تفسير
25/01/2024

s-2-a-177

s-2-a-177

‏ ‏

‏معاني المفردات ‏

{ الْبِرّ }: التّوسُّع في فعل الخير. ‏

{ و اِبْن السّبِيلِ }: المسافر المنقطع إذا كان في سفره محتاجًا وإن كان في بلده ذا يسار. قال الزّمخشريُّ : «وجُعل ابنًا للسّبيل لملازمته له»‏1‏. ‏

{ و السّائِلِين }: المستطعِمين الطّالبين للصّدقة. ويُعبّر عن الفقير إذا كان مستدعيًا لشي‏ءٍ بالسّائل. ‏

{ و فِي الرِّقابِ }: جمع رقبة، وهي أصل العنق، ويُعبّر به عن جميع البدن. يُقال : أعتق رقبته، ومنه : {و الّذِين يُظاهِرُون مِنْ نِسائِهِمْ ثُمّ يعُودُون لِما قالُوا فتحْرِيرُ رقبةٍ مِنْ قبْلِ أنْ يتماسّا}[المجادلة : 3]، قال الطّبرسيُّ : « { و فِي الرِّقابِ }‎ ‎‏فيه وجهان : أحدهما عتق الرِّقاب، بأن يشتري ويعتق، والآخر في رقاب المكاتبين»‏2‏. وقال الزّمخشريُّ : «وفي معاونة المكاتبين حتّى يفكُّوا رقابهم، وقيل : في ابتياع الرِّقاب وإعتاقها. وقيل : في فكِّ الأسارى»‏3‏. ‏

{ الْبأْساءِ }: الفقر والشِّدّة. ‏

{ و الضّرّاءِ }: المرض والسُّقم والوجع. ‏

{ و حِين الْبأْسِ }: وقت القتال وجهاد العدو، فالبأس : الشِّدّة في الحرب. ورجلٌ ذو بأسٍ : شجاع. ‏

‏البِرُّ بين الشّكل والمضمون ‏

‏جاء في (مجمع البيان) في سبب نزول هذه الآية، نقلاً عن بعضهم أنّه «لمّا حُوِّلت القبلة وكثر الخوض في نسخها، وصار كأنّه لا يُراعى بطاعة الله إلاّ التّوجُّه للصّلاة، وأكثر اليهود والنّصارى ذكرها، أنزل الله سبحانه هذه الآية»‏4‏. ‏

‏وفي أجواء الآية، الّتي تشير إلى بعض هذا الجوِّ، نستوحي ملامح الشّخصيّة الإسلاميّة في ما ترتكز عليه من فكرٍ وإيمانٍ وممارسةٍ في السُّلوك الذّاتيِّ، وفي العلاقة بالنّاس، وبالمواقف الصّعبة في الحياة، وذلك من خلال تحديد طبيعة البرِّ، الّذي يعني التّوسُّع في الخير والإحسان - كما يذكر أهل اللُّغة‏5‏ -؛ لأنّه يمثِّل سرّ الشّخصيّة لدى المؤمن في ما تنفتح عليه من آفاق التّصوُّر، وبما تتحرّك فيه من مجالاتٍ عمليّةٍ. ‏

‏ولعلّ القيمة في مضمون هذه الآية أنّها تجاوزت المفهوم الضّيِّق الّذي يتحرّك فيه البرُّ، ليرتبط بالجانب العمليِّ للحياة، فانطلقت به ليشمل الجانب الفكريّ والرُّوحيّ الّذي يحتضن الفكر والإيمان، فيعتبر - من خلال ذلك - أنّ في الفكر خيرًا وشرًّا، تمامًا كما هو العمل خيرٌ وشرٌّ. بل ربّما كان الأساس في البرِّ العمليِّ البرّ الفكريّ والعقيديّ؛ لأنّه هو الّذي يعطي العمل دوافعه ونوازعه، وهو الّذي يحدِّد له مضمونه وطبيعته. ولهذا انطلق القرآن ليحدِّد للإنسان شخصيّته من خلال تحديد ملامحه الفكريّة والعمليّة، فلم يكتفِ بالعمل وحده في مجال التّقييم بعيدًا عن الإيمان، كما لم يكتفِ بالإيمان بعيدًا عن العمل، فبالإيمان والعمل تتكامل الشّخصيّة وتنطلق. ‏

‏ليس البِرُّ في الشّكل ‏

{ ليْس الْبِرّ أنْ تُولُّوا وُجُوهكُمْ قِبل الْمشْرِقِ و الْمغْرِبِ }؛ لأنّ قضيّة النّفس الخيِّرة لا ترتبط بالشّكل بعيدًا عن المضمون، فما قيمة الصّلاة إلى القبلة، أيّة قبلةٍ كانت، إذا لم تتحرّك من إيمانٍ عميقٍ بأصول الإيمان، ولم تنطلق في حركة الإيمان سبيلاً وغايةً؟ لأنّها إذا لم تكن كذلك، تتحوّل إلى إحساسٍ يطفو على السّطح ولا يلامس الأعماق، ما يجعل من الموقف موقف استعراضٍ لا موقف ارتكاز. وبهذا، ليس من الضّروريِّ أن يثور هذا اللّغط الكثير حول تغيير طبيعة القبلة إلى الشّرق أو إلى الغرب؛ فهي لا تزيد عن أن تكون مجرّد تشريعٍ جزئيٍّ كبقيّة التّشريعات الجزئيّة المتعلِّقة بأحكام العبادة في تفاصيلها الخاصّة الكثيرة، ومن الطّبيعيِّ أن يخضع المؤمنون للتّشريع في سلبيّاته وإيجابيّاته، فلا يعترضوا عليه في قليلٍ أو كثير إذا أحرزوا انطلاقه من مصدر التّشريع -وهو الله -، بل لا بُدّ من أن يتركّز الاهتمام والجدل حول الأُسس الّتي يرتكز عليها البناء الدّاخليُّ للنّفس البارّة الخيِّرة الّتي تعيش البرّ موقفًا شاملاً لجميع مجالات الحياة. ‏

‏عناصر الشّخصيّة الإسلاميّة ‏

‏1- الإيمان بأسس العقيدة : ‏

‏ونلاحظ في هذا المجال : أنّ الآية قد غيّرت أسلوبها التّعبيريّ، فبينما كان النّفي يتّجه إلى استبعاد الشّكل عن معنى البرِّ، نرى الإثبات ينطلق في الحديث عن شخصيّة البارِّ وصفته؛ للتّدليل على أنّ الإسلام ينظر إلى الفكرة من خلال المفكِّر، وإلى الخير من خلال النّموذج الحيِّ المتجسِّد بالفكرة شكلاً ومضمونًا، ليبتعد الجوُّ النّفسيُّ عن التّركيز على المفهوم النّظريِّ بعيدًا عن الواقع التّطبيقيِّ للنّظريّة. وهذا هو ما نلمحه في تكملة الآية في قوله تعالى : {و لكِنّ الْبِرّ منْ آمن}؛ فلا بُدّ من الإيمان بالأُسس العامّة للعقيدة، وهي الإيمان { بِاللّهِ و الْيوْمِ الْآخِرِ و الْملائِكةِ و الْكِتابِ و النّبِيِّين }؛ لأنّها تمثِّل الحقائق الدِّينيّة الّتي لا يمكن أن يجهلها أو يهملها أيُّ إنسانٍ مؤمنٍ؛ لأنّ جميع الرِّسالات السّماويّة قد قرّرت ذلك. ‏

‏وقد لا نحتاج إلى تحليلٍ واسعٍ لنعرف أنّ هذا الإيمان الّذي تعتبره الآية أساسًا للبرِّ الرُّوحيِّ والفكريِّ، يمثِّل الامتداد والحركة في الشّخصيّة الإسلاميّة للإنسان المسلم؛ لأنّ الإيمان بالله يتّصل بالشُّعور العميق بانطلاقة الحياة من قوّةٍ حكيمةٍ رحيمةٍ عادلةٍ تخطِّط للإنسان حياته كما تخطِّط للكون قوانينه. وبذلك يشعر الإنسان بمسؤوليّته أمام هذه القوّة الخالقة الّتي تربِّي له وجوده، وتنمِّي له جسده وعقله وروحه، ويعيش الإحساس بارتباطه الدّائم بالله من خلال حاجته المطلقة له في كلِّ شي‏ءٍ، وتتساقط أمام هذا الإيمان كلُّ مشاعر الانسحاق والضّعف والضّياع واليأس والفراغ وعدم الانتماء؛ لأنّ مثل هذا الإيمان يملأ، في حيويّته المتحرِّكة، حياة الإنسان بكلِّ المفاهيم الإيجابيّة المضادّة لتلك المفاهيم السّلبيّة، بما يوحيه من الشُّعور بأنّه يعيش في كونٍ يرعاه خالقه في رحمته وحكمته وقوّته المطلقة، وينتمي إليه كلُّ ما فيه من مفردات الوجود. وبذلك نستطيع أن نقرِّر أنّ المؤمنين الّذين يعيشون المفاهيم السّلبيّة الّتي تُغرِق شعورهم بالضّياع والفراغ واللاّإنتماء، يعيشون في غفلةٍ من إيمانهم ويقعون تحت تأثير أجواء البيئة المنحرفة الّتي تحتضن هذه المفاهيم. ‏

‏أمّا الإيمان باليوم الآخر، فيثير في داخله الشُّعور بالمسؤوليّة وما يترتّب عليها من ثوابٍ أو عقابٍ، ما يجعل الإنسان واعيًا لحياته بشكلٍ أعمق، فلا يعتبرها رحلةً ساذجةً تخضع للمزاج الذّاتيِّ وللشّهوة الطّارئة، بل يراها خطًّا مستقيمًا تحكمه بداية المسؤوليّة ونهايتها في نتائجها العامّة والخاصّة. ‏

‏وفي هذا الجوِّ من الإيمان ينتفي من داخل الشّخصيّة الإسلاميّة للإنسان المسلم الشُّعور بالعبث في مسار حياته عندما يواجه كثيرًا من الأوضاع الّتي توحي بمثل هذا الشُّعور إذا انفصلت عن طبيعة النّتائج العمليّة عند الله، فيتحوّل الموقف إلى إحساسٍ عميقٍ بالجدِّيّة المرتبطة بالهدف في كلِّ شي‏ءٍ حوله. وهذا ما تمثِّله الآية الكريمة : {أ فحسِبْتُمْ أنّما خلقْناكُمْ عبثاً و أنّكُمْ إِليْنا لا تُرْجعُون}[المؤمنون : 115]. ‏

‏أمّا الإيمان بالملائكة والكتاب والنّبيِّين، فيمثِّل الإيمان بالحقائق الرُّوحيّة الّتي ترتبط بالغيب من جهةٍ، وتواجه الواقع من جهةٍ أخرى، وذلك من خلال التّصوُّر الإسلاميِّ للموجودات غير المرئيّة المتمثِّلة في الملائكة عندما يشعر بحفيف أجنحتها في وعيه الدِّينيِّ وهو يتصوّرها في حركةٍ دائبةٍ في أجواء السّماء والأرض، وخضوعٍ مطلقٍ لله في ما يُوكله إليها من مهمّاتٍ كونيّةٍ تتّصل بالحياة والإنسان، فيتعاظم الإحساس بعظمة التّدبير من خلال الأشياء المرئيّة وغير المرئيّة، وبروعة هذه الصُّورة الملائكيّة الّتي تمنح الوجود معنًى روحيًّا ينساب فيه انسياب اللُّطف والرّحمة في المشاعر والأعماق. ‏

‏والإيمان بالكتاب يعني الإيمان بالرِّسالة الإلهيّة الواحدة الّتي تنزّلت في كلِّ عهود النُّبوّات، في كتابٍ واحدٍ بمفاهيمه التّوحيديّة العامّة، وإن اختلفت تفاصيله تبعًا لاختلاف حاجة كلِّ عصرٍ إليها. فالوحدة تبقى أساسًا للتّصوُّر الدِّينيِّ في معنى الكتاب والإيمان به وبالنّبيِّين، كلِّ النّبيِّين، منذ آدم عليه السلام حتّى محمّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم ، أي : الإيمان بوحدة المسيرة في طريق الرِّسالة الطّويلة، فلا اختلاف بين الرُّسل في الفكر وفي الهدف، لأنّ الفكرة واحدةٌ، وهي الإيمان بالله الواحد، والهدف واحدٌ هو الحصول على رضاه في ما يحبُّه وفي ما لا يحبُّه. وهذا ما يحكم الطّريق الّذي يسيرون فيه، ولكنّ مراحل الطّريق تختلف، ومواقفه تتنوّع، فلا بُدّ لكلِّ مرحلةٍ من رسولها الّذي ينسجم مع طبيعتها، ولا بُدّ لكلِّ موقفٍ من دورٍ يجسِّده السّائر الّذي يقود النّاس إليه. وبذلك كانت الفكرة الإسلاميّة عن الأنبياء فكرةً متكاملةً، من خلال الشُّعور بأنّ بعضهم يُكمل دور البعض الآخر ولا يعارضه، تمامًا كما هي الخطوات المتلاحقة في الدّرب الواحد نحو الهدف الكبير. ‏

‏أمّا اختلاف الأديان الّذي يحكم عالمنا هذا، فإنّه يمثِّل الخطأ في فهم المرحلة، حيث يُعتبر ما هو مرحلة في طريق الغاية، غايةً بذاته. ‏

‏ويبقى الإسلام، في كلِّ آياته، يجسِّد هذه الحقيقة التّوحيديّة للرِّسالات، حيث يدعو إلى الإيمان بالكتاب الواحد الّذي يجمع الكتب، والإيمان بالنُّبوّة الواحدة الّتي تحتضن جميع الأنبياء : { آمن الرّسُولُ بِما أُنْزِل إِليْهِ مِنْ ربِّهِ و الْمُؤْمِنُون كُلٌّ آمن بِاللّهِ }

{و ملائِكتِهِ و كُتُبِهِ و رُسُلِهِ لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْ رُسُلِهِ و قالُوا سمِعْنا و أطعْنا غُفْرانك ربّنا و إِليْك الْمصِيرُ}[البقرة : 285]. ‏

‏وتظلُّ الشّخصيّة الإسلاميّة مع هذا التّصوُّر الإيمانيِّ بعيدةً عن التّشنُّج إزاء أيِّ كتابٍ أو رسولٍ، فكلُّها وحي الله، وكلُّهم رسل الله. ‏

‏2- العطاء نموذج البر ِّالحي ُّ: ‏

{و آتى الْمال على‏ حُبِّهِ ذوِي الْقُرْبى‏ و الْيتامى‏ و الْمساكِين و اِبْن السّبِيلِ و السّائِلِين و فِي الرِّقابِ}. والعطاء أحد عناصر الشّخصيّة الإسلاميّة، ونموذجٌ حيٌّ للبرِّ العمليِّ. فإذا كان الإنسان يملك المال، فإنّ الإسلام يعتبر الملكيّة وظيفةً ومسؤوليّةً، لا امتيازًا وشرفًا ذاتيًّا؛ ولذلك جُعل العطاء سرّ الشّخصيّة؛ لأنّه يعني انفتاحها على آلام الحياة ومشاكلها وحالاتها الصّعبة وتطلُّعاتها الكبيرة، في محاولةٍ متواضعةٍ، فرديّةٍ أو جماعيّةٍ، لإعطاء بعض الحلول، وتسهيل بعض الصِّعاب، وتحقيق بعض التّطلُّعات، في شعورٍ بأنّ ذلك هو من حقِّ الآخرين عليه في ما يتحمّله من مسؤوليّة الآخرين. ‏

‏وجاءت كلمة { على‏ حُبِّهِ }‎ ‎‏لتؤكِّد عمق هذا العطاء في النّفس، على أيِّ المعنيين كان مرجع الضّمير، فإذا أردنا من الحبِّ حبّ الله، فإنّه يمثِّل العطاء من أجل الله بعيدًا عن المنافع الذّاتيّة الطّارئة، وإذا أردنا منه حبّ المال، فإنّه يمثِّل العطاء من موقع الانتصار على الذّات عندما يبذل الإنسان الأشياء الّتي يحبُّها ويتعلّق بها، فلا يمنعه ذلك من العطاء في سماحٍ ومحبّةٍ. ‏

‏أمّا الّذين يستحقُّون العطاء، فهم أوّلاً : ذوو القربى؛ لأنّ صلة الرّحم توجب على الإنسان التّعبير عنها في أسلوبٍ عمليٍّ، وهو أسلوب العطاء الّذي يعني المشاركة. وثانيًا : اليتامى الّذين هم في كفالة المجتمع الإنسانيِّ بعد غياب الكافل المباشر لهم. وثالثًا : المساكين الّذين لا يجدون الفرصة الكريمة للعيش الكريم فلا يملكون قوت سنتهم قوّة وفعلاً. ورابعًا : ابن السّبيل الّذي انقطعت به الطّريق، فلم يجد من المال ما يُكمل به سفره، وإن كان غنيًّا في بلده. وخامسًا : السّائلين الّذين لم يتّخذوا السُّؤال حرفةً ومهنةً، بل انطلقوا به من واقع الحاجة إلى ذلك. وسادسًا : في الرِّقاب الّتي أثقلها الرِّقُّ وضغطت عليها العبوديّة، فأراد الإسلام، للّذين يجدون المال، أن يصرفوا أموالهم في طريق تحريرها، لتعيش الكرامة في الحرِّيّة الإنسانيّة والقانونيّة ... ‏

‏وتلك هي الفئات المسحوقة الّتي يُعتبر العطاء بالنِّسبة إليها مسؤوليّةً إنسانيّةً وإسلاميّةً، ليعيش المجتمع في نظامٍ إنسانيٍّ متوازنٍ طبيعيٍّ شامل. ‏

‏3- إقامة الصّلاة آية الوجدان الحيِّ:‏‏ ‏

{ و أقام الصّلاة }؛ فإنّ الصّلاة تفتح قلب الإنسان ووجدانه على الله سبحانه، لتشرق في داخله كلُّ المعاني الرُّوحيّة الطّاهرة الّتي تحوِّله إلى كائنٍ حيٍّ، تتفجّر مشاعره بالخير، وتنبض بالطُّهر، وتنطلق أفكاره بالحقِّ؛ فيعيش مع النّاس والحياة، من خلال ذلك كلِّه، إنسانًا يشعر بمسؤوليّته عن النّاس والحياة من خلال انفتاحه على الله سبحانه. ‏

‏4- إيتاء الزّكاة عبادةٌ عمليّةٌ : ‏

{ و آتى الزّكاة }‎ ‎‏الّتي تمثِّل العطاء من حيث هو عبادةٌ عمليّةٌ. ‏

‏وقد يُلفت النّظر أن يذكر الله إيتاء الزّكاة بعد إيتاء المال على حبِّه؛ حيث الزّكاة ليست إلاّ ضريبةً ماليّةً تلتقي مع إيتاء المال في المصداق، ولا سيّما أنّ كثيرًا ممّا ذُكر في ‏

‏مسألة إيتاء الزّكاة تمثِّل مصارف الزّكاة الّتي ذُكرت في قوله تعالى : { إِنّما الصّدقاتُ لِلْفُقراءِ و الْمساكِينِ و الْعامِلِين عليْها و الْمُؤلّفةِ قُلُوبُهُمْ و فِي الرِّقابِ و الْغارِمِين و فِي سبِيلِ اللّهِ و اِبْنِ السّبِيلِ }[التّوبة : 60]. وقد يفسِّرها البعض بأنّها إجمالٌ بعد التّفصيل. ولكنّ الظّاهر أنّه عمومٌ بعد التّخصيص؛ لأنّ موارد الزّكاة أشمل ممّا ذُكر في الفقرة السّابقة، ولا سيّما إذا فسّرنا الزّكاة بكلِّ الضّرائب الشّرعيّة المفروضة، بما فيها الخمس، كما هو رأي البعض من المفسِّرين‏6‏، فإنّها تتّسع لكلِّ سُبل الخير في الحياة. ‏

‏5- الوفاء بالعهود ومسؤوليّة الكلمة : ‏

{و الْمُوفُون بِعهْدِهِمْ إِذا عاهدُوا}؛ فإنّ الوفاء بالعهد الّذي يلتزم به الإنسان في نفسه يمثِّل الشُّعور بمسؤوليّة الكلمة، في صدق الالتزام الدّاخليِّ، وفي الوقوف مع‏‏ العلاقات القائمة على التّعاقد موقف الانضباط والاتِّزان. وذلك هو سرُّ سلامة المجتمع في العلاقات الخاصّة والعامّة الّتي تحكم أفراده، سواءٌ في ذلك العلاقات القائمة على التّعاقد الشّخصيِّ، أو العلاقات القائمة على التّعاقد في نطاق المبادئ العامّة والنِّظام الكلِّيِّ للمجتمع وللأُمّة. ومن الطّبيعيِّ للمؤمن أن يُخلص لالتزاماته؛ لأنّه يعتبرها مظهرًا حيًّا من مظاهر إيمانه، باعتبارها عهدًا وميثاقًا بينه وبين النّاس أمام الله. ‏

‏6- الصّبر والثّبات : ‏

{و الصّابِرِين فِي الْبأْساءِ}‎ ‎‏وهي حالة الضِّيق والفقر، { و الضّرّاءِ }، وهي حالة المرض والألم، { و حِين الْبأْسِ }وهو حالة الحرب؛ فإنّ الصّبر، كما ورد في بعض الآيات، هو { مِنْ عزْمِ الْأُمُورِ }[لقمان : 17]، وهو من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد، كما جاء في حديث الإمام عليٍّ عليه السلام ‏7‏، وهو العنصر الأساس في تماسك الشّخصيّة وثباتها أمام التّحدِّيات، ولا سيّما التّحدِّيات الّتي تواجه الإنسان في عقيدته والتزامه بالخطِّ العمليِّ الإيمانيِّ في الحياة؛ فإنّ الضّعف الّذي يقود إلى الجزع والانهيار في الموقف قد يقود إلى الانحراف، ويبعث على الاهتزاز، ويدفع، بالتّالي، إلى إعطاء صورةٍ مشوّهةٍ عن طبيعة المجتمع المؤمن في قوّته وصموده، ما ينعكس سلبيًّا على صورة الإيمان نفسه في نفوس الآخرين. ‏

‏الوجه في نصب : «والصّابرين» ‏

‏وقد يُتساءل عن الوجه في نصب كلمة { و الصّابِرِين }، مع أنّها معطوفةٌ على كلمة {و الْمُوفُون بِعهْدِهِمْ إِذا عاهدُوا}، ما يفرض فيها الرّفع؟ ‏

‏وأجاب صاحب (مجمع البيان) على ذلك، فقال : «وأمّا قوله : { و الصّابِرِين }فمنصوبٌ على المدح أيضًا؛ لأنّ مذهبهم في الصِّفات والنُّعوت إذا طالت أن يعترضوا‏‎ ‎‏بينها بالمدح أو الذّمِّ؛ ليميِّزوا الممدوح أو المذموم، وتقديره : أعني الصّابرين. قال أبو علي : والأحسن في هذه الأوصاف الّتي تقطّعت للرّفع من موصوفها والمدح، أو الغضِّ منهم والذّمِّ، أن يُخالف بإعرابها ولا تُجعل كلُّها جاريةً على موصوفها؛ ليكون ذلك دلالةً على هذا المعنى، وانفصالاً لما يُذكر للتّنويه والتّنبيه أو النّقص والغضِّ، ممّا يُذكر للتّخليص والتّمييز بين الموصوفين المشتبهين في الاسم، المختلفين في المعنى»‏8‏. ‏

‏ ‏‏الإيمان صنو الصِّدق ‏

{ أُولئِك الّذِين صدقُوا }‎ ‎‏في عقيدتهم، وفي كلماتهم، وفي التزاماتهم، وفي علاقاتهم وفي مواقفهم العمليّة في الحياة، وفي مواجهتهم لقضايا الحاضر والمستقبل في ما يؤيِّدون، وفي ما يرفضون، وفي ما يتحرّكون على المدى الطّويل، في حياة الفرد والمجتمع والأُمّة كلِّها؛ فإنّ الإيمان هو صنو الصِّدق؛ لأنّ الإيمان يرتبط بالحقِّ، والصِّدق يجسِّد الحقيقة. ولهذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، لمّا سُئل : «يكون المؤمن جبانًا؟ قال : نعم، قيل : ويكون بخيلاً؟ قال : نعم، قيل : ويكون كذّابًا؟ قال : لا»‏9‏. وعنه صلى الله عليه و آله و سلم : «يطوي المؤمن على الخلال كلِّها غير الخيانة والكذب»‏10‏. وقد ورد عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام : «لا تغترُّوا بصلاتهم ولا بصيامهم؛ فإنّ الرّجل ربما لهج بالصّلاة والصّوم حتّى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة»‏11‏. ولذلك جاءت هذه الصِّفة لتكون أساسًا للشّخصيّة الإسلاميّة الصّادقة. ‏

‏وربّما كان اختصار كلمة «الصِّدق» لكلِّ تلك الصِّفات، انطلاقًا من أنّ حركة هذه الصِّفات المتّصلة بالجانب الإيمانيِّ والعمليِّ، كانت نتيجةً للجدِّيّة الّتي تفرضها الشّخصيّة الإسلاميّة في انفتاحها على الحقيقة في الفكر والسُّلوك، بحيث يكون الموقف متطابقًا مع الخطِّ المستقيم في دائرة الحقِّ. وذلك هو سرُّ اتِّصاف الشّخصيّة في هؤلاء بكلمة { الّذِين صدقُوا }. والله العالم. ‏

‏ ‏‏الإيمان صنو التّقوى ‏

{و أُولئِك هُمُ الْمُتّقُون}، الّذين يخافون الله ويخشونه بالغيب، فتتحوّل خشيتهم له إلى خطٍّ عمليٍّ في حياتهم وفي دوافعهم، فيقفون عند ما حرّم الله عليهم من مالٍ حرامٍ، أو أكلٍ حرامٍ، أو شربٍ حرامٍ، أو لعبٍ حرامٍ، أو عرضٍ حرامٍ، أو علاقةٍ محرّمةٍ، أو غير ذلك ممّا نهى الله عنه، ويندفعون بالتزامٍ مؤكّدٍ في ما فرضه الله عليهم، وألزمهم به من الواجبات، في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم، في البيت وفي العمل وفي الحياة الاجتماعيّة والسِّياسيّة والاقتصاديّة، فيُخلصون لله في ذلك كلِّه، ولا يستسلمون لشهواتهم، وأنانيّاتهم، وأطماعهم، بل يبقى رضا الله هو الهاجس الدّائم الّذي يعيش في داخل نفوسهم، يقظةً في الضّمير، والتزامًا في القلب والفكر، وانضباطًا في الخطى العمليّة في الحياة. ‏

‏تلك هي عناصر الشّخصيّة الإسلاميّة الّتي تمثِّل الخير كلّه في مجال الفكر والعمل. وتلك هي الأُسس الثّابتة الّتي تنطلق من خلالها قضايا الحياة الخيِّرة في كلِّ تطلُّعات الإنسان وتوجُّهاته في حركة الحياة. ‏

‎ ‎

‎ ‎

‎ ‎

‏1.‏‏الزّمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر (ت 538 هـ-)، الكشّاف عن حقائق التّنزيل وعيون الأقاويل، شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1385 هـ- - 1966 م، ج 1، ص 331.‏

‏2.‏‏الشّيخ الطّبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن (ت 548 هـ-)، مجمع البيان لعلوم القرآن، ط 1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1415 هـ- - 1995، ج 1، ص 487.‏‎ ‎

‏3.‏‏الزّمخشري، م. ن. ‏

‏4.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 485.‏

‏5.‏‏الرّاغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمّد (ت 502 هـ-)، المفردات في غريب القرآن، دفتر نشر الكتاب، 1404 هـ-، ص 40. ‏

‏6.‏‏السّيِّد العسكري، مرتضى (ت 1428 هـ-)، معالم المدرستين، مؤسسة النُّعمان، بيروت - لبنان، 1410هـ- 1990 م، ج 2، ص 107. ولم نجد التّعرض لهذا التّفصيل في التّفاسير. ‏

‏7.‏‏يقول الإمام عليٌّ عليه السلام في : نهج البلاغة، نسخة المعجم المفهرس، تحقيق الشّيخ محمّد الدّشتي، مؤسسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرّفة، قم - إيران، (د ت)، ص 157، الحكمة 82 : «وعليكم بالصّبر؛ فإنّ الصّبر من الإيمان كالرّأس من الجسد، ولا خير في جسدٍ لا رأس معه، ولا في إيمانٍ لا صبر معه». ‏

‏8.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 484.‏

‏9.‏‏البرقي، أحمد بن محمّد بن خالد (ت 274 هـ-)، المحاسن، دار الكتب الإسلاميّة، طهران - إيران، (د ت)، ج‏1، ص 118، ح 126.‏

‏10.‏‏ابن أبي شيبة، عبدالله بن محمّد (ت 235 هـ-)، المصنّف، ط 1، تحقيق سعيد اللّحام، دار الفكر، بيروت- لبنان، 1409 هـ- - 1989 م، ج 6، ص 124، باب 40 من كتاب الأدب، ح 10.‏

‏11.‏‏الشّيخ الكليني، محمّد بن يعقوب بن إسحاق الرزاي (ت 328 هـ-)، الكافي، ط 6، دار الكتب الإسلاميّة، طهران - إيران، 1375 هـ- - ش، ج 2، ص 104، ح 2. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‎ ‎

‎ ‎

‏ ‏

‎ ‎

‏ ‏

‏معاني المفردات ‏

{ الْبِرّ }: التّوسُّع في فعل الخير. ‏

{ و اِبْن السّبِيلِ }: المسافر المنقطع إذا كان في سفره محتاجًا وإن كان في بلده ذا يسار. قال الزّمخشريُّ : «وجُعل ابنًا للسّبيل لملازمته له»‏1‏. ‏

{ و السّائِلِين }: المستطعِمين الطّالبين للصّدقة. ويُعبّر عن الفقير إذا كان مستدعيًا لشي‏ءٍ بالسّائل. ‏

{ و فِي الرِّقابِ }: جمع رقبة، وهي أصل العنق، ويُعبّر به عن جميع البدن. يُقال : أعتق رقبته، ومنه : {و الّذِين يُظاهِرُون مِنْ نِسائِهِمْ ثُمّ يعُودُون لِما قالُوا فتحْرِيرُ رقبةٍ مِنْ قبْلِ أنْ يتماسّا}[المجادلة : 3]، قال الطّبرسيُّ : « { و فِي الرِّقابِ }‎ ‎‏فيه وجهان : أحدهما عتق الرِّقاب، بأن يشتري ويعتق، والآخر في رقاب المكاتبين»‏2‏. وقال الزّمخشريُّ : «وفي معاونة المكاتبين حتّى يفكُّوا رقابهم، وقيل : في ابتياع الرِّقاب وإعتاقها. وقيل : في فكِّ الأسارى»‏3‏. ‏

{ الْبأْساءِ }: الفقر والشِّدّة. ‏

{ و الضّرّاءِ }: المرض والسُّقم والوجع. ‏

{ و حِين الْبأْسِ }: وقت القتال وجهاد العدو، فالبأس : الشِّدّة في الحرب. ورجلٌ ذو بأسٍ : شجاع. ‏

‏البِرُّ بين الشّكل والمضمون ‏

‏جاء في (مجمع البيان) في سبب نزول هذه الآية، نقلاً عن بعضهم أنّه «لمّا حُوِّلت القبلة وكثر الخوض في نسخها، وصار كأنّه لا يُراعى بطاعة الله إلاّ التّوجُّه للصّلاة، وأكثر اليهود والنّصارى ذكرها، أنزل الله سبحانه هذه الآية»‏4‏. ‏

‏وفي أجواء الآية، الّتي تشير إلى بعض هذا الجوِّ، نستوحي ملامح الشّخصيّة الإسلاميّة في ما ترتكز عليه من فكرٍ وإيمانٍ وممارسةٍ في السُّلوك الذّاتيِّ، وفي العلاقة بالنّاس، وبالمواقف الصّعبة في الحياة، وذلك من خلال تحديد طبيعة البرِّ، الّذي يعني التّوسُّع في الخير والإحسان - كما يذكر أهل اللُّغة‏5‏ -؛ لأنّه يمثِّل سرّ الشّخصيّة لدى المؤمن في ما تنفتح عليه من آفاق التّصوُّر، وبما تتحرّك فيه من مجالاتٍ عمليّةٍ. ‏

‏ولعلّ القيمة في مضمون هذه الآية أنّها تجاوزت المفهوم الضّيِّق الّذي يتحرّك فيه البرُّ، ليرتبط بالجانب العمليِّ للحياة، فانطلقت به ليشمل الجانب الفكريّ والرُّوحيّ الّذي يحتضن الفكر والإيمان، فيعتبر - من خلال ذلك - أنّ في الفكر خيرًا وشرًّا، تمامًا كما هو العمل خيرٌ وشرٌّ. بل ربّما كان الأساس في البرِّ العمليِّ البرّ الفكريّ والعقيديّ؛ لأنّه هو الّذي يعطي العمل دوافعه ونوازعه، وهو الّذي يحدِّد له مضمونه وطبيعته. ولهذا انطلق القرآن ليحدِّد للإنسان شخصيّته من خلال تحديد ملامحه الفكريّة والعمليّة، فلم يكتفِ بالعمل وحده في مجال التّقييم بعيدًا عن الإيمان، كما لم يكتفِ بالإيمان بعيدًا عن العمل، فبالإيمان والعمل تتكامل الشّخصيّة وتنطلق. ‏

‏ليس البِرُّ في الشّكل ‏

{ ليْس الْبِرّ أنْ تُولُّوا وُجُوهكُمْ قِبل الْمشْرِقِ و الْمغْرِبِ }؛ لأنّ قضيّة النّفس الخيِّرة لا ترتبط بالشّكل بعيدًا عن المضمون، فما قيمة الصّلاة إلى القبلة، أيّة قبلةٍ كانت، إذا لم تتحرّك من إيمانٍ عميقٍ بأصول الإيمان، ولم تنطلق في حركة الإيمان سبيلاً وغايةً؟ لأنّها إذا لم تكن كذلك، تتحوّل إلى إحساسٍ يطفو على السّطح ولا يلامس الأعماق، ما يجعل من الموقف موقف استعراضٍ لا موقف ارتكاز. وبهذا، ليس من الضّروريِّ أن يثور هذا اللّغط الكثير حول تغيير طبيعة القبلة إلى الشّرق أو إلى الغرب؛ فهي لا تزيد عن أن تكون مجرّد تشريعٍ جزئيٍّ كبقيّة التّشريعات الجزئيّة المتعلِّقة بأحكام العبادة في تفاصيلها الخاصّة الكثيرة، ومن الطّبيعيِّ أن يخضع المؤمنون للتّشريع في سلبيّاته وإيجابيّاته، فلا يعترضوا عليه في قليلٍ أو كثير إذا أحرزوا انطلاقه من مصدر التّشريع -وهو الله -، بل لا بُدّ من أن يتركّز الاهتمام والجدل حول الأُسس الّتي يرتكز عليها البناء الدّاخليُّ للنّفس البارّة الخيِّرة الّتي تعيش البرّ موقفًا شاملاً لجميع مجالات الحياة. ‏

‏عناصر الشّخصيّة الإسلاميّة ‏

‏1- الإيمان بأسس العقيدة : ‏

‏ونلاحظ في هذا المجال : أنّ الآية قد غيّرت أسلوبها التّعبيريّ، فبينما كان النّفي يتّجه إلى استبعاد الشّكل عن معنى البرِّ، نرى الإثبات ينطلق في الحديث عن شخصيّة البارِّ وصفته؛ للتّدليل على أنّ الإسلام ينظر إلى الفكرة من خلال المفكِّر، وإلى الخير من خلال النّموذج الحيِّ المتجسِّد بالفكرة شكلاً ومضمونًا، ليبتعد الجوُّ النّفسيُّ عن التّركيز على المفهوم النّظريِّ بعيدًا عن الواقع التّطبيقيِّ للنّظريّة. وهذا هو ما نلمحه في تكملة الآية في قوله تعالى : {و لكِنّ الْبِرّ منْ آمن}؛ فلا بُدّ من الإيمان بالأُسس العامّة للعقيدة، وهي الإيمان { بِاللّهِ و الْيوْمِ الْآخِرِ و الْملائِكةِ و الْكِتابِ و النّبِيِّين }؛ لأنّها تمثِّل الحقائق الدِّينيّة الّتي لا يمكن أن يجهلها أو يهملها أيُّ إنسانٍ مؤمنٍ؛ لأنّ جميع الرِّسالات السّماويّة قد قرّرت ذلك. ‏

‏وقد لا نحتاج إلى تحليلٍ واسعٍ لنعرف أنّ هذا الإيمان الّذي تعتبره الآية أساسًا للبرِّ الرُّوحيِّ والفكريِّ، يمثِّل الامتداد والحركة في الشّخصيّة الإسلاميّة للإنسان المسلم؛ لأنّ الإيمان بالله يتّصل بالشُّعور العميق بانطلاقة الحياة من قوّةٍ حكيمةٍ رحيمةٍ عادلةٍ تخطِّط للإنسان حياته كما تخطِّط للكون قوانينه. وبذلك يشعر الإنسان بمسؤوليّته أمام هذه القوّة الخالقة الّتي تربِّي له وجوده، وتنمِّي له جسده وعقله وروحه، ويعيش الإحساس بارتباطه الدّائم بالله من خلال حاجته المطلقة له في كلِّ شي‏ءٍ، وتتساقط أمام هذا الإيمان كلُّ مشاعر الانسحاق والضّعف والضّياع واليأس والفراغ وعدم الانتماء؛ لأنّ مثل هذا الإيمان يملأ، في حيويّته المتحرِّكة، حياة الإنسان بكلِّ المفاهيم الإيجابيّة المضادّة لتلك المفاهيم السّلبيّة، بما يوحيه من الشُّعور بأنّه يعيش في كونٍ يرعاه خالقه في رحمته وحكمته وقوّته المطلقة، وينتمي إليه كلُّ ما فيه من مفردات الوجود. وبذلك نستطيع أن نقرِّر أنّ المؤمنين الّذين يعيشون المفاهيم السّلبيّة الّتي تُغرِق شعورهم بالضّياع والفراغ واللاّإنتماء، يعيشون في غفلةٍ من إيمانهم ويقعون تحت تأثير أجواء البيئة المنحرفة الّتي تحتضن هذه المفاهيم. ‏

‏أمّا الإيمان باليوم الآخر، فيثير في داخله الشُّعور بالمسؤوليّة وما يترتّب عليها من ثوابٍ أو عقابٍ، ما يجعل الإنسان واعيًا لحياته بشكلٍ أعمق، فلا يعتبرها رحلةً ساذجةً تخضع للمزاج الذّاتيِّ وللشّهوة الطّارئة، بل يراها خطًّا مستقيمًا تحكمه بداية المسؤوليّة ونهايتها في نتائجها العامّة والخاصّة. ‏

‏وفي هذا الجوِّ من الإيمان ينتفي من داخل الشّخصيّة الإسلاميّة للإنسان المسلم الشُّعور بالعبث في مسار حياته عندما يواجه كثيرًا من الأوضاع الّتي توحي بمثل هذا الشُّعور إذا انفصلت عن طبيعة النّتائج العمليّة عند الله، فيتحوّل الموقف إلى إحساسٍ عميقٍ بالجدِّيّة المرتبطة بالهدف في كلِّ شي‏ءٍ حوله. وهذا ما تمثِّله الآية الكريمة : {أ فحسِبْتُمْ أنّما خلقْناكُمْ عبثاً و أنّكُمْ إِليْنا لا تُرْجعُون}[المؤمنون : 115]. ‏

‏أمّا الإيمان بالملائكة والكتاب والنّبيِّين، فيمثِّل الإيمان بالحقائق الرُّوحيّة الّتي ترتبط بالغيب من جهةٍ، وتواجه الواقع من جهةٍ أخرى، وذلك من خلال التّصوُّر الإسلاميِّ للموجودات غير المرئيّة المتمثِّلة في الملائكة عندما يشعر بحفيف أجنحتها في وعيه الدِّينيِّ وهو يتصوّرها في حركةٍ دائبةٍ في أجواء السّماء والأرض، وخضوعٍ مطلقٍ لله في ما يُوكله إليها من مهمّاتٍ كونيّةٍ تتّصل بالحياة والإنسان، فيتعاظم الإحساس بعظمة التّدبير من خلال الأشياء المرئيّة وغير المرئيّة، وبروعة هذه الصُّورة الملائكيّة الّتي تمنح الوجود معنًى روحيًّا ينساب فيه انسياب اللُّطف والرّحمة في المشاعر والأعماق. ‏

‏والإيمان بالكتاب يعني الإيمان بالرِّسالة الإلهيّة الواحدة الّتي تنزّلت في كلِّ عهود النُّبوّات، في كتابٍ واحدٍ بمفاهيمه التّوحيديّة العامّة، وإن اختلفت تفاصيله تبعًا لاختلاف حاجة كلِّ عصرٍ إليها. فالوحدة تبقى أساسًا للتّصوُّر الدِّينيِّ في معنى الكتاب والإيمان به وبالنّبيِّين، كلِّ النّبيِّين، منذ آدم عليه السلام حتّى محمّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم ، أي : الإيمان بوحدة المسيرة في طريق الرِّسالة الطّويلة، فلا اختلاف بين الرُّسل في الفكر وفي الهدف، لأنّ الفكرة واحدةٌ، وهي الإيمان بالله الواحد، والهدف واحدٌ هو الحصول على رضاه في ما يحبُّه وفي ما لا يحبُّه. وهذا ما يحكم الطّريق الّذي يسيرون فيه، ولكنّ مراحل الطّريق تختلف، ومواقفه تتنوّع، فلا بُدّ لكلِّ مرحلةٍ من رسولها الّذي ينسجم مع طبيعتها، ولا بُدّ لكلِّ موقفٍ من دورٍ يجسِّده السّائر الّذي يقود النّاس إليه. وبذلك كانت الفكرة الإسلاميّة عن الأنبياء فكرةً متكاملةً، من خلال الشُّعور بأنّ بعضهم يُكمل دور البعض الآخر ولا يعارضه، تمامًا كما هي الخطوات المتلاحقة في الدّرب الواحد نحو الهدف الكبير. ‏

‏أمّا اختلاف الأديان الّذي يحكم عالمنا هذا، فإنّه يمثِّل الخطأ في فهم المرحلة، حيث يُعتبر ما هو مرحلة في طريق الغاية، غايةً بذاته. ‏

‏ويبقى الإسلام، في كلِّ آياته، يجسِّد هذه الحقيقة التّوحيديّة للرِّسالات، حيث يدعو إلى الإيمان بالكتاب الواحد الّذي يجمع الكتب، والإيمان بالنُّبوّة الواحدة الّتي تحتضن جميع الأنبياء : { آمن الرّسُولُ بِما أُنْزِل إِليْهِ مِنْ ربِّهِ و الْمُؤْمِنُون كُلٌّ آمن بِاللّهِ }

{و ملائِكتِهِ و كُتُبِهِ و رُسُلِهِ لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْ رُسُلِهِ و قالُوا سمِعْنا و أطعْنا غُفْرانك ربّنا و إِليْك الْمصِيرُ}[البقرة : 285]. ‏

‏وتظلُّ الشّخصيّة الإسلاميّة مع هذا التّصوُّر الإيمانيِّ بعيدةً عن التّشنُّج إزاء أيِّ كتابٍ أو رسولٍ، فكلُّها وحي الله، وكلُّهم رسل الله. ‏

‏2- العطاء نموذج البر ِّالحي ُّ: ‏

{و آتى الْمال على‏ حُبِّهِ ذوِي الْقُرْبى‏ و الْيتامى‏ و الْمساكِين و اِبْن السّبِيلِ و السّائِلِين و فِي الرِّقابِ}. والعطاء أحد عناصر الشّخصيّة الإسلاميّة، ونموذجٌ حيٌّ للبرِّ العمليِّ. فإذا كان الإنسان يملك المال، فإنّ الإسلام يعتبر الملكيّة وظيفةً ومسؤوليّةً، لا امتيازًا وشرفًا ذاتيًّا؛ ولذلك جُعل العطاء سرّ الشّخصيّة؛ لأنّه يعني انفتاحها على آلام الحياة ومشاكلها وحالاتها الصّعبة وتطلُّعاتها الكبيرة، في محاولةٍ متواضعةٍ، فرديّةٍ أو جماعيّةٍ، لإعطاء بعض الحلول، وتسهيل بعض الصِّعاب، وتحقيق بعض التّطلُّعات، في شعورٍ بأنّ ذلك هو من حقِّ الآخرين عليه في ما يتحمّله من مسؤوليّة الآخرين. ‏

‏وجاءت كلمة { على‏ حُبِّهِ }‎ ‎‏لتؤكِّد عمق هذا العطاء في النّفس، على أيِّ المعنيين كان مرجع الضّمير، فإذا أردنا من الحبِّ حبّ الله، فإنّه يمثِّل العطاء من أجل الله بعيدًا عن المنافع الذّاتيّة الطّارئة، وإذا أردنا منه حبّ المال، فإنّه يمثِّل العطاء من موقع الانتصار على الذّات عندما يبذل الإنسان الأشياء الّتي يحبُّها ويتعلّق بها، فلا يمنعه ذلك من العطاء في سماحٍ ومحبّةٍ. ‏

‏أمّا الّذين يستحقُّون العطاء، فهم أوّلاً : ذوو القربى؛ لأنّ صلة الرّحم توجب على الإنسان التّعبير عنها في أسلوبٍ عمليٍّ، وهو أسلوب العطاء الّذي يعني المشاركة. وثانيًا : اليتامى الّذين هم في كفالة المجتمع الإنسانيِّ بعد غياب الكافل المباشر لهم. وثالثًا : المساكين الّذين لا يجدون الفرصة الكريمة للعيش الكريم فلا يملكون قوت سنتهم قوّة وفعلاً. ورابعًا : ابن السّبيل الّذي انقطعت به الطّريق، فلم يجد من المال ما يُكمل به سفره، وإن كان غنيًّا في بلده. وخامسًا : السّائلين الّذين لم يتّخذوا السُّؤال حرفةً ومهنةً، بل انطلقوا به من واقع الحاجة إلى ذلك. وسادسًا : في الرِّقاب الّتي أثقلها الرِّقُّ وضغطت عليها العبوديّة، فأراد الإسلام، للّذين يجدون المال، أن يصرفوا أموالهم في طريق تحريرها، لتعيش الكرامة في الحرِّيّة الإنسانيّة والقانونيّة ... ‏

‏وتلك هي الفئات المسحوقة الّتي يُعتبر العطاء بالنِّسبة إليها مسؤوليّةً إنسانيّةً وإسلاميّةً، ليعيش المجتمع في نظامٍ إنسانيٍّ متوازنٍ طبيعيٍّ شامل. ‏

‏3- إقامة الصّلاة آية الوجدان الحيِّ:‏‏ ‏

{ و أقام الصّلاة }؛ فإنّ الصّلاة تفتح قلب الإنسان ووجدانه على الله سبحانه، لتشرق في داخله كلُّ المعاني الرُّوحيّة الطّاهرة الّتي تحوِّله إلى كائنٍ حيٍّ، تتفجّر مشاعره بالخير، وتنبض بالطُّهر، وتنطلق أفكاره بالحقِّ؛ فيعيش مع النّاس والحياة، من خلال ذلك كلِّه، إنسانًا يشعر بمسؤوليّته عن النّاس والحياة من خلال انفتاحه على الله سبحانه. ‏

‏4- إيتاء الزّكاة عبادةٌ عمليّةٌ : ‏

{ و آتى الزّكاة }‎ ‎‏الّتي تمثِّل العطاء من حيث هو عبادةٌ عمليّةٌ. ‏

‏وقد يُلفت النّظر أن يذكر الله إيتاء الزّكاة بعد إيتاء المال على حبِّه؛ حيث الزّكاة ليست إلاّ ضريبةً ماليّةً تلتقي مع إيتاء المال في المصداق، ولا سيّما أنّ كثيرًا ممّا ذُكر في ‏

‏مسألة إيتاء الزّكاة تمثِّل مصارف الزّكاة الّتي ذُكرت في قوله تعالى : { إِنّما الصّدقاتُ لِلْفُقراءِ و الْمساكِينِ و الْعامِلِين عليْها و الْمُؤلّفةِ قُلُوبُهُمْ و فِي الرِّقابِ و الْغارِمِين و فِي سبِيلِ اللّهِ و اِبْنِ السّبِيلِ }[التّوبة : 60]. وقد يفسِّرها البعض بأنّها إجمالٌ بعد التّفصيل. ولكنّ الظّاهر أنّه عمومٌ بعد التّخصيص؛ لأنّ موارد الزّكاة أشمل ممّا ذُكر في الفقرة السّابقة، ولا سيّما إذا فسّرنا الزّكاة بكلِّ الضّرائب الشّرعيّة المفروضة، بما فيها الخمس، كما هو رأي البعض من المفسِّرين‏6‏، فإنّها تتّسع لكلِّ سُبل الخير في الحياة. ‏

‏5- الوفاء بالعهود ومسؤوليّة الكلمة : ‏

{و الْمُوفُون بِعهْدِهِمْ إِذا عاهدُوا}؛ فإنّ الوفاء بالعهد الّذي يلتزم به الإنسان في نفسه يمثِّل الشُّعور بمسؤوليّة الكلمة، في صدق الالتزام الدّاخليِّ، وفي الوقوف مع‏‏ العلاقات القائمة على التّعاقد موقف الانضباط والاتِّزان. وذلك هو سرُّ سلامة المجتمع في العلاقات الخاصّة والعامّة الّتي تحكم أفراده، سواءٌ في ذلك العلاقات القائمة على التّعاقد الشّخصيِّ، أو العلاقات القائمة على التّعاقد في نطاق المبادئ العامّة والنِّظام الكلِّيِّ للمجتمع وللأُمّة. ومن الطّبيعيِّ للمؤمن أن يُخلص لالتزاماته؛ لأنّه يعتبرها مظهرًا حيًّا من مظاهر إيمانه، باعتبارها عهدًا وميثاقًا بينه وبين النّاس أمام الله. ‏

‏6- الصّبر والثّبات : ‏

{و الصّابِرِين فِي الْبأْساءِ}‎ ‎‏وهي حالة الضِّيق والفقر، { و الضّرّاءِ }، وهي حالة المرض والألم، { و حِين الْبأْسِ }وهو حالة الحرب؛ فإنّ الصّبر، كما ورد في بعض الآيات، هو { مِنْ عزْمِ الْأُمُورِ }[لقمان : 17]، وهو من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد، كما جاء في حديث الإمام عليٍّ عليه السلام ‏7‏، وهو العنصر الأساس في تماسك الشّخصيّة وثباتها أمام التّحدِّيات، ولا سيّما التّحدِّيات الّتي تواجه الإنسان في عقيدته والتزامه بالخطِّ العمليِّ الإيمانيِّ في الحياة؛ فإنّ الضّعف الّذي يقود إلى الجزع والانهيار في الموقف قد يقود إلى الانحراف، ويبعث على الاهتزاز، ويدفع، بالتّالي، إلى إعطاء صورةٍ مشوّهةٍ عن طبيعة المجتمع المؤمن في قوّته وصموده، ما ينعكس سلبيًّا على صورة الإيمان نفسه في نفوس الآخرين. ‏

‏الوجه في نصب : «والصّابرين» ‏

‏وقد يُتساءل عن الوجه في نصب كلمة { و الصّابِرِين }، مع أنّها معطوفةٌ على كلمة {و الْمُوفُون بِعهْدِهِمْ إِذا عاهدُوا}، ما يفرض فيها الرّفع؟ ‏

‏وأجاب صاحب (مجمع البيان) على ذلك، فقال : «وأمّا قوله : { و الصّابِرِين }فمنصوبٌ على المدح أيضًا؛ لأنّ مذهبهم في الصِّفات والنُّعوت إذا طالت أن يعترضوا‏‎ ‎‏بينها بالمدح أو الذّمِّ؛ ليميِّزوا الممدوح أو المذموم، وتقديره : أعني الصّابرين. قال أبو علي : والأحسن في هذه الأوصاف الّتي تقطّعت للرّفع من موصوفها والمدح، أو الغضِّ منهم والذّمِّ، أن يُخالف بإعرابها ولا تُجعل كلُّها جاريةً على موصوفها؛ ليكون ذلك دلالةً على هذا المعنى، وانفصالاً لما يُذكر للتّنويه والتّنبيه أو النّقص والغضِّ، ممّا يُذكر للتّخليص والتّمييز بين الموصوفين المشتبهين في الاسم، المختلفين في المعنى»‏8‏. ‏

‏ ‏‏الإيمان صنو الصِّدق ‏

{ أُولئِك الّذِين صدقُوا }‎ ‎‏في عقيدتهم، وفي كلماتهم، وفي التزاماتهم، وفي علاقاتهم وفي مواقفهم العمليّة في الحياة، وفي مواجهتهم لقضايا الحاضر والمستقبل في ما يؤيِّدون، وفي ما يرفضون، وفي ما يتحرّكون على المدى الطّويل، في حياة الفرد والمجتمع والأُمّة كلِّها؛ فإنّ الإيمان هو صنو الصِّدق؛ لأنّ الإيمان يرتبط بالحقِّ، والصِّدق يجسِّد الحقيقة. ولهذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، لمّا سُئل : «يكون المؤمن جبانًا؟ قال : نعم، قيل : ويكون بخيلاً؟ قال : نعم، قيل : ويكون كذّابًا؟ قال : لا»‏9‏. وعنه صلى الله عليه و آله و سلم : «يطوي المؤمن على الخلال كلِّها غير الخيانة والكذب»‏10‏. وقد ورد عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام : «لا تغترُّوا بصلاتهم ولا بصيامهم؛ فإنّ الرّجل ربما لهج بالصّلاة والصّوم حتّى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة»‏11‏. ولذلك جاءت هذه الصِّفة لتكون أساسًا للشّخصيّة الإسلاميّة الصّادقة. ‏

‏وربّما كان اختصار كلمة «الصِّدق» لكلِّ تلك الصِّفات، انطلاقًا من أنّ حركة هذه الصِّفات المتّصلة بالجانب الإيمانيِّ والعمليِّ، كانت نتيجةً للجدِّيّة الّتي تفرضها الشّخصيّة الإسلاميّة في انفتاحها على الحقيقة في الفكر والسُّلوك، بحيث يكون الموقف متطابقًا مع الخطِّ المستقيم في دائرة الحقِّ. وذلك هو سرُّ اتِّصاف الشّخصيّة في هؤلاء بكلمة { الّذِين صدقُوا }. والله العالم. ‏

‏ ‏‏الإيمان صنو التّقوى ‏

{و أُولئِك هُمُ الْمُتّقُون}، الّذين يخافون الله ويخشونه بالغيب، فتتحوّل خشيتهم له إلى خطٍّ عمليٍّ في حياتهم وفي دوافعهم، فيقفون عند ما حرّم الله عليهم من مالٍ حرامٍ، أو أكلٍ حرامٍ، أو شربٍ حرامٍ، أو لعبٍ حرامٍ، أو عرضٍ حرامٍ، أو علاقةٍ محرّمةٍ، أو غير ذلك ممّا نهى الله عنه، ويندفعون بالتزامٍ مؤكّدٍ في ما فرضه الله عليهم، وألزمهم به من الواجبات، في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم، في البيت وفي العمل وفي الحياة الاجتماعيّة والسِّياسيّة والاقتصاديّة، فيُخلصون لله في ذلك كلِّه، ولا يستسلمون لشهواتهم، وأنانيّاتهم، وأطماعهم، بل يبقى رضا الله هو الهاجس الدّائم الّذي يعيش في داخل نفوسهم، يقظةً في الضّمير، والتزامًا في القلب والفكر، وانضباطًا في الخطى العمليّة في الحياة. ‏

‏تلك هي عناصر الشّخصيّة الإسلاميّة الّتي تمثِّل الخير كلّه في مجال الفكر والعمل. وتلك هي الأُسس الثّابتة الّتي تنطلق من خلالها قضايا الحياة الخيِّرة في كلِّ تطلُّعات الإنسان وتوجُّهاته في حركة الحياة. ‏

‎ ‎

‎ ‎

‎ ‎

‏1.‏‏الزّمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر (ت 538 هـ-)، الكشّاف عن حقائق التّنزيل وعيون الأقاويل، شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1385 هـ- - 1966 م، ج 1، ص 331.‏

‏2.‏‏الشّيخ الطّبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن (ت 548 هـ-)، مجمع البيان لعلوم القرآن، ط 1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1415 هـ- - 1995، ج 1، ص 487.‏‎ ‎

‏3.‏‏الزّمخشري، م. ن. ‏

‏4.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 485.‏

‏5.‏‏الرّاغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمّد (ت 502 هـ-)، المفردات في غريب القرآن، دفتر نشر الكتاب، 1404 هـ-، ص 40. ‏

‏6.‏‏السّيِّد العسكري، مرتضى (ت 1428 هـ-)، معالم المدرستين، مؤسسة النُّعمان، بيروت - لبنان، 1410هـ- 1990 م، ج 2، ص 107. ولم نجد التّعرض لهذا التّفصيل في التّفاسير. ‏

‏7.‏‏يقول الإمام عليٌّ عليه السلام في : نهج البلاغة، نسخة المعجم المفهرس، تحقيق الشّيخ محمّد الدّشتي، مؤسسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرّفة، قم - إيران، (د ت)، ص 157، الحكمة 82 : «وعليكم بالصّبر؛ فإنّ الصّبر من الإيمان كالرّأس من الجسد، ولا خير في جسدٍ لا رأس معه، ولا في إيمانٍ لا صبر معه». ‏

‏8.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 484.‏

‏9.‏‏البرقي، أحمد بن محمّد بن خالد (ت 274 هـ-)، المحاسن، دار الكتب الإسلاميّة، طهران - إيران، (د ت)، ج‏1، ص 118، ح 126.‏

‏10.‏‏ابن أبي شيبة، عبدالله بن محمّد (ت 235 هـ-)، المصنّف، ط 1، تحقيق سعيد اللّحام، دار الفكر، بيروت- لبنان، 1409 هـ- - 1989 م، ج 6، ص 124، باب 40 من كتاب الأدب، ح 10.‏

‏11.‏‏الشّيخ الكليني، محمّد بن يعقوب بن إسحاق الرزاي (ت 328 هـ-)، الكافي، ط 6، دار الكتب الإسلاميّة، طهران - إيران، 1375 هـ- - ش، ج 2، ص 104، ح 2. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‎ ‎

‎ ‎

‏ ‏

‎ ‎

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية