لبنان في المشروع الأميركي ساحة صراع

لبنان في المشروع الأميركي ساحة صراع
 

صادق وواقعي حدَّ الجرح عندما يقرأ سطور الآتي... ثاقب البصر والبصيرة... شديد التركيز في خطابه... فإن شئنا الإشارة إلى أساسيات هذا اللقاء مع العلامة السيد محمد حسين فضل الله، يمكن اختصارها بالقول: قراءة استراتيجية للبنان والمنطقة بعد حرب تموز...

كيف يقرأ رؤية العلامة فضل الله واقع لبنان في استراتيجية المحافظين الجدد، بحسب تفاصيل ظروف المحيط الإقليمي؟

ج: عندما ندرس الأفق الواسع الذي يحكم كل قضايا السياسة في المنطقة، امتداداً إلى أكثر من موقع في العالم، نلاحظ في الأفق الدولي، أن الولايات المتحدة الأميركية، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبحت تفكر بذهنيّة الإمبراطورية التي تحاول أن تفرض سيطرتها على العالم كله، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، من خلال شعورها بأنّ القوة التي تملكها تسمح لها بذلك.

ويمكن التوقف عند موقف الرئيس الذي يحكم هذه القوة الدولية، إذ يخيّل إليه أنّه يرتفع إلى مستوى الرسول الإلهي، وأنه الشخصية المدعوة إلى إصلاح العالم، من خلال حديثه المتكرر عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب. ونحن نعرف أن هذا الرجل لا يملك أي عمق في التفكير السياسي، بحيث يستطيع أن يتحرك كمنظِّر، أو كمحرك للخطوط السياسية الدقيقة، التي يمكن أن تحقق لبلده، الولايات المتحدة الأميركية، وللعالم، الكثير من النتائج السياسيَّة القادرة على تثبيت السلام الفكري، والسلام الروحي، والسلام العملي. بل نحن رأينا أنَّ الإدارة الأميركية المسيطرة على الحكم اليوم، درست كل ما تملكه من قدرات في مواجهة الاتحاد الأوروبي، واستفادت من الحاجة الأوروبية المتعددة المستويات إليها، سواء على المستوى الاقتصادي نظراً للخلل الاقتصادي، في موازين العلاقة الأميركية ـ الأوروبية، أو على المستوى الأمني، حيث تحتاج أوروبا إلى الإمكانات الأمنية الأميركية، وأيضاً على المستوى السياسي إزاء الضغوط التي تمارسها أميركا عندما تعبث بالواقع الأوروبي لتفصل موقعاً عن موقع، كما لاحظنا قبل حرب العراق، عندما انفصلت كلٌّ من ألمانيا وفرنسا عن سائر البلدان الأوروبية...

وهكذا نجد أنّ أميركا ـ بوش استفادت من أحداث 11 أيلول، التي لا تزال غامضةً في خلفيَّاتها، بحيث يستغربُ الباحثون عدم انطلاق أية لجنة تحقيق أميركية لدراسة طبيعة هذا الحدث أو ما سبقه من إشارات إلى دور يهودي ما، كبير أو صغير، وقد فتحت نافذة صغيرة في هذا الاتجاه، ثم أغلقت بقدرة قادر...

انطلاقاً من هذه المؤشِّرات، أطلق الرئيس الأميركي مشروعه "الحرب ضد الإرهاب"، ما أمكن الكثير من المراقبين التأكد من أنّ هذه الحرب إنما كانت في سياق استراتيجية أميركية سابقة على أحداث 11 أيلول، تستهدف السيطرة على كل مواقع العالم الثالث، وقد نجحت في جرّ الدول الثماني الكبرى إلى استراتيجيتها، في دفع عاطفيّ ومصلحيّ حقق احتلال أفغانستان بذريعة مواجهة أسامة بن لادن والقاعدة وما إلى ذلك، ومن ثمَّ انطلقت استراتيجية المحافظين الجدد واللّوبي اليهودي، لتحقق ما تم التخطيط له منذ الثمانينات لاحتلال بحر البترول الذي يمثله العراق، واستكمال خريطة محيط البترول للسيطرة عليه في الخليج وفي غيره، وإنجاز استراتيجية القرن العشرين التي هدفت إلى السيطرة على كل بترول العالم، لتخنق اقتصاد اليابان وأوروبا، وأخيراً الصين، ولكي تربك روسيا التي تسيطر على طاقة بترولية.

أقدِّم كل ما سبق، لتأكيد مسألة أن أميركا القرن الحالي، ما تزال تعبث بالعالم، وتطرح في كل مرة مشروعاً واحداً تتغير أسماؤه؛ من الشرق الأوسط الكبير، إلى الشرق الأوسط الجديد إلخ... كما تطرح عناوين الديمقراطية التي تحاربها في إيران، وفي فلسطين، في نتائج الانتخابات التي أفرزت حركة «حماس»، في حين أنها تؤيد العديد من الديكتاتوريات التابعة لهيمنتها، إلى حدٍّ تبدو الديمقراطية المرحَّب بها مثاراً للسخرية، في ظلّ دعمها لملوك أو رؤساء غير ديمقراطيّين، رئيساً لهذا المجلس أو ذاك، وينتخب آخرون في أجواء لا علاقة لها بالديمقراطية، دون أن يتردد الرئيس الأميركي في الاعتراف بأنّ الولايات المتحدة بقيت 60 سنة وهي تدعم الدول الديكتاتورية... علماً أننا نلاحظ أنها لم تتوقَّف عن دعم ديكتاتوريات عديدة، بما فيها إسرائيل، التي أعطيت صفة الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ولكنها تمثل دولةً ديكتاتورية بالنسبة إلى الفلسطينيين وإلى ما حولها من الدول التي تعيش التهديد الإسرائيلي، أو تعيش احتلال قسم من أراضيها.

لبنان ومحاولة التعويض:

ويتابع العلاّمة فضل الله القول: إنّ مشكلة العالم هو هذا العبث الأميركي بالواقع الأمني والسياسي والاقتصادي. ومن هنا دخلت أميركا على لبنان، في سياق ما تزعمه حرباً على الإرهاب، خصوصاً أنها لم تنجح في أفغانستان على الرغم من الشكل الديمقراطي، أو في العراق الذي تحوّل إلى بحر من الدماء بفعل السياسة الأميركية، إلى أن غرق الأميركيون في رمال العراق المتحرّكة.

ولا يزال الرئيس الأميركي، يحمل مزاعم الرسولية والقدرة على النجاح، في حين أنّ الجميع تابع تقرير ثلاثة من الجنرالات الأميركيين الذين خدموا في العراق، وأكَّدوا بعد اختبارهم الأمر هناك، أنّ الحرب على العراق هي التي جعلت الإرهاب يتحرك في المنطقة، وقد يمتد إلى أوسع من الشرق الأوسط.

إذاً، لبنان هو محاولة أميركية للتعويض عن الفشل في العراق وأفغانستان. ففي لبنان، يبدو الفشل متقدماً، لأنّ الديمقراطية التي تريد الولايات المتحدة تعليمها في لبنان، قد عاشها هذا البلد منذ الأربعينيات من دون المعلم الأميركي. لبنان بلد ديمقراطي بطبيعة تكوينه... حتى إنَّ الشعب اللبناني مارس هذه الديمقراطية على مستوى مفاهيمه لجهة قبول الآخر، والحرية، والانفتاح، والتسامح... لم يعشها كنظريات، بل عاشها في دمائه وفي عقول أبنائه، رغم بعض التعقيدات التي تحصل أحياناً.

ويضيف سماحته: إنَّ الولايات المتحدة دخلت على لبنان باسم تحريره من سوريا، لتربك الوضع الداخلي فيه، من خلال ضم فريق من السياسيين اللبنانيين الذين انطلقوا في الحروب الأهلية، والذين تعاملوا مع إسرائيل فوق الطاولة وتحت الطاولة.

لقد أرادت الولايات المتحدة الأميركية أن تؤكد وصايتها على لبنان، مع هامش فرنسي، بعد إنهاء الوصاية السورية، كما يقولون في هذا المجال.

وعليه، فإننا نرى أن لبنان سيبقى ساحة صراع، حيث تستفيد الولايات المتحدة من الحرية الموجودة أصلاً فيه، والتي قد تتحوّل إلى فوضى من خلال السجالات التي لا تنطلق من قاعدة وطنية منفتحة على الواقع اللبناني.

نعم، سيبقى لبنان ساحة صراع تحرِّكها أميركا لتنفيذ مشروعها، ولتخطّط، على المدى الطّويل، وحتّى من خلال القوات الدولية، لأن يكون لبنان هو البلد الذي يشكل حمايةً لإسرائيل إزاء أيَّة مواقع للقوة، كموقع المقاومة... وأن تكون القوات الدولية عنصر حماية لإسرائيل، كما صرَّحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

على هذا الأساس، نرى أن الطريقة الأميركية في إدارة الأمور فيه لبنان، وخضوع الوسط الحكومي وبعض السياسيين فيه، سيجعله في حالة اهتزاز سياسي، قد لا يصل إلى حالة الاهتزاز الأمني، ولكنّه لن يكون بلداً مستقراً، لأنّ أميركا لن تسمح بأن تكون هناك دولة قوية قادرة قاهرة عادلة باستطاعتها مواجهة العدوان الإسرائيلي.

ولعلَّ من اللافت أنّ الولايات المتحدة الّتي قدّمت مساعدة ماليّة لتسليح الجيش اللبناني وتدريبه، لم تقدم على هذه الخطوة إلاّ بعد استشارة إسرائيل في هذا المجال، وبحيث لا تتجاوز المعونة الأميركية، عسكريةً كانت أو فنية أو سياسية، سقف القبول الإسرائيلي، ما يعني استحالة أن يمتلك لبنان قدرة، أو مجرّد فرصة لمواجهة إسرائيل.

لبنان لن ينهار، لأنّ الجميع بحاجة إليه حتى في اهتزازه، لكنّه لن يكون مستقراً، وستبقى فيه السّجالات من هنا ومن هناك، ومشاريع الهدر والفساد واللصوصية التي تتمثل في من سرقوا لبنان وما زالوا يسيطرون عليه.

الوكالة غير الذكيّة للسياسة الأميركيّة:

* قد يكون السؤال قاسياً... سبق وتعرضتم لإيذاء عربي أمني وجسدي، ومع ذلك، تعاطيتم مع هؤلاء بحسّ المساعدة. اليوم، بعد الاعتداء الإسرائيلي الذي بدا لكثيرٍ من الناس أنه بدعم عربي، هل تشعرون بالندم؟

ـ أنا لا أندم، لأنّني لا أحمل حقداً في نفسي على أحد، ولأنّني أعرف أنَّ بعض البلدان العربيَّة تمثِّل الوكالة غير الذكية للسياسة الأميركية في المنطقة، لأنّ أميركا ربطت بين خدمة بعض الناس لسياستها ومصالحها، وبين بقائهم في مواقعهم.

وقد لاحظنا كيف أن بعض الدول العربية، كانت تبادر إلى دعم الفرنك الفرنسي مرةً، والدولار الأميركي أخرى، أو إلى تحريك الخطوط السياسية العربية في خط المصلحة الأمريكية، خصوصاً أن أغلب الواقع العربي، كان يتخذ من خدمة القضية الفلسطينية غطاءً في هذا المجال. في مقابل ذلك، لاحظنا كيف جعلت إسرائيل من كل هذا المنطق هزءاً وسخرية حين رفضت مبادرة السلام العربي في قمة بيروت، واكتفت أميركا باعتبارها مجرد مدخل إلى حوار.

من هنا، لم يعد التحرُّك العربي، بكلِّ محاولات إخراجه، قادراً على الإقناع بأنه فعلاً يبحث عن مخارج للصراع العربي ـ الإسرائيلي... وهذا ما لاحظناه في تعامل أكثر البلدان العربية، ولا سيما منها التي صالحت إسرائيل في العلن، كما التي صالحت إسرائيل في السر.

أضاف سماحته: بدا الأمر جلياً وواضحاً عندما قدم العرب هذه القضية بين يدي مجلس الأمن، من باب رفع العتب، ولكن مجلس الأمن لم يكلِّف نفسه حتى بإصدار مجرد بيان. والأمر نفسه حدث لدى اعتراض المجموعة العربية على السّلاح النووي الإسرائيلي.

باختصار، لا حل في المنظور الأمريكي للقضية الفلسطينية خارج الاستراتيجية الإسرائيلية، وأقصى ما تسمح به إسرائيل، أن تكون الأمم المتحدة حائط مبكى العرب ليندبوا حظوظهم... أو يعيشوا الآمال الكاذبة...

منذ مؤتمر مدريد قلنا إنّ العالم لا يريد عالماً عربياً مجتمعاً، وإنما عرباً منفردين، وإلا فما معنى منع الجامعة العربية من حضور مدريد حتى بصفة مراقب، واستبدلوه باتحاد مغاربي، ومجلس تعاون خليجي؟! لقد مات العالم العربي سياسياً، والصورة المثلى لهذا الموت، وقوف بعض العرب مع إسرائيل في حربها على لبنان، وطلب بعضهم الآخر عدم إيقاف هذه الحرب حتى إسقاط المقاومة... وإن كان صمود المقاومة الإسلامية وصمود الشعب اللبناني قد خيّبا آمالاً كثيرة، إلاّ أنّه أنعش في المقابل الوعي الشعبي العربي لمعنى المقاومة. لذلك تمثل الخطاب العربي بخطتين: «المغامرة» على لسان الحكام، وخطاب «الانتصار» على لسان الشعوب.

الحلم العرببيّ:

* بين المشروع الأميركي الذي يجعل من لبنان مجرد ساحة للصراع، وبين ما لمسته الشعوب من انتصار، هل من فسحة لحلم لبناني، إن لم نقل لحلم عربي؟

ـ نحن نعتقد، أنه وللمرة الأولى في التاريخ الحديث، ينطلق الحلم العربي، وربما الإسلامي، من واقع تلك الدماء الذكية، وذلك الصمود الأسطوري، وتلك الهزيمة للعدو، رغم ما أثير حولها من شكوك، التي أظهرت أن الحلم تحوّل إلى واقع... وعلينا أن نحرس هذا الحلم من أنفسنا التي نخشى أن يزحف إليها الضعف من جديد، بفعل التعقيدات المحيطة بنا، أو بفعل الذين يحاولون زرع الألغام... إنه الحلم الذي يحدّق في الشمس، وسوف تبقى الشمس.

أجرت المقابلة: كاتيا سرور

 

صادق وواقعي حدَّ الجرح عندما يقرأ سطور الآتي... ثاقب البصر والبصيرة... شديد التركيز في خطابه... فإن شئنا الإشارة إلى أساسيات هذا اللقاء مع العلامة السيد محمد حسين فضل الله، يمكن اختصارها بالقول: قراءة استراتيجية للبنان والمنطقة بعد حرب تموز...

كيف يقرأ رؤية العلامة فضل الله واقع لبنان في استراتيجية المحافظين الجدد، بحسب تفاصيل ظروف المحيط الإقليمي؟

ج: عندما ندرس الأفق الواسع الذي يحكم كل قضايا السياسة في المنطقة، امتداداً إلى أكثر من موقع في العالم، نلاحظ في الأفق الدولي، أن الولايات المتحدة الأميركية، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبحت تفكر بذهنيّة الإمبراطورية التي تحاول أن تفرض سيطرتها على العالم كله، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، من خلال شعورها بأنّ القوة التي تملكها تسمح لها بذلك.

ويمكن التوقف عند موقف الرئيس الذي يحكم هذه القوة الدولية، إذ يخيّل إليه أنّه يرتفع إلى مستوى الرسول الإلهي، وأنه الشخصية المدعوة إلى إصلاح العالم، من خلال حديثه المتكرر عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب. ونحن نعرف أن هذا الرجل لا يملك أي عمق في التفكير السياسي، بحيث يستطيع أن يتحرك كمنظِّر، أو كمحرك للخطوط السياسية الدقيقة، التي يمكن أن تحقق لبلده، الولايات المتحدة الأميركية، وللعالم، الكثير من النتائج السياسيَّة القادرة على تثبيت السلام الفكري، والسلام الروحي، والسلام العملي. بل نحن رأينا أنَّ الإدارة الأميركية المسيطرة على الحكم اليوم، درست كل ما تملكه من قدرات في مواجهة الاتحاد الأوروبي، واستفادت من الحاجة الأوروبية المتعددة المستويات إليها، سواء على المستوى الاقتصادي نظراً للخلل الاقتصادي، في موازين العلاقة الأميركية ـ الأوروبية، أو على المستوى الأمني، حيث تحتاج أوروبا إلى الإمكانات الأمنية الأميركية، وأيضاً على المستوى السياسي إزاء الضغوط التي تمارسها أميركا عندما تعبث بالواقع الأوروبي لتفصل موقعاً عن موقع، كما لاحظنا قبل حرب العراق، عندما انفصلت كلٌّ من ألمانيا وفرنسا عن سائر البلدان الأوروبية...

وهكذا نجد أنّ أميركا ـ بوش استفادت من أحداث 11 أيلول، التي لا تزال غامضةً في خلفيَّاتها، بحيث يستغربُ الباحثون عدم انطلاق أية لجنة تحقيق أميركية لدراسة طبيعة هذا الحدث أو ما سبقه من إشارات إلى دور يهودي ما، كبير أو صغير، وقد فتحت نافذة صغيرة في هذا الاتجاه، ثم أغلقت بقدرة قادر...

انطلاقاً من هذه المؤشِّرات، أطلق الرئيس الأميركي مشروعه "الحرب ضد الإرهاب"، ما أمكن الكثير من المراقبين التأكد من أنّ هذه الحرب إنما كانت في سياق استراتيجية أميركية سابقة على أحداث 11 أيلول، تستهدف السيطرة على كل مواقع العالم الثالث، وقد نجحت في جرّ الدول الثماني الكبرى إلى استراتيجيتها، في دفع عاطفيّ ومصلحيّ حقق احتلال أفغانستان بذريعة مواجهة أسامة بن لادن والقاعدة وما إلى ذلك، ومن ثمَّ انطلقت استراتيجية المحافظين الجدد واللّوبي اليهودي، لتحقق ما تم التخطيط له منذ الثمانينات لاحتلال بحر البترول الذي يمثله العراق، واستكمال خريطة محيط البترول للسيطرة عليه في الخليج وفي غيره، وإنجاز استراتيجية القرن العشرين التي هدفت إلى السيطرة على كل بترول العالم، لتخنق اقتصاد اليابان وأوروبا، وأخيراً الصين، ولكي تربك روسيا التي تسيطر على طاقة بترولية.

أقدِّم كل ما سبق، لتأكيد مسألة أن أميركا القرن الحالي، ما تزال تعبث بالعالم، وتطرح في كل مرة مشروعاً واحداً تتغير أسماؤه؛ من الشرق الأوسط الكبير، إلى الشرق الأوسط الجديد إلخ... كما تطرح عناوين الديمقراطية التي تحاربها في إيران، وفي فلسطين، في نتائج الانتخابات التي أفرزت حركة «حماس»، في حين أنها تؤيد العديد من الديكتاتوريات التابعة لهيمنتها، إلى حدٍّ تبدو الديمقراطية المرحَّب بها مثاراً للسخرية، في ظلّ دعمها لملوك أو رؤساء غير ديمقراطيّين، رئيساً لهذا المجلس أو ذاك، وينتخب آخرون في أجواء لا علاقة لها بالديمقراطية، دون أن يتردد الرئيس الأميركي في الاعتراف بأنّ الولايات المتحدة بقيت 60 سنة وهي تدعم الدول الديكتاتورية... علماً أننا نلاحظ أنها لم تتوقَّف عن دعم ديكتاتوريات عديدة، بما فيها إسرائيل، التي أعطيت صفة الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ولكنها تمثل دولةً ديكتاتورية بالنسبة إلى الفلسطينيين وإلى ما حولها من الدول التي تعيش التهديد الإسرائيلي، أو تعيش احتلال قسم من أراضيها.

لبنان ومحاولة التعويض:

ويتابع العلاّمة فضل الله القول: إنّ مشكلة العالم هو هذا العبث الأميركي بالواقع الأمني والسياسي والاقتصادي. ومن هنا دخلت أميركا على لبنان، في سياق ما تزعمه حرباً على الإرهاب، خصوصاً أنها لم تنجح في أفغانستان على الرغم من الشكل الديمقراطي، أو في العراق الذي تحوّل إلى بحر من الدماء بفعل السياسة الأميركية، إلى أن غرق الأميركيون في رمال العراق المتحرّكة.

ولا يزال الرئيس الأميركي، يحمل مزاعم الرسولية والقدرة على النجاح، في حين أنّ الجميع تابع تقرير ثلاثة من الجنرالات الأميركيين الذين خدموا في العراق، وأكَّدوا بعد اختبارهم الأمر هناك، أنّ الحرب على العراق هي التي جعلت الإرهاب يتحرك في المنطقة، وقد يمتد إلى أوسع من الشرق الأوسط.

إذاً، لبنان هو محاولة أميركية للتعويض عن الفشل في العراق وأفغانستان. ففي لبنان، يبدو الفشل متقدماً، لأنّ الديمقراطية التي تريد الولايات المتحدة تعليمها في لبنان، قد عاشها هذا البلد منذ الأربعينيات من دون المعلم الأميركي. لبنان بلد ديمقراطي بطبيعة تكوينه... حتى إنَّ الشعب اللبناني مارس هذه الديمقراطية على مستوى مفاهيمه لجهة قبول الآخر، والحرية، والانفتاح، والتسامح... لم يعشها كنظريات، بل عاشها في دمائه وفي عقول أبنائه، رغم بعض التعقيدات التي تحصل أحياناً.

ويضيف سماحته: إنَّ الولايات المتحدة دخلت على لبنان باسم تحريره من سوريا، لتربك الوضع الداخلي فيه، من خلال ضم فريق من السياسيين اللبنانيين الذين انطلقوا في الحروب الأهلية، والذين تعاملوا مع إسرائيل فوق الطاولة وتحت الطاولة.

لقد أرادت الولايات المتحدة الأميركية أن تؤكد وصايتها على لبنان، مع هامش فرنسي، بعد إنهاء الوصاية السورية، كما يقولون في هذا المجال.

وعليه، فإننا نرى أن لبنان سيبقى ساحة صراع، حيث تستفيد الولايات المتحدة من الحرية الموجودة أصلاً فيه، والتي قد تتحوّل إلى فوضى من خلال السجالات التي لا تنطلق من قاعدة وطنية منفتحة على الواقع اللبناني.

نعم، سيبقى لبنان ساحة صراع تحرِّكها أميركا لتنفيذ مشروعها، ولتخطّط، على المدى الطّويل، وحتّى من خلال القوات الدولية، لأن يكون لبنان هو البلد الذي يشكل حمايةً لإسرائيل إزاء أيَّة مواقع للقوة، كموقع المقاومة... وأن تكون القوات الدولية عنصر حماية لإسرائيل، كما صرَّحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

على هذا الأساس، نرى أن الطريقة الأميركية في إدارة الأمور فيه لبنان، وخضوع الوسط الحكومي وبعض السياسيين فيه، سيجعله في حالة اهتزاز سياسي، قد لا يصل إلى حالة الاهتزاز الأمني، ولكنّه لن يكون بلداً مستقراً، لأنّ أميركا لن تسمح بأن تكون هناك دولة قوية قادرة قاهرة عادلة باستطاعتها مواجهة العدوان الإسرائيلي.

ولعلَّ من اللافت أنّ الولايات المتحدة الّتي قدّمت مساعدة ماليّة لتسليح الجيش اللبناني وتدريبه، لم تقدم على هذه الخطوة إلاّ بعد استشارة إسرائيل في هذا المجال، وبحيث لا تتجاوز المعونة الأميركية، عسكريةً كانت أو فنية أو سياسية، سقف القبول الإسرائيلي، ما يعني استحالة أن يمتلك لبنان قدرة، أو مجرّد فرصة لمواجهة إسرائيل.

لبنان لن ينهار، لأنّ الجميع بحاجة إليه حتى في اهتزازه، لكنّه لن يكون مستقراً، وستبقى فيه السّجالات من هنا ومن هناك، ومشاريع الهدر والفساد واللصوصية التي تتمثل في من سرقوا لبنان وما زالوا يسيطرون عليه.

الوكالة غير الذكيّة للسياسة الأميركيّة:

* قد يكون السؤال قاسياً... سبق وتعرضتم لإيذاء عربي أمني وجسدي، ومع ذلك، تعاطيتم مع هؤلاء بحسّ المساعدة. اليوم، بعد الاعتداء الإسرائيلي الذي بدا لكثيرٍ من الناس أنه بدعم عربي، هل تشعرون بالندم؟

ـ أنا لا أندم، لأنّني لا أحمل حقداً في نفسي على أحد، ولأنّني أعرف أنَّ بعض البلدان العربيَّة تمثِّل الوكالة غير الذكية للسياسة الأميركية في المنطقة، لأنّ أميركا ربطت بين خدمة بعض الناس لسياستها ومصالحها، وبين بقائهم في مواقعهم.

وقد لاحظنا كيف أن بعض الدول العربية، كانت تبادر إلى دعم الفرنك الفرنسي مرةً، والدولار الأميركي أخرى، أو إلى تحريك الخطوط السياسية العربية في خط المصلحة الأمريكية، خصوصاً أن أغلب الواقع العربي، كان يتخذ من خدمة القضية الفلسطينية غطاءً في هذا المجال. في مقابل ذلك، لاحظنا كيف جعلت إسرائيل من كل هذا المنطق هزءاً وسخرية حين رفضت مبادرة السلام العربي في قمة بيروت، واكتفت أميركا باعتبارها مجرد مدخل إلى حوار.

من هنا، لم يعد التحرُّك العربي، بكلِّ محاولات إخراجه، قادراً على الإقناع بأنه فعلاً يبحث عن مخارج للصراع العربي ـ الإسرائيلي... وهذا ما لاحظناه في تعامل أكثر البلدان العربية، ولا سيما منها التي صالحت إسرائيل في العلن، كما التي صالحت إسرائيل في السر.

أضاف سماحته: بدا الأمر جلياً وواضحاً عندما قدم العرب هذه القضية بين يدي مجلس الأمن، من باب رفع العتب، ولكن مجلس الأمن لم يكلِّف نفسه حتى بإصدار مجرد بيان. والأمر نفسه حدث لدى اعتراض المجموعة العربية على السّلاح النووي الإسرائيلي.

باختصار، لا حل في المنظور الأمريكي للقضية الفلسطينية خارج الاستراتيجية الإسرائيلية، وأقصى ما تسمح به إسرائيل، أن تكون الأمم المتحدة حائط مبكى العرب ليندبوا حظوظهم... أو يعيشوا الآمال الكاذبة...

منذ مؤتمر مدريد قلنا إنّ العالم لا يريد عالماً عربياً مجتمعاً، وإنما عرباً منفردين، وإلا فما معنى منع الجامعة العربية من حضور مدريد حتى بصفة مراقب، واستبدلوه باتحاد مغاربي، ومجلس تعاون خليجي؟! لقد مات العالم العربي سياسياً، والصورة المثلى لهذا الموت، وقوف بعض العرب مع إسرائيل في حربها على لبنان، وطلب بعضهم الآخر عدم إيقاف هذه الحرب حتى إسقاط المقاومة... وإن كان صمود المقاومة الإسلامية وصمود الشعب اللبناني قد خيّبا آمالاً كثيرة، إلاّ أنّه أنعش في المقابل الوعي الشعبي العربي لمعنى المقاومة. لذلك تمثل الخطاب العربي بخطتين: «المغامرة» على لسان الحكام، وخطاب «الانتصار» على لسان الشعوب.

الحلم العرببيّ:

* بين المشروع الأميركي الذي يجعل من لبنان مجرد ساحة للصراع، وبين ما لمسته الشعوب من انتصار، هل من فسحة لحلم لبناني، إن لم نقل لحلم عربي؟

ـ نحن نعتقد، أنه وللمرة الأولى في التاريخ الحديث، ينطلق الحلم العربي، وربما الإسلامي، من واقع تلك الدماء الذكية، وذلك الصمود الأسطوري، وتلك الهزيمة للعدو، رغم ما أثير حولها من شكوك، التي أظهرت أن الحلم تحوّل إلى واقع... وعلينا أن نحرس هذا الحلم من أنفسنا التي نخشى أن يزحف إليها الضعف من جديد، بفعل التعقيدات المحيطة بنا، أو بفعل الذين يحاولون زرع الألغام... إنه الحلم الذي يحدّق في الشمس، وسوف تبقى الشمس.

أجرت المقابلة: كاتيا سرور

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير