تُثار عدة إشكاليات حول "زواج المتعة"، إلا أنَّ أكثرها غير جديرٍ بالمناقشة، وما أراه جديراً بالوقوف عنده والمناقشة هو هذان الإشكالان:
1 ـ لا تختلف المتعة في مضمونها ونتائجها عن العلاقات الجنسيَّة غير المشروعة كالزنا.
2 ـ لا تحقّق المتعة الأهداف الأساسيَّة للزواج.
الإشكال الأول:
المتعة لا تختلف في مضمونها ونتائجها عن العلاقات الجنسيَّة غير المشروعة كالزنا، فكلاهما يعبّران عن إرواء مؤقت للشهوة الجنسية، وكلاهما يجسّدان حالة الامتهان للمرأة، وكلاهما يسبّبان اختلاط المياه وضياع الأنساب.
مناقشة هذا الإشكال:
ولنا حول هذا الإشكال عدة ملاحظات:
الملاحظة الأولى:
أجمع المسلمون على أصل مشروعية هذا اللون من النكاح. قال الرازي في تفسيره الكبير: "واتفقوا على أنها [المتعة] كانت مباحة في ابتداء الإسلام".
وقال القاضي الباقلاني: "وأجمعوا على أنَّ من نكح نكاحاً مطلقاً ونيّته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها، فنكاحه صحيح حلال".
فإذا كان اتفاق المسلمين قائماً على أصل مشروعيَّة هذا اللون من النكاح ـ ولو في مرحلة من المراحل ـ فإعطاؤه صبغة الزنا في مضمونه ونتائجه، فيه تجرؤ واضح على تشريع الله تعالى، فهذا يعني أنَّ الزنا كان مباحاً في مرحلة من مراحل التَّشريع الإسلامي.
وإذا كان من المستساغ أن يتجرأ مستشرق كتوماس بانريك هيوز على هذا التشريع الإلهي، فيعتبره "أعظم الوصمات في تشريع محمد الأخلاقي"، كما نقل عنه ذلك الأستاذ العقاد في كتابه (الفلسفة القرآنيَّة) وناقشه، فإنه ليس من المستساغ أن يصدر هذا التجرؤ عمَّن ينتمون إلى الإسلام ويؤمنون بتشريعاته.
وفي جواب عبدالله بن عمر حينما سئل عن المتعة ما يرد هذا الإشكال، حيث قال: "والله ما كنا على عهد رسول الله(ص) زانين ولا مسافحين".
الملاحظة الثانية:
إن تحديد المدة في الزواج المؤقت، لا يعطيه مضمون الزنا، وإلا كان الزواج الدائم أيضاً شبيهاً بالزنا في الحالات التي ينوي فيها الزوج البقاء مع زوجته مدة معينة ثم يفارقها، وقد أفتى أكثر فقهاء أهل السنة بصحة عقد الزواج مع تحديد المدة إذا لم ينص على ذلك في صيغة العقد.
وهذه نماذج من أقوالهم حول هذه المسألة:
1 ـ قال ابن عابدين: "وليس منه [أي نكاح المتعة] ما لو نكحها على أن يطلقها بعد شهر أو نوى مكثه معها مدة معينة".
2 ـ وقال ابن قدامة في المغني: "وإن تزوجها بغير شرط إلا في نيته طلاقها بعد شهر أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد، فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم إلا الأوزاعي، قال: هو نكاح المتعة، والصَّحيح أنه لا بأس به ولا تضر نيته، وليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته، وحسبه إن وافقته وإلا طلقها".
3 ـ وقال الباجي الأندلسي من فقهاء المالكية في كتابه (المنتقى): من تزوج امرأة لا يريد إمساكها، إلا أنه يريد أن يستمتع بها مدة ثم يفارقها، فقد روى محمد عن الإمام مالك أن ذلك جائز، وليس من الجميل ولا من أخلاق الناس.
4 ـ وذكر عبد الرحمن الجزيري:
أ ـ أن المالكية يجوزون العقد إذا قصد الزوج في نفسه الأجل، ولو فهمت المرأة ووليها ذلك.
ب ـ وأنّ الأحناف يرون صحَّة العقد إذا نوى الزوج معاشرتها مدة ولم يصرح بذلك.
5 ـ وقال الدكتور عبد العزيز: "وعلى ذلك، فإنّ النكاح بصيغته الصحيحة المشروعة، وبلفظه الظاهر المطلق، إنما يقع صحيحاً، وإن كان المتعاقدان أو أحدهما يقصد بالزواج مدة معينة أو مجرد الاستمتاع إلى أجل من الآجال يخفيه في نفسه".
ومن خلال التأمل في الأمثلة التي أوردناها، يتّضح عدم الفرق مضموناً بين هذا اللون من العقد وبين الزواج المؤقت، فالعقد بنية الفراق، وبخاصة مع علم الطرفين، هو "نكاح مؤقت في المعنى والواقع". فإذا كان التوقيت لفظاً يعطي للممارسة الجنسية صبغة الزنا، فلماذا لا يكون التوقيت واقعاً موجباً لإعطاء هذه الممارسة صبغة الزنا؟ وإذا كان الاستمتاع المؤقت في المتعة يعتبر لوناً من امتهان المرأة، فلماذا لا يكون الاستمتاع المؤقت في هذه الحالات كذلك؟
إنَّ التفريق بين الحالتين كحكم، لا يملك مبرراته العلميَّة، وإذا قيل إن النص الشرعي هو الذي أعطى لهذا التفريق مبرراته، قلنا إنَّ المتعة تملك من النصوص الشرعية ما يكفي لإعطائها طابعها المشروع.
الملاحظة الثالثة:
إنَّ الفوارق بين المتعة والزنا واضحة وكبيرة:
(1) الزنا علاقة لا تعترف بها الشرائع ولا المجتمعات على اختلافها، وإن مارسته كثير من الشعوب، فالمقدم عليه يشعر بأنه مقدم على جريمة تأباها الشرائع والتقاليد.
والزواج المؤقت علاقة طبيعية معترف بها في الشريعة، وتقوم على أساس العقد الشرعي الذي يعطي لهذه العلاقة طابعها القدسي الطاهر، ولا يلغي هذا الطابع ذلك الشعور الذي تأصل في مجتمعات المسلمين تجاه الزواج المؤقت، فهو شعور صاغته حالة الإسقاط التاريخي لهذا اللون من النكاح، والتعبئة الفكرية المضادة التي امتدت قروناً طويلة استطاعت أن تفرغ هذه العلاقة من هويتها الأصيلة.
وحينما يتم التعامل مع الزواج المؤقت من خلال المنظور الشرعي، بعيداً عن كل الرواسب والتراكمات، لا تبقى حينئذ تلك الرؤية التي تختزن شعور الاستقذار واللاشرعية تجاه هذا الزواج. ومن خلال إعادة الاعتبار الشرعي لهذا الزواج، تذوب كل الإحساسات النفسية المضادة، وتنتهي كلّ الحالات الشعورية واللاشعورية الرافضة له.
(2) الزنا علاقة جنسية هابطة، تمتهن كرامة المرأة، وتسقط عفتها، وتحولها إلى سلعة رخيصة متبذلة.
وفي الزواج المؤقت:
أ ـ المرأة ترتبط مع الرجل بعقد شرعي تباركه السماء، وهذا يضفي على هذه العلاقة الطهر والقداسة والاطمئنان، فلا تحمل المرأة في شعورها إحساساً بالمهانة والابتذال وهدر العفة والكرامة.
ب ـ المرأة في علاقتها مع الرجل خاضعة لمجموعة ضوابط شرعية:
ـ الوفاء بالالتزامات الشرعية التي يفرضها عقد الزواج.
ـ الإحصان الذي تخلقه حالة العلاقة الزوجية.
ـ العدة الشرعية التي تحدد وظيفة المرأة بعد الفراق.
وفي ضوء هذه الضوابط، نجد أن المرأة في الزواج المؤقت لا تختلف عنها في الزواج الدائم، من حيث الالتزامات الشرعية تجاه الزوج، وحالة الإحصان، والعدة المفروضة.
(3) الزنا علاقة جنسية منحرفة لها مضاعفات خطيرة نتيجة لاختلاط المياه.
وأما الزواج المؤقت، فهو علاقة مشروعة تفرض على المرأة:
أولاً: الارتباط بعصمة رجل واحد، شأنها في ذلك شأن المرأة في الزواج الدائم.
ثانياً: أن تعتد حينما تنتهي العلاقة المحدودة أو بموت الزوج، كما هو الحال في الزواج الدائم حين الطلاق أو الموت.
وهذه الإجراءات كافية للحؤول دون اختلاط المياه، وبالتالي صيانة هذه العلاقة من مضاعفات الممارسات الجنسية غير المشروعة.
(4) الزنا يترتب عليه ضياع النساب واختلاطها.
وفي الزواج المؤقت:
أ ـ الأولاد يحملون الصفة الشرعية ويلحقون بآبائهم وأمهاتهم، وحكمهم حكم الأولاد في الزواج الدائم من حيث البنوة والنفقة والتوارث.
ب ـ وقد وضعت الشريعة عدة احتياطات تحمي الأنساب من الضياع:
ـ فترة العدة لاكتشاف حالة الحمل أو عدمه.
ـ مسؤولية الرجل في الولاية والرعاية والنفقة.
الإشكال الثاني:
المتعة لا تحقق الأهداف الأساسية للزواج:
من الإشكالات التي تُثار حول المتعة، أنها لا تحقق الأهداف الأساسية للزواج، كالاستقرار النفسي وبناء الأسرة والتكاثر والتناسل وغيرها.
مناقشة في الإشكال:
يمكن أن نوجز أهم الأهداف التي يحققها الزواج في حياة الإنسان ضمن الأهداف التالية:
الهدف الأول: الاستقرار النفسي
وهذا الهدف يمكن توفيره من خلال الزواج الدائم والزواج المؤقت، لأن المشكلة الجنسية في حياة الإنسان عبر الصيغ الشرعية المطروحة في الإسلام، تساهم بشكل فاعل في إنقاذ الإنسان من المضاعفات النفسية وانعكاساتها الخطيرة.
الهدف الثاني: تلبية الحاجة الجنسية عند الإنسان
فالإسلام طرح ثلاث صيغ لإشباع الحاجة الجنسية عند الإنسان، ووضع لكل صيغة ضوابطها الخاصة:
ـ الزواج الدائم.
ـ الزواج المؤقت.
ـ ملك اليمين.
ونظراً إلى استيعاب الإسلام لكل حاجات الإنسان، وفي كل الحالات، فقد وضع لتلبية الحاجة الجنسية عند الإنسان صيغاً متعددة تملأ كل الامتدادات التي تتسع لها هذه الحاجة.
الهدف الثالث: حصانة الإنسان من الوقوع في منزلقات الرذيلة
فالزواج بصيغته الدائمة والمؤقتة يخلق عند الإنسان حصانة تحميه في الغالب من الانزلاقات السائبة في دروب الرذيلة، لأن الجنس طاقة مسعورة إذا لم تحصّن بالزواج انفلتت في كل المسارات وتاهت في كل الدروب، ولا سيما في الأجواء المعاصرة بما تزخر من مثيرات ومغريات صارخة.
الهدف الرابع: التناسل والتكاثر
المسار الأصلي لحركة التناسل والتكاثر هو الزواج الدائم، ولكن هذا لا يعني إلغاء دور الزواج المؤقت في عملية الإنجاب، ما دامت الخصوصيات التي يمنحها الإسلام للأولاد الذين ينتجهم الزواج المؤقت هي نفسها الممنوحة لأبناء الزواج الدائم، إلا أن الحالات التي تتحرك من خلالها الحاجة إلى الزواج المؤقت، بحسب طبيعتها الاستثنائية، تجمّد في الغالب الطموح للإنجاب عند الإنسان.
الهدف الخامس: بناء الأسرة
ويمثّل الزواج الدائم المنطلق الأساس لإنجاز هذا الهدف، ويساهم الزواج المؤقت في صيانة هذا الهدف وحمايته، فقد تطرأ حالات استثنائية في حياة الزوج تضعه أمام عدة خيارات:
ـ الانزلاق في درب الرذيلة نتيجة ضغط الحاجة الجنسية.
ـ الكبت وهذا له مضاعفاته الخطيرة.
ـ التعدد في الزواج الدائم وهذا ما لا تتوافر إمكاناته وظروفه دائماً.
ـ الزواج المؤقت؛ ومن خلاله يحتفظ الإنسان بنظافته وصحته ومسؤولياته في بناء الأسرة، فالزواج المؤقت حينما طرحه الإسلام لم يطرحه بديلاً للزواج الدائم، وإنما لملء الفراغات التي تستعصي على الزواج الدائم ومعالجة الحالات الاستثنائية في حياة الإنسان، وإلغاء هذا الزواج يحدث خللاً واضحاً في المعالجة لمشكلة الجنس عند الإنسان.
[كتاب: التشيع.. نشوؤه ـ مراحله ـ مقوماته].
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .