لماذا القدوة؟

لماذا القدوة؟

في البداية، لماذا القدوة في حركة الإنسان في الحياة؟ لماذا لا تكفي الفكرة التي تدخل في وعي الإنسان لتقوده نحو الحركة؟ لماذا يبحث الناس في كل حركة الإنسان في الحياة، عن النموذج الكامل أو الأكمل للفكرة.

إنّ المسألة.. هي أنّ الفكرة قد تنطلق خيالاً يشكّ الناس في واقعيتّه، وقد تنطلق الفكرة لتوحي للناس في حالات التساؤل والشكّ أنها لا تملك كل عناصرها في حركة الواقع الإنساني إذا كانت تملك بعض العناصر.

لذلك كان الإنسان في كلِّ تساؤلاته عن واقعيّة الفكرة وعن حركيتّها، يبحث عن تجسيد الفكرة في الواقع، وعن أنسنة الفكرة في الإنسان، لأنّ الفكرة تبقى شيئاً في العقل، فإذا تحرَّكت في الواقع صارت إنساناً يتحرّك.

والّذين يمثّلون حركيّة الفكرة في الواقع هم الذين يمنحوننا، في حركتنا الفكرية، الثقة بالفكرة كشيء يمكن أن يدخل في حركتنا في الحياة، كما دخل في عقولنا في الوعي.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية يواجهنا السؤال الآخر: هل نستطيع أن نفصل في الحاجة إلى القدوة بين المرأة والرجل؟ وهل تجاوز الرجل مسألة الحاجة إلى القدوة، حتى نقدّم المرأة كإنسان يركض وراء هذه الحاجة؟ وهل نحن في كلّ ما يعيشه إنسان ما من غنى في الفكر، أو في الروح، أو في الحركة، أو في كل عناصر الشخصيّة، هل نستطيع أن نفصل بين هذا الإنسان وبين الإنسان الآخر ليكون نموذجاً لفريق دون أن يكون نموذجاً لفريق آخر أيضاً؟

إنّ المرأة عندما تختزن حيوية الفكرة الكبيرة في داخل شخصيتها، فإنها لا تنطلق من خلال شخصيتها كامرأة، وإنما من خلال شخصيتّها كإنسانة تحمل بعض العناصر التي تميزّها عن الإنسان الآخر الرجل، ولكنّها تشترك معه في القاعدة العامة التي تنتج الفكر وتنتج الحركة.

إنّ المرأة النموذج هي الإنسان النموذج الذي يمثّل قدوةً للرجل والمرأة علي السواء، والرجل النموذج هو الإنسان النموذج الذي يمثّل القدوة للمرأة والرجل على السواء.

إننا نجد أنّ المسألة التي تفرض نفسها علينا، في كل واقعنا الفكري الذي يبحث عن أرض ينغرس فيها، أو عن إنسان يتجسّد فيه، وعن أفق ينطلق معه، إننا نشعر أنّ الرجل والمرأة سواء في الحاجة إلى ذلك.

وقد لاحظنا في القرآن الكريم أنّه جعل المرأة في واقعها السلبي، والمرأة في واقعها الإيجابي، مثلاً للرجال والنساء معاً، لم يجعل المرأة مثلاً للمرأة ليجعل الرجل مثلاً للرجل، لأنهمّا لا يفترقان في عناصر الإنسانية العميقة التي تعيش في كل حركيتهما في الحياة.

{ضَرَبَ اللَّهُ مثلاً للذينَ كفروا امرأة نوحٍ وامرأةَ لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادِنا صالحينِ فخانتاهما فلم يُغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين} (التحريم/10).

فالإنسان عندما يتحرّك في الموقع السلبي في الحياة، فلن يستطيع أن يستفيد من علاقته بالإنسان الذي يملك الموقع الإيجابي في الحياة، لأنّ الإنسان يتحرّك من خلال مسؤوليّته الفردية، ولا يمكن لإنسان أن يعطي إنساناً قيمةً من خلال العلاقة إذا كان الإنسان يفتقد القيمة الذاتيّة في ذاته.

وهكذا نجد في الجانب الآخر الإيجابي: {وضربَ اللَّهُ مثلاً للذين آمنوا امرأةً فرعونَ إذ قالت ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} (التحريم/11).

هذه الإنسانة القويّة في إيمانها، القويّة في موقفها، المتمرّدة على كلِّ السلبيات التي تعيش في ساحتها، الرافضة لكلِّ الظلم الذي يمارسه زوجها الظالم في موقعه وفي موقفه ضدّ الناس المستضعفين. عندما كان الناس يحدّقون بزوجها في عظمته.. كانت تحدّق بالله في إيمانها، وكانت تتحرّك على أساس أن تطلب من الله أن يعطيها العون على أن تتحرّر من فرعون وعمله، وأن تتحرّر من كلِّ المجتمع الظالم، وأن يرضى الله عنها، لأنّ قصّتها في إيمانها هي أن يرضى الله عنها، وليست المشكلة أن يرضى زوجها أو يرضى الظالمون عنها، لأن القضية هي أنها أخلصت لإنسانيّتها في إخلاصها لإيمانها، ولم تشعر أنّ زوجيتها لهذا الإنسان الذي تألّه واستكبر، يجعلها تعيش دور المنفعلة في كلّ أجوائه، ولكنها أرادت أن تكون بشخصيّتها القوية قوة إيمانها، الإنسانَ الفاعل في حركتها في الحياة.

وبذلك أثبتت أنّ المرأة عندما تعيش الإيمان العميق، الذي يتحرك في عقلها، وينبض في قلبها، ويعيش في حركتها، لن تكون الإنسانة المنفعلة بغرائزها وشهواتها وواقعها، ولكنّها تكون الإنسانة الفاعلة من خلال إرادة تتصلّب، ومن خلال موقف يثبت، ومن خلال قضية تنطلق.

{ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} (التحريم/11).

إنّ الاستعانة بالله سبحانه هي حركة قوة في الإنسان، وليست حركة ضعف، لأنّ الله يريد من الإنسان أن يتحسّس ضعفه بين يديه، لأنّ ضعفه أمام الله هو حقيقة وجوده، ولكنه في الوقت نفسه يريد منه أن ينطلق ليستمدّ منه قوةً. {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا} (التوبة/40).

وبذلك، فإنّ موقف الضعف بين يدي الله لا يهدم معنى القوّة في الإنسان، ولكنّه يرجع الإنسان إلى طبيعته التي لا تملك كل عناصر القوة أمام النظام الكوني، وأمام كل الأشياء الخارجة عن القدرة، حتّى إذا تحركت عناصر ضعفها لتشدها إلى الأسفل، انفتحت على الله ليعطيها القوّة الروحية ليرتفع بها إلى الأعلى.

والإنسانة الثانية التي ضربها الله مثلاً للذين آمنوا: {ومريم ابنةَ عمرانَ التي أحصنت فَرْجَها فنفخنا فيه من روحنا وصدَّقت بكلماتِ ربها وكتبِهِ وكانت من القانتين} (التحريم/12).

مريم الإنسانة التي امتلأت روحها بكلمة الله قبل أن تأتيها كلمة الله، وامتلأ عقلها بحبِّ الله وبكتابه قبل أن ينـزل على ابنها كتاب الله، وكانت من القانتين، ثم في تجربتها الحيّة، تجربة الإنسانة التي جعلها الله مظهر قدرة مميزة، لا تعرف البشرية في كل تاريخها مثالاً لها، ولذلك كانت هذه التجربة الحيّة تجربةً تتحدّى كل ضعف مريم، ضعف الإنسان في عناصر إنسانيتها، وضعف الأنثى في عناصر أنوثتها، ولذلك {قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً} (مريم/23).

ولكن عندما انطلقت كل ألطاف الله عليها، وعندما تلقّت التعليمات واستنفرت إيمانها عندما قيل لها: {فإما ترينَّ من البشرِ أحداً فقولي إني نذرتُ للرحمنِ صوماً فلن أُكلّمَ اليوم إنسياً} (مريم/26).

إنّها تقف لتعبر عن موقفها بالصمت، ولذلك {فأتت به قومَها تحملُه قالوا يا مريمَ لقد جئتِ شيئاً فريّاً* يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمُّك بغياً* فأشارت إليه…} (مريم/27_29).

دون أن تسقط ودون أن تهتز ودون أن تضعف، أشارت إليه بكل عظمة الرافض لكل هذه الكلمات، المطمئنّ بأنّ كل كلماتهم اللامسؤولة ستتساقط أمام قوتها وعظمتها.

{فأشارت إليه قالوا كيفَ نُكَلِّمُ من كان في المهد صبياً* قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً...} (مريم/29_30) إلى آخر الآيات.

إنّها مثلٌ للرجال والنساء على السواء، الذين ينطلقون من خلال إيمانهم لينفتحوا على الله، ولينفتحوا على ألطاف الله، وعلى رسالة الله، وليتحركوا في الحياة عندما يستوحون القوّة من الله، ليواجهوا المجتمع بكل قوّة.

وذلك هو مثل لكلِّ إنسان يملك البراءة مما يتهمه به الناس، ويملك الموقف الطاهر الأبيض أمام كل ما يراد أن يحاط به من تهاويل.

إنّه المثل من خلال مريم، أن يقف الإنسان في قوة براءته، وفي قوة طهارته، وفي قوة واقعيّته، ليواجه الموقف المضادّ بكل ثقة، بعد أن يكون قد استعدّ للإجابة على كل سؤال، واستعدّ للتحرك في كلّ موقع يحتاج إلى الحركة.

في ضوء ما تقدَّم، فإنّ المرأة تكون قدوةً للرجل وللمرأة على السواء، كما هو الرجل قدوة للمرأة والرجل على السواء.

وهكذا ننطلق لنتحدث عن فاطمة الزهراء (ع)، على أساس حاجتنا إلى القدوة الصالحة كرجال ونساء. ما هي قصة الزهراء في وجداننا الإسلامي أو في وجداننا الروحي أو الإنساني؟

إننا نريد أن ننطلق بها كقدوةٍ من خلال تنوّع الأبعاد: كانت الزهراء زوجةً وكانت أماً، ويحدّثنا تاريخها أنها عاشت مع زوجها كأفضل ما تكون الزوجة، محبةً ووفاءً وطاعةً ورعاية، ولذلك ينقل تاريخها أنها في أيامها الأخيرة عندما أوصت علياً (ع) بوصاياها قالت له: «ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عرفتك»، فقال لها: «أنت أبرّ وأتقى وأعرف بالله من أن أوبِّخك في شيء من ذلك».

كانت ترعى زوجها، وزوجها مثقل بمسؤولية الجهاد، كان يخرج من حرب من حروب النبي (ص) ليدخل في حرب أخرى، ولم تتأفّف من ذلك بكل ما يمكن أن يفرضه ذلك من ضريبة قاسية على كلِّ نساء المجاهدين، وكانت مثقلةً بالأولاد، ولكنَّ ذلك كله لم يمنعها من أن تخلص لدورها في البيت كزوجة وأم، ترعى أولادها، كما ترعى أباها بأفضل ما تكون الرعاية.

في البداية، لماذا القدوة في حركة الإنسان في الحياة؟ لماذا لا تكفي الفكرة التي تدخل في وعي الإنسان لتقوده نحو الحركة؟ لماذا يبحث الناس في كل حركة الإنسان في الحياة، عن النموذج الكامل أو الأكمل للفكرة.

إنّ المسألة.. هي أنّ الفكرة قد تنطلق خيالاً يشكّ الناس في واقعيتّه، وقد تنطلق الفكرة لتوحي للناس في حالات التساؤل والشكّ أنها لا تملك كل عناصرها في حركة الواقع الإنساني إذا كانت تملك بعض العناصر.

لذلك كان الإنسان في كلِّ تساؤلاته عن واقعيّة الفكرة وعن حركيتّها، يبحث عن تجسيد الفكرة في الواقع، وعن أنسنة الفكرة في الإنسان، لأنّ الفكرة تبقى شيئاً في العقل، فإذا تحرَّكت في الواقع صارت إنساناً يتحرّك.

والّذين يمثّلون حركيّة الفكرة في الواقع هم الذين يمنحوننا، في حركتنا الفكرية، الثقة بالفكرة كشيء يمكن أن يدخل في حركتنا في الحياة، كما دخل في عقولنا في الوعي.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية يواجهنا السؤال الآخر: هل نستطيع أن نفصل في الحاجة إلى القدوة بين المرأة والرجل؟ وهل تجاوز الرجل مسألة الحاجة إلى القدوة، حتى نقدّم المرأة كإنسان يركض وراء هذه الحاجة؟ وهل نحن في كلّ ما يعيشه إنسان ما من غنى في الفكر، أو في الروح، أو في الحركة، أو في كل عناصر الشخصيّة، هل نستطيع أن نفصل بين هذا الإنسان وبين الإنسان الآخر ليكون نموذجاً لفريق دون أن يكون نموذجاً لفريق آخر أيضاً؟

إنّ المرأة عندما تختزن حيوية الفكرة الكبيرة في داخل شخصيتها، فإنها لا تنطلق من خلال شخصيتها كامرأة، وإنما من خلال شخصيتّها كإنسانة تحمل بعض العناصر التي تميزّها عن الإنسان الآخر الرجل، ولكنّها تشترك معه في القاعدة العامة التي تنتج الفكر وتنتج الحركة.

إنّ المرأة النموذج هي الإنسان النموذج الذي يمثّل قدوةً للرجل والمرأة علي السواء، والرجل النموذج هو الإنسان النموذج الذي يمثّل القدوة للمرأة والرجل على السواء.

إننا نجد أنّ المسألة التي تفرض نفسها علينا، في كل واقعنا الفكري الذي يبحث عن أرض ينغرس فيها، أو عن إنسان يتجسّد فيه، وعن أفق ينطلق معه، إننا نشعر أنّ الرجل والمرأة سواء في الحاجة إلى ذلك.

وقد لاحظنا في القرآن الكريم أنّه جعل المرأة في واقعها السلبي، والمرأة في واقعها الإيجابي، مثلاً للرجال والنساء معاً، لم يجعل المرأة مثلاً للمرأة ليجعل الرجل مثلاً للرجل، لأنهمّا لا يفترقان في عناصر الإنسانية العميقة التي تعيش في كل حركيتهما في الحياة.

{ضَرَبَ اللَّهُ مثلاً للذينَ كفروا امرأة نوحٍ وامرأةَ لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادِنا صالحينِ فخانتاهما فلم يُغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين} (التحريم/10).

فالإنسان عندما يتحرّك في الموقع السلبي في الحياة، فلن يستطيع أن يستفيد من علاقته بالإنسان الذي يملك الموقع الإيجابي في الحياة، لأنّ الإنسان يتحرّك من خلال مسؤوليّته الفردية، ولا يمكن لإنسان أن يعطي إنساناً قيمةً من خلال العلاقة إذا كان الإنسان يفتقد القيمة الذاتيّة في ذاته.

وهكذا نجد في الجانب الآخر الإيجابي: {وضربَ اللَّهُ مثلاً للذين آمنوا امرأةً فرعونَ إذ قالت ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} (التحريم/11).

هذه الإنسانة القويّة في إيمانها، القويّة في موقفها، المتمرّدة على كلِّ السلبيات التي تعيش في ساحتها، الرافضة لكلِّ الظلم الذي يمارسه زوجها الظالم في موقعه وفي موقفه ضدّ الناس المستضعفين. عندما كان الناس يحدّقون بزوجها في عظمته.. كانت تحدّق بالله في إيمانها، وكانت تتحرّك على أساس أن تطلب من الله أن يعطيها العون على أن تتحرّر من فرعون وعمله، وأن تتحرّر من كلِّ المجتمع الظالم، وأن يرضى الله عنها، لأنّ قصّتها في إيمانها هي أن يرضى الله عنها، وليست المشكلة أن يرضى زوجها أو يرضى الظالمون عنها، لأن القضية هي أنها أخلصت لإنسانيّتها في إخلاصها لإيمانها، ولم تشعر أنّ زوجيتها لهذا الإنسان الذي تألّه واستكبر، يجعلها تعيش دور المنفعلة في كلّ أجوائه، ولكنها أرادت أن تكون بشخصيّتها القوية قوة إيمانها، الإنسانَ الفاعل في حركتها في الحياة.

وبذلك أثبتت أنّ المرأة عندما تعيش الإيمان العميق، الذي يتحرك في عقلها، وينبض في قلبها، ويعيش في حركتها، لن تكون الإنسانة المنفعلة بغرائزها وشهواتها وواقعها، ولكنّها تكون الإنسانة الفاعلة من خلال إرادة تتصلّب، ومن خلال موقف يثبت، ومن خلال قضية تنطلق.

{ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} (التحريم/11).

إنّ الاستعانة بالله سبحانه هي حركة قوة في الإنسان، وليست حركة ضعف، لأنّ الله يريد من الإنسان أن يتحسّس ضعفه بين يديه، لأنّ ضعفه أمام الله هو حقيقة وجوده، ولكنه في الوقت نفسه يريد منه أن ينطلق ليستمدّ منه قوةً. {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا} (التوبة/40).

وبذلك، فإنّ موقف الضعف بين يدي الله لا يهدم معنى القوّة في الإنسان، ولكنّه يرجع الإنسان إلى طبيعته التي لا تملك كل عناصر القوة أمام النظام الكوني، وأمام كل الأشياء الخارجة عن القدرة، حتّى إذا تحركت عناصر ضعفها لتشدها إلى الأسفل، انفتحت على الله ليعطيها القوّة الروحية ليرتفع بها إلى الأعلى.

والإنسانة الثانية التي ضربها الله مثلاً للذين آمنوا: {ومريم ابنةَ عمرانَ التي أحصنت فَرْجَها فنفخنا فيه من روحنا وصدَّقت بكلماتِ ربها وكتبِهِ وكانت من القانتين} (التحريم/12).

مريم الإنسانة التي امتلأت روحها بكلمة الله قبل أن تأتيها كلمة الله، وامتلأ عقلها بحبِّ الله وبكتابه قبل أن ينـزل على ابنها كتاب الله، وكانت من القانتين، ثم في تجربتها الحيّة، تجربة الإنسانة التي جعلها الله مظهر قدرة مميزة، لا تعرف البشرية في كل تاريخها مثالاً لها، ولذلك كانت هذه التجربة الحيّة تجربةً تتحدّى كل ضعف مريم، ضعف الإنسان في عناصر إنسانيتها، وضعف الأنثى في عناصر أنوثتها، ولذلك {قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً} (مريم/23).

ولكن عندما انطلقت كل ألطاف الله عليها، وعندما تلقّت التعليمات واستنفرت إيمانها عندما قيل لها: {فإما ترينَّ من البشرِ أحداً فقولي إني نذرتُ للرحمنِ صوماً فلن أُكلّمَ اليوم إنسياً} (مريم/26).

إنّها تقف لتعبر عن موقفها بالصمت، ولذلك {فأتت به قومَها تحملُه قالوا يا مريمَ لقد جئتِ شيئاً فريّاً* يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمُّك بغياً* فأشارت إليه…} (مريم/27_29).

دون أن تسقط ودون أن تهتز ودون أن تضعف، أشارت إليه بكل عظمة الرافض لكل هذه الكلمات، المطمئنّ بأنّ كل كلماتهم اللامسؤولة ستتساقط أمام قوتها وعظمتها.

{فأشارت إليه قالوا كيفَ نُكَلِّمُ من كان في المهد صبياً* قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً...} (مريم/29_30) إلى آخر الآيات.

إنّها مثلٌ للرجال والنساء على السواء، الذين ينطلقون من خلال إيمانهم لينفتحوا على الله، ولينفتحوا على ألطاف الله، وعلى رسالة الله، وليتحركوا في الحياة عندما يستوحون القوّة من الله، ليواجهوا المجتمع بكل قوّة.

وذلك هو مثل لكلِّ إنسان يملك البراءة مما يتهمه به الناس، ويملك الموقف الطاهر الأبيض أمام كل ما يراد أن يحاط به من تهاويل.

إنّه المثل من خلال مريم، أن يقف الإنسان في قوة براءته، وفي قوة طهارته، وفي قوة واقعيّته، ليواجه الموقف المضادّ بكل ثقة، بعد أن يكون قد استعدّ للإجابة على كل سؤال، واستعدّ للتحرك في كلّ موقع يحتاج إلى الحركة.

في ضوء ما تقدَّم، فإنّ المرأة تكون قدوةً للرجل وللمرأة على السواء، كما هو الرجل قدوة للمرأة والرجل على السواء.

وهكذا ننطلق لنتحدث عن فاطمة الزهراء (ع)، على أساس حاجتنا إلى القدوة الصالحة كرجال ونساء. ما هي قصة الزهراء في وجداننا الإسلامي أو في وجداننا الروحي أو الإنساني؟

إننا نريد أن ننطلق بها كقدوةٍ من خلال تنوّع الأبعاد: كانت الزهراء زوجةً وكانت أماً، ويحدّثنا تاريخها أنها عاشت مع زوجها كأفضل ما تكون الزوجة، محبةً ووفاءً وطاعةً ورعاية، ولذلك ينقل تاريخها أنها في أيامها الأخيرة عندما أوصت علياً (ع) بوصاياها قالت له: «ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عرفتك»، فقال لها: «أنت أبرّ وأتقى وأعرف بالله من أن أوبِّخك في شيء من ذلك».

كانت ترعى زوجها، وزوجها مثقل بمسؤولية الجهاد، كان يخرج من حرب من حروب النبي (ص) ليدخل في حرب أخرى، ولم تتأفّف من ذلك بكل ما يمكن أن يفرضه ذلك من ضريبة قاسية على كلِّ نساء المجاهدين، وكانت مثقلةً بالأولاد، ولكنَّ ذلك كله لم يمنعها من أن تخلص لدورها في البيت كزوجة وأم، ترعى أولادها، كما ترعى أباها بأفضل ما تكون الرعاية.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير