مشكلة لبنان تكمن في بعض السياسيين الذين يتحركون من خلال ما يختزنونه من عقد طائفية

مشكلة لبنان تكمن في بعض السياسيين الذين يتحركون من خلال ما يختزنونه من عقد طائفية
 

في زمن تعصف فيه رياح التكفير الحاقدة والجارفة لدماء الأبرياء، وتسحق فيه سياسات الدول الكبرى الشعوب الضعيفة بغلاف عنوانه في الظاهر الحرية والديمقراطية، أما الباطن فيختزن ما فاق من الأطماع والمصالح... في هذا الزمن الرديء الذي تكثر فيه التحديات ويختلط معه الحق بالباطل، يبرز العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، كصاحب فكر رسالي نيّر متجدِّد يؤمن بالإنسان الحر وقدرته على النهوض حتى في زمن السقوط، كما إيمانه بالطاقة الإنسانية المنفتحة على الحوار والتواصل. قاموسه لا يعرف لليأس مكاناً، فليس هناك ظلام مطبق، ولا بد للفجر من أن ينبلج...

الحوار مع العلاّمة فضل الله يأخذ بُعداً إنسانياً عميقا،ً ويخرج عن الإطار المادي الجامد المكبّل، ليحلّق في الفضاء الرحب، حيث لا قيود ولا تعقيدات.

س: توتّر الوضع عند الحدود اللبنانية الجنوبية، أثار قراءات ومواقف متناقضة، البعض اعتبره يصبّ في مصلحة إسرائيل، والبعض الآخر اعتبره خدمةً لسوريا، في حين وضعه البعض في إطار دفاع المقاومة عن أرض لبنانية محتلة، في أي إطار تضعه سماحتك؟

ج: لعلّ المشكلة في هذه التحليلات، أن ليس هناك من يسأل ما هي مصلحة لبنان. إن الفكرة هي أن أي لبناني مرتهن للخارج، لا يملك أمره، ولا ينطلق من موقع أصالة الموقف أو الاتجاه. لذلك، عندما نريد أن ندرس هذا الحدث الحدودي، علينا أن ندرس ما هي العلاقات بين لبنان وإسرائيل. والكل يعرف، على الأقل من الناحية الرسمية، أن إسرائيل ما تزال دولة محتلة للبنان من خلال احتلالها لمزارع شبعا، ما يفرض على اللبنانيين، وهم يعيشون في هذه الأيام ذكرى الاستقلال، أن يعرفوا أن الاستقلال اللبناني ليس كاملاً، كما ينبغي ألا يختصر الحديث عن استقلال لبنان عن سوريا فقط، لأنّ إسرائيل تمثّل الخطر المستقبلي، كما تمثل الخطر على مجمل واقع المنطقة.

لذلك، فإن الذين تحدّثوا عن الاستقلال في مناسبة 14 آذار(مارس)، لم يتحدثوا عن مسألة الاستقلال في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. إن طريقتهم في الحديث عن مزارع شبعا هل هي لبنانية أو سورية، توحي بأنهم يحاولون تبرئة إسرائيل من عملية الاحتلال للأرض اللبنانية، ليقولوا للمقاومة تماماً كما تقول الأمم المتحدة الخاضعة للنفوذ الأمريكي، بأنك أنت المعتدية وليست إسرائيل هي المعتدية. لذلك عندما ندرس خطوط التماس بين المقاومة وإسرائيل، فإننا نلاحظ أنه من الطبيعي لأية مقاومة وطنية أن تراقب حركة العدو، فكل اللبنانيين يلاحظون، كما تلاحظ الأمم المتحدة، الخروقات الجوية الإسرائيلية اليومية للأجواء اللبنانية، إلى جانب بعض الخروقات البرية والبحرية، لذلك فإن موقف المقاومة في خط المواجهة يعتبر مبرراً من ناحية مواجهة هذا العدوان، بقطع النظر عن الأحداث الميدانية في هذا المجال، فكيف إذا تحوّل العدوان الإسرائيلي إلى فعل ميداني في الأراضي اللبنانية المحتلة، أما الحديث عن أن سوريا يمكن أن تستفيد من هذه العمليات، فأنا لا أفهم ماذا يمكن أن تستفيد؟

أنا لا أعتبر أن هناك أي تخفيف للضغط السياسي على سوريا في هذا المقام، القضية لبنانية بالكامل، وبتفوّق، وأنا أعرف، ومن خلال معلوماتنا، أن المقاومة الإسلامية في حركتها الجهادية لا تأخذ أي أوامر من سوريا أو من إيران، بل إنها تخضع لمعطياتها الميدانية في حاجتها إلى المواجهة مع العدو الإسرائيلي في هذا المجال. وأن يحدث مشاكل حدودية بين إسرائيل واللبنانيين، فهذا أمرٌ لا يتصل بسوريا لا من قريب ولا من بعيد.

إن مشاكل سوريا الآن هي مع أمريكا في المسألة العراقية والفلسطينية، ومسألة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وقضايا ميليس، وما حصل في الجنوب ربما ينعكس سلباً على سوريا، عندما تنطلق التصريحات الدولية الأمريكية والفرنسية والبريطانية، ومن الأمم المتحدة، لتُحمّل اللبنانيين المسؤولية، وتوحي بأن سوريا هي التي تشعل الجبهة هنا وهناك. وثمّة نقطة ينبغي ملاحظتها، وهي أنّه إذا كانت سوريا تضغط أو توحي بالنسبة إلى المقاومة في لبنان للقيام بعملية ما، فإنّ الجيش السوري ومخابراته قد انسحب من لبنان، فكيف نحمِّل سوريا مسؤولية ما يحدث في لبنان؟.

س: يُقال إن الطائفة الشيعية في لبنان تسير في ركب تحرّري يختلف عن الركب التحرّري للطوائف الأخرى، هل هذا صحيح، ولماذا هذا التمايز الشيعي إن صحّ التعبير؟ وأين يوظّف؟

ج: نحن نعتقد أن الشيعة مواطنون لبنانيون لا يستطيع أحد أن ينتقص من وطنيتهم، بل نؤكد أنه لا يستطيع أي لبناني أن يزايد عليهم بلبنانيتهم، فهم الذين حقّقوا الاستقلال للبنان بدمائهم، عندما قاوموا الاحتلال الإسرائيلي في أكثر مواقع العدوان الإسرائيلي، وهم الذين حرّروا الأرض اللبنانية تحريراً حاسماً بما لم يحرّرها به أحد، لأنّه حتى الاستقلال لم يتحرك بهذا الزخم الذي تحرك به المقاومون في المقاومة الإسلامية في هذا المجال.

لذلك، نحن نعرف أن الشيعة ليست لهم أية مشاريع خاصة بالمعنى الطائفي، وهم ينفتحون على لبنان كله، ويريدون الحوار مع كلِّ اللبنانيين بمن فيهم القوات اللبنانية، وقد أعلنوا استعدادهم للحوار مع كلِّ الأطياف اللبنانية، سواء الحوار الإسلامي ـ الإسلامي، أو الحوار الإسلامي ـ المسيحي. لذلك فقضية أن لهم وجهة نظر في تحرير لبنان تختلف عن وجهة نظر اللبنانيين، لا يمكن أن تكون مفهومة، إذ كيف يكون للتحرير أكثر من وجهة نظر. إن معنى التحرير، هو أن يخرج العدو من بلدك، وألا يسيطر هذا المحور الدولي أو المحور الإقليمي على قرارك ؟ وأعتقد أن الشيعة ومع كثير من اللبنانيين، يفكرون في ألا يكون لبنان ممراً للاستعمار ولا مقراً له، لأن السيادة تنطلق من أن يكون لبنان حراً للّبنانيين، لا يحتله أحد، وسيداً لا يسيطر عليه أحد، ومستقلاً لا يخضع لإرادة أو قرارات أحد.

اللبنانيون الشيعة مواطنون لبنانيون لا يستطيع أحد أن ينتقص من وطنيتهم

س: كيف قرأت خطاب الرئيس الدكتور بشّار الأسد؟

ج: أنا لا أحب أن أعلّق على التفاصيل، ولكنني أتصور أن القضايا المصيرية التي تمثّل العنفوان العربي والعنفوان الإسلامي، في قضية مواجهة الهيمنة الأمريكية على المنطقة، والعدوان الإسرائيلي في احتلاله لأكثر من بلد في المنطقة، وإثارة الأمور الداخلية السّورية بالانفتاح على الوعد بالإصلاح... هذه عناوين تمثّل أموراً إيجابية في هذا الخطاب. نحن نشكو في هذه المرحلة من سقوط الواقع العربي على مستوى الأنظمة، فإسرائيل تتحدث من خلال وزير خارجيتها، أنها سوف تجتاح العالم العربي في أكثريته، دبلوماسياً، وتقول إن العرب في أنظمتهم يتحدثون معها سراً، وتريد أن يتحدثوا معها علناً. ومن الطريف جداً أن أمريكا التي أطلقت خطتها في مشروع الشرق الأوسط الكبير من خلال الرئيس جورج بوش، أرادت لإسرائيل أن تكون الأستاذ الديمقراطي الذي يحاضر في حقوق الإنسان والحريات، وأن يُعلِّم العرب في خط هذا المشروع كيف تكون الديمقراطية والحريات العامة، تماماً كما لو كان هؤلاء تلامذة صغاراً لا يفهمون الحياة إلا من خلال إسرائيل.

ثم الأخطر أن بعض الأنظمة العربية تتلقّى دروساً من خلال المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، كيف يمكن أن يقصفوا المعارضين والأحرار في بلدهم من خلال التجربة العسكرية الإسرائيلية بقصف رجال الانتفاضة، وقصف الشعب الفلسطيني، ليتعلّم العرب من خلال إسرائيل كيف يقصفون القوى المعارضة التي يتهمونها ظلماً بالإرهاب وما إلى ذلك. أيّ انحدار هو هذا الانحدار العربي الذي يسقط حتى الوحل! إننا نعتبر أن خطاب الرئيس الأسد في هذه المرحلة من السقوط، يمثل شيئاً من العنفوان العربي الذي يشعر فيه العربي بأنه يحترم نفسه، أما بالنسبة للشقّ اللبناني من الخطاب، فإننا قد نناقش بعض التعابير، ولكن الإعلام اللبناني من خلال بعض السياسيين اللبنانيين، لم يترك كلمة إلا وقالها، فطاولت الجميع، من قمة الهرم إلى الشعب السوري. إنني أتصور أن هذا الأسلوب في الحديث قد يكون سلبياً، ولكنه لن يؤدي إلى نتائج كارثية في العلاقة بين سوريا ولبنان. هذا الخطاب يمثّل ردّ فعل وليس فعلاً!.

س: هل تخاف أن يتحوّل التنوّع اللبناني الفريد من ثروة إلى نقمة، ومن وداعة إلى تصادم؟

ج: عندما كنت أتحدث عن التنوّع، كنت أتحدث عن التنوع الثقافي والفكري الذي يمثّل الإشعاع اللبناني في الإنتاج الفكري والفني الذي يمارسه المثقفون في لبنان من الرجال والنساء. وعندما كنت أتحدث عن هذا التنوّع، كنت أتحدّث عن الشعب اللبناني الذي عاش هذا التنوع في الخصائص والانتماءات بالمستوى الذي عاش فيه التواصل إلى حد الاندماج. فنحن نلاحظ أمام دعوات الحوار الإسلامي ـ المسيحي، لجهة من يحاور من، وما هي شروط الحوار، أن الشعب اللبناني حاور بعضه بعضاً، وأخذ النتائج، وبقي في الأبراج العاجية مَن يتحدث عن الحوار بشكل تجريدي. فنحن نلاحظ مثلاً أنّ الناس في المناطق المختلطة مسيحياً وإسلامياً، يتعاونون في مجالات الزراعة والصناعة والرياضة وغير ذلك، وإذا كانت تحدث هناك بعض المشكلات، فليس لها بعد طائفي، بل بُعد حياتي عادي.

مشكلة لبنان في هذا التنوّع، هي مشكلة فريق من السياسيين يريد أن يقسِّم لبنان من خلال الحديث عن "فيدرالية الطوائف"، هؤلاء هم مشكلة لبنان، لأنهم يتحركون من خلال ما يختزنونه من العقد الطائفية. لذلك فأنا أعتقد أنه ليست هناك مشكلة مسيحية ـ إسلامية في لبنان من ناحية اللاهوت، فأكثر المسيحيين لا يفهمون خطوط اللاهوت، وأكثر المسلمين لا يفهمون أيضاً خطوط اللاهوت. المشكلة بين اللبنانيين هي في بعض الجوانب الإدارية والسياسية. حتى إن الحديث عن المراكز العليا لهذه الطائفة أو تلك، لا تستفيد منها الطوائف نفسها.

فماذا يستفيد الموارنة الفقراء من أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً؟ وماذا يستفيد الشيعة الفقراء من أن يكون رئيس مجلس النواب شيعياً؟ وهكذا بالنسبة لرئاسة الوزراء. لقد سألني أحد الإعلاميين خلال الحرب عن رأيي في حل المشكلة اللبنانية، فأجبت على سبيل النكتة، بأن نجمع السياسيين ونضعهم في سفينة ونطلقهم في البحر، فلا يبقى للبنان مشكلة، طبعاً هذا مع التحفّظ، فنحن نقدّر ونحترم العديد من السياسيين.

مشكلة لبنان هم فريق من السياسيين يريد أن يقسِّم لبنان من خلال الحديث عن "فيدرالية الطوائف"

س: هل أصبحت لديكم اليوم شكوك حقيقية بالنسبة لمصداقية التحقيق الدولي باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟ وهل تتوقع أن تكشف الحقيقة الفعلية؟

ج: عندما نتحدث عن هذه المسألة، نلاحظ أن الدول التي تملك المعلومات لم تعاون لجان التحقيق. فنحن نعرف أن أمريكا تملك كل المعلومات من خلال الأقمار الصناعية، ولم تقدِّمها إلى لجنة التحقيق الدولية، ما يعني أن أمريكا هي أول دولة لم تتعاون مع لجنة التحقيق، وكان يجب على ميليس في تقريره أن يذكر عدم التعاون الأمريكي. ثم إنّ الدولة الثانية التي تملك المعلومات الدقيقة في هذه القضية هي إسرائيل، فهي الدولة التي يمكن على الأقلّ، أن تكون موضع اتهام، لأن السلام والاستقرار في لبنان لا يتناسبان مع أهدافها وخططها.

لماذا لم يتحدّث اللبنانيون عن إسرائيل كمشتبه بها، كما يتحدثون عن لبنانيين وعن سوريين كمشتبه بهم في اغتيال الرئيس الحريري؟ وهو الذي كان يمثّل قيمةً سياسيةً في مواجهة إسرائيل من خلال اعتداله ودبلوماسيته وعلاقاته الدولية؟ هذه نقطة لا بد من أن نسجلها أمام حركة لجنة التحقيق.

من ناحية ثانية، نحن لا نريد أن نطلق الحكم ببراءة سوريا أو إدانتها، لأنه ليس من الضروري أن يكون النظام السوري متورطاً في هذه الجريمة، قد يكون هناك سوريون متورطون، كما نجد أن هناك سوريين ضد النظام السوري، يقدمون شهادات ربما كاذبة وربما صادقة أمام لجنة التحقيق الدولية. لكن لماذا كل هذه الهجمة الدولية على سوريا إضافةً إلى الهجمة اللبنانية عليها من أغلب الأطراف السياسية؟ كما لو كانت مدانة في هذه الجريمة؟ لقد سمعت بعض السياسيين يقولون إن سوريا مدانة حتى تثبت براءتها، علماً أن القاعدة القانونية تقول إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. والسياسي الذي صرّح بذلك حاول أن يزايد على رئيس لجنة التحقيق الذي قال: "إننا لا نتّهم سوريا، ولكنها مشتبه بها حتى تثبت إدانتها أو العكس".

أن ينطلق لبنانيون بإدانة سوريا، وأن يعمل الكثير منهم على تحشيد عناصر الإدانة، سواء كانت مركّزة أو غير مركّزة، وأنا هنا أتحدث عن المناخ بقطع النظر عن المفردات، فهذا المناخ ليس مناخاً قضائياً أو قانونياً، بل هو مناخ سياسي، لأنّني أعرف أن أمريكا ليس لها من خلال طبيعة استراتيجيتها وسياستها واهتماماتها الكونية، اهتمامات بقضية اغتيال الرئيس الحريري، كما أنّه ليس لها اهتمامات بالجرائم التي تقوم بها إسرائيل ضد لبنان كـ(صبرا وشاتيلا، وقانا...) وضد فلسطين، لكنها اعتبرت جريمة اغتيال الحريري ورقةً تلعبها للضغط على سوريا، والمسألة متصلة بسوريا في دفاعها عن نفسها. وأنا أتصوّر أن هذه القضية عندما قامت "بجولة حول العالم"، ودخلت في مواقع الأمم المتحدة، وتحركت في خط السياسة الأمريكية بالمنطقة، وخط السياسة الفرنسية في لبنان، باعتبار أن فرنسا تريد استعادة موقعها في لبنان، أصبح من الصعب جداً أن تصل إلى نتيجة. قد تتحرك المسألة لتشير إلى اشتباه هنا واشتباه هناك، ولكن أن يقبض على القاتل بشكل مباشر، أو غير مباشر فهذا ليس مستحيلاً، ولكنه صعب. ولقد تعوّدنا في لبنان مقولة "قبضنا على القتيل ولم نقبض على القاتل".

س: هل هدف أمريكا اليوم هو إسقاط النظام السوري؟

ج: أنا لا أتصور أن أمريكا تستغني عن النظام السوري القائم، لذلك هناك ضغط على سوريا لكي تقدم التنازلات في القضية العراقية أولاً، والقضية الفلسطينية ثانياً، وفي نهاية المطاف، فإنّ المسألة اللبنانية تأتي في الدرجة الأخيرة من الاهتمامات الأمريكية في الضغط على سوريا.

س: لكن لماذا هذا الضغط في التحقيق الدولي، وطلب الاستماع إلى شقيق الرئيس الأسد وصهره؟

ج: أنا لا أعتبر أن للقرابة دوراً في هذه المسألة، لأنها تتصل بمواقع هؤلاء الذين لا يشكلون كل النظام السوري.

س: هل كُتب على لبنان أن يعيش زمن الوصايات، وكأنه طفل قاصر لا ينضج؟

ج: نعم، لأنّ أكثر اللبنانيين اختاروا ذلك، لقد كنت أقول لو أريد للبنان أن يكون وطناً لبنيه، لما وضع النظام الطائفي في عُمق مفاصله الدستورية. نحن نعتبر أن ميثاق الـ43 كان أكثر تقدماً من اتفاق الطائف، لأنه كان يعتبر الطائفية عرفاً فأصبحت اليوم دستوراً. لذلك نحن نتصوّر أن لبنان لم يوضع ليكون وطناً لبنيه، بل رئة لتتنفس فيها مشاكل المنطقة، وليكون ساحة للمحرقة لأكثر من قضية في المنطقة. ومن المؤسف أن معظم اللبنانيين اختاروا ذلك، خصوصاً أنّ كل طائفة تحاول أن تأخذ القوة مقابل الطائفة الأخرى من خلال ارتباطاتها الخارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية. نتمنى أن يؤمن اللبنانيون إيماناً يتمرد على كل وصاية في هذا المجال، ولكنهم يقولون لكل قادم إنه هو ربّ المنـزل، فيتصرف على هذا الأساس.

لذلك نرى السفراء في لبنان يتدخلون حتى في القضايا الصغيرة التي تخص الداخل اللبناني ومفاصله، وهذا الأمر غير قائم في أي بلد في العالم. والنكتة المعروفة في لبنان أن السفراء يقولون إنهم لا يمارسون الوصاية، إنما يمارسون الرعاية. ونحن نعرف أن دور الوصي هو أن يرعى المولى عليه.

نتصوّر أن لبنان لم يوضع ليكون وطناً لبنيه، بل رئة لتتنفس فيها مشاكل المنطقة،
وليكون ساحة للمحرقة لأكثر من قضية في المنطقة

س: أين خشبة الخلاص للبنان؟

ج: لقد بقي اللبنانيون يقدّسون خشب الأرز ويحرقون كل الخشب في الشتاء، ما جعل كل الأحراج تتحول إلى صحارى، لم تبقَ هناك خشبة يمكن أن ينجو عليها اللبنانيون في كل هذا البحر الهائج.

س: هل أصبحنا في نقطة اللاعودة؟

ج: لقد أدمنّا اللاعودة، هناك من يدمنون التدخين بالرغم من خطورته، ومن يدمنون المخدرات بالرغم من خطورتها، ونحن أدمنّا هذه الفوضى السياسية، وأدمنّا الكثير من السياسيين الذين نعرف أنهم يخدّروننا بطريقة أو بأخرى، وربما نشعر بما يشعر به الذي يدمن المخدرات من أجواء وردية وهمية، ولكنها تتحول إلى سُم يقتل الإنسان في النهاية؟!

س: لقد انتقدت الخلط الغبي بين الإرهاب التكفيري والمقاومة الحرة، فمن يتحمّل مسؤولية هذا الخلط؟ وأين الموقف الصريح للعلماء المسلمين من كل ما يجري؟

ج: أخشى أن يكون البعض يعتبر هؤلاء الإرهابيين التكفيريين مقاومين، وأن كل ما يقومون به من قتلٍ للمدنيين هو في اتجاه مقاومة المحتل، ربما لأنهم يتهمون هؤلاء المدنيين بأنهم فريق داعم للمحتل، وأخشى أن تكون للمسألة أبعاد طائفية حاقدة. لكننا نعتقد أن هذا الاتجاه التكفيري لم يعد يمثّل خطراً على طائفة معينة، بل أصبح خطراً على المسلمين جميعاً، وهذا ما لاحظناه في تفجيرات عمان، وخطراً على العالم أجمع، وهذا ما لاحظناه في تفجيرات لندن ومدريد وحتى في أمريكا.

نعتقد أن هذا الاتجاه التكفيري لم يعد يمثّل خطراً على طائفة معينة، بل أصبح خطراً على المسلمين جميعاً

س: ما دمتَ قد تحدثت عن "أنسنة الدولة" في ظل كل ما يجري من قتل ودمار وحمامات دم، هل ما زلت تؤمن بإمكانية بناء دولة الإنسان؟ وأين دور الله فيها؟

ج: إنني أؤمن بالإنسان، حتى إنّي أؤمن بأنّ الإنسان المجرم يختزل في داخله نبعاً من الصفاء الإنساني، ولكن هناك تراكمات هي التي تحجب هذا الينبوع الإنساني في نفس الشخص. إنني أؤمن بأن هناك جانباً خيّراً في الإنسان لا بد من أن نستثيره، وأن وجود بعض النماذج التي يئس الكثير من إمكانية إصلاحها بعد أن تجاوزت كل حدٍّ في انحرافها، ثم استقامت وصلُحَت، يدل على أن الإنسان لم يسقط كلياً. الله يعتبر أن الإنسان هو الذي يحرّك حياته وفق اختياره، فالله هو الذي خلق الحياة، لكنه أوكل إلى الإنسان أن يصنع حياته، لأنّه يعيش حالة من الجدل الداخلي تجعله قادراً على أن يغيّر نفسه، وذلك قوله تعالى: {إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم}.الحياة هي الطاقة الإنسانية المنفتحة على حوار الإنسان للإنسان، واعتراف الإنسان بالإنسان، وتواصل الإنسان مع الإنسان. علينا ألا نيأس، لأننا عندما نحدّق بالشمس في كل صباح بعد سيطرة الظلام، نعرف أنه لا بد للنور من أن يُشرق. حتى إنني كنت أتحدث عن صورة شاعرية، وهي أن الله نشر النجوم بالأفق في الليل، حتى يقول للإنسان أن ليس هناك ظلام مطبق. هناك نقاط ضوء في قلب كل هذا الظلام، وسوف تتجمع لتكون الفجر. نحن ننتظر الفجر.

س: إذا أردت اليوم أن تطلق عبر مجلة "الحوادث" فتوى للشباب العربي المسلم والمسيحي، فماذا تقول لهم فيها؟

ج: أقول لهم، عليكم أن تنـزلوا إلى عمق ينبوع الإنسانية الكامل في أعماقكم، وعليكم أن تطردوا كل هذا الركام الذي يحاول أن يغطي هذا النبع الإنساني. نحن نريد أن نشرب من النبع الصافي. وفي لبنان الكثير من الينابيع الصافية. وأختم حديثي ببيت في قصيدة صوفية أقول فيها: "ربّي هبني الصفاء في الروح إنني أحرق العمر في كؤوس الصفاء".

بيروت ـ بارعة الفقيه
مجلة "الحوادث": 30-10-1426هـ/2-12-2005م

 

في زمن تعصف فيه رياح التكفير الحاقدة والجارفة لدماء الأبرياء، وتسحق فيه سياسات الدول الكبرى الشعوب الضعيفة بغلاف عنوانه في الظاهر الحرية والديمقراطية، أما الباطن فيختزن ما فاق من الأطماع والمصالح... في هذا الزمن الرديء الذي تكثر فيه التحديات ويختلط معه الحق بالباطل، يبرز العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، كصاحب فكر رسالي نيّر متجدِّد يؤمن بالإنسان الحر وقدرته على النهوض حتى في زمن السقوط، كما إيمانه بالطاقة الإنسانية المنفتحة على الحوار والتواصل. قاموسه لا يعرف لليأس مكاناً، فليس هناك ظلام مطبق، ولا بد للفجر من أن ينبلج...

الحوار مع العلاّمة فضل الله يأخذ بُعداً إنسانياً عميقا،ً ويخرج عن الإطار المادي الجامد المكبّل، ليحلّق في الفضاء الرحب، حيث لا قيود ولا تعقيدات.

س: توتّر الوضع عند الحدود اللبنانية الجنوبية، أثار قراءات ومواقف متناقضة، البعض اعتبره يصبّ في مصلحة إسرائيل، والبعض الآخر اعتبره خدمةً لسوريا، في حين وضعه البعض في إطار دفاع المقاومة عن أرض لبنانية محتلة، في أي إطار تضعه سماحتك؟

ج: لعلّ المشكلة في هذه التحليلات، أن ليس هناك من يسأل ما هي مصلحة لبنان. إن الفكرة هي أن أي لبناني مرتهن للخارج، لا يملك أمره، ولا ينطلق من موقع أصالة الموقف أو الاتجاه. لذلك، عندما نريد أن ندرس هذا الحدث الحدودي، علينا أن ندرس ما هي العلاقات بين لبنان وإسرائيل. والكل يعرف، على الأقل من الناحية الرسمية، أن إسرائيل ما تزال دولة محتلة للبنان من خلال احتلالها لمزارع شبعا، ما يفرض على اللبنانيين، وهم يعيشون في هذه الأيام ذكرى الاستقلال، أن يعرفوا أن الاستقلال اللبناني ليس كاملاً، كما ينبغي ألا يختصر الحديث عن استقلال لبنان عن سوريا فقط، لأنّ إسرائيل تمثّل الخطر المستقبلي، كما تمثل الخطر على مجمل واقع المنطقة.

لذلك، فإن الذين تحدّثوا عن الاستقلال في مناسبة 14 آذار(مارس)، لم يتحدثوا عن مسألة الاستقلال في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. إن طريقتهم في الحديث عن مزارع شبعا هل هي لبنانية أو سورية، توحي بأنهم يحاولون تبرئة إسرائيل من عملية الاحتلال للأرض اللبنانية، ليقولوا للمقاومة تماماً كما تقول الأمم المتحدة الخاضعة للنفوذ الأمريكي، بأنك أنت المعتدية وليست إسرائيل هي المعتدية. لذلك عندما ندرس خطوط التماس بين المقاومة وإسرائيل، فإننا نلاحظ أنه من الطبيعي لأية مقاومة وطنية أن تراقب حركة العدو، فكل اللبنانيين يلاحظون، كما تلاحظ الأمم المتحدة، الخروقات الجوية الإسرائيلية اليومية للأجواء اللبنانية، إلى جانب بعض الخروقات البرية والبحرية، لذلك فإن موقف المقاومة في خط المواجهة يعتبر مبرراً من ناحية مواجهة هذا العدوان، بقطع النظر عن الأحداث الميدانية في هذا المجال، فكيف إذا تحوّل العدوان الإسرائيلي إلى فعل ميداني في الأراضي اللبنانية المحتلة، أما الحديث عن أن سوريا يمكن أن تستفيد من هذه العمليات، فأنا لا أفهم ماذا يمكن أن تستفيد؟

أنا لا أعتبر أن هناك أي تخفيف للضغط السياسي على سوريا في هذا المقام، القضية لبنانية بالكامل، وبتفوّق، وأنا أعرف، ومن خلال معلوماتنا، أن المقاومة الإسلامية في حركتها الجهادية لا تأخذ أي أوامر من سوريا أو من إيران، بل إنها تخضع لمعطياتها الميدانية في حاجتها إلى المواجهة مع العدو الإسرائيلي في هذا المجال. وأن يحدث مشاكل حدودية بين إسرائيل واللبنانيين، فهذا أمرٌ لا يتصل بسوريا لا من قريب ولا من بعيد.

إن مشاكل سوريا الآن هي مع أمريكا في المسألة العراقية والفلسطينية، ومسألة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وقضايا ميليس، وما حصل في الجنوب ربما ينعكس سلباً على سوريا، عندما تنطلق التصريحات الدولية الأمريكية والفرنسية والبريطانية، ومن الأمم المتحدة، لتُحمّل اللبنانيين المسؤولية، وتوحي بأن سوريا هي التي تشعل الجبهة هنا وهناك. وثمّة نقطة ينبغي ملاحظتها، وهي أنّه إذا كانت سوريا تضغط أو توحي بالنسبة إلى المقاومة في لبنان للقيام بعملية ما، فإنّ الجيش السوري ومخابراته قد انسحب من لبنان، فكيف نحمِّل سوريا مسؤولية ما يحدث في لبنان؟.

س: يُقال إن الطائفة الشيعية في لبنان تسير في ركب تحرّري يختلف عن الركب التحرّري للطوائف الأخرى، هل هذا صحيح، ولماذا هذا التمايز الشيعي إن صحّ التعبير؟ وأين يوظّف؟

ج: نحن نعتقد أن الشيعة مواطنون لبنانيون لا يستطيع أحد أن ينتقص من وطنيتهم، بل نؤكد أنه لا يستطيع أي لبناني أن يزايد عليهم بلبنانيتهم، فهم الذين حقّقوا الاستقلال للبنان بدمائهم، عندما قاوموا الاحتلال الإسرائيلي في أكثر مواقع العدوان الإسرائيلي، وهم الذين حرّروا الأرض اللبنانية تحريراً حاسماً بما لم يحرّرها به أحد، لأنّه حتى الاستقلال لم يتحرك بهذا الزخم الذي تحرك به المقاومون في المقاومة الإسلامية في هذا المجال.

لذلك، نحن نعرف أن الشيعة ليست لهم أية مشاريع خاصة بالمعنى الطائفي، وهم ينفتحون على لبنان كله، ويريدون الحوار مع كلِّ اللبنانيين بمن فيهم القوات اللبنانية، وقد أعلنوا استعدادهم للحوار مع كلِّ الأطياف اللبنانية، سواء الحوار الإسلامي ـ الإسلامي، أو الحوار الإسلامي ـ المسيحي. لذلك فقضية أن لهم وجهة نظر في تحرير لبنان تختلف عن وجهة نظر اللبنانيين، لا يمكن أن تكون مفهومة، إذ كيف يكون للتحرير أكثر من وجهة نظر. إن معنى التحرير، هو أن يخرج العدو من بلدك، وألا يسيطر هذا المحور الدولي أو المحور الإقليمي على قرارك ؟ وأعتقد أن الشيعة ومع كثير من اللبنانيين، يفكرون في ألا يكون لبنان ممراً للاستعمار ولا مقراً له، لأن السيادة تنطلق من أن يكون لبنان حراً للّبنانيين، لا يحتله أحد، وسيداً لا يسيطر عليه أحد، ومستقلاً لا يخضع لإرادة أو قرارات أحد.

اللبنانيون الشيعة مواطنون لبنانيون لا يستطيع أحد أن ينتقص من وطنيتهم

س: كيف قرأت خطاب الرئيس الدكتور بشّار الأسد؟

ج: أنا لا أحب أن أعلّق على التفاصيل، ولكنني أتصور أن القضايا المصيرية التي تمثّل العنفوان العربي والعنفوان الإسلامي، في قضية مواجهة الهيمنة الأمريكية على المنطقة، والعدوان الإسرائيلي في احتلاله لأكثر من بلد في المنطقة، وإثارة الأمور الداخلية السّورية بالانفتاح على الوعد بالإصلاح... هذه عناوين تمثّل أموراً إيجابية في هذا الخطاب. نحن نشكو في هذه المرحلة من سقوط الواقع العربي على مستوى الأنظمة، فإسرائيل تتحدث من خلال وزير خارجيتها، أنها سوف تجتاح العالم العربي في أكثريته، دبلوماسياً، وتقول إن العرب في أنظمتهم يتحدثون معها سراً، وتريد أن يتحدثوا معها علناً. ومن الطريف جداً أن أمريكا التي أطلقت خطتها في مشروع الشرق الأوسط الكبير من خلال الرئيس جورج بوش، أرادت لإسرائيل أن تكون الأستاذ الديمقراطي الذي يحاضر في حقوق الإنسان والحريات، وأن يُعلِّم العرب في خط هذا المشروع كيف تكون الديمقراطية والحريات العامة، تماماً كما لو كان هؤلاء تلامذة صغاراً لا يفهمون الحياة إلا من خلال إسرائيل.

ثم الأخطر أن بعض الأنظمة العربية تتلقّى دروساً من خلال المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، كيف يمكن أن يقصفوا المعارضين والأحرار في بلدهم من خلال التجربة العسكرية الإسرائيلية بقصف رجال الانتفاضة، وقصف الشعب الفلسطيني، ليتعلّم العرب من خلال إسرائيل كيف يقصفون القوى المعارضة التي يتهمونها ظلماً بالإرهاب وما إلى ذلك. أيّ انحدار هو هذا الانحدار العربي الذي يسقط حتى الوحل! إننا نعتبر أن خطاب الرئيس الأسد في هذه المرحلة من السقوط، يمثل شيئاً من العنفوان العربي الذي يشعر فيه العربي بأنه يحترم نفسه، أما بالنسبة للشقّ اللبناني من الخطاب، فإننا قد نناقش بعض التعابير، ولكن الإعلام اللبناني من خلال بعض السياسيين اللبنانيين، لم يترك كلمة إلا وقالها، فطاولت الجميع، من قمة الهرم إلى الشعب السوري. إنني أتصور أن هذا الأسلوب في الحديث قد يكون سلبياً، ولكنه لن يؤدي إلى نتائج كارثية في العلاقة بين سوريا ولبنان. هذا الخطاب يمثّل ردّ فعل وليس فعلاً!.

س: هل تخاف أن يتحوّل التنوّع اللبناني الفريد من ثروة إلى نقمة، ومن وداعة إلى تصادم؟

ج: عندما كنت أتحدث عن التنوّع، كنت أتحدث عن التنوع الثقافي والفكري الذي يمثّل الإشعاع اللبناني في الإنتاج الفكري والفني الذي يمارسه المثقفون في لبنان من الرجال والنساء. وعندما كنت أتحدث عن هذا التنوّع، كنت أتحدّث عن الشعب اللبناني الذي عاش هذا التنوع في الخصائص والانتماءات بالمستوى الذي عاش فيه التواصل إلى حد الاندماج. فنحن نلاحظ أمام دعوات الحوار الإسلامي ـ المسيحي، لجهة من يحاور من، وما هي شروط الحوار، أن الشعب اللبناني حاور بعضه بعضاً، وأخذ النتائج، وبقي في الأبراج العاجية مَن يتحدث عن الحوار بشكل تجريدي. فنحن نلاحظ مثلاً أنّ الناس في المناطق المختلطة مسيحياً وإسلامياً، يتعاونون في مجالات الزراعة والصناعة والرياضة وغير ذلك، وإذا كانت تحدث هناك بعض المشكلات، فليس لها بعد طائفي، بل بُعد حياتي عادي.

مشكلة لبنان في هذا التنوّع، هي مشكلة فريق من السياسيين يريد أن يقسِّم لبنان من خلال الحديث عن "فيدرالية الطوائف"، هؤلاء هم مشكلة لبنان، لأنهم يتحركون من خلال ما يختزنونه من العقد الطائفية. لذلك فأنا أعتقد أنه ليست هناك مشكلة مسيحية ـ إسلامية في لبنان من ناحية اللاهوت، فأكثر المسيحيين لا يفهمون خطوط اللاهوت، وأكثر المسلمين لا يفهمون أيضاً خطوط اللاهوت. المشكلة بين اللبنانيين هي في بعض الجوانب الإدارية والسياسية. حتى إن الحديث عن المراكز العليا لهذه الطائفة أو تلك، لا تستفيد منها الطوائف نفسها.

فماذا يستفيد الموارنة الفقراء من أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً؟ وماذا يستفيد الشيعة الفقراء من أن يكون رئيس مجلس النواب شيعياً؟ وهكذا بالنسبة لرئاسة الوزراء. لقد سألني أحد الإعلاميين خلال الحرب عن رأيي في حل المشكلة اللبنانية، فأجبت على سبيل النكتة، بأن نجمع السياسيين ونضعهم في سفينة ونطلقهم في البحر، فلا يبقى للبنان مشكلة، طبعاً هذا مع التحفّظ، فنحن نقدّر ونحترم العديد من السياسيين.

مشكلة لبنان هم فريق من السياسيين يريد أن يقسِّم لبنان من خلال الحديث عن "فيدرالية الطوائف"

س: هل أصبحت لديكم اليوم شكوك حقيقية بالنسبة لمصداقية التحقيق الدولي باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟ وهل تتوقع أن تكشف الحقيقة الفعلية؟

ج: عندما نتحدث عن هذه المسألة، نلاحظ أن الدول التي تملك المعلومات لم تعاون لجان التحقيق. فنحن نعرف أن أمريكا تملك كل المعلومات من خلال الأقمار الصناعية، ولم تقدِّمها إلى لجنة التحقيق الدولية، ما يعني أن أمريكا هي أول دولة لم تتعاون مع لجنة التحقيق، وكان يجب على ميليس في تقريره أن يذكر عدم التعاون الأمريكي. ثم إنّ الدولة الثانية التي تملك المعلومات الدقيقة في هذه القضية هي إسرائيل، فهي الدولة التي يمكن على الأقلّ، أن تكون موضع اتهام، لأن السلام والاستقرار في لبنان لا يتناسبان مع أهدافها وخططها.

لماذا لم يتحدّث اللبنانيون عن إسرائيل كمشتبه بها، كما يتحدثون عن لبنانيين وعن سوريين كمشتبه بهم في اغتيال الرئيس الحريري؟ وهو الذي كان يمثّل قيمةً سياسيةً في مواجهة إسرائيل من خلال اعتداله ودبلوماسيته وعلاقاته الدولية؟ هذه نقطة لا بد من أن نسجلها أمام حركة لجنة التحقيق.

من ناحية ثانية، نحن لا نريد أن نطلق الحكم ببراءة سوريا أو إدانتها، لأنه ليس من الضروري أن يكون النظام السوري متورطاً في هذه الجريمة، قد يكون هناك سوريون متورطون، كما نجد أن هناك سوريين ضد النظام السوري، يقدمون شهادات ربما كاذبة وربما صادقة أمام لجنة التحقيق الدولية. لكن لماذا كل هذه الهجمة الدولية على سوريا إضافةً إلى الهجمة اللبنانية عليها من أغلب الأطراف السياسية؟ كما لو كانت مدانة في هذه الجريمة؟ لقد سمعت بعض السياسيين يقولون إن سوريا مدانة حتى تثبت براءتها، علماً أن القاعدة القانونية تقول إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. والسياسي الذي صرّح بذلك حاول أن يزايد على رئيس لجنة التحقيق الذي قال: "إننا لا نتّهم سوريا، ولكنها مشتبه بها حتى تثبت إدانتها أو العكس".

أن ينطلق لبنانيون بإدانة سوريا، وأن يعمل الكثير منهم على تحشيد عناصر الإدانة، سواء كانت مركّزة أو غير مركّزة، وأنا هنا أتحدث عن المناخ بقطع النظر عن المفردات، فهذا المناخ ليس مناخاً قضائياً أو قانونياً، بل هو مناخ سياسي، لأنّني أعرف أن أمريكا ليس لها من خلال طبيعة استراتيجيتها وسياستها واهتماماتها الكونية، اهتمامات بقضية اغتيال الرئيس الحريري، كما أنّه ليس لها اهتمامات بالجرائم التي تقوم بها إسرائيل ضد لبنان كـ(صبرا وشاتيلا، وقانا...) وضد فلسطين، لكنها اعتبرت جريمة اغتيال الحريري ورقةً تلعبها للضغط على سوريا، والمسألة متصلة بسوريا في دفاعها عن نفسها. وأنا أتصوّر أن هذه القضية عندما قامت "بجولة حول العالم"، ودخلت في مواقع الأمم المتحدة، وتحركت في خط السياسة الأمريكية بالمنطقة، وخط السياسة الفرنسية في لبنان، باعتبار أن فرنسا تريد استعادة موقعها في لبنان، أصبح من الصعب جداً أن تصل إلى نتيجة. قد تتحرك المسألة لتشير إلى اشتباه هنا واشتباه هناك، ولكن أن يقبض على القاتل بشكل مباشر، أو غير مباشر فهذا ليس مستحيلاً، ولكنه صعب. ولقد تعوّدنا في لبنان مقولة "قبضنا على القتيل ولم نقبض على القاتل".

س: هل هدف أمريكا اليوم هو إسقاط النظام السوري؟

ج: أنا لا أتصور أن أمريكا تستغني عن النظام السوري القائم، لذلك هناك ضغط على سوريا لكي تقدم التنازلات في القضية العراقية أولاً، والقضية الفلسطينية ثانياً، وفي نهاية المطاف، فإنّ المسألة اللبنانية تأتي في الدرجة الأخيرة من الاهتمامات الأمريكية في الضغط على سوريا.

س: لكن لماذا هذا الضغط في التحقيق الدولي، وطلب الاستماع إلى شقيق الرئيس الأسد وصهره؟

ج: أنا لا أعتبر أن للقرابة دوراً في هذه المسألة، لأنها تتصل بمواقع هؤلاء الذين لا يشكلون كل النظام السوري.

س: هل كُتب على لبنان أن يعيش زمن الوصايات، وكأنه طفل قاصر لا ينضج؟

ج: نعم، لأنّ أكثر اللبنانيين اختاروا ذلك، لقد كنت أقول لو أريد للبنان أن يكون وطناً لبنيه، لما وضع النظام الطائفي في عُمق مفاصله الدستورية. نحن نعتبر أن ميثاق الـ43 كان أكثر تقدماً من اتفاق الطائف، لأنه كان يعتبر الطائفية عرفاً فأصبحت اليوم دستوراً. لذلك نحن نتصوّر أن لبنان لم يوضع ليكون وطناً لبنيه، بل رئة لتتنفس فيها مشاكل المنطقة، وليكون ساحة للمحرقة لأكثر من قضية في المنطقة. ومن المؤسف أن معظم اللبنانيين اختاروا ذلك، خصوصاً أنّ كل طائفة تحاول أن تأخذ القوة مقابل الطائفة الأخرى من خلال ارتباطاتها الخارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية. نتمنى أن يؤمن اللبنانيون إيماناً يتمرد على كل وصاية في هذا المجال، ولكنهم يقولون لكل قادم إنه هو ربّ المنـزل، فيتصرف على هذا الأساس.

لذلك نرى السفراء في لبنان يتدخلون حتى في القضايا الصغيرة التي تخص الداخل اللبناني ومفاصله، وهذا الأمر غير قائم في أي بلد في العالم. والنكتة المعروفة في لبنان أن السفراء يقولون إنهم لا يمارسون الوصاية، إنما يمارسون الرعاية. ونحن نعرف أن دور الوصي هو أن يرعى المولى عليه.

نتصوّر أن لبنان لم يوضع ليكون وطناً لبنيه، بل رئة لتتنفس فيها مشاكل المنطقة،
وليكون ساحة للمحرقة لأكثر من قضية في المنطقة

س: أين خشبة الخلاص للبنان؟

ج: لقد بقي اللبنانيون يقدّسون خشب الأرز ويحرقون كل الخشب في الشتاء، ما جعل كل الأحراج تتحول إلى صحارى، لم تبقَ هناك خشبة يمكن أن ينجو عليها اللبنانيون في كل هذا البحر الهائج.

س: هل أصبحنا في نقطة اللاعودة؟

ج: لقد أدمنّا اللاعودة، هناك من يدمنون التدخين بالرغم من خطورته، ومن يدمنون المخدرات بالرغم من خطورتها، ونحن أدمنّا هذه الفوضى السياسية، وأدمنّا الكثير من السياسيين الذين نعرف أنهم يخدّروننا بطريقة أو بأخرى، وربما نشعر بما يشعر به الذي يدمن المخدرات من أجواء وردية وهمية، ولكنها تتحول إلى سُم يقتل الإنسان في النهاية؟!

س: لقد انتقدت الخلط الغبي بين الإرهاب التكفيري والمقاومة الحرة، فمن يتحمّل مسؤولية هذا الخلط؟ وأين الموقف الصريح للعلماء المسلمين من كل ما يجري؟

ج: أخشى أن يكون البعض يعتبر هؤلاء الإرهابيين التكفيريين مقاومين، وأن كل ما يقومون به من قتلٍ للمدنيين هو في اتجاه مقاومة المحتل، ربما لأنهم يتهمون هؤلاء المدنيين بأنهم فريق داعم للمحتل، وأخشى أن تكون للمسألة أبعاد طائفية حاقدة. لكننا نعتقد أن هذا الاتجاه التكفيري لم يعد يمثّل خطراً على طائفة معينة، بل أصبح خطراً على المسلمين جميعاً، وهذا ما لاحظناه في تفجيرات عمان، وخطراً على العالم أجمع، وهذا ما لاحظناه في تفجيرات لندن ومدريد وحتى في أمريكا.

نعتقد أن هذا الاتجاه التكفيري لم يعد يمثّل خطراً على طائفة معينة، بل أصبح خطراً على المسلمين جميعاً

س: ما دمتَ قد تحدثت عن "أنسنة الدولة" في ظل كل ما يجري من قتل ودمار وحمامات دم، هل ما زلت تؤمن بإمكانية بناء دولة الإنسان؟ وأين دور الله فيها؟

ج: إنني أؤمن بالإنسان، حتى إنّي أؤمن بأنّ الإنسان المجرم يختزل في داخله نبعاً من الصفاء الإنساني، ولكن هناك تراكمات هي التي تحجب هذا الينبوع الإنساني في نفس الشخص. إنني أؤمن بأن هناك جانباً خيّراً في الإنسان لا بد من أن نستثيره، وأن وجود بعض النماذج التي يئس الكثير من إمكانية إصلاحها بعد أن تجاوزت كل حدٍّ في انحرافها، ثم استقامت وصلُحَت، يدل على أن الإنسان لم يسقط كلياً. الله يعتبر أن الإنسان هو الذي يحرّك حياته وفق اختياره، فالله هو الذي خلق الحياة، لكنه أوكل إلى الإنسان أن يصنع حياته، لأنّه يعيش حالة من الجدل الداخلي تجعله قادراً على أن يغيّر نفسه، وذلك قوله تعالى: {إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم}.الحياة هي الطاقة الإنسانية المنفتحة على حوار الإنسان للإنسان، واعتراف الإنسان بالإنسان، وتواصل الإنسان مع الإنسان. علينا ألا نيأس، لأننا عندما نحدّق بالشمس في كل صباح بعد سيطرة الظلام، نعرف أنه لا بد للنور من أن يُشرق. حتى إنني كنت أتحدث عن صورة شاعرية، وهي أن الله نشر النجوم بالأفق في الليل، حتى يقول للإنسان أن ليس هناك ظلام مطبق. هناك نقاط ضوء في قلب كل هذا الظلام، وسوف تتجمع لتكون الفجر. نحن ننتظر الفجر.

س: إذا أردت اليوم أن تطلق عبر مجلة "الحوادث" فتوى للشباب العربي المسلم والمسيحي، فماذا تقول لهم فيها؟

ج: أقول لهم، عليكم أن تنـزلوا إلى عمق ينبوع الإنسانية الكامل في أعماقكم، وعليكم أن تطردوا كل هذا الركام الذي يحاول أن يغطي هذا النبع الإنساني. نحن نريد أن نشرب من النبع الصافي. وفي لبنان الكثير من الينابيع الصافية. وأختم حديثي ببيت في قصيدة صوفية أقول فيها: "ربّي هبني الصفاء في الروح إنني أحرق العمر في كؤوس الصفاء".

بيروت ـ بارعة الفقيه
مجلة "الحوادث": 30-10-1426هـ/2-12-2005م

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير