المرجع محمّد حسين فضل الله"للأخبار": التطوّر الفكريّ الاجتهاديّ الفقهيّ قد يفسح في المجال لانفتاحٍ أفضل في الفتوى

المرجع محمّد حسين فضل الله"للأخبار": التطوّر الفكريّ الاجتهاديّ الفقهيّ قد يفسح في المجال لانفتاحٍ أفضل في الفتوى

المرجع محمّد حسين فضل الله"للأخبار":

التطوّر الفكريّ الاجتهاديّ الفقهيّ قد يفسح في المجال لانفتاحٍ أفضل في الفتوى


حاورته: مهى زراقط

على بُعد نحو عشرة أمتار من منزله القديم، الذي هدّمه الإسرائيليّون في خلال حرب تمّوز 2006، التقينا العلّامة المرجع، السيّد محمّد حسين فضل الله، في منزل موقّت يقيم فيه منذ عام فقط. ولكنّ الوقت القصير الذي «يسرقه» لنا مدير مكتبه هاني عبد الله، بين المواعيد المزدحمة، لا يسمح بطرح جميع الأسئلة التي أُعدّت أو ولدت خلال الحوار، ولا تلك التي حُمّلت لنا من آخرين. الأسئلة كانت تتوزّع على محاور مختلفة، لكنّ سير الحوار دفعها باتجاه قضيّة المرأة، الزواج ودور رجال الدّين اليوم. وكعادته، لم يبخل السيّد، «المنفتح والعصريّ» كما يصفه كثيرون، في شرح رؤيته لعددٍ من القضايا الحسّاسة، مشجّعاً على انتقاد رجال الدين، ومطالباً المرأة بالدّفاع عن حقوقها.

أجرت صحيفة" الأخبار" اللّبنانية حوارا مفصّلاً مع سماحة العلّامة المرجع، السيّد محمّد حسين فضل الله، تطرّقت فيه إلى أبرز المسائل الفقهيّة الإشكاليّه.

 وهذا نصّ الحوار:


طرق تحديد بدايات الأشهر القمريّة

س:كلّما أطلّ شهر رمضان، عاد النّقاش حول الطّريقة الواجب اعتمادها لتحديد موعد بدايته وانتهائه. إلى متى سيبقى هذا الأمر عامل انقسامٍ بين المسلمين، حتى ضمن المذهب الواحد، وخصوصاً أنّه يفرض انقساماً في موعد العيد؟

السيّد فضل الله:لا أرى حلاً لهذه المشكلة إلا بالاعتماد على الحسابات الفلكيّة، فهذا هو الّذي يمكن أن يوحّد الموقف. أمّا إذا ركّزنا على الرّؤية، فإنها قد تختلف بين شخصٍ وآخر وبلدٍ وآخر.

س: كيف تفسّرون الطّريقة التي تعتمدونها لإعلان ولادة شهر رمضان؟

السيّد فضل الله: نحن نرى أنّ المشكلة الفقهيّة التي تخلق هذه المشكلة الثانويّة، وخصوصاً في بداية شهر رمضان ونهايته، هي مشكلة اجتهاديّة حرفيّة. هناك حديثٌ يرويه المسلمون جميعاً عن النبيّ محمّد (ص): «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». أكثر المجتهدين من السنّة والشّيعة يعدّون الرؤية هي الأساس. وهناك بعض النّاس الذين يشترطون الرّؤية في المنطقة التي يعيشون فيها كمسلمين، وهناك من يكتفي بثبوت الرّؤية في أوروبّا مثلاً ليقول بثبوت الهلال عندنا. أمّا رأينا نحن، فهو أنّ مسألة الشّهر هي من المسائل المربوطة بالنّظام الكونيّ للزّمن ولا علاقة لها بمسألة أن يراه شخص أو لا يراه. والرؤية الواردة في الحديث النبويّ الشّريف هي وسيلة من وسائل المعرفة.

أنا كنت أتحدّث مع بعض النّاس بطريقة شعبية، سألته: لو قال لك شخص: إذا رأيت فلاناً فأخبرني، لكنك لم تره، بل اتّصل بك بالتليفون، بحيث عرفت وجوده في البلد، ألا تخبره؟ لا بدّ من أن تخبره، لأنّك تفهم من مسألة: إذا رأيته، أي إذا عرفت بوجوده. فالرّؤية ليس لها موضوعيّة في ثبوت الهلال، بل هي مجرّد وسيلة من وسائل المعرفة. ونحن نلاحظ أنّ الحسابات الفلكيّة هي أدقّ من الرّؤية، لأنّ الفضاء ملوّث في هذه الأيّام، فمن الصّعب جدّاً أن تحصل رؤية صافية.

من جهةٍ ثانيةٍ، عندما ندرس حركة الأشهر القمريّة، نلاحظ مثلاً أنّه ليست هناك حواجز بين شهرٍ وشهر من النّاحية المادّية، لكنّ المسألة هي أنّه إذا دخل القمر في المحاق انتهى الشّهر السابق، وإذا خرج من المحاق، وهو ما يُعبّر عنه بالولادة، فهو الشّهر الجديد. لذلك، فإنّ المسألة خاضعة للنّظام الكونيّ، لا للرؤية، لأنّ الله خلق نظام الأشهر قبل أن يخلق العيون، وقبل وجود النّاس. لذلك أكّدنا في اجتهاداتنا الحسابات الفلكيّة الدقيقة، وقلنا إنّه إذا أمكن رؤية الهلال في منطقةٍ من العالم الذي نلتقي معه في جزءٍ من اللّيل، يثبت عندنا. وعلى هذا الأساس، أفتينا بأنّ أوّل شهر رمضان هو يوم الجمعة، لأنّه يُرى في بعض دول أميركا الجنوبيّة.

س: كيف تنظرون إلى التطوّر الأخير الذي يعتمده السعوديون اليوم لجهة رصد الهلال بالمراصد؟

السيد فضل الله: هذا الأمر لا يمثّل تطوّراً، لأنه يقوم على توسعة الرؤية، أي إنّ الرؤية تبقى هي الأساس عندهم.

س: الطّريقة التي تعتمدونها لتحديد الشّهر هي مثار جدلٍ في الشّارع الإسلاميّ، كما غيرها من فتاواكم. وهذا ما يجعل البعض، من منتقديكم ومحبّيكم على السواء، يصفكم برجل الدّين المنفتح والعصريّ، مع ما يحمله هذا التوصيف من مديح أو انتقاد. هل توافقون على هذا الوصف؟

السيّد فضل الله:أنا من الناس الذين يحاولون أن يعيشوا عصرهم، لا من جهة عقدة العصر، لكن من خلال أني أتطلّع إلى المستجدّات في العصر، التي تنطلق من تطوّر العلم والنظريات التي يستنبطها المتخصّصون، لأني أثق بالعلم عندما يحصل منه اليقين. كذلك أرى نفسي إسلاميّاً يحاول أن يفهم الإسلام على نحو مستقلّ، فلا أقلّد الآخرين. نحن عندما ندرس تاريخ الفقه الإسلاميّ، نلاحظ أنّ ما عندهم عندنا، وما عندنا لم يكن عندهم. طريقة الفهم للنّصوص قد تختلف بين ثقافةٍ وأخرى، ومن خلال المعطيات التي يمكن أن تستجدّ لدى المجتهدين في هذا المجال. على هذا الأساس مثلاً، أكّدنا مسألة الحسابات الفلكيّة، لأنها لم تخطئ في مدى 100 سنة في قضيّة التوليد.

الرؤية الواردة في الحديث النبويّ الشّريف هي وسيلةٌ من وسائل المعرفة وليست حكماً بذاته.


الجرأة في إصدار الفتوى

س:وُصفت بعض فتاواكم بالجريئة، وبعضها حورب وانتقد. هل يمكن أن تتردّدوا في إصدار فتوى معيّنة تحسّباً لردّ فعل المجتمع؟

السيّد فضل الله: أنا لا أنظر إلى مسألة أن يقبل المجتمع الفتوى أو لا يقبلها، بل أرى أنّ المسألة المنفتحة على الخطوط الاجتهاديّة العلميّة، لا بدّ من أن تدرس موضوعيّاً في العناصر التي يمكن للإنسان أن يكتشف فيها ما يراه حقيقةً. لذلك، ليست لديّ أية مشكلة في الفتوى، حتى تلك التي قد تكون مخالفةً للمشهور من الفقهاء. أنا كنت أوّل فقيهٍ أفتى بطهارة كلّ إنسان، بينما كان الرّأي الفقهيّ عند الكثير من علماء الشّيعة هو الحكم بنجاسة الكفّار، وقد حصل هناك بعض التطوّر، فأصبح البعض يُفتي بطهارة أهل الكتاب، لكن بنجاسة الباقين من الملحدين... أمّا رأيي الاجتهادي منذ عدّة سنين، فهو أنّه لا دليل عندنا على نجاسة الإنسان جسديّاً، لذلك أفتيت بطهارة كلّ الناس. نعم، هناك نجاسة في الفكر، قد توجد في المسألة السياسيّة والاجتماعيّة، وقد توجد في المسألة الدينيّة. بعضهم يقول: إنّ الله يقول: {إنما المشركون نجس}[التّوبة:28]، ونحن قلنا إنّ النّجاسة هنا هي النّجاسة المعنويّة، باعتبار أنّ الشّرك يمثّل قذارةً فكريّةً لا يحترم فيها الإنسان عقله.

س: هل تعتقدون أنّ جرأتكم في الاجتهاد تمثّل عاملاً مساعداً ليحذو آخرون حذوكم؟

السيّد فضل الله: أتصوّر أنّ بعض المراجع عندما اطّلعوا على بعض فتاوايّ أقرّوها لأنهم اقتنعوا بها. كذلك فإنّ التطوّر الفكريّ الاجتهاديّ الفقهيّ قد يفسح في المجال لانفتاحٍ أفضل في الفتوى.

س: كيف تصدرون فتوى معيّنة؛ بناءً على متابعةٍ أم على أسئلة النّاس؟

السيّد فضل الله: قد تجعلني أسئلة النّاس أشعر بضرورة التعمّق في دراسة مسألة معيّنة، باعتبار أنها تمثّل مشكلةً للواقع الإسلاميّ العام، كذلك، قد أجتهد في دراسة مسائل سبق أن أبديت رأياً فيها، بحيث يمكن أن تتبدّل آرائي السّابقة التي ربما كانت تقليديةً، إلى آراء جديدة. وهذا ما انطلقنا به في كثيرٍ من الفتاوى.

س: مثلاً؟

السيّد فضل الله: مثلاً، هناك بعض الفتاوى التي لا تزال مدار جدل لدى الفقهاء، مثل أنّ الأشياء اللاصقة بالجسد تمنع الوضوء وتمنع الغسل، مثل الدّهان والصّباغ، أو طلاء الأظافر. لكنّني عندما درست المسألة، رأيت أنها ليست حاجباً، وأنّ الحاجب هو ما كان انفصالاً واقعيّاً عن الجسد. ومثل آخر، كان الرّأي المشهور عند علماء الشّيعة، أنّ الحلال من حيوانات البحر هو السّمك الذي له قشر، لكني وصلت أخيراً إلى أنّ كلّ صيد البحر حلال، إلاّ ما كان مضرّاً وسامّاً. وكانت هناك فتوى مشهورة لدى كثير من علماء الشّيعة، إلا القليل منهم، في مسألة أنّ الزوجة لا ترث من الأرض، بل من قيمة البناء في البيت، لكنّني أفتيت الآن بأنّه لا فرق بين الزّوج والزّوجة في أنهما يرثان كما يرث أحدهما الآخر انطلاقاً من النصّ القرآنيّ. وأيضاً المعروف عند المسلمين الشّيعة أنّ الغروب يتحقّق عند ذهاب الحمرة المشرقيّة، لكني أفتيت، وفاقاً لبعض العلماء أيضاً من المسلمين السنّة والشّيعة، بأنّ سقوط قرص الشّمس كافٍ لتحقّق الغروب، لذا يجوز لنا أن نفطر، سنّةً وشيعةً في وقت واحد.
أنا أثق بالعلم عندما يحصل منه اليقين، وأحاول عيش عصري من خلال مستجدّاته العلميّة.

فتاوى النّساء

س: هناك ملاحظتان من متتبّعي فتاواكم، أوّلاً أنّ معظمها يتعلّق بالنّساء، وثانياً أنها تتّجه لتسهيل أمور النّاس. ما رأيكم؟

السيّد فضل الله: أنا لا أنطلق في الفتوى من عقدة تسهيل أمور الناس، بل من خلال العناصر الاجتهاديّة التي تجعلني أقتنع بالنتائج في هذا المجال. أمّا بالنّسبة إلى النساء،  فأنا أرى أنّ الكثير من فتاوى النّساء ينطلق من خلال التّقاليد، لا من خلال الحقيقة القرآنية. لذلك أفتيت قبل مدّة فتوى أثارت الكثير في العالم الإسلامي، وهي حقّ الدفاع عن النفس بما أنه حقّ لكلّ إنسان. فللمرأة الحقّ، إذا أراد زوجها أو أخوها أن يضربها، أن تدافع عن نفسها. وقد طلبت من النّساء أن يتدرّبن على الأخذ ببعض أسباب القوّة التي تتيح لهنّ الدّفاع عن أنفسهنّ، سواء في هذا الجانب، أو في الاعتداءات التي قد يتعرّضن لها، كالاغتصاب وما أشبه ذلك. طبعاً، نحن نعتقد أنّ الحياة الزوجيّة قائمة على المودّة والرّحمة، لكن قد تصل المسألة أحياناً لدى الزوج لأن يضطهد زوجته، فمن حقّها أن تدافع عن نفسها كما للرّجل الحقّ في أن يدافع عن نفسه فيما إذا كانت زوجته أخت الرّجال.

س: لوقت طويل، كان الرّجال يعتقدون أنّ الضّرب حقّ دينيّ لهم في إطار الحقّ في التّأديب؟

السيّد فضل الله: لم يسلّط الله الرجل على المرأة إلا في دائرة ما يقتضيه عقد الزواج. فالزواج عندنا ليس سرّاً خفيّاً، بل هو تعاقد بين الرجل والمرأة. وليس للرجل أيّة سلطة على زوجته، ولو بنسبة واحد في المائة، إلا بما التزمت به المرأة في الجانب الجنسي، باعتبار أنّ الزواج يقوم عليه. لذلك، ليس لها أن تمنعه من نفسها إذا كانت له حاجة في ذلك، ولم تكن لديها موانع شرعيّة أو صحيّة أو نفسيّة فوق العادة. ومن حقّها على الرّجل أن يستجيب لحاجاتها الجنسيّة، وغير ذلك، ولم يسلّط الله الرجل على المرأة مثلاً في إجبارها على القيام بشؤون البيت، إلا إذا اشترط عليها ذلك ضمن العقد، وإلا فللمرأة أن تحسب نفسها عاملةً في البيت وتأخذ أجراً على عملها، لكنّ الله أحبّ لها أن تكون علاقتها بزوجها وأسرتها علاقة المودّة والرّحمة.

س: وماذا عن قوامة الرّجل على المرأة؟

السيّد فضل الله: القوامة لا تعني السيادة، بل الإدارة. بمعنى أنّ الرجل في الإسلام هو المسؤول عن الإنفاق على زوجته، ولو كانت غنيةً. كذلك، فإنّ الرّجل هو الذي يستطيع أن يدير الأمور باعتبار الظّروف الخاصّة للمرأة لجهة الدّورة الشهريّة، والحمل، والحضانة. ولا فرق بين الرّجل والمرأة في الإسلام. اقرئي سورة الأحزاب، وسورة النّمل التي تحدّث فيها الله تعالى عن ملكة سبأ بأنها أعقل من الرجال، وامرأة فرعون، ومريم ابنة عمران. أختصر القول بأنّ القوامة ليست السيادة، بل الإدارة؛ لأنّ الرجل هو المسؤول عن ميزانية البيت، وهو الذي يملك حريّةً جسديّةً في قضيّة العمل.

س: لكن الأمر اختلف اليوم، وباتت المرأة تُسهم اقتصادياً في البيت؟

السيّد فضل الله: ما تقوم به المرأة ليس واجباً عليها، هي تتبرّع به، فيما الرجل ملزم. وإذا لم ينفق عليها زوجها، فلها أن تطلب الطّلاق وتحصل عليه. فالإسلام حمّل الرجل مسؤوليّة البيت كلّه.
الكثير من النظريّات الفقهيّة المتعلّقة بالنساء تنطلق من التقاليد لا من الحقيقة القرآنية

بين الدّين والممارسة


س: الممارسة العمليّة للإسلام على مدى قرون لم تنصف المرأة، وفي الحالات التي عوملت فيها المرأة جيّداً، بدا الأمر كأنّه متروكٌ لضمير الرجل. هل الأمر كذلك فعلاً؟

السيّد فضل الله: التطبيق العملي شيء، والدين شيء آخر. تستطيع المرأة التي تشعر بالاضطهاد أن ترفع شكواها إلى الحاكم الشرعي. نحن طلّقنا مئات النساء اللّواتي يشتكين من الاضطهاد. خطأ التطبيق ليس مسؤوليّة الإسلام.

الزواج المدنيّ والزواج الدينيّ

س: انطلاقاً من نظرة الإسلام إلى الزّواج على أنّه عقدٌ بين طرفين، كيف تنظرون إلى عقد الزّواج المدنيّ؟

السيّد فضل الله: رأينا الاجتهادي، أنّه إذا كان العقد المدني يتضمّن معنى قبول الطرفين، وكانت الشروط الشرعيّة المعتبرة في الزواج متحقّقةً، يكون العقد المدني صحيحاً. المشكلة قد تكون مثلاً في أنّ الإسلام لا يجيز زواج المسلمة بغير المسلم. في هذه الحالة، سواء كان العقد مدنياً أو غير مدني، يكون باطلاً، لأنه يفتقر إلى الشّرط الشّرعيّ.

س: لماذا لا يجيز الإسلام زواج المسلمة بغير المسلم، فيما يجيز ذلك للرجل؟

السيد فضل الله: أنا لا أحسم المسألة، ولكن ربما كان الاعتبار أنّ الإسلام يعترف بالمسيحيّة واليهوديّة، والعكس غير صحيح. لذلك فإنّ الرجل المسلم، عندما يتزوّج مسيحيّةً أو يهوديّةً، فهو لن يجرؤ على الإساءة إلى مقدّساتها من خلال دينه، فيما غير المسلم قد لا يحترم كلّ مقدّسات المسلمين، فلا يحترم مقدّسات زوجته.

س: بالعودة إلى الزواج المدني، هل يمكن أن تتزوّج مسلمة مسلماً بعقد مدني؟

السيد فضل الله: يمكن، بشرط الخضوع للأحكام الإسلاميّة، أي القبول، إضافةً إلى الشروط الشرعيّة المعتبرة في الإسلام. عندما يكون هناك كيان ثقافيّ للعقد، فيجب أن نركّز العقد على أساس استجماعه للشّروط. حتى في الزواج المدني هناك موانع قانونيّة كما الموانع الدينية. قضيّة الشروط المعتبرة في أيّ عقدٍ من العقود، هي أمر يلتقي فيه الجانب الشرعيّ مع الجانب المدني وإن اختلفت الشّروط.
الزواج المدني يمكن أن يصبح شرعيّاً إذا خضع للشّروط المعتبرة إسلاميّاً.

مشروعيّة تعدّد الزوجات في الإسلام.


س: ينتقد كثيرون تعدّد الزوجات في الإسلام، هل يمكن أن نصل إلى وقتٍ نحرّم فيه تعدّد الزوجات، أو نضع له شروطاً مضبوطةً بحيث لا يساء استخدامه؟

السيّد فضل الله: قد يكون تعدّد الزوجات من الأمور التي انطلقت مع التّاريخ، حيث لم يكن هناك تعدّد زوجات، بل تعدّد عشيقات. الإسلام أراد أن ينظّم المسألة، فجعل هناك عدداً معيّناً، مشترطاً العدل. العدل في النّفقة والعدل في المبيت، والله قال: {ولَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}[النّساء : 129]، علماً أنّ من حقّ الزوجة أيضاً أن تشترط على زوجها في عقد الزواج ألا يتزوّج عليها، ورأيُنا أنه إذا تزوّج عليها، فإنّ الزواج الثاني يخضع لإشكالات شرعيّة.

تنظيم الزواج الموقّت

س: وماذا عن زواج المتعة، الذي يقوم به أيضاً رجال ملتزمون بعقد زواج دائم؟

السيّد فضل الله: زواج المتعة يختلف المسلمون فيه. السنّة يرون أنّ النبي(ص) حرّمه بعدما كان قد أباحه، والشّيعة يرون أنه بقي حلالاً حتى بعد وفاة النبيّ(ص)، وأنّ الخليفة عمر بن الخطاب هو الذي حرّمه. وينقل رواة الشّيعة عن الإمام عليّ(ع) قوله: «لولا ما نهى عنه عمر من أمر المتعة ما زنا إلا شقيّ». عموماً هذه المسألة من المسائل التي لا يمكن ضبطها. ألا نرى أنّ هناك بعض الأشخاص لهم تعدّد زوجات وينشئون علاقات نسائيّة غير شرعيّة؟

س: لكن المجتمع ينظر إليها على أنها علاقات غير شرعيّة؟

السيّد فضل الله: نحن ندعو إلى تنظيم الزّواج الموقّت، بحيث لا يكون هناك فوضى. من الطبيعي جداً أنّ الشخص الذي يكون له عدّة نساء، ويلجأ إلى المتعة، عليه قبل ذلك أن يقوم بمسؤوليّته تجاه زوجته الشرعيّة، سواء من حيث الإنفاق من الكماليات والضرورات، أو من النّاحية الجنسيّة أيضاً. كذلك تستطيع هي أن ترفع أمرها إلى السّلطة الشرعيّة، فتخيّره بين العودة إلى إعطائها الحقوق الشّرعية والطّلاق. فإذا امتنع الزّوج طلّقها الحاكم الشرعيّ.

س: كيف يمكن تنظيم هذا الزّواج؟

السيّد فضل الله: أن تنطلق المحاكم لتسجيله. سمعت أنّ المحاكم الجعفرية في البحرين كانت تسجّل الزواج الموقّت. لكنّ هناك نقطةً ينبغي أن ندرسها في خلفيّة تشريع الزواج الموقّت؛ فعندما ندرس التّاريخ، نجد أنّه ما من زواجٍ شرعيّ إلا وكانت إلى جانبه علاقة غير شرعيّة. هذا موجودٌ في العالم بنسبة 70 إلى 80%. لماذا ذلك؟ لأنّ الزواج الدائم لم يحلّ كلّ المشكلة الجنسيّة، وخصوصاً بالنّسبة إلى أشخاص يضطرّون إلى الهجرة أو الذين يدرسون في الخارج... في مثل هذه الحالة، وُجد الزواج الموقّت كحلّ شرعيّ فيه مهر، وعدّة، والولد الذي ينشأ عنه شرعيّ 100%، وهو يرث كما الطّفل الذي يولد من الزواج الدائم. لذلك، الزواج الموقّت يعدّ مكمّلاً لحلّ المشكلة الجنسيّة. ومن الطبيعي أن تنشأ مشاكل عنه، كما تنشأ مشاكل من الزواج الدائم. ونحن نلاحظ أنّ بعض الذين يحرّمون الزواج الموقّت يحلّلون زواج المسيار الذي لا تحصل فيه المرأة على أيّ حقوق، أو ما أشبه ذلك من زيجات... ليس هناك أيّ قانون في العالم ليس فيه سلبيّات، بل إنّ سلبيّاته قد تكون أكثر من إيجابيّاته أو العكس. ليس عندنا قانون مطلق، ليس عندنا حرام مطلق.
الزواج الموقّت يعدّ مكمّلاً لحلّ المشكلة الجنسيّة، وندعو إلى تنظيمه بتسجيله في المحاكم الشرعيّة.

س: ما دام الزواج الموقَّت شرعيّاً ويقدّم حلاً، فلماذا لا يُثَقَّف المسلمون شباناً وفتياتٍ عليه، بما لا يجعله مرفوضاً اجتماعيّاً، ويشجَّع على تسجيله في المحاكم؟

السيّد فضل الله: هناك كثير من الدراسات التي ناقشت الرأي الاجتهاديّ السنّي في هذا المجال وأثبتت شرعيّة هذا الزواج. هناك نقطة ينبغي أن ندرسها، وهي أن قضيّة الجنس في الشّرق تدخل في نطاق العيب، بحيث إنّ الحديث عن الثقافة الجنسيّة هو أمر مستنكر لدى كثيرين، ولكنّ الإسلام، بحسب نظرنا في تشريع الزواج الموقّت، يرى أنّ قضيّة الجنس حاجة كما الطّعام والشّراب. لذلك لا بدّ من تنظيم هذه الحاجة. وأمّا الفوضى التي قد تحدث في هذا المجال فإنما تحدث من عدم الالتزام بالضّوابط التي يفرضها الشّرع أو يفرضها الواقع.

دور رجل الدّين الاجتماعيّ

س: نسمع انتقاداتٍ كثيرةً تُوَجَّه إلى رجال الدّين، لجهة ما يصفه النّاس بالفساد واستغلال الدّين لخدمة مآرب شخصيّة. كيف تنظرون إلى ذلك؟

السيّد فضل الله: رجال الدّين لا يمثّلون الدّين، بل هم رجال درسوا الدين، وقد يكون بعضهم درسه دراسةً معمّقةً وعاليةً وناضجةً، بينما بعضهم الآخر لم يفعل، فهو أشبه بالعوام في هذا المجال، لأنّ العمامة لا تصنع رجل دين.

س: ما هو دور رجل الدّين في المجتمع؟

السيّد فضل الله: رجل الدين هو الذي يملك ثقافةً دينيةً واسعةً والتزاماً دينياً، ودوره ينطلق مما قاله الله للنبيّ: {فادعُ واستقم كما أُمرت}[الشّورى:15]. ليس كلّ ما يفعله رجال الدين يمثّل الدين. علينا أن ننقد رجال الدّين حتى لو كانوا في أعلى الدّرجات، كما ننقد رجال السياسة والاجتماع. ليس هناك رجل دين معصوم في هذه الحياة، بل إنّ رجل الدين يفكّر، فهو يخطئ أو يصيب، وعلينا أن ننبّهه إلى خطئه، لأنّه لا مقدّس إلا الله ورسوله وأولياؤه الذين فرض قداستهم.
رجال الدّين لا يمثّلون الدين، بل هم رجالٌ درسوا الدين ، وعلينا أن ننقدهم كما ننقد رجال السياسة والاجتماع.

س: لقد أثبتت التّجربة أنّ الإسلام لم ينجح في إنتاج مجتمع إسلاميّ يقدّم نموذجاً إيجابيّاً؟

السيّد فضل الله: لم نستطع، شيعةً وسنّةً، أن نركّز على خلق مجتمعٍ إسلاميّ يضمن لكلّ ذي حقّ حقّه، حتى بالنّسبة إلى الرّجال. فاليوم، المرأة تعيش في مجتمع لا يأخذ الرّجال فيه حقوقهم. المرأة هي جزءٌ من مجتمع يركّز التخلّف، وإسقاط الحقوق، والاضطهاد للإنسان الضّعيف. فالمرأة والرّجل متساويان في هذا المجال في مجتمعنا، وإن كان يمكن في بعض الحالات أن تُضطهد المرأة أكثر، لأنّ جسدها أضعف، أو لأنّ التّقاليد تفرض ذلك.

س: ألا تلاحظون تراجعاً في الالتزام الدينيّ لدى الشّباب؟

السيّد فضل الله: التديّن خفّ لأنّنا شُغلنا بالسّياسة عن الدين. شُغلنا بأميركا وإسرائيل عن التّوجيه القيميّ. طبعاً نحن ضدّ إسرائيل، ولا ننتقد هذا الأمر، لكنّ هذا ليس كلّ شيء، لأنّنا مسلمون ولدينا التزامات شرعيّة وأخلاقيّة.

س: بمناسبة الحديث عن الدّين والأخلاق، أذكر أنّكم كتبتم مقالاً جميلاً عن الشّاعر محمود درويش بعد وفاته، قلتم فيه: «لا أتصوّر إنساناً يذوب في معنى شعبه وإنسانيّته وقضيّته مدافعاً ومنافحاً إلى حدّ الشّهادة ـ وإن بغير مصطلحها ـ يمكن أن يكون ملحداً»... كيف تنظرون إلى الإلحاد؟

السيّد فضل الله: مرةً كنت جالساً مع عدد من الأصدقاء الشيوعيّين. قلت لهم: أنتم لستم ملحدين. الملحد هو من يقول إنّه لا وجود لله؛ متى نقول لا وجود، متى ننفي شيئاً؟ عندما نطوف العالم كلّه، نفتّش عليه ولا نجده. النفي يحتاج إلى شموليّة في البحث والاستقراء. لذلك أقول إنّه لا ملحد بالمعنى الفكريّ للإلحاد، أي أنّه يملك الدليل على الإلحاد. الأمر الثّاني، في رأيي، هو أنّ الإنسان بفطرته يمارس الكثير من القيم. من أين أتت هذه القيم؟ لماذا نجد رجلاً يمنع زوجته من إقامة علاقات غير شرعيّة وهو لا يؤمن بالإسلام؟ ذلك لأنّه يمارس التزاماً دينيّاً لا شعوريّاً، لأنّه من طبيعة الفطرة الإنسانية. هذا هو المعنى الإنسانيّ الكامل الذي يجعله يلتزم بما لا يؤمن به.
   

لا يوجد ملحد بالمعنى الفكريّ للإلحاد، وهو نفي وجود الخالق، فكلّ إنسان يمارس التزاما دينياً لا شعورياً تفرضه عليه الفطرة الإنسانيّة.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 1 رمضان 1430 هـ  الموافق: 21/08/2009 م

المرجع محمّد حسين فضل الله"للأخبار":

التطوّر الفكريّ الاجتهاديّ الفقهيّ قد يفسح في المجال لانفتاحٍ أفضل في الفتوى


حاورته: مهى زراقط

على بُعد نحو عشرة أمتار من منزله القديم، الذي هدّمه الإسرائيليّون في خلال حرب تمّوز 2006، التقينا العلّامة المرجع، السيّد محمّد حسين فضل الله، في منزل موقّت يقيم فيه منذ عام فقط. ولكنّ الوقت القصير الذي «يسرقه» لنا مدير مكتبه هاني عبد الله، بين المواعيد المزدحمة، لا يسمح بطرح جميع الأسئلة التي أُعدّت أو ولدت خلال الحوار، ولا تلك التي حُمّلت لنا من آخرين. الأسئلة كانت تتوزّع على محاور مختلفة، لكنّ سير الحوار دفعها باتجاه قضيّة المرأة، الزواج ودور رجال الدّين اليوم. وكعادته، لم يبخل السيّد، «المنفتح والعصريّ» كما يصفه كثيرون، في شرح رؤيته لعددٍ من القضايا الحسّاسة، مشجّعاً على انتقاد رجال الدين، ومطالباً المرأة بالدّفاع عن حقوقها.

أجرت صحيفة" الأخبار" اللّبنانية حوارا مفصّلاً مع سماحة العلّامة المرجع، السيّد محمّد حسين فضل الله، تطرّقت فيه إلى أبرز المسائل الفقهيّة الإشكاليّه.

 وهذا نصّ الحوار:


طرق تحديد بدايات الأشهر القمريّة

س:كلّما أطلّ شهر رمضان، عاد النّقاش حول الطّريقة الواجب اعتمادها لتحديد موعد بدايته وانتهائه. إلى متى سيبقى هذا الأمر عامل انقسامٍ بين المسلمين، حتى ضمن المذهب الواحد، وخصوصاً أنّه يفرض انقساماً في موعد العيد؟

السيّد فضل الله:لا أرى حلاً لهذه المشكلة إلا بالاعتماد على الحسابات الفلكيّة، فهذا هو الّذي يمكن أن يوحّد الموقف. أمّا إذا ركّزنا على الرّؤية، فإنها قد تختلف بين شخصٍ وآخر وبلدٍ وآخر.

س: كيف تفسّرون الطّريقة التي تعتمدونها لإعلان ولادة شهر رمضان؟

السيّد فضل الله: نحن نرى أنّ المشكلة الفقهيّة التي تخلق هذه المشكلة الثانويّة، وخصوصاً في بداية شهر رمضان ونهايته، هي مشكلة اجتهاديّة حرفيّة. هناك حديثٌ يرويه المسلمون جميعاً عن النبيّ محمّد (ص): «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». أكثر المجتهدين من السنّة والشّيعة يعدّون الرؤية هي الأساس. وهناك بعض النّاس الذين يشترطون الرّؤية في المنطقة التي يعيشون فيها كمسلمين، وهناك من يكتفي بثبوت الرّؤية في أوروبّا مثلاً ليقول بثبوت الهلال عندنا. أمّا رأينا نحن، فهو أنّ مسألة الشّهر هي من المسائل المربوطة بالنّظام الكونيّ للزّمن ولا علاقة لها بمسألة أن يراه شخص أو لا يراه. والرؤية الواردة في الحديث النبويّ الشّريف هي وسيلة من وسائل المعرفة.

أنا كنت أتحدّث مع بعض النّاس بطريقة شعبية، سألته: لو قال لك شخص: إذا رأيت فلاناً فأخبرني، لكنك لم تره، بل اتّصل بك بالتليفون، بحيث عرفت وجوده في البلد، ألا تخبره؟ لا بدّ من أن تخبره، لأنّك تفهم من مسألة: إذا رأيته، أي إذا عرفت بوجوده. فالرّؤية ليس لها موضوعيّة في ثبوت الهلال، بل هي مجرّد وسيلة من وسائل المعرفة. ونحن نلاحظ أنّ الحسابات الفلكيّة هي أدقّ من الرّؤية، لأنّ الفضاء ملوّث في هذه الأيّام، فمن الصّعب جدّاً أن تحصل رؤية صافية.

من جهةٍ ثانيةٍ، عندما ندرس حركة الأشهر القمريّة، نلاحظ مثلاً أنّه ليست هناك حواجز بين شهرٍ وشهر من النّاحية المادّية، لكنّ المسألة هي أنّه إذا دخل القمر في المحاق انتهى الشّهر السابق، وإذا خرج من المحاق، وهو ما يُعبّر عنه بالولادة، فهو الشّهر الجديد. لذلك، فإنّ المسألة خاضعة للنّظام الكونيّ، لا للرؤية، لأنّ الله خلق نظام الأشهر قبل أن يخلق العيون، وقبل وجود النّاس. لذلك أكّدنا في اجتهاداتنا الحسابات الفلكيّة الدقيقة، وقلنا إنّه إذا أمكن رؤية الهلال في منطقةٍ من العالم الذي نلتقي معه في جزءٍ من اللّيل، يثبت عندنا. وعلى هذا الأساس، أفتينا بأنّ أوّل شهر رمضان هو يوم الجمعة، لأنّه يُرى في بعض دول أميركا الجنوبيّة.

س: كيف تنظرون إلى التطوّر الأخير الذي يعتمده السعوديون اليوم لجهة رصد الهلال بالمراصد؟

السيد فضل الله: هذا الأمر لا يمثّل تطوّراً، لأنه يقوم على توسعة الرؤية، أي إنّ الرؤية تبقى هي الأساس عندهم.

س: الطّريقة التي تعتمدونها لتحديد الشّهر هي مثار جدلٍ في الشّارع الإسلاميّ، كما غيرها من فتاواكم. وهذا ما يجعل البعض، من منتقديكم ومحبّيكم على السواء، يصفكم برجل الدّين المنفتح والعصريّ، مع ما يحمله هذا التوصيف من مديح أو انتقاد. هل توافقون على هذا الوصف؟

السيّد فضل الله:أنا من الناس الذين يحاولون أن يعيشوا عصرهم، لا من جهة عقدة العصر، لكن من خلال أني أتطلّع إلى المستجدّات في العصر، التي تنطلق من تطوّر العلم والنظريات التي يستنبطها المتخصّصون، لأني أثق بالعلم عندما يحصل منه اليقين. كذلك أرى نفسي إسلاميّاً يحاول أن يفهم الإسلام على نحو مستقلّ، فلا أقلّد الآخرين. نحن عندما ندرس تاريخ الفقه الإسلاميّ، نلاحظ أنّ ما عندهم عندنا، وما عندنا لم يكن عندهم. طريقة الفهم للنّصوص قد تختلف بين ثقافةٍ وأخرى، ومن خلال المعطيات التي يمكن أن تستجدّ لدى المجتهدين في هذا المجال. على هذا الأساس مثلاً، أكّدنا مسألة الحسابات الفلكيّة، لأنها لم تخطئ في مدى 100 سنة في قضيّة التوليد.

الرؤية الواردة في الحديث النبويّ الشّريف هي وسيلةٌ من وسائل المعرفة وليست حكماً بذاته.


الجرأة في إصدار الفتوى

س:وُصفت بعض فتاواكم بالجريئة، وبعضها حورب وانتقد. هل يمكن أن تتردّدوا في إصدار فتوى معيّنة تحسّباً لردّ فعل المجتمع؟

السيّد فضل الله: أنا لا أنظر إلى مسألة أن يقبل المجتمع الفتوى أو لا يقبلها، بل أرى أنّ المسألة المنفتحة على الخطوط الاجتهاديّة العلميّة، لا بدّ من أن تدرس موضوعيّاً في العناصر التي يمكن للإنسان أن يكتشف فيها ما يراه حقيقةً. لذلك، ليست لديّ أية مشكلة في الفتوى، حتى تلك التي قد تكون مخالفةً للمشهور من الفقهاء. أنا كنت أوّل فقيهٍ أفتى بطهارة كلّ إنسان، بينما كان الرّأي الفقهيّ عند الكثير من علماء الشّيعة هو الحكم بنجاسة الكفّار، وقد حصل هناك بعض التطوّر، فأصبح البعض يُفتي بطهارة أهل الكتاب، لكن بنجاسة الباقين من الملحدين... أمّا رأيي الاجتهادي منذ عدّة سنين، فهو أنّه لا دليل عندنا على نجاسة الإنسان جسديّاً، لذلك أفتيت بطهارة كلّ الناس. نعم، هناك نجاسة في الفكر، قد توجد في المسألة السياسيّة والاجتماعيّة، وقد توجد في المسألة الدينيّة. بعضهم يقول: إنّ الله يقول: {إنما المشركون نجس}[التّوبة:28]، ونحن قلنا إنّ النّجاسة هنا هي النّجاسة المعنويّة، باعتبار أنّ الشّرك يمثّل قذارةً فكريّةً لا يحترم فيها الإنسان عقله.

س: هل تعتقدون أنّ جرأتكم في الاجتهاد تمثّل عاملاً مساعداً ليحذو آخرون حذوكم؟

السيّد فضل الله: أتصوّر أنّ بعض المراجع عندما اطّلعوا على بعض فتاوايّ أقرّوها لأنهم اقتنعوا بها. كذلك فإنّ التطوّر الفكريّ الاجتهاديّ الفقهيّ قد يفسح في المجال لانفتاحٍ أفضل في الفتوى.

س: كيف تصدرون فتوى معيّنة؛ بناءً على متابعةٍ أم على أسئلة النّاس؟

السيّد فضل الله: قد تجعلني أسئلة النّاس أشعر بضرورة التعمّق في دراسة مسألة معيّنة، باعتبار أنها تمثّل مشكلةً للواقع الإسلاميّ العام، كذلك، قد أجتهد في دراسة مسائل سبق أن أبديت رأياً فيها، بحيث يمكن أن تتبدّل آرائي السّابقة التي ربما كانت تقليديةً، إلى آراء جديدة. وهذا ما انطلقنا به في كثيرٍ من الفتاوى.

س: مثلاً؟

السيّد فضل الله: مثلاً، هناك بعض الفتاوى التي لا تزال مدار جدل لدى الفقهاء، مثل أنّ الأشياء اللاصقة بالجسد تمنع الوضوء وتمنع الغسل، مثل الدّهان والصّباغ، أو طلاء الأظافر. لكنّني عندما درست المسألة، رأيت أنها ليست حاجباً، وأنّ الحاجب هو ما كان انفصالاً واقعيّاً عن الجسد. ومثل آخر، كان الرّأي المشهور عند علماء الشّيعة، أنّ الحلال من حيوانات البحر هو السّمك الذي له قشر، لكني وصلت أخيراً إلى أنّ كلّ صيد البحر حلال، إلاّ ما كان مضرّاً وسامّاً. وكانت هناك فتوى مشهورة لدى كثير من علماء الشّيعة، إلا القليل منهم، في مسألة أنّ الزوجة لا ترث من الأرض، بل من قيمة البناء في البيت، لكنّني أفتيت الآن بأنّه لا فرق بين الزّوج والزّوجة في أنهما يرثان كما يرث أحدهما الآخر انطلاقاً من النصّ القرآنيّ. وأيضاً المعروف عند المسلمين الشّيعة أنّ الغروب يتحقّق عند ذهاب الحمرة المشرقيّة، لكني أفتيت، وفاقاً لبعض العلماء أيضاً من المسلمين السنّة والشّيعة، بأنّ سقوط قرص الشّمس كافٍ لتحقّق الغروب، لذا يجوز لنا أن نفطر، سنّةً وشيعةً في وقت واحد.
أنا أثق بالعلم عندما يحصل منه اليقين، وأحاول عيش عصري من خلال مستجدّاته العلميّة.

فتاوى النّساء

س: هناك ملاحظتان من متتبّعي فتاواكم، أوّلاً أنّ معظمها يتعلّق بالنّساء، وثانياً أنها تتّجه لتسهيل أمور النّاس. ما رأيكم؟

السيّد فضل الله: أنا لا أنطلق في الفتوى من عقدة تسهيل أمور الناس، بل من خلال العناصر الاجتهاديّة التي تجعلني أقتنع بالنتائج في هذا المجال. أمّا بالنّسبة إلى النساء،  فأنا أرى أنّ الكثير من فتاوى النّساء ينطلق من خلال التّقاليد، لا من خلال الحقيقة القرآنية. لذلك أفتيت قبل مدّة فتوى أثارت الكثير في العالم الإسلامي، وهي حقّ الدفاع عن النفس بما أنه حقّ لكلّ إنسان. فللمرأة الحقّ، إذا أراد زوجها أو أخوها أن يضربها، أن تدافع عن نفسها. وقد طلبت من النّساء أن يتدرّبن على الأخذ ببعض أسباب القوّة التي تتيح لهنّ الدّفاع عن أنفسهنّ، سواء في هذا الجانب، أو في الاعتداءات التي قد يتعرّضن لها، كالاغتصاب وما أشبه ذلك. طبعاً، نحن نعتقد أنّ الحياة الزوجيّة قائمة على المودّة والرّحمة، لكن قد تصل المسألة أحياناً لدى الزوج لأن يضطهد زوجته، فمن حقّها أن تدافع عن نفسها كما للرّجل الحقّ في أن يدافع عن نفسه فيما إذا كانت زوجته أخت الرّجال.

س: لوقت طويل، كان الرّجال يعتقدون أنّ الضّرب حقّ دينيّ لهم في إطار الحقّ في التّأديب؟

السيّد فضل الله: لم يسلّط الله الرجل على المرأة إلا في دائرة ما يقتضيه عقد الزواج. فالزواج عندنا ليس سرّاً خفيّاً، بل هو تعاقد بين الرجل والمرأة. وليس للرجل أيّة سلطة على زوجته، ولو بنسبة واحد في المائة، إلا بما التزمت به المرأة في الجانب الجنسي، باعتبار أنّ الزواج يقوم عليه. لذلك، ليس لها أن تمنعه من نفسها إذا كانت له حاجة في ذلك، ولم تكن لديها موانع شرعيّة أو صحيّة أو نفسيّة فوق العادة. ومن حقّها على الرّجل أن يستجيب لحاجاتها الجنسيّة، وغير ذلك، ولم يسلّط الله الرجل على المرأة مثلاً في إجبارها على القيام بشؤون البيت، إلا إذا اشترط عليها ذلك ضمن العقد، وإلا فللمرأة أن تحسب نفسها عاملةً في البيت وتأخذ أجراً على عملها، لكنّ الله أحبّ لها أن تكون علاقتها بزوجها وأسرتها علاقة المودّة والرّحمة.

س: وماذا عن قوامة الرّجل على المرأة؟

السيّد فضل الله: القوامة لا تعني السيادة، بل الإدارة. بمعنى أنّ الرجل في الإسلام هو المسؤول عن الإنفاق على زوجته، ولو كانت غنيةً. كذلك، فإنّ الرّجل هو الذي يستطيع أن يدير الأمور باعتبار الظّروف الخاصّة للمرأة لجهة الدّورة الشهريّة، والحمل، والحضانة. ولا فرق بين الرّجل والمرأة في الإسلام. اقرئي سورة الأحزاب، وسورة النّمل التي تحدّث فيها الله تعالى عن ملكة سبأ بأنها أعقل من الرجال، وامرأة فرعون، ومريم ابنة عمران. أختصر القول بأنّ القوامة ليست السيادة، بل الإدارة؛ لأنّ الرجل هو المسؤول عن ميزانية البيت، وهو الذي يملك حريّةً جسديّةً في قضيّة العمل.

س: لكن الأمر اختلف اليوم، وباتت المرأة تُسهم اقتصادياً في البيت؟

السيّد فضل الله: ما تقوم به المرأة ليس واجباً عليها، هي تتبرّع به، فيما الرجل ملزم. وإذا لم ينفق عليها زوجها، فلها أن تطلب الطّلاق وتحصل عليه. فالإسلام حمّل الرجل مسؤوليّة البيت كلّه.
الكثير من النظريّات الفقهيّة المتعلّقة بالنساء تنطلق من التقاليد لا من الحقيقة القرآنية

بين الدّين والممارسة


س: الممارسة العمليّة للإسلام على مدى قرون لم تنصف المرأة، وفي الحالات التي عوملت فيها المرأة جيّداً، بدا الأمر كأنّه متروكٌ لضمير الرجل. هل الأمر كذلك فعلاً؟

السيّد فضل الله: التطبيق العملي شيء، والدين شيء آخر. تستطيع المرأة التي تشعر بالاضطهاد أن ترفع شكواها إلى الحاكم الشرعي. نحن طلّقنا مئات النساء اللّواتي يشتكين من الاضطهاد. خطأ التطبيق ليس مسؤوليّة الإسلام.

الزواج المدنيّ والزواج الدينيّ

س: انطلاقاً من نظرة الإسلام إلى الزّواج على أنّه عقدٌ بين طرفين، كيف تنظرون إلى عقد الزّواج المدنيّ؟

السيّد فضل الله: رأينا الاجتهادي، أنّه إذا كان العقد المدني يتضمّن معنى قبول الطرفين، وكانت الشروط الشرعيّة المعتبرة في الزواج متحقّقةً، يكون العقد المدني صحيحاً. المشكلة قد تكون مثلاً في أنّ الإسلام لا يجيز زواج المسلمة بغير المسلم. في هذه الحالة، سواء كان العقد مدنياً أو غير مدني، يكون باطلاً، لأنه يفتقر إلى الشّرط الشّرعيّ.

س: لماذا لا يجيز الإسلام زواج المسلمة بغير المسلم، فيما يجيز ذلك للرجل؟

السيد فضل الله: أنا لا أحسم المسألة، ولكن ربما كان الاعتبار أنّ الإسلام يعترف بالمسيحيّة واليهوديّة، والعكس غير صحيح. لذلك فإنّ الرجل المسلم، عندما يتزوّج مسيحيّةً أو يهوديّةً، فهو لن يجرؤ على الإساءة إلى مقدّساتها من خلال دينه، فيما غير المسلم قد لا يحترم كلّ مقدّسات المسلمين، فلا يحترم مقدّسات زوجته.

س: بالعودة إلى الزواج المدني، هل يمكن أن تتزوّج مسلمة مسلماً بعقد مدني؟

السيد فضل الله: يمكن، بشرط الخضوع للأحكام الإسلاميّة، أي القبول، إضافةً إلى الشروط الشرعيّة المعتبرة في الإسلام. عندما يكون هناك كيان ثقافيّ للعقد، فيجب أن نركّز العقد على أساس استجماعه للشّروط. حتى في الزواج المدني هناك موانع قانونيّة كما الموانع الدينية. قضيّة الشروط المعتبرة في أيّ عقدٍ من العقود، هي أمر يلتقي فيه الجانب الشرعيّ مع الجانب المدني وإن اختلفت الشّروط.
الزواج المدني يمكن أن يصبح شرعيّاً إذا خضع للشّروط المعتبرة إسلاميّاً.

مشروعيّة تعدّد الزوجات في الإسلام.


س: ينتقد كثيرون تعدّد الزوجات في الإسلام، هل يمكن أن نصل إلى وقتٍ نحرّم فيه تعدّد الزوجات، أو نضع له شروطاً مضبوطةً بحيث لا يساء استخدامه؟

السيّد فضل الله: قد يكون تعدّد الزوجات من الأمور التي انطلقت مع التّاريخ، حيث لم يكن هناك تعدّد زوجات، بل تعدّد عشيقات. الإسلام أراد أن ينظّم المسألة، فجعل هناك عدداً معيّناً، مشترطاً العدل. العدل في النّفقة والعدل في المبيت، والله قال: {ولَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}[النّساء : 129]، علماً أنّ من حقّ الزوجة أيضاً أن تشترط على زوجها في عقد الزواج ألا يتزوّج عليها، ورأيُنا أنه إذا تزوّج عليها، فإنّ الزواج الثاني يخضع لإشكالات شرعيّة.

تنظيم الزواج الموقّت

س: وماذا عن زواج المتعة، الذي يقوم به أيضاً رجال ملتزمون بعقد زواج دائم؟

السيّد فضل الله: زواج المتعة يختلف المسلمون فيه. السنّة يرون أنّ النبي(ص) حرّمه بعدما كان قد أباحه، والشّيعة يرون أنه بقي حلالاً حتى بعد وفاة النبيّ(ص)، وأنّ الخليفة عمر بن الخطاب هو الذي حرّمه. وينقل رواة الشّيعة عن الإمام عليّ(ع) قوله: «لولا ما نهى عنه عمر من أمر المتعة ما زنا إلا شقيّ». عموماً هذه المسألة من المسائل التي لا يمكن ضبطها. ألا نرى أنّ هناك بعض الأشخاص لهم تعدّد زوجات وينشئون علاقات نسائيّة غير شرعيّة؟

س: لكن المجتمع ينظر إليها على أنها علاقات غير شرعيّة؟

السيّد فضل الله: نحن ندعو إلى تنظيم الزّواج الموقّت، بحيث لا يكون هناك فوضى. من الطبيعي جداً أنّ الشخص الذي يكون له عدّة نساء، ويلجأ إلى المتعة، عليه قبل ذلك أن يقوم بمسؤوليّته تجاه زوجته الشرعيّة، سواء من حيث الإنفاق من الكماليات والضرورات، أو من النّاحية الجنسيّة أيضاً. كذلك تستطيع هي أن ترفع أمرها إلى السّلطة الشرعيّة، فتخيّره بين العودة إلى إعطائها الحقوق الشّرعية والطّلاق. فإذا امتنع الزّوج طلّقها الحاكم الشرعيّ.

س: كيف يمكن تنظيم هذا الزّواج؟

السيّد فضل الله: أن تنطلق المحاكم لتسجيله. سمعت أنّ المحاكم الجعفرية في البحرين كانت تسجّل الزواج الموقّت. لكنّ هناك نقطةً ينبغي أن ندرسها في خلفيّة تشريع الزواج الموقّت؛ فعندما ندرس التّاريخ، نجد أنّه ما من زواجٍ شرعيّ إلا وكانت إلى جانبه علاقة غير شرعيّة. هذا موجودٌ في العالم بنسبة 70 إلى 80%. لماذا ذلك؟ لأنّ الزواج الدائم لم يحلّ كلّ المشكلة الجنسيّة، وخصوصاً بالنّسبة إلى أشخاص يضطرّون إلى الهجرة أو الذين يدرسون في الخارج... في مثل هذه الحالة، وُجد الزواج الموقّت كحلّ شرعيّ فيه مهر، وعدّة، والولد الذي ينشأ عنه شرعيّ 100%، وهو يرث كما الطّفل الذي يولد من الزواج الدائم. لذلك، الزواج الموقّت يعدّ مكمّلاً لحلّ المشكلة الجنسيّة. ومن الطبيعي أن تنشأ مشاكل عنه، كما تنشأ مشاكل من الزواج الدائم. ونحن نلاحظ أنّ بعض الذين يحرّمون الزواج الموقّت يحلّلون زواج المسيار الذي لا تحصل فيه المرأة على أيّ حقوق، أو ما أشبه ذلك من زيجات... ليس هناك أيّ قانون في العالم ليس فيه سلبيّات، بل إنّ سلبيّاته قد تكون أكثر من إيجابيّاته أو العكس. ليس عندنا قانون مطلق، ليس عندنا حرام مطلق.
الزواج الموقّت يعدّ مكمّلاً لحلّ المشكلة الجنسيّة، وندعو إلى تنظيمه بتسجيله في المحاكم الشرعيّة.

س: ما دام الزواج الموقَّت شرعيّاً ويقدّم حلاً، فلماذا لا يُثَقَّف المسلمون شباناً وفتياتٍ عليه، بما لا يجعله مرفوضاً اجتماعيّاً، ويشجَّع على تسجيله في المحاكم؟

السيّد فضل الله: هناك كثير من الدراسات التي ناقشت الرأي الاجتهاديّ السنّي في هذا المجال وأثبتت شرعيّة هذا الزواج. هناك نقطة ينبغي أن ندرسها، وهي أن قضيّة الجنس في الشّرق تدخل في نطاق العيب، بحيث إنّ الحديث عن الثقافة الجنسيّة هو أمر مستنكر لدى كثيرين، ولكنّ الإسلام، بحسب نظرنا في تشريع الزواج الموقّت، يرى أنّ قضيّة الجنس حاجة كما الطّعام والشّراب. لذلك لا بدّ من تنظيم هذه الحاجة. وأمّا الفوضى التي قد تحدث في هذا المجال فإنما تحدث من عدم الالتزام بالضّوابط التي يفرضها الشّرع أو يفرضها الواقع.

دور رجل الدّين الاجتماعيّ

س: نسمع انتقاداتٍ كثيرةً تُوَجَّه إلى رجال الدّين، لجهة ما يصفه النّاس بالفساد واستغلال الدّين لخدمة مآرب شخصيّة. كيف تنظرون إلى ذلك؟

السيّد فضل الله: رجال الدّين لا يمثّلون الدّين، بل هم رجال درسوا الدين، وقد يكون بعضهم درسه دراسةً معمّقةً وعاليةً وناضجةً، بينما بعضهم الآخر لم يفعل، فهو أشبه بالعوام في هذا المجال، لأنّ العمامة لا تصنع رجل دين.

س: ما هو دور رجل الدّين في المجتمع؟

السيّد فضل الله: رجل الدين هو الذي يملك ثقافةً دينيةً واسعةً والتزاماً دينياً، ودوره ينطلق مما قاله الله للنبيّ: {فادعُ واستقم كما أُمرت}[الشّورى:15]. ليس كلّ ما يفعله رجال الدين يمثّل الدين. علينا أن ننقد رجال الدّين حتى لو كانوا في أعلى الدّرجات، كما ننقد رجال السياسة والاجتماع. ليس هناك رجل دين معصوم في هذه الحياة، بل إنّ رجل الدين يفكّر، فهو يخطئ أو يصيب، وعلينا أن ننبّهه إلى خطئه، لأنّه لا مقدّس إلا الله ورسوله وأولياؤه الذين فرض قداستهم.
رجال الدّين لا يمثّلون الدين، بل هم رجالٌ درسوا الدين ، وعلينا أن ننقدهم كما ننقد رجال السياسة والاجتماع.

س: لقد أثبتت التّجربة أنّ الإسلام لم ينجح في إنتاج مجتمع إسلاميّ يقدّم نموذجاً إيجابيّاً؟

السيّد فضل الله: لم نستطع، شيعةً وسنّةً، أن نركّز على خلق مجتمعٍ إسلاميّ يضمن لكلّ ذي حقّ حقّه، حتى بالنّسبة إلى الرّجال. فاليوم، المرأة تعيش في مجتمع لا يأخذ الرّجال فيه حقوقهم. المرأة هي جزءٌ من مجتمع يركّز التخلّف، وإسقاط الحقوق، والاضطهاد للإنسان الضّعيف. فالمرأة والرّجل متساويان في هذا المجال في مجتمعنا، وإن كان يمكن في بعض الحالات أن تُضطهد المرأة أكثر، لأنّ جسدها أضعف، أو لأنّ التّقاليد تفرض ذلك.

س: ألا تلاحظون تراجعاً في الالتزام الدينيّ لدى الشّباب؟

السيّد فضل الله: التديّن خفّ لأنّنا شُغلنا بالسّياسة عن الدين. شُغلنا بأميركا وإسرائيل عن التّوجيه القيميّ. طبعاً نحن ضدّ إسرائيل، ولا ننتقد هذا الأمر، لكنّ هذا ليس كلّ شيء، لأنّنا مسلمون ولدينا التزامات شرعيّة وأخلاقيّة.

س: بمناسبة الحديث عن الدّين والأخلاق، أذكر أنّكم كتبتم مقالاً جميلاً عن الشّاعر محمود درويش بعد وفاته، قلتم فيه: «لا أتصوّر إنساناً يذوب في معنى شعبه وإنسانيّته وقضيّته مدافعاً ومنافحاً إلى حدّ الشّهادة ـ وإن بغير مصطلحها ـ يمكن أن يكون ملحداً»... كيف تنظرون إلى الإلحاد؟

السيّد فضل الله: مرةً كنت جالساً مع عدد من الأصدقاء الشيوعيّين. قلت لهم: أنتم لستم ملحدين. الملحد هو من يقول إنّه لا وجود لله؛ متى نقول لا وجود، متى ننفي شيئاً؟ عندما نطوف العالم كلّه، نفتّش عليه ولا نجده. النفي يحتاج إلى شموليّة في البحث والاستقراء. لذلك أقول إنّه لا ملحد بالمعنى الفكريّ للإلحاد، أي أنّه يملك الدليل على الإلحاد. الأمر الثّاني، في رأيي، هو أنّ الإنسان بفطرته يمارس الكثير من القيم. من أين أتت هذه القيم؟ لماذا نجد رجلاً يمنع زوجته من إقامة علاقات غير شرعيّة وهو لا يؤمن بالإسلام؟ ذلك لأنّه يمارس التزاماً دينيّاً لا شعوريّاً، لأنّه من طبيعة الفطرة الإنسانية. هذا هو المعنى الإنسانيّ الكامل الذي يجعله يلتزم بما لا يؤمن به.
   

لا يوجد ملحد بالمعنى الفكريّ للإلحاد، وهو نفي وجود الخالق، فكلّ إنسان يمارس التزاما دينياً لا شعورياً تفرضه عليه الفطرة الإنسانيّة.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 1 رمضان 1430 هـ  الموافق: 21/08/2009 م
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير