على عدم قدرة القوة الأمنية على حماية الإنسان في لبنان، سواء كان هذا الإنسان شخصية سياسية، أو إعلامية، أو دينية، أو ما إلى ذلك، وأن القضاء اللبناني لا يملك أمره، فهو لا يملك مناقبية ومصداقية تخوّله إصدار الأحكام وتنفيذها، فماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنَّ هناك إيحاءً ولا أقول خطة، بأن لبنان بحاجة إلى قوات دولية خارجية لتحمي شعبه وتحمي شخصياته، كما أنه بحاجة إلى جهاز قضائي يستطيع أن يحكم في الكثير من الجرائم التي تقع فيه. وهذا ما يفسر طلب الحكومة اللبنانية إنشاء محكمة دوليّة، لأنّ القضاء اللبناني غير قادر على أن يحكم في هذه الجرائم، أو طلب إلحاق الجرائم المستجدة بعد اغتيال الرئيس الحريري بلجنة التحقيق الدولية. إنني أتحدّث بذلك من خلال المناخ الذي خلقته كل هذه الملاحظات أو التصريحات.

المسألة الثانية، والتي ركزت عليها في خطبة الجمعة، هي أننا بحاجة إلى أصدقائنا وإلى أشقائنا، نحن بحاجة إلى الدول العربية لتساعدنا في كل ما نحتاجه من تقنيات يمكننا من خلالها تقوية الجهاز الأمني والجهاز القضائي. وكذلك بالنسبة إلى أصدقائنا في العالم، ولكن نحن نقول إنّ هناك فرقاً بين الوصاية التي تفرض علينا ما يريده الآخرون، وأن نتحرك من خلال مصالح الآخرين، وبين الرعاية أو المساعدة التي تفرضها الصداقة. هناك ملاحظة أخيرة في هذا المجال، لقد لاحظت أن السفير الأمريكي يتدخل مع الحكومة اللبنانية أخيراً، في أنّ عليها أن تستبدل الفريق الذي علق مشاركته في الحكومة اللبنانية بفريق آخر من الطائفة نفسها أو من المذهب نفسه، وهذه مسألة لبنانية خاصة جداً تتصل بعلاقة اللبنانيين بعضهم ببعض، وهذا ما يجعلنا نتساءل: ما هو موقع السفير الأمريكي الذي يتيح له أن يتحرك في هذا الاقتراح الذي يخلق الكثير من المشاكل في هذا السجال اللبناني الدائر بين السياسيين اللبنانيين؟!

س) هذا الشرخ الكبير الذي أصاب العلاقة الأخوية بين لبنان وسوريا، من يتحمل مسؤوليّته؟

- إنني أتصوّر أن هناك نقطة علينا أن نؤكِّدها من دون أن نسجل نقطة لهذا على هذا، وهي أنّ المشكلة في لبنان هي جزء من مشكلة الشرق الأوسط التي انطلقت من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن خلال ما تحدث به الرئيس بوش في الفوضى البنّاءة، لأنّ الأمريكيين في العناوين الكبرى التي يطرحونها للمنطقة، لا يخطّطون للتفاصيل، وإنما يتحركون كما تحركوا في احتلال العراق، فهم اختزنوا إحساسهم بالقوة، فاحتلوا العراق، ولكن لم يفكروا لما بعد الاحتلال. لذلك غرقوا في الوحول العراقية وفي الرمال العراقية المتحركة وفي رمال المنطقة المحيطة بالعراق المتحركة في أكثر من خط سياسي. ولهذا فإنّ القضية الآن في ما أتصوّره من السياسة الأمريكية المتحالفة مع السياسية الإسرائيلية، مع بعض الملحقات، كالسياسة الفرنسية التي تريد أن تستعيد دورها في لبنان، أنّ لبنان تحوّل إلى ورقة في يد أميركا للضغط على سوريا وللوصول إلى أكثر من موقع.

أنا لا أريد الدّخول في تقويم الوجود السوري السابق وما أخطأ فيه أو ما إلى ذلك، لكنّي أتصوَّر أنَّ مسألة لبنان هي مسألة دولية تستغلُّ بعض الخطوط الإقليمية، وليست مسألة إقليمية تتصل بالعلاقات اللبنانية السورية. لذلك فتش عن أمريكا، ما هي العلاقات الأمريكية السورية، عند ذلك تكون القضايا تتحرك في اتجاه آخر.

س) هل هذا يعني أنه إذا صلحت العلاقات الأمريكية السورية، فسوف نجد علاقات لبنانية سورية من نمط آخر، وإذا توترت ستكون بهذه الطريقة؟

- نحن نعرف أنَّ الخطَّ الأمريكي في المنطقة هو الذي وافق على دخول قوات الردع العربية والتي تحوّلت إلى قوات سورية. كانت المسألة بموافقة أمريكية، لذلك أنا أتصوّر أن المشكلة الأمريكية مع سوريا هي مشكلة العراق؛ أن تؤيِّد سوريا الاحتلال الأمريكي، وأن تتصرَّف تصرفاً لا يزعج هذا الاحتلال. وثانياً المسألة الفلسطينية؛ أن تكف سوريا عن دعم الانتفاضة الفلسطينية التي تعتبرها أمريكا إرهابية وما إلى ذلك. عندما تنطلق الأمور في اتجاه العلاقات الأمريكية السورية بشكل إيجابي، فسوف يخفف ذلك من الضغوط، إذا لم نقل إنه يمكن أن ينهيها.

س) هل يعني هذا، في رأيكم، أنّه لا علاقة لهذا الأمر بالتحقيق في الاغتيالات الأخيرة في لبنان؟

- إني أتصوّر أنّ مسألة التحقيق هي مسألة مهمة جداً وحقيقية، لأنّها تتصل بالنسيج اللبناني، وتتصل أيضاً بخلفيات الأمن اللبناني، ولكني لا أعتقد أن أمريكا مخلصة للتحقيق بالطريقة التي تعتبره كلَّ شيء في المسألة اللبنانية، قد تحرك الكثير من خيوطه ومن خطوطه، ولكن الدول الكبرى، كما نعرف، لا تخضع للمشاكل الصغيرة للدول الصغرى، وهذا ما لاحظناه في الطريقة التي أدار بها مجلس الأمن المطالب اللبنانية في قرار مجلس الأمن الأخير.

س) أنتقل إلى العراق لو سمحتم، خصوصاً وأنكم أشرتم إلى هذا الواقع بشكل رئيسي، الآن حصلت انتخابات شارك فيها عدد كبير من الأطراف، بمعزل عن نتائج الانتخابات، هل تعتقدون سماحة السيد بأن محطة الانتخابات ستساهم في معالجة هذا الوضع المتوتّر بين أكثر من فريق داخل الساحة العراقية على مستوى أمني وسياسي، وخصوصاً على مستوى العلاقات المذهبية؟

- عندما نتحدث عن الأطياف العراقية، نجد أن هذه الانتخابات التي شارك فيها من لم يشارك في الانتخابات السابقة ولا سيما على المستوى المذهبي أو الطائفي، يمكن أن توجد الكثير من القواسم المشتركة ونقاط الالتقاء والائتلاف بين هذه الأطياف بطريقة وبأخرى، لأنّ مثل هذا الأمر قد يؤدِّي إلى تقارب أفضل لو عرف كل الأفرقاء كيف يديرون المسألة في حكومة وحدة وطنية، يشعر فيها كل فريق أساسي في العراق بأن الآخرين لا يسقطون موقعه ومصالحه، عندما يبتعد الإحساس الطائفي في المسألة السياسية، وتتحرك القضية في بناء حكومة وطنية عراقية، ولكني أتصوّر أنه ما دام الاحتلال في العراق، والّذي لا يزال يمارس الضغط في خلفيات كل الواقع السياسي العراقي، فمن الصعب أن يستقر العراق من الناحية الأمنية، وقد كنت اقترحت أن تكون القيادة الأمنية السياسية في العراق للأمم المتحدة، بحيث تكون هذه القوات المتعددة الجنسيات هي الفاعلة وليست مجرد هيئة إنسانية، بل هيئة فاعلة، كي لا يكون لأحد، لا للدول المجاورة للعراق، ولا للتكفيريين أو الإرهابيين، أي حجة في العمل الأمني الإرهابي أو السياسي في هذا المجال. ولكن يبدو أن أمريكا، كما سمعت من بعض الشخصيات الأمريكية، سوف تبقى سنوات وسنوات في العراق، لأن الرئيس الأمريكي يقول إنّنا لن ننسحب من العراق قبل أن نسجِّل انتصاراً، والانتصار حسب مصطلحه ليس على الإرهابيين الذين يتحركون في العراق، ولكن الانتصار على المنطقة التي تعارض الخطط الأمريكية، وهذا يعني أنّ الأمريكي مقيم بشكل شبه دائم في العراق.

س) هناك إشكالية شيعية سنية في العراق وفق ما نسمعه، لهذه الإشكالية امتدادات قد تكون خطيرة على المنطقة بكاملها. أولاً، كيف يمكن مواجهة هذا الاحتقان الشيعي السني؟ وما هو دور المرجعيات الدينية في حلّ هذه الإشكاليات؟

- عندما ندرس الواقع العراقي الشعبي، فإننا لا نجد أنّ هناك مشكلة كبرى في هذا التنوّع الشيعي السنّي في العراق. لقد كان هذا التنوع تاريخياً، فقد انطلق في الواقع العراقي منذ عشرات السنين، ومن الطبيعي أن كل تعددية في أي بلد، سواء كانت تعددية مذهبية أو طائفية أو في داخل الطائفة الواحدة، يخلق شيئاً من الحساسية، لكن لا يخلق المشكلة التي تتحوّل إلى فتنة أو إلى حرب، فالذي أوجد مثل هذا التشنّج، سواء في داخل العراق أو خارجها، هو الاستغلال الإعلامي للواقع العراقي، والإيحاء بأنّ هناك حرباً من قبل السنّة ضد الشيعة، وما ينطلق به المحللون السياسيون بأن السنّة فقدوا مواقعهم لحساب الشيعة، وأنّ هناك حرباً ضد هؤلاء، إلى آخر ما هناك في هذا المقام.

ومن الطبيعي جداً أنّ هذا الفعل القاسي قد يخلق بعض ردود الفعل، ولكن على مستوى فردي. إنّ ما نلاحظه هو أن المراجع، وخصوصاً مراجع الشيعة في النجف، أصدروا فتوى تحريمية لمقلِّديهم بعدم القيام بأيّ رد فعل على مستوى الحساسيات المذهبية، لأنّهم يقولون، إذا كان القتلة يستحقون القصاص، فإنّ الناس العاديين من هذا المذهب أبرياء لا يجوز التعرض لهم. وهذا الموقف أوجد حالة من التوازن في الواقع العراقي على مستوى الحالة المذهبيّة. لهذا أنا أتصوّر أنَّ هناك ضمانةً في العراق من خلال المرجعيات الدينية التي تستنكر كل عمل إرهابي أو تفجيري من الجانبين، وهناك أيضاً عقلاء من الشيعة والسنة يمنعون ذلك، ومن المعروف أنّه ما من عشيرة في العراق إلاّ وتحتضن شيعة وسنة في داخلها. إنّ هناك أكثر من ضمانة في الداخل العراقي في أن لا يتحوّل الوضع إلى حرب طائفية سنية وشيعية، وهذا مما نثق فيه على مستوى معلوماتنا من خلال الواقع العراقي.

س) سماحة السيد، أود أن أناقش معكم الجدلية المستحدثة بين من يوصفون بالإسلاميّين المعتدلين الذين يشاركون في الانتخابات، ومن يوصفون بأنهم متشددون، مثال على ذلك الأخوان المسلمون في مصر، هناك من يصفهم بأنهم متشددون وهناك من يصفهم بأنهم معتدلون، ولكنهم شاركوا في الانتخابات بعد أن سمح لهم بالمشاركة، وحصلوا على نتائج كبيرة، أيضاً في فلسطين هناك حركة حماس تقول إنها ستشارك، ولكن الاتحاد الأوروبي قال بوضوح عبر ممثله السيد سولانا إذا أصبح هؤلاء في السلطة فربما سيكون هناك قطيعة. هل يعني هذا بأن هناك قبولاً بشيء اسمه إسلام معتدل ورفض لشيء اسمه إسلام متشدد، أم ماذا؟

- إننا عندما نبعد التكفيريين عن ساحة الحركة الإسلامية، فإنّنا لا نجد أن هناك إسلاميين متشددين وإسلاميين معتدلين، الإسلاميون فريق إسلامي وسياسي بدأ يدرس الواقع بواقعية وينفتح على كثير من حالات الاعتراف بالآخر، حتى إنه انطلق في الديمقراطية تحت عناوين الشورى، التي ربما يفكر فيها فريق بطريقة أو بأخرى.

إنني أتساءل لماذا يُتحدَّث عن تشدد إسلامي واعتدال إسلامي، ولا يتحدث عن تشدد علماني واعتدال علماني؟ فأوروبا التي كنّا نتصور أنها أكثر واقعية وأقل تطرفاً من أمريكا، تهدد السلطة الفلسطينية بأنها إذا دخلت حماس ونجحت في الانتخابات فإنها سوف تمتنع عن إعطاء المساعدات للشعب الفلسطيني، معنى ذلك أنّ _ أوروبا وقبلها أمريكا _ تقول إنّنا سوف نعاقب الشعب الفلسطيني على انتخابه لحماس. والسؤال: أية ديمقراطية هي هذه الدّيمقراطيّة! إن القضية ليست قضية حماس، ولكنّها قضية الشعب الفلسطيني الذي ينتخب نوابه. ثم إنني أقول لكل هؤلاء السياسيين، ولا سيما الأمريكيين، لقد حاورتم الفيتناميين الذين حاربوكم وهزموكم، وحاورتم العراقيين الذين واجهوكم بالسلاح، فلماذا إذا كنتم ديمقراطيين، وإذا كنتم تتحدثون عن حقوق الإنسان، لا تحاورون الفصائل الفلسطينية وفي مقدمها حماس؟ ولعل الحوار، أقولها لأمريكا وللاتحاد الأوروبي، ينتج حداً وسطاً يدخل كل الفلسطينيين في المفاوضات من خلال اللجنة الرباعية، لعله ينتج الحلّ السلمي للمسألة الفلسطينية.

س) ما هي قراءتك للقضية التي طرحها أكثر من مرة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في ما يتعلق بالمحرقة اليهودية؟ وهل التصعيد في هذه المسائل خطأ أم صواب؟

- إن لدينا تعليقين مختصرين على ذلك، التَّعليق الأول: أن هذا الرئيس استطاع أن يرجع القضية الفلسطينية إلى قاعدتها الأساس في الإيديولوجية، وإن كان أثار حوله الكثير من المواقف السياسية الدولية التي تؤيد إسرائيل بلا قيد ولا شرط. والتَّعليق الثاني: أنا أسأل الاتّحاد الأوروبي وأمريكا: إذا كنتم تتحدّثون عن حرية الفكر وحرية الثقافة، فلماذا لا تسمحون لأحد في العالم أن يناقش مجرد مناقشة من النَّاحية التاريخية مسألة المحرقة؟ ما هي الأعداد؛ هل هي مقتصرة على اليهود، أو أنها تضم شعوباً أخرى أحرقهم هتلر أو عذبهم؟ لماذا يحاكم روجيه غارودي لأنه ناقش في الأعداد؟! نحن نقول إنَّ هذا هو المنطق الإسرائيلي الذي يستعمر كلَّ الذهنية الغربية، ويجعلها تعيش عقدة الذنب، ولكنه في الوقت نفسه، لا يمانع باسم الحرية أن يُشتَم النبي محمد(ص)، وأن تُشتَم مقدسات المسلمين. إنني أعتقد أن هناك نفاقاً غربياً في قضية الحرية، فهو يؤمن بالحرية إذا كانت ضد الشعوب الإسلامية وضد المنطق الإسلامي، ولكنه يمنع الحرية إذا كانت تناقش المسألة اليهودية حتى على مستوى سياسة إسرائيل. كما لاحظنا ذلك في فرنسا في هذا المجال. نحن نثمِّن موقف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الذي دعا إلى رفض معاداة الإسلام، كما رفض معاداة السامية، قهذا المنطق هو منطق العدالة، وليس منطق الاستكبار.

س) سماحة السيد، نحن نودّع عاماً ونستقبل عاماً جديداً. ما هي كلمتك الأخيرة؟

- إنّ علينا أن نشعر أنّ الزمن يمثل شاهداً علينا، وهذا ما جاء في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، حيث قال في دعاء الصباح والمساء: "اللّهمّ وهذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنَّا ودّعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذم". إنّ علينا أن ندرس تجربتنا في كلِّ ما عشناه في هذا العام، وما أسلفنا فيه من أخطاء ومن جرائم، وأن نستزيد مما استطعنا أن نحصل عليه من خير، حتى يكون عامنا الجديد عام حرية واستقلال وسلام وإنسانية للإنسان كلّه وللحياة، لأنَّ علينا أن نظلَّ في خطٍّ تصاعدي مع الزمن، ليكون مستقبل أمرنا خيراً من ماضيه.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير